الرئيسية | الصحيفة | خدمات الإستضافة | مركز الملفات | الحركة الانتقالية | قوانين المنتدى | أعلن لدينا | اتصل بنا |

أفراح بن جدي - 0528861033 voiture d'occasion au Maroc
educpress
للتوصل بجديد الموقع أدخل بريدك الإلكتروني ثم فعل اشتراكك من علبة رسائلك :

فعاليات صيف 2011 على منتديات الأستاذ : مسابقة استوقفتني آية | ورشة : نحو مفهوم أمثل للزواج

العودة   منتديات الأستاذ التعليمية التربوية المغربية : فريق واحد لتعليم رائد > منتديات الثقافة والآداب والعلوم > منتدى الآفاق الأدبية الواسعة



إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع
قديم 2020-05-02, 20:00 رقم المشاركة : 1
خادم المنتدى
مدير التواصــل
 
الصورة الرمزية خادم المنتدى

 

إحصائية العضو








خادم المنتدى غير متواجد حالياً


وسام المشاركة السيرة 1438ه

وسام المشاركة في مسابقة السيرة النبوية العطرة

العضو المميز لشهر فبراير

افتراضي





التفريع الحكائي وأنماط التخييل
في كليلة ودمنة
يوسف أحمد إسماعيل٭

إن التناول الهيكلي لبيان بيدبا - كتاب كليلة ودمنة - يكشف عن انتمائه إلى مجموع الحكايات التي تدخل في إطار " التفريع الحكائي"[1]، كما في ألف ليلة وليلة، أو ما يسميه تودوروف بـ "الأدب الإسنادي"[2] الذي يهتم بعلاقات التضمين والترابط في السرد بين القصص المتوالدة من جهة، وبينها وبين الحكاية الإطار، أو "الحكاية الأم"، من جهة ثانية.

بذلك نكون أمام نص له صورة كليَّة متكونة من مجموع الحكايات، وصور فرعية متكونة من كل حكاية مفردة، في الوقت نفسه. وقد تختلف هذه الحكايات الفرعية عن الحكاية الإطار من حيث النمط – مثل الحكايات العجيبة وحكايات الشطَّار والحكايات الخرافية – ولكنها تساند الحكاية الإطار من خلال الوظيفة المتوخاة منها، إن كانت تعليلية أو تفسيرية...، وبذا يكون التفرع الحكائي "تحقق مصغر لصيغة الحكاية الإطار بقدر ما يكون امتدادًا لتغذيتها السردية"[3] ليفسح من خلالها المجال للتعدي الدلالي، وتوالد الأفكار والمضامين عبر الأصول والفروع
وعليه، يمكن تعريف التفرع الحكائي بأنه خطة سردية واعية تربط بين الحكاية الإطار والحكايات المضمَّنة، وفيما بين القصص المتوالدة من بعضها دلاليًا وبنيويًا ووظيفيًا، لإنجاز صورة كلية وصور فرعية مفردة، في الوقت ذاته.

تعرِّف مياجير هاردت الحكاية الإطارية بأنها
ذلك السرد المركب من قسمين بارزين ولكنهما مترابطين، أولهما حكاية أو مجموعة الحكايات التي ترويها شخصية واحدة أو أكثر، وثانيهما تلك المتون وقد رويت ضمن حكاية أقل طولاً وإثارة، مما يجعلها تؤطر تلك المتون كما يحيط الإطار بالصورة[4].
ولكي نقصي التباين بين الأصل والفرع، في تعريف هاردت، نستبعد تقسيم الحكاية الإطار ﺇلى قسمين، ونحصرها في القسم الأول الذي يؤطر الحكايات المتون المتفرعة منه، ويحيط بها في بداية السرد ونهايته. ويكون القسم الثاني بذلك تنويعًا دلاليًا ووظيفيًا ونمطيًا للحكاية الأم التي يمثَّل لها بحكاية شهريار وشهرزاد، المؤطرة لليالي ألف ليلة وليلة، بوصفها أنموذجًا عالميًا[5] على أساسه حُدِّد مفهوم الحكاية الإطارية.
ولا تنحصر وظيفة الحكاية الأم في تأطير السرد فحسب، على أهميته في لمِّ شمل الصورة الكلية للحكي. فللحكاية الأم أبعاد لا تقلُّ أهمية عن ذلك، فهي القسم الأول الذي لا يتمُّ إنجازه ﺇلا بإنجاز التفريع الحكائي للمتون المفردة، مما يعني أن تحققها لا يتم إلا بتحقق الحكايات المتفرعة "المضمَّنة"؛ ولكنها هي من يعطي المتون الفرعية سياقها العام، لتساعدها في بناء الصورة الكلية، مع حق الاحتفاظ بخصوصيتها. وتشكِّل بذلك الحكاية الأم الشرعية السردية للحكايات المتفرعة؛ فلولاها لما كان هناك سرد بدءًا، فهي التي تشكل ظاهرة القص "بينما تقدم القصص المؤطَّرة النتائج المترتبة على هذا التكوين"[6]. فالسرد يبدأ بالتشكل منها، وهي الغاية منه، وما سيأتي تنويع وبناء لها. فهي جوهر الحكي، والحكايات المتفرعة شرح وتفسير وتأكيد وتسويد لفراغات الأسئلة في النص الأصلي – الحكاية الأم.
يضاف إلى تلك الشرعية السردية، التي تمنحها الحكاية الإطار للحكايات المتفرعة، شرعيةٌ إسنادية. وبدون هذه الشرعية تفقد الحكايات المضمَّنة مبرر وجودها في النص؛ لأنها تتيه في فراغ السرد، بخاصة أنها تحتفظ بحقها في التميُّز والتنويع، كما ذكرنا، على المستوى الدلالي والموضوعي والنمطي. أي إن الحكاية المفردة، الحيوانية أو العجائبية أو الخارقة...، لن تجد ما يجمع بينها وبين الصورة الكلية، وستكون نصًا ناشزًا يجب اقصاؤه؛ لأن العلاقة الإطارية (الإسنادية) مع الحكاية الأم غير متوافرة. وهذه العلاقة لا تأتي من خلال الموضوع وإنما من خلال فعل التوالد الذي يحيل إلى ترابط إسنادي سردي، داخلي، بين القصص المتفرعة، وبينها وبين الحكاية الأم. والحكاية الأصل (الأم) هي التي تحتفظ بصورة الإسناد الخبري، وتستمد شرعيتها في السرد من ذلك الإسناد. أما الحكايات المتفرعة فتستمد شرعيتها الإسنادية من انتمائها إلى الحكاية الأم المسْنَدة إخباريًا.
وانطلاقًا من أهمية بناء الصورة الكلية للنص، لهيمنة الصورة وظيفيًا، لا تتجه الحكاية الإطار "إلى ذاتها تحديدًا وإنما تقصد إلى إيجاد صيغة تحفيزية للسرد والتأليف الموسوعي"[7]. فهي تبدأ السرد ولا تنهيه إلا بعد اكتمال الصورة الكلية بالفعل القصصي الذي تنجزه الحكايات المضمَّنة التي تتناسل لتبني في الفضاءات البيضاء التي تركتها الحكاية الأم، فتوضحها وتفسرها وتشرحها وتعللها.
إن هذا التحفيز هو العنصر المحرض على صفتي التنوع والموسوعية، باعتبارهما صفتين تلازمان الحكايات التي تبني صورة منجزة من خلال الأصل والفرع، كحكايات ألف ليلة وليلة وكتاب كليلة ودمنة. والصفتان مكونان سرديان من مكونات الحكاية الإطار التي لم تستوف بمفردها إنجاز الصورة الكلية، فكانت بسيطة التركيب ومحدودة الأشخاص. وهاتان سمتان تشكلان مواطئ رخوة في الفعل القصصي الذي يسمح بالتوالد لسد الفراغ كلما دعت إلى ذلك ضرورة السرد. وهو ما يمنح القصة الإطار القدرة على احتواء حكايات كثيرة فيها، ويجعلها تتقبل في سياقها "كل ما هو غريب من الأحداث والوقائع... بوساطة راوٍ جديد يحمل على كاهله حكايته الخاصة أو حكاية رويت له... مما يقود إلى تفريخ مزيد من الحكايات داخل الحكاية الإطار"[8] التي فسحت المجال للحوار وثنائية الراوي والمروي له في الفضاء الواحد، يضاف إلى ذلك خاصية الوظائف الحكائية التي تحتاج إلى تفسير وتعليل وتوضيح وإقناع.
لا تقصي الحكاية الإطار حق الحكاية المضمَّنة في التميُّز والتنوع وتشكيل الخصوصية، موضوعًا ونمطًا وأسلوبًا، بل تترك لها حق الحياة والنماء والبناء بشرط أن تنتمي في سياقها السردي العام إليها، أي عبر شرعية السرد والإسناد في بناء الصورة الكلية، وعبر الصورة الفرعية التي تنجزها الحكاية المفردة. ولذلك يكون من الطبيعي أن نجد في مجموع النص (كليلة ودمنة أو ألف ليلة وليلة) حكايات مختلفة، موضوعًا ونمطًا وبناءً، عن الحكاية الإطار، ولكنها تساهم في الوقت نفسه في تشكيل البنية الدلالية التي أرادها الراوي الأول.
ولتجلي تلك العلاقة، في صورة البناء والانتماء بين الأصل والفرع، تغذي الحكاية الإطار الحكايات المضمَّنة بمكونات سردية تجد لها امتدادًا ظاهرًا أو خفيًا، عبر تحققات مختلفة، يحيل المتن في الحكايات المتفرعة، ترجيعيًا، إلى صدى بعيد يصوره المبدأ الجوهري للسرد[9]، بمعنى أن الحكاية الفرعية تتغذى من رحم الحكاية الأم، فتأخذ من مكوناتها السردية ما يعزز بناءها السردي، كحضور الراوي والمروي له وثنائية التقابل بين نقيضين يطوران السرد ليفضي بالحكاية الفرعية، تراجعيًا، إلى المبدأ الجوهري في السرد. ومن ذلك مثلاً أنه إذا كانت حكاية شهرزاد وشهريار "الحكاية الأم" تبلور، في جوهر مبدئها السردي، فكرة "التماثل المتكافئ"[10] فإن قراءة تأويلية عميقة تبين أن كل الحكايات الفرعية في ألف ليلة وليلة تحيل أيضًا إلى فكرة التماثل المتكافئ أيضًا. وهذا ما نستخلصه في كتاب كليلة ودمنة. وهو جوهر هام آخر من أشكال شرعية الانتماء بين الحكاية المضمَّنة والحكاية الإطار.

الحكاية الإطار في كليلة ودمنة

الوحدات الوظيفية
ينقسم البناء الهيكلي لكتاب كليلة ودمنة، كما هو متداول بين القراء، إلى ثلاثين قسمًا موزعة على مقدمات وأبواب وأجزاء أبواب، منها 11 جزءًا تحتوي مقدمات وعروضًا إما من الناشر أو من مترجم النص من الهندية إلى الفارسية، كما يُصرَّح بذلك، أو مقدمة شكر لبرزويه المتطبب الذي خاطر بحياته ونقل النص من بلاد الهند إلى بلاد فارس، أو من مترجم النص من الفارسية إلى العربية، وهو ابن المقفع، كما يُصرح بذلك أيضًا.
ويبدأ سرد الحكايات، كما يراد أن يفهم، من الصفحة 68 في نسختنا المعتمدة[11]، أي من الجزء الأول من باب الأسد والثور. ويتم توزيع هذا المتن السردي على 13 حكاية كبرى يضاف إلى ذلك خاتمة الكتاب، وذلك من الصفحة 68 إلى الصفحة 224. وتدخل هذه الحكايات ضمن مسميات الأبواب، وإن كانت موزعة على أجزاء. ونمثِّل لذلك بحكاية الأسد والثور؛ فهي موزعة على ستة أبواب تحت اسم باب الأسد والثور رقم 1، وباب الأسد والثور رقم 2، وباب الأسد والثور رقم 3... إلخ.
ما نريد البحث عنه، من خلال هذا العرض الموجز لفهرس الكتاب، هو موقع الحكاية الإطار في النص. وللوصول إلى ذلك سنقسم الكتاب إلى قسمين نقصي منهما الزوائد المضافة من الناشر أو المضافة بغاية التمويه، من ابن المقفع، حول طبيعة النص ومؤلفه.
والزوائد هي العروض والمقدمات التي لا تدخل في تشكيل السرد، وغايتها توضيحية أو إضاءة متن الكتاب. وهي مقدمة الناشر عن حياة ابن المقفع ومؤلفاته، وباب بعثة الملك كسرى أنوشروان[12]، وباب برزويه المتطبب بجزأيه، وباب عرض الكتاب من قبل وزير كسرى بزرجمهر، وباب عرض الكتاب لابن المقفع. ويبقى، بعد ذلك الإقصاء، مقدمة الكتاب لعلي بن الشاه الفارسي، وهي من ثلاثة أجزاء:
1. المقدمة.
2. سبب وضع كتاب كليلة ودمنة.
3. عرض الملك على بيدبا تأليف الكتاب.
أما القسم الثاني فهو ما تبقى لدينا من الكتاب بأبوابه وأجزائه المشكلة للحكايات من الصفحة 68 إلى الصفحة 224.
تشكِّل مقدمة علي بن الشاه الفارسي، بأجزائها الثلاثة، الحكاية الإطار. وعلي بن الشاه هو الذي يبدأ بالرواية الاسترجاعية ليشكل السرد الأول بالقول: إن الإسكندر ذا القرنين الرومي...[13]

خطاب النص

تنقسم الحكاية الإطار كما سنلاحظ إلى ثلاثة مستويات هي: خطاب دبشليم الملك، وخطاب بيدبا الفيلسوف، والتماثل المتكافئ.

1. خطاب دبشليم الملك
تنصِّب الرعية أحد أبناء ملوكها ملكًا على البلاد بعد أن طردت المعيَّن من قبل الغازي؛ لأنه كما يقول الراوي:
لا يصلح للسياسة ولا ترضى الخاصة والعامة أن يملِّكوا عليهم رجلاً ليس منهم ولا من أهل بيوتهم، فإنه لا يزال يستذلهم ويستقلهم... ولما استوثق الأمر لدبشليم طغى وبغى وتجبر وتكبر وجعل يغزو مَن حوله من الملوك[14].
واستصغر أمر الرعية وأساء السيرة فيهم، ولم يأخذ بسيرة أجداده الحسنة في سياسة الرعية وإصلاح شأنها على الرغم من أنه لم يرتق العرش إلا لصلة نسبه بأسلافه الملوك.
بذلك السلوك في سياسة الرعية يتنكر الملك لأمرين: الأول، الرعية التي وثقت به وعينته ملكًا عليها. والثاني، سياسة أجداده في حسن تصرفها مع الرعية، أي إنه فقد شرعية تموضعه على كرسي السلطة مما خلق توترًا في العلاقة بين الحاكم والمحكوم، أساسه الافتقار إلى العدل في الحكم وبروز الجور والاستبداد. فطفت على السطح قضية قديمة ومعاصرة في الوقت ذاته، هي الصراع بين الحاكم والمحكوم ومتطلبات طرفي الصراع. يمثل الطرف الأول الملك دبشليم على رأس السلطة بجهازه السلطوي والتابوات التي يؤطر بها نفسه ضد الرعية. ويقود الطرف الثاني المثقف والحكيم والفيلسوف بيدبا.

2. خطاب بْيَدَبا الحكيم
يلاحظ بيدبا الفيلسوف سلوك الحاكم فيستشير تلامذته ويقرر نصح الملك دبشليم. أربع علامات تؤطر زاوية الرؤية لدور المثقف في مجتمعه. ويتمثل ذلك في إدراكه لمعاناة المحكومين، وأخذه بمبدأ المشورة، وإقدامه على تحمل المخاطر في قيادة الرعية، وعمله بمبدأ الحوار، فعلاً خلاقاً في التغيير، وسلاحًا ماضيًا في وجه قوة طاغية، لا قبل له بمواجهتها بنوعية أسلحتها.

.../...



يتبع....








: منتديات الأستاذ التعليمية التربوية المغربية : فريق واحد لتعليم رائد https://www.profvb.com/vb/showthread.php?p=972368
آخر تعديل خادم المنتدى يوم 2020-05-02 في 20:26.
    رد مع اقتباس
قديم 2020-05-02, 20:02 رقم المشاركة : 2
خادم المنتدى
مدير التواصــل
 
الصورة الرمزية خادم المنتدى

 

إحصائية العضو








خادم المنتدى غير متواجد حالياً


وسام المشاركة السيرة 1438ه

وسام المشاركة في مسابقة السيرة النبوية العطرة

العضو المميز لشهر فبراير

افتراضي رد: 2- سلسلة حكايات كليلة ودمنة .. التفريغ الحكائي وأنماط التخييل ..


أ. الإدراك والملاحظة: يقول الراوي:
كان في زمانه [أي زمان الملك دبشليم] رجل فيلسوف من البراهمة[15]، يُعرف بفضله ويُرجَع في الأمور إلى قوله، يقال له بيدبا. فلما رأى الملك وما هو عليه من الظلم للرعية فكر في وجه الحيلة في صرفه عما هو عليه وردِّه إلى العدل والإنصاف[16].
علامات بيدبا، كما هو ملاحظ في النص، التواجد الموضوعي والزمني المعاصر لدبشليم، فعلاً سرديًا إسناديًا بصيغة الماضي "كان" كما هو الشأن في الإسناد الخبري في بداية السرد، وهي ضرورة تخييلية؛ لأننا ما زلنا في إطار تشكيل الحكاية الأم، ومن ثم الصفات التي بوأته – أي بيدبا – موقع البيان القادم في خطابه كالفلسفة والفضل والمرجعية المعرفية الواسعة التي أهدته إلى الملاحظة وإدراك معاناة شعبه من الظلم والتفكير في إزالته.

ب. المشورة: جمع بيدبا تلامذته وقال لهم – سنعود إلى قوله كلما دعت مقتضيات البحث لأهميته في الكشف عن بيان خطابه :
- أتعلمون ما أريد أن أشاوركم فيه؟ قالوا: لا. قال: اعلموا أني أطلت الفكر في دبشليم وما هو عليه من الخروج عن العدل ولزوم الشر ورداءة السيرة وسوء العشرة مع الرعية، ونحن ما نروِّض أنفسنا لمثل هذه الأمور إذا ظهرت من الملوك إلا لنردهم إلى فعل الخير ولزوم العدل... وقد جمعتكم لهذا الأمر؛ لأنكم أسرتي ومكان سري وموضع معرفتي، وبكم أعتضد وعليكم أعتمد؛ فإن الوحيد في نفسه والمنفرد برأيه، حيث كان، فهو ضائع ولا ناصر له... فليشر كل واحد منكم بما يسنح له من رأي[17].
يعرض بيدبا في مقصورته على تلامذته هواجسه وأفكاره والإمكانات المتاحة له ضمن خصوصيته بوصفه فيلسوفًا وحكيمًا. ومن الحكمة الاعتقاد بأن المنفرد برأيه ضائع. وهي حكمة موجهة في خطاب بيدبا باتجاهين: الأول، إلى الملك دبشليم الذي يرفض اتِّباع سيرة أجداده ويبطش بمن نصبوه ملكًا؛ فهو ضائع في سياسته التي لا تجلب له غير الفساد داخل حاشيته وكره الرعية والملوك الذين غزا بلادهم. والثاني موجه إلى المتلقي النصي الممثل بتلامذته، وإلى المتلقي خارج النصي المقصود بالخطاب بصورته الكلية.
ولذلك فإن بيدبا يكرر استشارة تلامذته في موقع آخر، وذلك حين طلب منه الملك دبشليم تأليف كتاب كليلة ودمنة[18] وما ذلك إلا للتأكيد على إنكار الاستبداد في الرأي. يقول بيدبا:
أرى السفينة لا تجري في البحر إلا بالملاحين لأنهم يعدلونها[19].
إن المشورة في خطاب بيدبا قانون الحاكم السديد الذي يقود السفينة إلى اللجة، وبدونها ستغرق السفينة؛ لأنها تقع تحت سطوة التفرد والإنكار والاستصغار للملاحين الآخرين. وهذا ما فعله دبشليم الملك حين تفرد بالحكم، فطغى وتكبر واستصغر، فأصبح مكروهًا.

ج. المبادرة: كان بإمكان بيدبا، بوصفه واحدًا من الرعية، السكوت على ظلم دبشليم، ولكنه ليس فردًا عاديًا في الرعية، فهو ينتمي إلى الفئة المثقفة، وهو الحكيم والفيلسوف. تلك صفات تموضعه في موقع المسؤولية. وهنا يتوجه بخطابه إلى المتلقي النصي وخارج النصي مرة أخرى، كما فعل بموضوعة المشورة، ويعلل مبادرته بمجموعة من الاحتمالات. يقول:
ومتى أغفلنا ذلك وأهملناه [يقصد السكوت على ظلم دبشليم] لزِمَنا من وقوع المكروه منا وبلوغ المحظورات إلينا ألم الجهال. وبلغ إليهم أن كنا في أنفسهم أجهل منهم وفي عيونهم أقل منهم. وليس عندي الجلاء عن الوطن، ولا يسعنا في حكمتنا إبقاء الملك على ما هو عليه من سوء السيرة وقبح الطريقة، ولا يمكننا مجاهدته بغير ألسنتنا، ولو ذهبنا إلى أن نستعين بغيرنا لم تتهيأ لنا معاودته. وإن أحسَّ منا بمخالفته وإنكارنا سوء سيرته كان في ذلك بوارنا، وقد تعلمون أن مجاورة السبع والكلب والحية والثور على طيب الوطن ونضارة العيش غدر بالنفس[20].
إحساس بيدبا بالمسؤلية نابع من حكمته وثقافته وإدراكه، بوصفه نقيضًا للجاهل، حيث ثنائية التقابل بين العارف وغير العارف، ودوره في ذلك التقابل هو رفض التماثل مع نقيضه الجاهل لإصلاح الفساد وليس التناقض لتعميق الصراع والهوة بين الحاكم والمحكوم. ولذلك فهو لا يستطيع السكوت، فالصمت على الظلم جهل. والمثقف الساكت هنا يضع نفسه موضع الجاهل، لا هو انتفع بعلمه ولا نفع غيره ممن لا يعلمون. وعليه فإن السكوت على الظلم في خطاب بيدبا مستبعد لأنه يحطُّ من قدر العالم الساكت.
الحل الثاني الجلاء عن الوطن، وهو حلٌّ غير وارد في جهاز بيدبا النظري، ولذلك لا يناقشه لبدهية سلبيته. الحل الثالث، الاستعانة بالغير؛ ذلك يعني ضياع الوطن، فمن يأتي بالمحتل لايستطيع إخراجه، ولأن استعمال العنف ومجاهدة الملك به ليس من دأب العلماء. تبقى الكلمة هي السلاح الأمضى في بيان بيدبا، وعليها يراهن تلامذته ومتلقي الصورة الكلية للبيان. يقول له تلامذته:
إن السباحة في الماء مع التمساح تغرير، والذنب فيه لمن دخل عليه في موضعه. والذي يستخرج السم من ناب الحية فيبتلعه ليخبر به على نفسه فليس الذنب للحية. ومن دخل على الأسد في غابته لم يأمن وثبته[21].
وعلى الرغم من تلك المخاطر يبادر بيدبا لتحمل المسؤلية، ويقرر مقابلة دبشليم الملك لحواره ونصحه.
في ذلك الموقف موضوعة هامة يقرها بيدبا في خطابه، وهي أن مسؤولية المثقف في مجتمعه لا تقتصر على الإدراك والملاحظة والمعرفة، بل لا بدَّ من الإقدام والتضحية لكي يحظى بتقدير العامة والخاصة بوصفه مثقفًا وفيلسوفًا وحكيمًا. يقول:
رأيت أن أجود بحياتي فأكون قد أتيت فيما بيني وبين الحكماء بعدي عذرًا. فحملت نفسي على التغرير أو الظفر بما أريده... فإنه قيل في بعض الأمثال: إنه لم يبلغ أحد مرتبة إلا بإحدى ثلاث: إما بمشقة تناله في نفسه، وإما بوضيعة[22] في ماله أو بوكس[23] في دينه، ومن لم يركب الأهوال لم ينل الرغائب[24].

د. الجدل: الجدل هو الركيزة الأساس في خطاب بيدبا، به يشكل السلاح الأمضى، ومن خلاله يفنِّد المواقف والآراء ليصل إلى الإقناع ثم التماثل المتكافئ بين المتصارعين. ولذلك نلاحظ ملامح تلك الموضوعة في كل المكونات الوظيفية في خطاب بيدبا. يبدأ بيان بيدبا بطلب بيدبا النصيحة لنفسه من تلامذته. وهي موضوعة هامة في الصورة الكلية. فهو العالم والفيلسوف والحكيم. ولكنه يدرك أن في الانفراد في الرأي نقص وضياع مهما كانت منزلة المتفرد في الرأي. وهي لا تأتي في بداية الخطاب ارتجالاً، بخاصة إذا علمنا أنها الموضوعة الصغرى التي ينتهي بها أيضًا خطابه مع الملك دبشليم حين يقابله:
الأمر الذي دعاني إلى الدخول على الملك وحملني على المخاطرة في كلامه والإقدام عليه نصيحة اختصصته بها من دون غيره[25].
وهي الموضوعة الكبرى في الصورة الكلية لكتاب كليلة ودمنة أو بيان بيدبا الكلي للمتلقي خارج النصي. وبذلك تمثل الإطار المعادل على مستوى الدلالة للحكاية الإطار، على مستوى البناء، وإليها تنتمي الوحدات الدلالية الجزئية إرجاعيًا، بوصفها مبدءًا قارًا. ولأن النصيحة إنجاز لفظي جاهز على مستوى المتن داخل النصوص الصغرى والحكاية الأم، فهي بحاجة إلى ممهدات متعددة الأنماط لإثبات صحة المنجز اللفظي دلاليًا، وذلك عبر سطوة العقل وهيمنته على الخطاب الدلالي. ومن ذلك تنبع أهمية تفنيد الأقوال والمواقف في خطاب بيدبا أمام تلامذته بوصفهم المتلقي الأول، وأمام الملك متلقيًا ثانيًا، وأمام المتلقي خارج النصي باعتباره البعد الثالث في بيان الصورة الكلية. تبرز أولى صور التفنيد في خطاب بيدبا من خلال لقائه مع تلامذته. ففي الاجتماع الأول يبين الآراء المتوقعة في آلية مواجهة ظلم الملك دبشليم، ثم يبين بطلانها ومواطن الخلل فيها ليصل إلى فسادها عبر سرد المتطلبات المتوجبة من الحكيم أمام الرعية ونتائج التخلي عن تلك الواجبات. وبالتالي، ما الذي يمكن عمله لظهور صورة الفيلسوف بأبهى أوجهها الأخلاقية والاجتماعية والتاريخية؟ ولا يتوانى بيدبا لإثبات ذلك عن الاستعانة بأقوال الفلاسفة السابقين. يقول:
إن الفيلسوف لحقيق أن تكون همته مصروفة إلى ما يحصن به نفسه من نوازل المكروه ولواحق المحذور. ويدفع المخُوف لاستجلاب المحبوب. ولقد كنت أسمع أن فيلسوفًا كتب إلى تلاميذه يقول: إن مجاورة رجال السوء والمصاحبة لهم كراكب البحر، إن هو سلم من الغرق لم يسلم من المخاوف. فإذا هو أورد نفسه موارد الهلكات ومصادر المخوفات عدَّ من الحمير التي لا نفس لها؛ لأن الحيوانات البهيمة قد خصت في طبائعها بمعرفة ما تكتسب به النفع وما تتوقى المكروه، وذلك أننا لم نرها تورد أنفسها موردًا فيه هلكتها وأنها متى أشرفت على مورد مهلك لها مالت بطباعها التي ركِّبت فيها شُّحًا بأنفسها وصيانة لها إلى النفور والتباعد عنه[26].
وحين ينجز بيدبا – لفظيًا – حكمة مجردة يسارع إلى توضيحها بحكاية، ومن ذلك قوله في خطابه لتلامذته:
على أن العقل قد يبلغ بحيلته ما لا يبلغ بالخيل والجنود[27]
فيوضح هذا القول بحكاية القبرة والفيل[28].
أما الصورة التفنيدية الثانية فقد جاءت أمام الملك دبشليم، مع الملاحظة في اختلاف منزلة المتخاطبين في الصورتين، مما يخلق تغيرًا في رتبة الحكيم بيدبا؛ ففي الصورة الأولى يتم التقابل بين (فوق/تحت) ويكون بيدبا في المعادلة في موقع "الفوق" الأقوى والأعلم، ولذلك يقول له تلامذته حين يسألهم: "أتعلمون ما أريد أن أشاوركم فيه؟ قالوا: لا "[29] وبعد أن طرح عليهم فكرته "قالوا أجمعهم:... أنت المقدم فينا... وما عسى أن يكون مبلغ رأينا عند رأيك وفهمنا عند فهمك"[30]، فبيدبا هنا يسأل ليختبر ويفند الآراء ثم يقرر.
ولكن بيدبا، في الصورة التفنيدية الثانية، في معادلة التقابل بين (الفوق = الملك/التحت = بيدبا والرعية) هو في موقع التابع وليس المتبوع، كما تنجزه الصورة البيانية وهذا يستدعي خطابًا، من بيدبا مع الملك لإنجاز القول، مختلفًا على مستوى الأسلوب والوحدات الجزئية، فرضه المقام (فوق/تحت) الجديد. فالمهمة أصعب من الأولى، لأن بيدبا يفتقر في هذه الصورة إلى سلطة (الفوق) التي يملكها دبشليم.
يدخل بيدبا على الملك دبشليم وعليه لباس البراهمة، وهي علامة تعويضية لتقوية المقام (تحت) لبيدبا، لأن البراهمة هم حكماء الهند تاريخيًا؛ وهي إشارة إلى تسلح بيدبا بالحكمة والفلسفة والعلم، وهو ما سيفرض على (الفوق = دبشليم) التفكير في طلب (التحت) وما عساه أن يكون، كما سنلاحظ. ويقدم بيدبا الفيلسوف لدبشليم الملك ما يفرضه تناقض الموقعين المتقابلين من واجب التبعية، وهو اعتراف صريح من بيدبا بوجوب طاعة الرعية للحاكم واحترامه، فـ "سجد له واستوى قائمًا، وسكت"[31].
لعلامة السكوت أكثر من وظيفة سينجز بعضها السرد على لسان بيدبا، وسينجز بعضها الآخر الراوي المتماهي بمرويه (علي بن الشاه الفارسي ودبشليم). الوظيفة الأولى أن السكوت جزء من صيغة احترام المقام الملكي وهيبته. يقول بيدبا: "إن ذلك لم يكن مني إلا لهيبته [أي الملك] والإجلال له"[32]. والوظيفة الثانية تقع في بنية السرد فعلاً تحفيزيًا لنموه من جهة، وعلامة دلالية من جهة أخرى. فهي فعل تحفيزي للسرد ينتقل من خلالها مستوى السرد من (التحت) إلى (الفوق) لرصد العالم الداخلي تجاه (التحت الحكيم) وما يمثله رصيده المعرفي والتاريخي، وهي علامة دلالية لرصد الصورة الشمولية لشخصية دبشليم. فبعد سكوت بيدبا الفيلسوف مباشرة يفكر دبشلييم الملك، أي إن الفعل ينتقل إلى (الفوق) بفعل التفكير، وهي سمة إيجابية في الصورة الشمولية لدبشليم الملك. يقول الراوي:
وفكر دبشليم في سكوته، وقال: إن هذا لم يقصدنا إلا لأمرين: إما أنه يلتمس منا شيئًا يصلح به حاله، أو لأمر لحقه فلم يكن له به طاقة. ثم قال: إن كان للملوك فضل في مملكتها فإن للحكماء فضلاً في حكمتها[33].
الحوار الداخلي لدبشليم يبين أن لباس البراهمة قام بوظيفته في تعديل المقام، أو على الأقل كان حافزًا للتفكير في أمر بيدبا الفيلسوف بأقل قدر ممكن من الاستصغار. ويتضح ذلك بشكل جلي حين يعلن الملك دبشليم جهرًا ما جاء في دخيلة نفسه. يقول لبيدبا:
إن الحكماء لا يشيرون إلا بالخير والجهال يشيرون بضده، وأنا قد فسحت لك في الكلام[34].
لا شك أن تعديل المقام والتخفيف من وطأة (التحت) كانا مشروطين من قبل دبشليم الملك بالقول الحكيم، المناقض لقول الجاهل؛ ولكنه فسح المجال أيضًا، أي إنه فتح الباب للحوار والإصغاء. وبيدبا لا يريد أن ينطق بقول الجاهل، ولا يريد أن يقول بغير الخير. وذلك أول بوادر التماثل الذي يحصل بين طرفي الصراع (الفوق/التحت).
الوظيفة الثالثة للسكوت ينجزها بيدبا الفيلسوف مقدمةً للإقناع. وهي المهمة الأصعب في الإنجاز اللفظي. ولذلك سيستجمع لها بيدبا الفيلسوف جلَّ ثقافته وحكمته، فيبدأ بتأكيد شرط دبشليم؛ إن الحكماء لا يشيرون إلا بالخير؛ الخير في الكلام إن كان لا بد منه وإلا فالسكوت فضيلة، كما يقول الحكماء والملوك في إشارة بيدبا الآتية:
قالت العلماء: الزم السكوت فإن فيه السلامة، وتجنب الكلام الفارغ فإن عاقبته الندامة. وحكي أن أربعة من العلماء ضمهم مجلس ملك، فقال لهم: ليتكلم كل منكم بكلام يكون أصلاً للأدب.
فقال أحدهم: أفضل خلة العلماء السكوت.
وقال الثاني: إن مِنْ أنفع الأشياء للإنسان أن يعرف قدر منزلته من عقله.
وقال الثالث: أنفع الأشياء ألا يتكلم بما لا يعنيه.
وقال الرابع: أروح الأمور للإنسان التسليم للمقادير[35].
تدعوا أقوال الحكماء إلى السكوت، ولكنه ليس سكوتًا مطلقًا أخرسًا، وإنما السكوت المجنب للندم والخطأ. أي لا بدَّ من الكلام، كلام العلماء والحكماء، الذي يدعو إلى الخير. وهذا تماثل آخر بين طرفي الصراع (بيدبا/دبشليم) وتحقيقٌ لشرط دبشليم الملك، وتقوية أخرى لموقع (التحت) في مواجهة (الفوق)، مما يفتح الباب ثانية لبيدبا الفيلسوف للكلام، بعد أن تحقق شرط الملك في قول الحكمة، وبخاصة أن بيدبا ربط الأقوال المأثورة بمعادل لطرفي الصراع أو المقام (فوق = أقوال الملوك/وتحت = أقوال الحكماء) ولذلك ربط بين الحكام والحكماء برابط الحكمة القائمة على دور الكلمة المتبادلة بينهما، مما لا يسمح لدبشليم الملك إلا بالإصغاء بفعل نوازع الفضول لسماع القول الحكيم. ولذلك يكرر دبشليم الملك قوله لبيدبا الفيلسوف: "يا بيدبا تكلم مهما شئت فإنني مصغ إليك"[36].
يبدأ بيدبا خطابه المباشر لدبشليم الملك بكلام الحكمة، فيقول:
إني وجدت أن الأمور التي اختص بها الإنسان من بين سائر الحيوان أربعة أشياء، وهي جماع ما في العالم. وهي: الحكمة والعفة والعقل والعدل. والعلم والأدب داخلة في باب الحكمة. والحلم والصبر والوقار داخلة في باب العقل، والحياء والكرم والصيانة والأنفة داخلة في باب العفة. والصدق والإحسان والمراقبة وحسن الخلق داخلة في باب العدل[37].
تبدأ الخصائص الأربع بالحكمة وتنتهي بالعدل. في باب الحكمة توجد الروية، وفي باب العدل يوجد الإحسان. الروية مطلب بيدبا من الملك دبشليم في اللحظة الراهنة، لكي يتم الإصغاء من قبل الملك، وينجز بيدبا مهمته. ولكن بيدبا لا يبقى في إطار المنجز من الكلام اللفظي، بل يتقدم خطوة أخرى في خطابه المباشر الممزوج بالدعاء للملك ببقاء ملكه، علامةً غير مباشرة على أنه لا يطلب زواله بل بقاءه وصلاحه. ثم ينتقل مباشرة إلى جوهر مطلبه، ولكن من خلال استرجاع ذكرى أجداد الملك دبشليم، مما لايفسح المجال لدبشليم بالإنكار أو الغضب، فهو ذم في صيغة مدح:
أيها الملك إنك في منزلة آبائك وأجدادك من الجبابرة الذين أسسوا الملك قبلك وشيدوه دونك، وبنوا القلاع والحصون، ومهدوا البلاد وقادوا الجيوش واستجاشوا العدة، وطالت لهم المدة، واستكثروا من السلاح والكراع[38] وعاشوا الدهور في الغبطة والسرور، فلم يمنعهم ذلك من استعمال الإحسان إلى من خولوه، والرفق بمن ولَّوه وحسن السيرة فيما تقلدوه[39].
في كل متوالية وظيفية يؤكد بيدبا في خطابه على الجدل. وها هو هنا يلصق، من خلال ضمير المخاطب، صفات الأجداد بدبشليم الملك "الجبابرة، أسس، شيَّد، القلاع والحصون، قادوا الجيوش،...إلخ" مما يستثير في نفس دبشليم الرغبة في التماهي بالأجداد مطلبًا للملك والرعية في الوقت نفسه. وفي ذلك تأكيد آخر على أن الرعية لا تريد زوال ملك دبشليم بل عدله وإنصافه. ولكن التماهي ناقص بفعل لفظتين في الخطاب أدخلهما بيدبا الفيلسوف في المتوالية، هما: "قبلك" و"دونك"؛ فعلى الملك، إذًا، استدراك النقص من خلال متابعة التشييد والبناء ليصبح جزءًا من تلك القوة "الجبابرة" بالإضافة إلى العدل والإحسان للرعية، لأن التشييد والبناء لم يمنع الأجداد من الإنصاف، كما يقول بيدبا الفيلسوف مستدركًا.
بعد ذلك لم يبق أمام بيدبا إلا التصريح بالنقص بدل التلميح إليه:
أيها الملك السعيد جده... قد ورثت أرضهم وأموالهم ومنازلهم [يريد أجداد الملك] ولم تقم بذلك بحق ما يجب عليك، طغيت وبغيت وعتوت[40].
لقد تخلى خطاب بيدبا في هذه المتوالية الوظيفية عن ذكر إنجازات الملك، وذلك للتركيز على النقص وتبيان خروج الملك عن الشرعية التي تحدثنا عنها سالفًا، والتي استمدها دبشليم الملك من طرفين: أجداده والرعية.
دبشليم الملك، إذًا، ورث الملك ولم يقم بواجبه. إن النفي هنا هو تصريح ضمني بنفي المقام الذي يحتله دبشليم في معادلة (فوق/تحت) لفقدانه شروط التربع في المقام. وأصبح من حق (التحت) أن يحاسب (الفوق)، وكأن المعادلة انقلبت رأسًا على عقب، فمن كان في (الفوق) أصبح في (التحت) والعكس صحيح. وهنا تنتفي سلطة (الفوق) وتبرز سلطة (التحت) ويصبح بيدبا هو الأقوى بسلطة العقل والحجة والحق.
بذلك تتوضح الصورة الكلية، في بيان بيدبا، التي تحرض على عمل العقل والحوار، وتركز على دور الكلمة ودور المثقف والحكيم والفيلسوف في مجتمعه. وتصبح تلك الصورة الكلية في البيان هي الأولى، وهي في معادلة الرتبة في (الفوق) مهما أبدت الصورة البيانية الظاهرية من تمويه.

يتبع





    رد مع اقتباس
قديم 2020-05-02, 20:04 رقم المشاركة : 3
خادم المنتدى
مدير التواصــل
 
الصورة الرمزية خادم المنتدى

 

إحصائية العضو








خادم المنتدى غير متواجد حالياً


وسام المشاركة السيرة 1438ه

وسام المشاركة في مسابقة السيرة النبوية العطرة

العضو المميز لشهر فبراير

افتراضي رد: 2- سلسلة حكايات كليلة ودمنة .. التفريغ الحكائي وأنماط التخييل ..


3. التماثل المتكافئ "تحول الصراع":
يشكِّل "التماثل المتكافئ" حكمة بيدبا في بيانه الكلي[41]. فإيمانه بدور العقل والحوار يحيل الصراع بين طرفين، مهما كانا متناقضين، إلى التصالح والتماثل. ولكن الوصول إلى تلك النتيجة يحتاج من (التحت) إلى الحكمة والتضحية والخبرة، بالإضافة إلى كل ما لاحظناه من سمات في بيان بيدبا الشمولي.
وعلى الرغم من ذلك يبقى التماثل مشروطًا بالصورة الشمولية أيضًا للطرف النقيض (الفوق) وقبوله بمنطق (التحت). ولم يغب ذلك عن بيدبا الفيلسوف، أو بالأحرى عن ابن المقفع، ولذلك تظهر المتواليات الوظيفية الموحية بإمكانية التحول إلى التماثل المتكافئ مبكرة في الحكاية الإطار، من خلال الصورة الشمولية لدبشليم الملك. وسوف نمثل لذلك بمتواليتين: التفكير "التأمل" والفعل "الإنجاز".
أ‌. التفكير "التأمل": حين دخل بيدبا على الملك وسجد له واستوى قائمًا وسكت، فكر دبشليم الملك في سكوته. والتفكير علامة الحكماء. وبيدبا يدفع الملك إلى التفكير، أي إلى الأخذ بسلاح بيدبا في الصراع، وبالتالي يجرده من سطوة (الفوق) المتمثلة بقوة السلطة؛ فيتساوى طرفا المعادلة من حيث السطوة، ويصبح الحوار مهيمنًا على العلاقة، وبذلك تكون الغلبة للعقل والجدل، أي لبيدبا الفيلسوف.
يقول دبشليم الملك مفكرًا:
إن الحكماء أغنياء عن الملوك بالعلم، وليس الملوك بأغنياء عن الحكماء بالمال. وقد وجدت العلم والحياء إلفين لا يفترقان... ومن لم يستح من الحكماء ويكرمهم ويعرف فضلهم على غيرهم ويصنهم عن المواقف الواهنة وينزههم عن المواطن كان ممن حرم عقله وخسر دنياه وظلم الحكماء حقوقهم وعدَّ من الجهال[42].
التفكير المبكر من قبل دبشليم علامة موطئة لإمكانية حدوث التماثل بين الطرفين، خاصة أن دبشليم الملك ربط بين ظلم الحكماء والجهال، وهو الذي اشترط فيما بعد على بيدبا أن يتكلم بكلام الحكماء وليس الجهال.
ولا ينتفي التفكير، مع تقدم السرد، عن دبشليم الملك؛ فبعد أن يأمر بقتل بيدبا وصلبه، يميل إلى تخفيف الحكم إلى السجن، ثم يصاب بالأرق، ويعيد التفكير في كلام بيدبا الفيلسوف، ويسترجع أقوال العلماء:
أربعة لا يجب أن تكون في الملوك: الغضب فإنه أجدر الأشياء مقتًا، والبخل... والكذب... والعنف في المحاورة[43].
تبدأ السمات الأربع في قول العلماء بـ"الغضب" وتنتهي بـ"العنف في المحاورة"، وفي ذلك تركيز على ما بدر من الملك دبشليم تجاه بيدبا الفيلسوف، وعودة غير مصرح بها عن حكم القتل والصلب والسجن. فالغضب ممقوت، وهذا ما صدر منه. والعنف في المحاورة ليس من صفات الملوك، ودبشليم الملك لم يتقبل المحاورة وعاقب بيدبا؛ والمنطق الجدلي في ذلك يقضي بإنجاز العدل، والعدل هو مطلب بيدبا في بيانه الشمولي.
ب‌. الفعل "الإنجاز": أنجز بيدبا مهمته في الإقناع وأعاد دبشليم الملك إلى سماع صوت العقل والحكمة والعدل. وخرج بيدبا الفيلسوف من السجن منتصرًا بأمر الملك:
يا بيدبا إني قد استعذبت كلامك وحسُن موقعه في قلبي، وأنا ناظر في الذي أشرت به وعامل بما أمرت. ثم أمر بقيوده فحلَّت، وألقى عليه من لباس الملوك، وتلقاه بالقبول [وقال]: لقد وليتك في مجلسي هذا جميع أقاصي مملكتي، وأحببت أن تضع لي كتابًا بليغًا تستفرغ فيه عقلك، يكون ظاهره سياسة العامة وتأديبها على طاعة الملك، وباطنه أخلاق الملوك وسياستها للرعية[44].
تحول دبشليم الملك بذلك الفعل من ملك طاغية إلى ملك عادل، وتحقق حلم بيدبا في التماثل المتكافئ بين الحاكم والمحكوم، من خلال العلاقة التي أنشأها القول الحكيم بينهما بفعل العقل والحوار والإقناع والكلمة الفاعلة.

الوحدات البنائية في النص

أ‌. الوحدات الإسنادية:
تبدأ الحكاية الإطار بجملة استهلالية تحدد الراوي والفضاء والمسترجع زمنيًا: "قال علي بن الشاه الفارسي بن سجوان:... كان... أن الإسكندر ذا القرنين". الراوي محدد بثلاث سمات: الاسم: علي بن الشاه الفارسي، والجنسية: الفارسي، والزمن: ما بعد سنة 579 م لأن ملك الفرس كسرى أنوشروان، الذي أمر بنقل الكتاب من خزائن الهند، عاش ما بين عامي 531 – 579 م، ومن البدهي أن الراوي الذي يسترجع أحداث الماضي عاش بعد ذلك التاريخ، من دون تحديد دقيق، لأنه شخصية إسنادية إخبارية متخيلة، لا أثر على وجودها موضوعيًا، وحضورها ذو وظيفة تأطيرية استهلالية في البنية السردية لكي تدخل من خلاله الحكايةُ الإطار بوابة المتلقي ضمن إطار تقاليد الإسناد في فن الخبر، ليس في الثقافة العربية فحسب، بل عند جميع الشعوب التي أنتجت السرود الحكائية.
إن الجوهر المبدئي للسرد الذي يريد أن ينجزه ابن المقفع في كتابه كليلة ودمنة يكمن في الحكاية الإطار. أما الحكايات المضمَّنة أو المتفرعة منها ما هي إلا تنويعات و إبدالات لذلك المبدأ الجوهري في السرد. وبالتالي يكون لدينا حكاية كبرى عنوانها بيان بيدبا أو حكاية بيدبا والملك دبشليم، وحكايات متفرعة هي جزء تنويعي على مستوى الوظيفة والبناء والنمط، مهمتها استكمال الحكاية الإطار وإغناؤها.
"الحكاية الأم"، إذًا، هي المخولة بحمل جملة الاستهلال السردي ومبدأ الإسناد الخبري، فبها يبدأ السرد. ولا سرد من دون إسناد في ثقافة التخييل، لأنه حامل المشروعية السردية ورسالة التخييل؛ ما لا حقيقة له "قصة دبشليم وبيدبا" وما لا وجود له "الراوي علي بن الشاه الفارسي"[45].
ولكن أهمية وجود مبدأ الإسناد تتجاوز ذلك التوصيف الباحث عن الوقائع الموضوعية إلى توصيف المنجز نصيًا بغاية تصديقه إخبارًا قابلاً للحياة والتلقي والتأويل.
من هذا المنطلق، في الجوهر المبدئي للسرد في الحكاية الإطار ومن وظيفة التنويع والإبدال للحكايات المضمَّنة، يغدو منطقيًا أن تكتسب الحكايات المتفرعة مشروعيتها الإسنادية من خلال انتمائها التنويعي والإبدالي للحكاية الإطار، التي تقوم بدورها في تأطير المتفرعات وإكسابها الإسناد الخبري ومشروعيته، من خلال إسنادها إلى راوٍ وفضاء محددين. ولإنجاز تلك المشروعية بُدء بـ "قال علي بن الشاه" الذي أخبر بصيغة الماضي "كان" عما وقع في زمن الإسكندر من غزو لبلاد الهند، أتبعه ظهور الملك الطاغية دبشليم، حيث يبدأ تشكل خطابه في الوحدة الثانية من النص.

ب‌. التناسل:
بدأ التناسل، تفريعًا حكائيًا، بشكل مبكر داخل الحكاية الإطار، حين اجتمع بيدبا بتلامذته لاستشارتهم في أمر دبشليم الملك فطرح عليهم الحكمة الآتية:
المتفرد برأيه حيث كان، فهو ضائع، ولا ناصر له. على أن العاقل قد يبلغ بحيلته ما لا يبلغ بالخيل والجنود.
ومثل بيدبا لذلك بحكاية القبرة والفيل[46]. وهي حكاية تأخذ مشروعيتها الإسنادية من وظيفتها التفسيرية للمنجز اللفظي المجرد "الحكمة" الذي أطلقه بيدبا أمام تلامذته، وليس من صيغة الإسناد الخبري كما في الحكاية الإطار.

جـ. ثنائية التقابل:
تقضي ثنائية التقابل، كما لاحظنا في الوحدات الوظيفية، إلى انتصار العقل في الصورة الكلية، ممثلاً ببيدبا الفيلسوف (التحت). ويوازيه الإنجاز السردي على مستوى المساحة السردية المنجزة لفظيًا. فالمساحة التي يسودها الحديث عن دبشليم محدودة الأسطر بالقياس إلى المساحة التي سيملؤها فعل بيدبا الفيلسوف. وهي موازاة غير متكافئة من حيث الرتبة في الصورة البيانية للثنائية التقابلية، لأن موازاة المساحة بالرتبة تقتضي أن يحتل دبشليم الملك (الفوق) المساحة الأكبر في السرد. وهذا غير متناقض وإن بدا متناقضًا ظاهريًا، لأن المعادلة الثنائية قد انقلبت في تحول الصراع، وجُرِّد (الفوق) من سلطته القامعة، وأُفسِح المجال للحوار سلطةً فعَالة؛ ولأن العقل سلاح الحكيم (التحت) أصبح هو من يمتلك الفعل والمبادرة.
إن قلب الرتبة يمثل انتصارًا وظيفيًا وبنائيًا على مستوى السرد لبيدبا. وهذا يستوجب امتلاء السرد، إنجازًا لفظيًا، بخواصه وإمكاناته، من خلال ثنائية تقابلية موازية، يمثل قطبيها الفعل (الفوق) ورد الفعل (التحت). الفعل من إنجاز بيدبا، ورد الفعل من قبل دبشليم الملك. الفعل، ممثلاً ببيدبا، منفتح على الآخر، يشاور ويحاور ويسترجع المخزون الثقافي والتجربة السابقة للفلاسفة والملوك، ويبادر بالدخول على الملك، فعلاً إجرائيًا لكسر طوق الظلم. بينما نلاحظ أن رد الفعل، ممثلاً بدبشليم الملك، محاصر بنظامه وسلطته، منغلق على الآخر، لا يحاور، منقطع عن الماضي والتجارب السابقة، ولا يرتبط بعلاقة ما إلا من خلال سلطته، أي دائرته المغلقة، مما يخلق منه حالة ضعيفة، قابلة للاختراق، لايقوى إلا على رد الفعل؛ ولذلك لا مساحة له في السرد إلا في صورتين: التفكير الداخلي والإصغاء. والفعلان هما رد فعل على الفعل (الفوق) الذي سينجز الحكي بوصفه فعلاً خلاقًا، من خلال الإقناع، عبر الأمثلة والحكايات والخبرة الواسعة في شؤون السياسة.

د. الصورة البلاغية:
ثلاث صور بلاغية تشكل طبيعة السرد في الحكاية الإطار، هي:
1. السرد الإخباري: ينجزه علي بن الشاه الفارسي. ويتمثل بالوحدة الإسنادية، وفي مواقع التمفصل الحكائي بين الوحدات الوظيفية.
في الوحدة الإسنادية يهيمن الفعل الماضي على الخبر لوظيفته الترجيعية "كان... أن الإسكندر" و"كان على الهند" و"كان ذو القرنين". وبين مواقع الفعل "كان" تدخل مجموعة من الأفعال الماضية لتفصيل وقائع "كان" وملء الفراغ القصصي في السرد الإخباري: "وضع. فرغ. كانوا. سار. فلم يزل. ظهر. قهر. تغلب. عاداه. تفرقوا. تمزقوا. توجه... إلخ".
ولأن الراوي يروي سيرة فرد ملحمي بطولي أسطوري، فإنه يأخذ ببلاغة السرد الملحمي في الملاحم العربية، القائمة على محسنات المشابهة والمجاورة. ومن تلك الصور الوظيفية تصوير القادة العسكريين وإعداد العدة للحرب، وتصوير المعارك بما يدعم التخييل البطولي. يقول الراوي في وصف أفعال الإسكندر وتعاقبها وانتصاراتها الكبيرة: "فلم يزل يحارب من نازعه ويواقع من واقعه ويسالم من وادعه"[47] إنه يكثف الفعل الانتصاري من خلال التركيز على البنية الإيقاعية للجمل. ويقول في وصف ملك الهند المقابل للإسكندر في حربه:
كان على الهند في ذلك الزمان ملك ذو سطوة وبأس ومنعة ومراس... فلما أقبل [ذو القرنين] نحوه تأهب لمحاربته واستعد لمجاذبته... وجمع له العدة في أسرع مدة من... السيوف القواطع[48].
وكما في الملاحم الشعبية يلجأ الراوي إلى علامات ملحمية في فتح الحصون المنيعة على السيف ممثلة بالحيلة، وهذا ما يقوم به الإسكندر حين يعجز عن فتح حصون الهند. وكذلك المبارزة الفردية بين قادة الجيوش. فهنا تبرز الصورة البلاغية المثيرة لمتعة التلقي:
فبرز إليه الإسكندر، فتجاولا على ظهري فرسيهما ساعة من النهار ليس يلقى أحدهما من صاحبه فرصة ولم يزالا يتعاركان. فلما أعيا الإسكندرَ أمْرُه... أوقع ذو القرنين في عسكره صيحة ارتجت لها الأرض والعساكر، فالتفت "فَوْر" عندما سمع الزعقة وظنها مكيدة في عسكره فعاجله ذو القرنين بضربة أمالته عن سرجه، وأتبعها بأخرى فوقع إلى الأرض[49].
أما تدخُّل الراوي الإخباري في الربط بين الوحدات الوظيفية فهو بغاية تنسيق السرد وتنظيمه بحيث يؤدي إلى نموه واطراده وتنظيم الحوار. ويتدخل كذلك لوصف ما يجول في خاطر الملك من أفكار. وكذا في بداية اللقاء، بين بيدبا الفيلسوف ودبشليم الملك، وبعده.

يتبع





    رد مع اقتباس
قديم 2020-05-02, 20:07 رقم المشاركة : 4
خادم المنتدى
مدير التواصــل
 
الصورة الرمزية خادم المنتدى

 

إحصائية العضو








خادم المنتدى غير متواجد حالياً


وسام المشاركة السيرة 1438ه

وسام المشاركة في مسابقة السيرة النبوية العطرة

العضو المميز لشهر فبراير

افتراضي رد: 2- سلسلة حكايات كليلة ودمنة .. التفريغ الحكائي وأنماط التخييل ..


2. الخطاب الإنشائي: يرتبط الخطاب الإنشائي، في السرد، بالملك دبشليم المحاصر بدائرته المغلقة على ذاته وسلطته؛ مما يؤكد الحيرة والتساؤل والتعجب من طارق بابه وخطابه، أي من خطاب (التحت). فاستصغار (الفوق) للـ(التحت) في ثنائية التقابل يولد المفارقة في شكل الخطاب، ويولد الغرابة والإنكار من سلطة (الفوق).
فكر دبشليم في نفسه بعد أن دخل عليه بيدبا، وقال:
إن هذا لم يقصدنا إلا لأمرين. إما أنه يلتمس منا شيئًا يصلح به حاله، أو لأمر لحقه فلم يكن له به طاقة... ثم رفع رأسه إلى بيدبا وقال له: نظرت إليك يا بيدبا ساكتًا لا تعرض حاجتك ولا تذكر بغيتك، فقلت: إن الذي أسكته هيبة ساورته أو حيرة أدركته. وتأملت فقلت: لم يكن لبيدبا أن يطرقنا على غير عادة إلا لأمر حركه إلى ذلك... فهلا نسأله عن سبب دخوله؟ فإن يكن...[50]
ويتكرر الخطاب الإنشائي ثانية مع دبشليم الملك. وهما الموقعان اللذان يشكلان في السرد المساحة المحدودة لدبشليم بعد أن يتكلم بيدبا ويفتح خطابه المختلف، المولد للمفارقة بين ما يطلبه (الفوق) من (التحت) موضوعيًا وبين ما ينجزه السرد. يقول دبشليم:
لقد تكلمت بكلام لا أظن أحدًا من أهل مملكتي يستقبلني بمثله، ولا يقدم على ما أقدمت عليه، فكيف أنت مع صغر شأنك وضعف منتك[51] وعجز قوتك؟! ولقد أثرت إعجابي في إقدامك علي وتسلطك بلسانك فيما جاوزت فيه حدك، وما أجد شيئًا في تأديب غيرك أبلغ من التنكيل بك[52].
ولكن خطاب دبشليم المنجز على سوية "رد الفعل" لا ينبتُّ بشكل مطلق عن خطاب بيدبا الحكيم؛ فالتحول المنجز على مستوى الوحدات الوظيفية في السرد ينعكس في أسلوب خطاب دبشليم على مستوى البناء. فالتفكير، علامةً دلالية في الصورة الشمولية لدبشليم، يدفع الملك إلى خطاب الحكماء؛ أي إلى خطاب بيدبا. وهو تواز في الوظيفة والبناء، واتساق مع التحول الذي حصل في ثنائية التقابل (الفوق-التحت).
يقول دبشليم، مفكرًا في سكوت بيدبا بعد أن أنهى خطابه الإنشائي:
إن كان للملوك فضل في مملكتها فإن للحكماء فضلاً في حكمتها أعظم[53].
وفي لحظة التفكير الثانية يقول:
لقد أسأت فيما صنعت... وقد قالت العلماء: أربعة لا ينبغي أن تكون في الملوك: الغضب فإنه...[54]
إن ذلك التداخل، في خطاب دبشليم، بين الإنشائية والتقريرية الموجزة والمكثفة، هو شكل من التماهي، ينجز، أسلوبيًا على لسان دبشليم، توازيًا مع التماهي الذي وقع على مستوى التقابل بين (الفوق) و(التحت). فعودة دبشليم من الخطاب الانفعالي ورد الفعل إلى الخطاب الحكمي، على مستوى الأسلوب، هو تجل وتجسيد لعودة دبشليم إلى صوت العقل والحوار والتماثل مع بيدبا الحكيم لتوازي القوى بين (الفوق) و(التحت) حيث تسود سلطة واحدة هي خطاب بيدبا الفيلسوف.

3. الخطاب الحجاجي: يتميز خطاب بيدبا بالوضوح والبيان، وبالتفصيل والشرح. تتداخل فيه الحكايات والأمثال والأقوال والعبر بغاية حجاجية تهدف الى الإقناع وسيلةً لإنجاز التماثل بين (الفوق) و(التحت)، إذ لا بدَّ من إغلاق دائرة الإقناع على (الفوق) لكي يسقط سلاحه السلطوي ويتبنى سلاح (التحت) كي يحصل التوازي فالتماثل.
من هذا المنطلق تتناسل الأقوال المأثورة في خطاب بيدبا، كما تتناسل الحكايات المضمَّنة، وتنجَز الحكمة، مكثفة ومفصلة أحيانًا، بلغة إخبارية مرة وبلغة إنشائية مموسقة مرة ثانية، لما لتلك الإيقاعات من وقعٍ على المستمع وقوة تأثير فيه.
ومن السؤال والجواب ينشأ جدل حجاجي لا يترك للمتلقي دبشليم سلطة غير السلطة المنجزة في الخطاب الحجاجي. ولذلك نلاحظ أن خطاب بيدبا وحده هو الذي يعاد استرجاعه بتفصيل وتأمل مرتين: الأولى في الحكاية الإطار، من خلال طلب دبشليم
يا بيدبا أعد علي كلامك كله ولا تدع منه حرفًا واحدًا. فجعل بيدبا ينثر كلامه والملك مصغ إليه[55].
والثانية من خلال الحكايات المضمنة التي سيحكيها بيدبا في كتابه فيما بعد على صورة الجدل الحجاجي؛ السؤال من قبل دبشليم والجواب من قبل بيدبا؛ أي عبر المعادلة ذاتها؛ بيدبا ينثر الكلام ودبشليم يصغي إليه.

الحكاية المضمَّنة في كليلة ودمنة

ذكرنا، سابقًا، أن القصة المضمنة هي تنويع وإبدال للقصة الإطار، تتناسل من رحمها لتكمل بناء الصورة الكلية عبر إعادة إنتاج مكوناتها السردية ومضمونها الدلالي، من دون أن تفقد خصوصيتها السردية المتموضعة في النمط والموضوع. يقول تودوروف:
إن القصة المتضمَّنة إنما هي قصة لقصة؛ فحين تحكي قصة قصة أخرى فإن الأولى تبلغ مضمونها الخفي، وتفكر في الوقت ذاته بنفسها في هذه الصورة[56].
ومن صفتي الإبدال والخصوصية تتشكل علاقة الحكاية المضمنة بالحكاية الإطار. فهي ليست نسحة أخرى منها، وإنما تتجاذب معها الأهمية بحيث لا تستطيع الحكاية المضمنة أن تلغي الحكاية الإطار والعكس صحيح. وأهمية كل منهما تنبع من رفدها الأخرى بمقومات الاكتمال؛ فالحكاية الإطار تشكل المحيط السردي الذي تنتمي إليه الحكاية المضمنة، والأخيرة تملأ الفراغ الجزئي المشكِّل، بإبدالاته، الصورة الكلية. ولكننا نبقى مع ذلك:
خارج الأصل ولا نقدر أن نفكر فيه. فالقصة المتمَّمة ليست أكثر أصالة من القصة المتمِّمة، ولا العكس. إذ كل واحدة تحيل على الأخرى وذلك في سلسلة من الانعكاسات التي لا تستطيع أن تأخذ نهاية إلا إذا أصبحت أبدية[57].

تبدأ الحكاية المضمنة في كليلة ودمنة من الصفحة الأولى بعد حصول التماثل المتكافئ بين دبشليم الملك وبيدبا الفيلسوف، حيث يضع بيدبا كتابه بناء على طلب الأول، ويقسمه إلى أبواب نوجزها بعد دمجها في حدود الحكاية المضمنة بـ14 حكاية كبرى، تتفرع منها 38 حكاية صغرى وجزئية وفرعية. فيكون مجموع الحكايات المضمنة في كليلة ودمنة 53 حكاية. نستثني من ذلك حكاية القبرة والفيل المضمَّنة داخل الحكاية الإطار؛ لأنها خارج الحكي الذي أنجزه بيدبا بعد طلب دبشليم، بالإضافة إلى أنها تشكل جزءًا من مكونات البناء السردي للحكاية الإطار. وعليه فإن الحكاية المضمنة تنجز على مستويات من التصنيف، هي:

1 - الحكاية المضمَّنة الكبرى، وعددها 14 حكاية.
الحكاية المضمنة الصغرى المتناسلة من الحكاية الكبرى، وعددها 32 حكاية.
2 - الحكاية المضمنة الجزئية المتفرعة من الصغرى، وعددها 6 حكايات.
3 - الحكاية المضمنة الفرعية المتناسلة من الحكاية الجزئية الصغرى، وهي حكاية واحدة. وفق ذلك فإن الصورة الكلية تتشكل من خمس مستويات سردية.






    رد مع اقتباس
قديم 2020-05-02, 20:10 رقم المشاركة : 5
خادم المنتدى
مدير التواصــل
 
الصورة الرمزية خادم المنتدى

 

إحصائية العضو








خادم المنتدى غير متواجد حالياً


وسام المشاركة السيرة 1438ه

وسام المشاركة في مسابقة السيرة النبوية العطرة

العضو المميز لشهر فبراير

افتراضي رد: 2- سلسلة حكايات كليلة ودمنة .. التفريغ الحكائي وأنماط التخييل ..




قواعد ضبط التفرع الحكائي:

إن قواعد ضبط التفرع الحكائي هي واحدة في المستويات السردية الخمسة، وجميعها تتغذى من مكون سردي قار أنجزته الحكاية الإطار، وهو سؤال الملك دبشليم وجواب بيدبا الفيلسوف؛ أي البحث عن المعرفة. فبعد أن يحل التماثل المتكافئ – كما ذكرنا – بين الملك والفيلسوف يطلب دبشليم من بيدبا وضع كتاب كليلة ودمنة، وهو طلب مبني على الرغبة في المعرفة، وعلى طلب الحكمة من صاحبها؛ مما يستدعي طلب توضيح الغاية من ذلك الكتاب من قبل بيدبا الفيلسوف. وتوضيح الغاية يتكفل بها سؤال الملك دبشليم عن قضية من القضايا في كل جواب من أبواب الكتاب الذي ينجز حكاية من حكايات المستوى السردي الثاني. وهكذا يصبح السؤال وجوابه المحفز السردي التناسلي الذي يظهر مع كل تفريع حكائي في المستويات الأربعة بعد أن تشكله الحكاية الإطار مكونًا سرديًا محفزًا.
في المستوى السردي الثاني يطرح الملك دبشليم 14 سؤالاً، ويوجز بيدبا الجواب بحكمة أو قول أو نصيحة. ثم يبدأ بسرد الحكاية المضمنة الكبرى. ووصفناها بالكبرى لأنها تشكل حكاية إطارية من الدرجة الثانية، تتفرع منها حكايات المستوى السردي الثالث. فتسع حكايات منها – ذكرنا أن عددها 14 حكاية – تتفرع إلى حكايات صغرى في المستوى السردي الثاني، وكذا في بقية المستويات السردية. ونمثل لذلك بحكاية الحمامة المطوقة[58] في المستوى السردي الأول، لتفرعها حكائيًا في المستويات السردية الأربعة بعد الخروج من الحكاية الإطار.
نسجل بدايةً الحافز السردي (السؤال) في المستويات السردية الأربعة للحكاية ثم نحلله:
1. قال الملك دبشليم لبيدبا الفيلسوف:
حدثني، إن رأيت، عن إخوان الصفاء، كيف يبتدئ تواصلهم ويستمتع بعضهم ببعض... قال الفيلسوف: إن العاقل لا يَعدل بالإخوان شيئًا. فالإخوان هم الأعوان على الخير كله، والمؤاسون عندما ينوب من المكروه. ومن أمثال ذلك مثل الحمامة المطوقة والجرذ والظبي والغراب، قال الملك: وكيف كان ذلك؟ قال بيدبا: زعموا أنه كان...[59]
2. قالت السلحفاة للغراب: "ما ساقك إلى هذه الأرض؟"[60]. السؤال يمهد لسرد حكاية المستوى السردي الثالث، حكاية الجرذ والناسك[61].
3. قال الضيف للناسك: "لقد ذكرتني قول الذي قال: لأمرٍ ما باعت هذه المرأة سمسمًا مقشورًا. قال الناسك: وكيف كان ذلك"[62] السؤال يمهد لسرد حكاية المستوى السردي الرابع، حكاية المرأة والسمسم[63].
4. قال الرجل لزوجته: "لا تندمي على شيء أطعمناه وأنفقناه، فإن الجمع والادخار ربما كانت عاقبته كعاقبة الذئب. قالت المرأة: وكيف كان ذلك"[64]. السؤال يمهد لسرد حكاية المستوى السردي الخامس، حكاية الذئب ووتر القوس[65].
نشير أولاً إلى حضور وحدة قارة متكررة في تلك المحفزات، وهي السؤال المختصر: "وكيف كان ذلك؟" أي السؤال الذي يقتضي جوابًا أو تفرعًا حكائيًا، باعتبار أن الجواب الذي أنجزه بيدبا في بداية السرد كان حكائيًا.
بعد ذلك يظهر الاختلاف في المحفزات السردية. ففي الحكاية الإطار حكاية دبشليم الملك وبيدبا الفيلسوف ينتهي الصراع إلى فضول دبشليم في المعرفة. وتفرض طبيعة هذا الفضول على الفيلسوف الإفاضة في الشرح، كما يقتضي إقناع دبشليم بحسن سياسة الرعية من بيدبا أيضًا الشرح والتفصيل. وتتطلب الإفاضة والشرح والتفصيل، إلى جانب الرغبة في الإقناع، الإثبات والبرهان عبر الحكمة والحكاية والقول والتفسير. وهذا بمجمله يثير في نفس دبشليم أسئلة لامتناهية لعدم تناهي المعرفة، وإن كان كتاب كليلة ودمنة قد حصرها في 14 سؤالاً، يفرض على بيدبا سرد حكاية مضمنة كبرى تتضمن تفرعًا حكائيًا إلى حكايات صغرى. وذلك إلى جانب التعليق والشرح وإيراد الأقوال والأمثال؛ بخاصة أن سؤال دبشليم الملك، كما نلاحظ في المحفز رقم 1، لا ينجز سؤالاً مختصرًا عن أمر محدد وضيق، أو عن واقعة صغيرة تحدد حجم السرد، وإنما يشير إلى الرغبة في الإصغاء من قبل دبشليم الملك إلى حديث مطول في قضية كبرى، فيستعمل الفعل "حدثني"، و"حدث"، لغةً، تمتلك خواص الجديد والمبتدع والمسامرة[66] وتثير في الذهن مخزون الإرث الشفوي وما فيه من أسئلة تطالب الراوي بسرد حكاية عجيبة وغريبة.
ولكن السؤال يبقى ذا محدودية في حجم ما يتطلبه من سرد على الرغم من ذلك، قياسًا بالطلب المركزي في الحكاية الإطار؛ لأنه يتضمن سؤالاً تناسليًا غير منته إلا بانتهاء القضايا التي يمكن أن تطرح، وهذه مسألة غير متناهية، ولكن ابن المقفع حددها بكتاب فيه 14 سؤالاً وجوابًا.
ثم تتلاشى محدودية السؤال قياسًا بسؤال المستوى السردي الثالث على لسان السلحفاة للغراب وما ساقه إلى هذه الأرض. الإجابة هنا منوطة بالدوافع المحركة لانتقال الغراب، فنلاحظ محدودية الواقعة وإمكانية انفتاحها على أكثر من حكاية في الوقت نفسه، وإن اُنجزتْ ستكون مرتبطة بالسمة الأولى، أي المحدودية. ولذلك فإن حكاية الجرذ والناسك قابلة للتفرع الحكائي والانفتاح على المستوى السردي الرابع. وهذا ما يكون مع المحفز السردي الثالث حول لماذا باعت المرأة سمسمًا مقشورًا بغير مقشور. والسؤال هنا، بمكوناته الدلالية المحددة، يضيق السرد، بل يكاد يوقف التفرع الحكائي لولا الطبيعة التوالدية الفائقة للحكاية الشعبية التي أنجزت حكاية الذئب ووتر القوس في المستوى السردي الخامس، عبر حالة التداعي الداخلي. وإذا توقف التداعي توقف السرد، كما نلاحظ في الحكايات غير المتفرعة في المستوى السردي التالي لمستواها.
إن تكرار السؤال: "وكيف كان ذلك؟" الذي أطلقه دبشليم على بيدبا بصورة واسعة في الحكاية الإطار عبر طلبه المتمثل في وضع الكتاب، أو عبر أسئلة مباشرة في حكايات المستوى السردي الثاني، إن تكرار السؤال كان أول صور التحفيز على التنويع والإبدال، من خلال الحكاية المضمنة، بوصفهما وظيفتين مركزيتين في الحكاية المفرَّعة؛ لأن تكرار السؤال يعني أن بيدبا لم ينجز بعد مهمته أمام الملك دبشليم، بوصفه المروي له الأول. كما أن بيدبا لم ينجز بعد مهمته أيضًا أمام المتلقي خارج النصي بوصفه المروي له غير المتناهي وباعتباره الغاية القصوى من البيان بصورته الكلية.
وبذلك لا يكون السؤال "وكيف كان ذلك؟" مجرد عبارة تدرج الوظائف في السياق الحكائي، كما يرى البعض إذ يقول: "غالبًا ما تدرج [...] الوظائف في السياق الحكائي بعبارات من قبيل: وكيف كان ذلك؟"[67]. و إنما هي صيغة سردية وبنية محفِّزة تؤكد على وظيفتي التنويع والإبدال وتندرج عميقًا في البناء السردي لتمثل الصورة الكلية لنمط الحكاية المتفرعة. وهي، بنيويًا، أشمل من الوظائف الفرعية المنوطة بالتسلية والعبرة[68] أو تفسير السببية الحكائية. كذلك هي في بيان بيدبا، باعتباره نصًا تنجِز دلالتُه تحفيزًا للبحث عن المعرفة، وتولد بنيته تفرعًا حكائيًا غير منتهٍ.
ويؤكد هذا الدور البنيوي للسؤال، على مستوى البناء السردي، والدور المعرفي، على مستوى الدلالة، ما تقدمه الحكاية المضمَّنة، على مستوى التنويع والإبدال، من تنوُّع لمركزية الجدل أو العقل في بيان بيدبا عبر هيمنة إبدالات متنوعة، مثل "الحيلة" و"الحوار" وكل ما يفضي إلى انتصار العقل بدلالته. ويمثَّل ذلك بشكل جلي في حكايات المستوى السردي الثاني (انظر جدول المستويات السردية) المتناسل مباشرة من الحكاية الإطار؛ ففيه 14 سؤالاً يطلب الحكمة من بيدبا الفيلسوف، باستثناء ثلاث حكايات هي حكاية الملك والطير فنزة والناسك والضيف والحمامة والثعلب يستهلها بيدبا بالحكمة ثم يتبعها بسرد الحكاية. كما أن الحكايات جميعها تمجد دورًا للعقل والحكمة في التصرف والتدبر، فتنتصرلصاحب العقل وتهزم من يلغيه في تدبر شؤونه. ونمثل لتلك الدلالة بحكاية ابن الملك وابن الشريف وابن التاجر وابن الأكار[69] ففيها جماع أفرع الحكمة في التصرف على اختلاف الآراء والبيئة والفئة.

تنقسم الحكاية إلى ثلاثة أقسام:
1. السؤال: ينجَز على مستويين من قبل دبشليم الملك. في المستوى الأول يطلب حديثًا مفصَّلاً عن دور العقل في حياة الإنسان. وفي الثاني يوجز القول: "وكيف كان ذلك؟" طلبًا للحكاية.
2. جواب دبشليم: حكمة موجزة، ينجز فيها الدلالة مجردة من التشخيص.
3. نص الحكاية: زعموا أن...
ينهض (1) و(2) بإنجاز المحفز القار في الحكاية الإطار، وتتكفل (3) بالشرح والتفصيل والتشخيص. ولا ننسى أن السؤال كان عن دور العقل في حياة الإنسان؛ ولذلك مثل بيدبا بأربعة آراء من خلال أربعة مواقع اجتماعية:
1. ابن الملك: مؤمن بالقضاء والقدر، ولا يعني ذلك نفيه عن الآخرين، أو نفي دور العقل من إيمان ابن الملك.
2. ابن التاجر: مؤمن بأن العقل أفضل شيء.
3. ابن الأكَّار: يؤمن بأن الاجتهاد في العمل أفضل شيء.
4. ابن الشريف: يؤمن أن الجمال أفضل ما ذكر.
حين يبحث كل من الأربعة عن رزقه، يتمايز الأشخاص وفق ما جنوه، ويكون الترتيب على الشكل الآتي:
1. ابن الملك = القضاء والقدر.
2. ابن التاجر = العقل.
3. ابن الشريف = الجمال.
4. ابن الأكار = الاجتهاد في العمل.
إن الاختيارات الأربعة هي جماع ما يمكن أن يعتمد عليه الإنسان في حياته. وهذا يعني أن على الفرد أن يأخذ بها جميعًا؛ إذ لا يمكن الاستغناء عن اعتقاد من ذلك باعتباره خيارًا مذمومًا، فكل خيار من الخيارات (1، 3، 4) هو رديف العقل وإبدال له. فالإيمان بالقضاء والقدر ركيزة العاقل في إيمانه، والإيمان سمة العاقل، ولذلك قال الشيخ لابن الملك بعد تنصيبه ملكًا: "الذي بلغ بك ذلك وفور عقلك وحسن ظنك". وذلك يعني أن صاحب العقل كان صاحب الحظ الأوفر في الجني. وذلك بعد أن تماثل ابن الملك وابن التاجر في المحصلة، فقد أصبح ابن الملك ملكًا وابن التاجر وزيرًا له. وأما الجمال فهو حسن الحضور باعتباره معادلاً للحسن المعنوي. ونقيضه القبح المذموم، وهو معادل للقبح الداخلي كما تعكسه الحكايات الشعبية[70]. والاجتهاد صنو العاقل؛ لأن العاقل المؤمن لا يتكاسل ولا يتوانى عن الجد والعمل. بل إن العمل والإيمان علامتان للنجاح. فالخصال الثلاث: الإيمان بالقضاء والقدر والاجتهاد والجمال إبدالات للعقل، تتضافر معه لتشكل الكينونة الاجتماعية المثلى للإنسان.
إن الصراع بين الملك دبشليم وبيدبا الفيلسوف هو، في عمقه الدلالي، صراع بين الإصلاح والفساد، وبين التعاون والتفرقة، وبين المشورة وحسن التدبير والدفاع عن الحق من جهة والتفرد في الرأي والظلم من جهة أخرى، وبين الوفاء والغدر، وبين الغضب والحلم، وبين إعمال العقل وتعطيله... كل تلك ثنائيات تقابلية تشكل تنويعات وإبدالات لمركزية الصراع في الحكاية الإطار تنجزها الحكاية المضمنة.
وقد لا نجد في جميع الحكايات المضمنة صراعًا ينهض على ثنائية تقابلية مشخصة، كما في الحكاية الإطار؛ لأن التشخيص ليس غاية بحد ذاته في بيان بيدبا، وإنما وسيلة تخييلية لإنجاز البنية الدلالية القارة في الخطاب. وعليه يمكن أن ننزع التشخيص من الحكاية لننجز إبدالاً مستورًا للصراع بين دبشليم وبيدبا، طرفاه على الشكل الآتي:

= جدول التنويع والإبدال للثنائيات التقابلية

الطرف الأول: ما يمثله دبشليم من قيم سلبية
- صور التنويع والإبدال
- التجبر، التسلط، تعطيل العقل، الغدر، الإنكار، العنف، الاستصغار، البطش

= الطرف الثاني: ما يمثله بيدبا من قيم إيجابية
- العقل، المشورة، الحكمة، الجدل، الإقناع، الوفاء، الإحسان، الانتصار للحق، المبادرة، تحمَّل المسؤولية، المواجهة، مقاومة الظلم.

إن تجريد الثنائيات التقابلية عن تشخصاتها التخييلية لا يعود إلى افتقاد بعض الحكايات إلى التشخيص التقابلي، وإنما لإنجاز وظيفة ثنائية للحكاية المضمنة. الأولى هي إكمال الصورة الكلية في الحكاية الإطار "أي توالد الأفكار وإخصابها عبر الأصول والفروع"[71] وهو إكمال على المستوى الدلالي – وهذا ما لاحظناه في تنويعات الجدول السابق – والثانية هي نمو خصوصية الحكاية المضمنة، وذلك من سياقها الحكائي وموضوعاتها وأنماطها
إن الحكايات الفرع ليست بالضرورة من نفس نوع الحكايات الأصل، كما أنها لا تشابه فيما بينها؛ فقد تكون الأولى عجيبة بينما الثانية خرافية أو شطارية[72] مما يخرق أي مخطط لاستبطان التداعي الصوري في نظامه المجازي، كما يعطل أي استقراء لوجه الامتداد الأسلوبي بين الأصل والفرع، ويحصر التعدي في نطاق المضامين[73].





    رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
التخييم , التفريغ , الحكائي , حكايات , سلسلة , وأنماط , وحلوة , كليلة


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are معطلة


مــــواقـــع صـــديــقــة مــــواقـــع مـــهــــمــــة خـــدمـــــات مـــهـــمـــة
إديــكـبـريــس تربويات
منتديات نوادي صحيفة الشرق التربوي
منتديات ملتقى الأجيال منتديات كاري كوم
مجلة المدرس شبكة مدارس المغرب
كراسات تربوية منتديات دفاتر حرة
وزارة التربية الوطنية مصلحة الموارد البشرية
المجلس الأعلى للتعليم الأقسام التحضيرية للمدارس العليا
مؤسسة محمد السادس لأسرة التعليم التضامن الجامعي المغربي
الصندوق الوطني لمنظمات الاحتياط الاجتماعي التعاضدية العامة للتربية الوطنية
اطلع على وضعيتك الإدارية
احسب راتبك الشهري
احسب راتبك التقاعدي
وضعية ملفاتك لدى CNOPS
اطلع على نتائج الحركة الإنتقالية

منتديات الأستاذ

الساعة الآن 12:09 لوحة المفاتيح العربية Profvb en Alexa Profvb en Twitter Profvb en FaceBook xhtml validator css validator

RSS RSS 2.0 XML MAP HTML
جميع المواد المنشورة بالموقع تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر بأي شكل من الأشكال عن رأي الموقع ولا يتحمل أي مسؤولية عنها

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd