عرض مشاركة واحدة
قديم 2020-05-02, 20:10 رقم المشاركة : 5
خادم المنتدى
مدير التواصــل
 
الصورة الرمزية خادم المنتدى

 

إحصائية العضو








خادم المنتدى غير متواجد حالياً


وسام المشاركة السيرة 1438ه

وسام المشاركة في مسابقة السيرة النبوية العطرة

العضو المميز لشهر فبراير

افتراضي رد: 2- سلسلة حكايات كليلة ودمنة .. التفريغ الحكائي وأنماط التخييل ..




قواعد ضبط التفرع الحكائي:

إن قواعد ضبط التفرع الحكائي هي واحدة في المستويات السردية الخمسة، وجميعها تتغذى من مكون سردي قار أنجزته الحكاية الإطار، وهو سؤال الملك دبشليم وجواب بيدبا الفيلسوف؛ أي البحث عن المعرفة. فبعد أن يحل التماثل المتكافئ – كما ذكرنا – بين الملك والفيلسوف يطلب دبشليم من بيدبا وضع كتاب كليلة ودمنة، وهو طلب مبني على الرغبة في المعرفة، وعلى طلب الحكمة من صاحبها؛ مما يستدعي طلب توضيح الغاية من ذلك الكتاب من قبل بيدبا الفيلسوف. وتوضيح الغاية يتكفل بها سؤال الملك دبشليم عن قضية من القضايا في كل جواب من أبواب الكتاب الذي ينجز حكاية من حكايات المستوى السردي الثاني. وهكذا يصبح السؤال وجوابه المحفز السردي التناسلي الذي يظهر مع كل تفريع حكائي في المستويات الأربعة بعد أن تشكله الحكاية الإطار مكونًا سرديًا محفزًا.
في المستوى السردي الثاني يطرح الملك دبشليم 14 سؤالاً، ويوجز بيدبا الجواب بحكمة أو قول أو نصيحة. ثم يبدأ بسرد الحكاية المضمنة الكبرى. ووصفناها بالكبرى لأنها تشكل حكاية إطارية من الدرجة الثانية، تتفرع منها حكايات المستوى السردي الثالث. فتسع حكايات منها – ذكرنا أن عددها 14 حكاية – تتفرع إلى حكايات صغرى في المستوى السردي الثاني، وكذا في بقية المستويات السردية. ونمثل لذلك بحكاية الحمامة المطوقة[58] في المستوى السردي الأول، لتفرعها حكائيًا في المستويات السردية الأربعة بعد الخروج من الحكاية الإطار.
نسجل بدايةً الحافز السردي (السؤال) في المستويات السردية الأربعة للحكاية ثم نحلله:
1. قال الملك دبشليم لبيدبا الفيلسوف:
حدثني، إن رأيت، عن إخوان الصفاء، كيف يبتدئ تواصلهم ويستمتع بعضهم ببعض... قال الفيلسوف: إن العاقل لا يَعدل بالإخوان شيئًا. فالإخوان هم الأعوان على الخير كله، والمؤاسون عندما ينوب من المكروه. ومن أمثال ذلك مثل الحمامة المطوقة والجرذ والظبي والغراب، قال الملك: وكيف كان ذلك؟ قال بيدبا: زعموا أنه كان...[59]
2. قالت السلحفاة للغراب: "ما ساقك إلى هذه الأرض؟"[60]. السؤال يمهد لسرد حكاية المستوى السردي الثالث، حكاية الجرذ والناسك[61].
3. قال الضيف للناسك: "لقد ذكرتني قول الذي قال: لأمرٍ ما باعت هذه المرأة سمسمًا مقشورًا. قال الناسك: وكيف كان ذلك"[62] السؤال يمهد لسرد حكاية المستوى السردي الرابع، حكاية المرأة والسمسم[63].
4. قال الرجل لزوجته: "لا تندمي على شيء أطعمناه وأنفقناه، فإن الجمع والادخار ربما كانت عاقبته كعاقبة الذئب. قالت المرأة: وكيف كان ذلك"[64]. السؤال يمهد لسرد حكاية المستوى السردي الخامس، حكاية الذئب ووتر القوس[65].
نشير أولاً إلى حضور وحدة قارة متكررة في تلك المحفزات، وهي السؤال المختصر: "وكيف كان ذلك؟" أي السؤال الذي يقتضي جوابًا أو تفرعًا حكائيًا، باعتبار أن الجواب الذي أنجزه بيدبا في بداية السرد كان حكائيًا.
بعد ذلك يظهر الاختلاف في المحفزات السردية. ففي الحكاية الإطار حكاية دبشليم الملك وبيدبا الفيلسوف ينتهي الصراع إلى فضول دبشليم في المعرفة. وتفرض طبيعة هذا الفضول على الفيلسوف الإفاضة في الشرح، كما يقتضي إقناع دبشليم بحسن سياسة الرعية من بيدبا أيضًا الشرح والتفصيل. وتتطلب الإفاضة والشرح والتفصيل، إلى جانب الرغبة في الإقناع، الإثبات والبرهان عبر الحكمة والحكاية والقول والتفسير. وهذا بمجمله يثير في نفس دبشليم أسئلة لامتناهية لعدم تناهي المعرفة، وإن كان كتاب كليلة ودمنة قد حصرها في 14 سؤالاً، يفرض على بيدبا سرد حكاية مضمنة كبرى تتضمن تفرعًا حكائيًا إلى حكايات صغرى. وذلك إلى جانب التعليق والشرح وإيراد الأقوال والأمثال؛ بخاصة أن سؤال دبشليم الملك، كما نلاحظ في المحفز رقم 1، لا ينجز سؤالاً مختصرًا عن أمر محدد وضيق، أو عن واقعة صغيرة تحدد حجم السرد، وإنما يشير إلى الرغبة في الإصغاء من قبل دبشليم الملك إلى حديث مطول في قضية كبرى، فيستعمل الفعل "حدثني"، و"حدث"، لغةً، تمتلك خواص الجديد والمبتدع والمسامرة[66] وتثير في الذهن مخزون الإرث الشفوي وما فيه من أسئلة تطالب الراوي بسرد حكاية عجيبة وغريبة.
ولكن السؤال يبقى ذا محدودية في حجم ما يتطلبه من سرد على الرغم من ذلك، قياسًا بالطلب المركزي في الحكاية الإطار؛ لأنه يتضمن سؤالاً تناسليًا غير منته إلا بانتهاء القضايا التي يمكن أن تطرح، وهذه مسألة غير متناهية، ولكن ابن المقفع حددها بكتاب فيه 14 سؤالاً وجوابًا.
ثم تتلاشى محدودية السؤال قياسًا بسؤال المستوى السردي الثالث على لسان السلحفاة للغراب وما ساقه إلى هذه الأرض. الإجابة هنا منوطة بالدوافع المحركة لانتقال الغراب، فنلاحظ محدودية الواقعة وإمكانية انفتاحها على أكثر من حكاية في الوقت نفسه، وإن اُنجزتْ ستكون مرتبطة بالسمة الأولى، أي المحدودية. ولذلك فإن حكاية الجرذ والناسك قابلة للتفرع الحكائي والانفتاح على المستوى السردي الرابع. وهذا ما يكون مع المحفز السردي الثالث حول لماذا باعت المرأة سمسمًا مقشورًا بغير مقشور. والسؤال هنا، بمكوناته الدلالية المحددة، يضيق السرد، بل يكاد يوقف التفرع الحكائي لولا الطبيعة التوالدية الفائقة للحكاية الشعبية التي أنجزت حكاية الذئب ووتر القوس في المستوى السردي الخامس، عبر حالة التداعي الداخلي. وإذا توقف التداعي توقف السرد، كما نلاحظ في الحكايات غير المتفرعة في المستوى السردي التالي لمستواها.
إن تكرار السؤال: "وكيف كان ذلك؟" الذي أطلقه دبشليم على بيدبا بصورة واسعة في الحكاية الإطار عبر طلبه المتمثل في وضع الكتاب، أو عبر أسئلة مباشرة في حكايات المستوى السردي الثاني، إن تكرار السؤال كان أول صور التحفيز على التنويع والإبدال، من خلال الحكاية المضمنة، بوصفهما وظيفتين مركزيتين في الحكاية المفرَّعة؛ لأن تكرار السؤال يعني أن بيدبا لم ينجز بعد مهمته أمام الملك دبشليم، بوصفه المروي له الأول. كما أن بيدبا لم ينجز بعد مهمته أيضًا أمام المتلقي خارج النصي بوصفه المروي له غير المتناهي وباعتباره الغاية القصوى من البيان بصورته الكلية.
وبذلك لا يكون السؤال "وكيف كان ذلك؟" مجرد عبارة تدرج الوظائف في السياق الحكائي، كما يرى البعض إذ يقول: "غالبًا ما تدرج [...] الوظائف في السياق الحكائي بعبارات من قبيل: وكيف كان ذلك؟"[67]. و إنما هي صيغة سردية وبنية محفِّزة تؤكد على وظيفتي التنويع والإبدال وتندرج عميقًا في البناء السردي لتمثل الصورة الكلية لنمط الحكاية المتفرعة. وهي، بنيويًا، أشمل من الوظائف الفرعية المنوطة بالتسلية والعبرة[68] أو تفسير السببية الحكائية. كذلك هي في بيان بيدبا، باعتباره نصًا تنجِز دلالتُه تحفيزًا للبحث عن المعرفة، وتولد بنيته تفرعًا حكائيًا غير منتهٍ.
ويؤكد هذا الدور البنيوي للسؤال، على مستوى البناء السردي، والدور المعرفي، على مستوى الدلالة، ما تقدمه الحكاية المضمَّنة، على مستوى التنويع والإبدال، من تنوُّع لمركزية الجدل أو العقل في بيان بيدبا عبر هيمنة إبدالات متنوعة، مثل "الحيلة" و"الحوار" وكل ما يفضي إلى انتصار العقل بدلالته. ويمثَّل ذلك بشكل جلي في حكايات المستوى السردي الثاني (انظر جدول المستويات السردية) المتناسل مباشرة من الحكاية الإطار؛ ففيه 14 سؤالاً يطلب الحكمة من بيدبا الفيلسوف، باستثناء ثلاث حكايات هي حكاية الملك والطير فنزة والناسك والضيف والحمامة والثعلب يستهلها بيدبا بالحكمة ثم يتبعها بسرد الحكاية. كما أن الحكايات جميعها تمجد دورًا للعقل والحكمة في التصرف والتدبر، فتنتصرلصاحب العقل وتهزم من يلغيه في تدبر شؤونه. ونمثل لتلك الدلالة بحكاية ابن الملك وابن الشريف وابن التاجر وابن الأكار[69] ففيها جماع أفرع الحكمة في التصرف على اختلاف الآراء والبيئة والفئة.

تنقسم الحكاية إلى ثلاثة أقسام:
1. السؤال: ينجَز على مستويين من قبل دبشليم الملك. في المستوى الأول يطلب حديثًا مفصَّلاً عن دور العقل في حياة الإنسان. وفي الثاني يوجز القول: "وكيف كان ذلك؟" طلبًا للحكاية.
2. جواب دبشليم: حكمة موجزة، ينجز فيها الدلالة مجردة من التشخيص.
3. نص الحكاية: زعموا أن...
ينهض (1) و(2) بإنجاز المحفز القار في الحكاية الإطار، وتتكفل (3) بالشرح والتفصيل والتشخيص. ولا ننسى أن السؤال كان عن دور العقل في حياة الإنسان؛ ولذلك مثل بيدبا بأربعة آراء من خلال أربعة مواقع اجتماعية:
1. ابن الملك: مؤمن بالقضاء والقدر، ولا يعني ذلك نفيه عن الآخرين، أو نفي دور العقل من إيمان ابن الملك.
2. ابن التاجر: مؤمن بأن العقل أفضل شيء.
3. ابن الأكَّار: يؤمن بأن الاجتهاد في العمل أفضل شيء.
4. ابن الشريف: يؤمن أن الجمال أفضل ما ذكر.
حين يبحث كل من الأربعة عن رزقه، يتمايز الأشخاص وفق ما جنوه، ويكون الترتيب على الشكل الآتي:
1. ابن الملك = القضاء والقدر.
2. ابن التاجر = العقل.
3. ابن الشريف = الجمال.
4. ابن الأكار = الاجتهاد في العمل.
إن الاختيارات الأربعة هي جماع ما يمكن أن يعتمد عليه الإنسان في حياته. وهذا يعني أن على الفرد أن يأخذ بها جميعًا؛ إذ لا يمكن الاستغناء عن اعتقاد من ذلك باعتباره خيارًا مذمومًا، فكل خيار من الخيارات (1، 3، 4) هو رديف العقل وإبدال له. فالإيمان بالقضاء والقدر ركيزة العاقل في إيمانه، والإيمان سمة العاقل، ولذلك قال الشيخ لابن الملك بعد تنصيبه ملكًا: "الذي بلغ بك ذلك وفور عقلك وحسن ظنك". وذلك يعني أن صاحب العقل كان صاحب الحظ الأوفر في الجني. وذلك بعد أن تماثل ابن الملك وابن التاجر في المحصلة، فقد أصبح ابن الملك ملكًا وابن التاجر وزيرًا له. وأما الجمال فهو حسن الحضور باعتباره معادلاً للحسن المعنوي. ونقيضه القبح المذموم، وهو معادل للقبح الداخلي كما تعكسه الحكايات الشعبية[70]. والاجتهاد صنو العاقل؛ لأن العاقل المؤمن لا يتكاسل ولا يتوانى عن الجد والعمل. بل إن العمل والإيمان علامتان للنجاح. فالخصال الثلاث: الإيمان بالقضاء والقدر والاجتهاد والجمال إبدالات للعقل، تتضافر معه لتشكل الكينونة الاجتماعية المثلى للإنسان.
إن الصراع بين الملك دبشليم وبيدبا الفيلسوف هو، في عمقه الدلالي، صراع بين الإصلاح والفساد، وبين التعاون والتفرقة، وبين المشورة وحسن التدبير والدفاع عن الحق من جهة والتفرد في الرأي والظلم من جهة أخرى، وبين الوفاء والغدر، وبين الغضب والحلم، وبين إعمال العقل وتعطيله... كل تلك ثنائيات تقابلية تشكل تنويعات وإبدالات لمركزية الصراع في الحكاية الإطار تنجزها الحكاية المضمنة.
وقد لا نجد في جميع الحكايات المضمنة صراعًا ينهض على ثنائية تقابلية مشخصة، كما في الحكاية الإطار؛ لأن التشخيص ليس غاية بحد ذاته في بيان بيدبا، وإنما وسيلة تخييلية لإنجاز البنية الدلالية القارة في الخطاب. وعليه يمكن أن ننزع التشخيص من الحكاية لننجز إبدالاً مستورًا للصراع بين دبشليم وبيدبا، طرفاه على الشكل الآتي:

= جدول التنويع والإبدال للثنائيات التقابلية

الطرف الأول: ما يمثله دبشليم من قيم سلبية
- صور التنويع والإبدال
- التجبر، التسلط، تعطيل العقل، الغدر، الإنكار، العنف، الاستصغار، البطش

= الطرف الثاني: ما يمثله بيدبا من قيم إيجابية
- العقل، المشورة، الحكمة، الجدل، الإقناع، الوفاء، الإحسان، الانتصار للحق، المبادرة، تحمَّل المسؤولية، المواجهة، مقاومة الظلم.

إن تجريد الثنائيات التقابلية عن تشخصاتها التخييلية لا يعود إلى افتقاد بعض الحكايات إلى التشخيص التقابلي، وإنما لإنجاز وظيفة ثنائية للحكاية المضمنة. الأولى هي إكمال الصورة الكلية في الحكاية الإطار "أي توالد الأفكار وإخصابها عبر الأصول والفروع"[71] وهو إكمال على المستوى الدلالي – وهذا ما لاحظناه في تنويعات الجدول السابق – والثانية هي نمو خصوصية الحكاية المضمنة، وذلك من سياقها الحكائي وموضوعاتها وأنماطها
إن الحكايات الفرع ليست بالضرورة من نفس نوع الحكايات الأصل، كما أنها لا تشابه فيما بينها؛ فقد تكون الأولى عجيبة بينما الثانية خرافية أو شطارية[72] مما يخرق أي مخطط لاستبطان التداعي الصوري في نظامه المجازي، كما يعطل أي استقراء لوجه الامتداد الأسلوبي بين الأصل والفرع، ويحصر التعدي في نطاق المضامين[73].





    رد مع اقتباس