عرض مشاركة واحدة
قديم 2020-05-02, 20:07 رقم المشاركة : 4
خادم المنتدى
مدير التواصــل
 
الصورة الرمزية خادم المنتدى

 

إحصائية العضو








خادم المنتدى غير متواجد حالياً


وسام المشاركة السيرة 1438ه

وسام المشاركة في مسابقة السيرة النبوية العطرة

العضو المميز لشهر فبراير

افتراضي رد: 2- سلسلة حكايات كليلة ودمنة .. التفريغ الحكائي وأنماط التخييل ..


2. الخطاب الإنشائي: يرتبط الخطاب الإنشائي، في السرد، بالملك دبشليم المحاصر بدائرته المغلقة على ذاته وسلطته؛ مما يؤكد الحيرة والتساؤل والتعجب من طارق بابه وخطابه، أي من خطاب (التحت). فاستصغار (الفوق) للـ(التحت) في ثنائية التقابل يولد المفارقة في شكل الخطاب، ويولد الغرابة والإنكار من سلطة (الفوق).
فكر دبشليم في نفسه بعد أن دخل عليه بيدبا، وقال:
إن هذا لم يقصدنا إلا لأمرين. إما أنه يلتمس منا شيئًا يصلح به حاله، أو لأمر لحقه فلم يكن له به طاقة... ثم رفع رأسه إلى بيدبا وقال له: نظرت إليك يا بيدبا ساكتًا لا تعرض حاجتك ولا تذكر بغيتك، فقلت: إن الذي أسكته هيبة ساورته أو حيرة أدركته. وتأملت فقلت: لم يكن لبيدبا أن يطرقنا على غير عادة إلا لأمر حركه إلى ذلك... فهلا نسأله عن سبب دخوله؟ فإن يكن...[50]
ويتكرر الخطاب الإنشائي ثانية مع دبشليم الملك. وهما الموقعان اللذان يشكلان في السرد المساحة المحدودة لدبشليم بعد أن يتكلم بيدبا ويفتح خطابه المختلف، المولد للمفارقة بين ما يطلبه (الفوق) من (التحت) موضوعيًا وبين ما ينجزه السرد. يقول دبشليم:
لقد تكلمت بكلام لا أظن أحدًا من أهل مملكتي يستقبلني بمثله، ولا يقدم على ما أقدمت عليه، فكيف أنت مع صغر شأنك وضعف منتك[51] وعجز قوتك؟! ولقد أثرت إعجابي في إقدامك علي وتسلطك بلسانك فيما جاوزت فيه حدك، وما أجد شيئًا في تأديب غيرك أبلغ من التنكيل بك[52].
ولكن خطاب دبشليم المنجز على سوية "رد الفعل" لا ينبتُّ بشكل مطلق عن خطاب بيدبا الحكيم؛ فالتحول المنجز على مستوى الوحدات الوظيفية في السرد ينعكس في أسلوب خطاب دبشليم على مستوى البناء. فالتفكير، علامةً دلالية في الصورة الشمولية لدبشليم، يدفع الملك إلى خطاب الحكماء؛ أي إلى خطاب بيدبا. وهو تواز في الوظيفة والبناء، واتساق مع التحول الذي حصل في ثنائية التقابل (الفوق-التحت).
يقول دبشليم، مفكرًا في سكوت بيدبا بعد أن أنهى خطابه الإنشائي:
إن كان للملوك فضل في مملكتها فإن للحكماء فضلاً في حكمتها أعظم[53].
وفي لحظة التفكير الثانية يقول:
لقد أسأت فيما صنعت... وقد قالت العلماء: أربعة لا ينبغي أن تكون في الملوك: الغضب فإنه...[54]
إن ذلك التداخل، في خطاب دبشليم، بين الإنشائية والتقريرية الموجزة والمكثفة، هو شكل من التماهي، ينجز، أسلوبيًا على لسان دبشليم، توازيًا مع التماهي الذي وقع على مستوى التقابل بين (الفوق) و(التحت). فعودة دبشليم من الخطاب الانفعالي ورد الفعل إلى الخطاب الحكمي، على مستوى الأسلوب، هو تجل وتجسيد لعودة دبشليم إلى صوت العقل والحوار والتماثل مع بيدبا الحكيم لتوازي القوى بين (الفوق) و(التحت) حيث تسود سلطة واحدة هي خطاب بيدبا الفيلسوف.

3. الخطاب الحجاجي: يتميز خطاب بيدبا بالوضوح والبيان، وبالتفصيل والشرح. تتداخل فيه الحكايات والأمثال والأقوال والعبر بغاية حجاجية تهدف الى الإقناع وسيلةً لإنجاز التماثل بين (الفوق) و(التحت)، إذ لا بدَّ من إغلاق دائرة الإقناع على (الفوق) لكي يسقط سلاحه السلطوي ويتبنى سلاح (التحت) كي يحصل التوازي فالتماثل.
من هذا المنطلق تتناسل الأقوال المأثورة في خطاب بيدبا، كما تتناسل الحكايات المضمَّنة، وتنجَز الحكمة، مكثفة ومفصلة أحيانًا، بلغة إخبارية مرة وبلغة إنشائية مموسقة مرة ثانية، لما لتلك الإيقاعات من وقعٍ على المستمع وقوة تأثير فيه.
ومن السؤال والجواب ينشأ جدل حجاجي لا يترك للمتلقي دبشليم سلطة غير السلطة المنجزة في الخطاب الحجاجي. ولذلك نلاحظ أن خطاب بيدبا وحده هو الذي يعاد استرجاعه بتفصيل وتأمل مرتين: الأولى في الحكاية الإطار، من خلال طلب دبشليم
يا بيدبا أعد علي كلامك كله ولا تدع منه حرفًا واحدًا. فجعل بيدبا ينثر كلامه والملك مصغ إليه[55].
والثانية من خلال الحكايات المضمنة التي سيحكيها بيدبا في كتابه فيما بعد على صورة الجدل الحجاجي؛ السؤال من قبل دبشليم والجواب من قبل بيدبا؛ أي عبر المعادلة ذاتها؛ بيدبا ينثر الكلام ودبشليم يصغي إليه.

الحكاية المضمَّنة في كليلة ودمنة

ذكرنا، سابقًا، أن القصة المضمنة هي تنويع وإبدال للقصة الإطار، تتناسل من رحمها لتكمل بناء الصورة الكلية عبر إعادة إنتاج مكوناتها السردية ومضمونها الدلالي، من دون أن تفقد خصوصيتها السردية المتموضعة في النمط والموضوع. يقول تودوروف:
إن القصة المتضمَّنة إنما هي قصة لقصة؛ فحين تحكي قصة قصة أخرى فإن الأولى تبلغ مضمونها الخفي، وتفكر في الوقت ذاته بنفسها في هذه الصورة[56].
ومن صفتي الإبدال والخصوصية تتشكل علاقة الحكاية المضمنة بالحكاية الإطار. فهي ليست نسحة أخرى منها، وإنما تتجاذب معها الأهمية بحيث لا تستطيع الحكاية المضمنة أن تلغي الحكاية الإطار والعكس صحيح. وأهمية كل منهما تنبع من رفدها الأخرى بمقومات الاكتمال؛ فالحكاية الإطار تشكل المحيط السردي الذي تنتمي إليه الحكاية المضمنة، والأخيرة تملأ الفراغ الجزئي المشكِّل، بإبدالاته، الصورة الكلية. ولكننا نبقى مع ذلك:
خارج الأصل ولا نقدر أن نفكر فيه. فالقصة المتمَّمة ليست أكثر أصالة من القصة المتمِّمة، ولا العكس. إذ كل واحدة تحيل على الأخرى وذلك في سلسلة من الانعكاسات التي لا تستطيع أن تأخذ نهاية إلا إذا أصبحت أبدية[57].

تبدأ الحكاية المضمنة في كليلة ودمنة من الصفحة الأولى بعد حصول التماثل المتكافئ بين دبشليم الملك وبيدبا الفيلسوف، حيث يضع بيدبا كتابه بناء على طلب الأول، ويقسمه إلى أبواب نوجزها بعد دمجها في حدود الحكاية المضمنة بـ14 حكاية كبرى، تتفرع منها 38 حكاية صغرى وجزئية وفرعية. فيكون مجموع الحكايات المضمنة في كليلة ودمنة 53 حكاية. نستثني من ذلك حكاية القبرة والفيل المضمَّنة داخل الحكاية الإطار؛ لأنها خارج الحكي الذي أنجزه بيدبا بعد طلب دبشليم، بالإضافة إلى أنها تشكل جزءًا من مكونات البناء السردي للحكاية الإطار. وعليه فإن الحكاية المضمنة تنجز على مستويات من التصنيف، هي:

1 - الحكاية المضمَّنة الكبرى، وعددها 14 حكاية.
الحكاية المضمنة الصغرى المتناسلة من الحكاية الكبرى، وعددها 32 حكاية.
2 - الحكاية المضمنة الجزئية المتفرعة من الصغرى، وعددها 6 حكايات.
3 - الحكاية المضمنة الفرعية المتناسلة من الحكاية الجزئية الصغرى، وهي حكاية واحدة. وفق ذلك فإن الصورة الكلية تتشكل من خمس مستويات سردية.






    رد مع اقتباس