عرض مشاركة واحدة
قديم 2020-05-02, 20:04 رقم المشاركة : 3
خادم المنتدى
مدير التواصــل
 
الصورة الرمزية خادم المنتدى

 

إحصائية العضو








خادم المنتدى غير متواجد حالياً


وسام المشاركة السيرة 1438ه

وسام المشاركة في مسابقة السيرة النبوية العطرة

العضو المميز لشهر فبراير

افتراضي رد: 2- سلسلة حكايات كليلة ودمنة .. التفريغ الحكائي وأنماط التخييل ..


3. التماثل المتكافئ "تحول الصراع":
يشكِّل "التماثل المتكافئ" حكمة بيدبا في بيانه الكلي[41]. فإيمانه بدور العقل والحوار يحيل الصراع بين طرفين، مهما كانا متناقضين، إلى التصالح والتماثل. ولكن الوصول إلى تلك النتيجة يحتاج من (التحت) إلى الحكمة والتضحية والخبرة، بالإضافة إلى كل ما لاحظناه من سمات في بيان بيدبا الشمولي.
وعلى الرغم من ذلك يبقى التماثل مشروطًا بالصورة الشمولية أيضًا للطرف النقيض (الفوق) وقبوله بمنطق (التحت). ولم يغب ذلك عن بيدبا الفيلسوف، أو بالأحرى عن ابن المقفع، ولذلك تظهر المتواليات الوظيفية الموحية بإمكانية التحول إلى التماثل المتكافئ مبكرة في الحكاية الإطار، من خلال الصورة الشمولية لدبشليم الملك. وسوف نمثل لذلك بمتواليتين: التفكير "التأمل" والفعل "الإنجاز".
أ‌. التفكير "التأمل": حين دخل بيدبا على الملك وسجد له واستوى قائمًا وسكت، فكر دبشليم الملك في سكوته. والتفكير علامة الحكماء. وبيدبا يدفع الملك إلى التفكير، أي إلى الأخذ بسلاح بيدبا في الصراع، وبالتالي يجرده من سطوة (الفوق) المتمثلة بقوة السلطة؛ فيتساوى طرفا المعادلة من حيث السطوة، ويصبح الحوار مهيمنًا على العلاقة، وبذلك تكون الغلبة للعقل والجدل، أي لبيدبا الفيلسوف.
يقول دبشليم الملك مفكرًا:
إن الحكماء أغنياء عن الملوك بالعلم، وليس الملوك بأغنياء عن الحكماء بالمال. وقد وجدت العلم والحياء إلفين لا يفترقان... ومن لم يستح من الحكماء ويكرمهم ويعرف فضلهم على غيرهم ويصنهم عن المواقف الواهنة وينزههم عن المواطن كان ممن حرم عقله وخسر دنياه وظلم الحكماء حقوقهم وعدَّ من الجهال[42].
التفكير المبكر من قبل دبشليم علامة موطئة لإمكانية حدوث التماثل بين الطرفين، خاصة أن دبشليم الملك ربط بين ظلم الحكماء والجهال، وهو الذي اشترط فيما بعد على بيدبا أن يتكلم بكلام الحكماء وليس الجهال.
ولا ينتفي التفكير، مع تقدم السرد، عن دبشليم الملك؛ فبعد أن يأمر بقتل بيدبا وصلبه، يميل إلى تخفيف الحكم إلى السجن، ثم يصاب بالأرق، ويعيد التفكير في كلام بيدبا الفيلسوف، ويسترجع أقوال العلماء:
أربعة لا يجب أن تكون في الملوك: الغضب فإنه أجدر الأشياء مقتًا، والبخل... والكذب... والعنف في المحاورة[43].
تبدأ السمات الأربع في قول العلماء بـ"الغضب" وتنتهي بـ"العنف في المحاورة"، وفي ذلك تركيز على ما بدر من الملك دبشليم تجاه بيدبا الفيلسوف، وعودة غير مصرح بها عن حكم القتل والصلب والسجن. فالغضب ممقوت، وهذا ما صدر منه. والعنف في المحاورة ليس من صفات الملوك، ودبشليم الملك لم يتقبل المحاورة وعاقب بيدبا؛ والمنطق الجدلي في ذلك يقضي بإنجاز العدل، والعدل هو مطلب بيدبا في بيانه الشمولي.
ب‌. الفعل "الإنجاز": أنجز بيدبا مهمته في الإقناع وأعاد دبشليم الملك إلى سماع صوت العقل والحكمة والعدل. وخرج بيدبا الفيلسوف من السجن منتصرًا بأمر الملك:
يا بيدبا إني قد استعذبت كلامك وحسُن موقعه في قلبي، وأنا ناظر في الذي أشرت به وعامل بما أمرت. ثم أمر بقيوده فحلَّت، وألقى عليه من لباس الملوك، وتلقاه بالقبول [وقال]: لقد وليتك في مجلسي هذا جميع أقاصي مملكتي، وأحببت أن تضع لي كتابًا بليغًا تستفرغ فيه عقلك، يكون ظاهره سياسة العامة وتأديبها على طاعة الملك، وباطنه أخلاق الملوك وسياستها للرعية[44].
تحول دبشليم الملك بذلك الفعل من ملك طاغية إلى ملك عادل، وتحقق حلم بيدبا في التماثل المتكافئ بين الحاكم والمحكوم، من خلال العلاقة التي أنشأها القول الحكيم بينهما بفعل العقل والحوار والإقناع والكلمة الفاعلة.

الوحدات البنائية في النص

أ‌. الوحدات الإسنادية:
تبدأ الحكاية الإطار بجملة استهلالية تحدد الراوي والفضاء والمسترجع زمنيًا: "قال علي بن الشاه الفارسي بن سجوان:... كان... أن الإسكندر ذا القرنين". الراوي محدد بثلاث سمات: الاسم: علي بن الشاه الفارسي، والجنسية: الفارسي، والزمن: ما بعد سنة 579 م لأن ملك الفرس كسرى أنوشروان، الذي أمر بنقل الكتاب من خزائن الهند، عاش ما بين عامي 531 – 579 م، ومن البدهي أن الراوي الذي يسترجع أحداث الماضي عاش بعد ذلك التاريخ، من دون تحديد دقيق، لأنه شخصية إسنادية إخبارية متخيلة، لا أثر على وجودها موضوعيًا، وحضورها ذو وظيفة تأطيرية استهلالية في البنية السردية لكي تدخل من خلاله الحكايةُ الإطار بوابة المتلقي ضمن إطار تقاليد الإسناد في فن الخبر، ليس في الثقافة العربية فحسب، بل عند جميع الشعوب التي أنتجت السرود الحكائية.
إن الجوهر المبدئي للسرد الذي يريد أن ينجزه ابن المقفع في كتابه كليلة ودمنة يكمن في الحكاية الإطار. أما الحكايات المضمَّنة أو المتفرعة منها ما هي إلا تنويعات و إبدالات لذلك المبدأ الجوهري في السرد. وبالتالي يكون لدينا حكاية كبرى عنوانها بيان بيدبا أو حكاية بيدبا والملك دبشليم، وحكايات متفرعة هي جزء تنويعي على مستوى الوظيفة والبناء والنمط، مهمتها استكمال الحكاية الإطار وإغناؤها.
"الحكاية الأم"، إذًا، هي المخولة بحمل جملة الاستهلال السردي ومبدأ الإسناد الخبري، فبها يبدأ السرد. ولا سرد من دون إسناد في ثقافة التخييل، لأنه حامل المشروعية السردية ورسالة التخييل؛ ما لا حقيقة له "قصة دبشليم وبيدبا" وما لا وجود له "الراوي علي بن الشاه الفارسي"[45].
ولكن أهمية وجود مبدأ الإسناد تتجاوز ذلك التوصيف الباحث عن الوقائع الموضوعية إلى توصيف المنجز نصيًا بغاية تصديقه إخبارًا قابلاً للحياة والتلقي والتأويل.
من هذا المنطلق، في الجوهر المبدئي للسرد في الحكاية الإطار ومن وظيفة التنويع والإبدال للحكايات المضمَّنة، يغدو منطقيًا أن تكتسب الحكايات المتفرعة مشروعيتها الإسنادية من خلال انتمائها التنويعي والإبدالي للحكاية الإطار، التي تقوم بدورها في تأطير المتفرعات وإكسابها الإسناد الخبري ومشروعيته، من خلال إسنادها إلى راوٍ وفضاء محددين. ولإنجاز تلك المشروعية بُدء بـ "قال علي بن الشاه" الذي أخبر بصيغة الماضي "كان" عما وقع في زمن الإسكندر من غزو لبلاد الهند، أتبعه ظهور الملك الطاغية دبشليم، حيث يبدأ تشكل خطابه في الوحدة الثانية من النص.

ب‌. التناسل:
بدأ التناسل، تفريعًا حكائيًا، بشكل مبكر داخل الحكاية الإطار، حين اجتمع بيدبا بتلامذته لاستشارتهم في أمر دبشليم الملك فطرح عليهم الحكمة الآتية:
المتفرد برأيه حيث كان، فهو ضائع، ولا ناصر له. على أن العاقل قد يبلغ بحيلته ما لا يبلغ بالخيل والجنود.
ومثل بيدبا لذلك بحكاية القبرة والفيل[46]. وهي حكاية تأخذ مشروعيتها الإسنادية من وظيفتها التفسيرية للمنجز اللفظي المجرد "الحكمة" الذي أطلقه بيدبا أمام تلامذته، وليس من صيغة الإسناد الخبري كما في الحكاية الإطار.

جـ. ثنائية التقابل:
تقضي ثنائية التقابل، كما لاحظنا في الوحدات الوظيفية، إلى انتصار العقل في الصورة الكلية، ممثلاً ببيدبا الفيلسوف (التحت). ويوازيه الإنجاز السردي على مستوى المساحة السردية المنجزة لفظيًا. فالمساحة التي يسودها الحديث عن دبشليم محدودة الأسطر بالقياس إلى المساحة التي سيملؤها فعل بيدبا الفيلسوف. وهي موازاة غير متكافئة من حيث الرتبة في الصورة البيانية للثنائية التقابلية، لأن موازاة المساحة بالرتبة تقتضي أن يحتل دبشليم الملك (الفوق) المساحة الأكبر في السرد. وهذا غير متناقض وإن بدا متناقضًا ظاهريًا، لأن المعادلة الثنائية قد انقلبت في تحول الصراع، وجُرِّد (الفوق) من سلطته القامعة، وأُفسِح المجال للحوار سلطةً فعَالة؛ ولأن العقل سلاح الحكيم (التحت) أصبح هو من يمتلك الفعل والمبادرة.
إن قلب الرتبة يمثل انتصارًا وظيفيًا وبنائيًا على مستوى السرد لبيدبا. وهذا يستوجب امتلاء السرد، إنجازًا لفظيًا، بخواصه وإمكاناته، من خلال ثنائية تقابلية موازية، يمثل قطبيها الفعل (الفوق) ورد الفعل (التحت). الفعل من إنجاز بيدبا، ورد الفعل من قبل دبشليم الملك. الفعل، ممثلاً ببيدبا، منفتح على الآخر، يشاور ويحاور ويسترجع المخزون الثقافي والتجربة السابقة للفلاسفة والملوك، ويبادر بالدخول على الملك، فعلاً إجرائيًا لكسر طوق الظلم. بينما نلاحظ أن رد الفعل، ممثلاً بدبشليم الملك، محاصر بنظامه وسلطته، منغلق على الآخر، لا يحاور، منقطع عن الماضي والتجارب السابقة، ولا يرتبط بعلاقة ما إلا من خلال سلطته، أي دائرته المغلقة، مما يخلق منه حالة ضعيفة، قابلة للاختراق، لايقوى إلا على رد الفعل؛ ولذلك لا مساحة له في السرد إلا في صورتين: التفكير الداخلي والإصغاء. والفعلان هما رد فعل على الفعل (الفوق) الذي سينجز الحكي بوصفه فعلاً خلاقًا، من خلال الإقناع، عبر الأمثلة والحكايات والخبرة الواسعة في شؤون السياسة.

د. الصورة البلاغية:
ثلاث صور بلاغية تشكل طبيعة السرد في الحكاية الإطار، هي:
1. السرد الإخباري: ينجزه علي بن الشاه الفارسي. ويتمثل بالوحدة الإسنادية، وفي مواقع التمفصل الحكائي بين الوحدات الوظيفية.
في الوحدة الإسنادية يهيمن الفعل الماضي على الخبر لوظيفته الترجيعية "كان... أن الإسكندر" و"كان على الهند" و"كان ذو القرنين". وبين مواقع الفعل "كان" تدخل مجموعة من الأفعال الماضية لتفصيل وقائع "كان" وملء الفراغ القصصي في السرد الإخباري: "وضع. فرغ. كانوا. سار. فلم يزل. ظهر. قهر. تغلب. عاداه. تفرقوا. تمزقوا. توجه... إلخ".
ولأن الراوي يروي سيرة فرد ملحمي بطولي أسطوري، فإنه يأخذ ببلاغة السرد الملحمي في الملاحم العربية، القائمة على محسنات المشابهة والمجاورة. ومن تلك الصور الوظيفية تصوير القادة العسكريين وإعداد العدة للحرب، وتصوير المعارك بما يدعم التخييل البطولي. يقول الراوي في وصف أفعال الإسكندر وتعاقبها وانتصاراتها الكبيرة: "فلم يزل يحارب من نازعه ويواقع من واقعه ويسالم من وادعه"[47] إنه يكثف الفعل الانتصاري من خلال التركيز على البنية الإيقاعية للجمل. ويقول في وصف ملك الهند المقابل للإسكندر في حربه:
كان على الهند في ذلك الزمان ملك ذو سطوة وبأس ومنعة ومراس... فلما أقبل [ذو القرنين] نحوه تأهب لمحاربته واستعد لمجاذبته... وجمع له العدة في أسرع مدة من... السيوف القواطع[48].
وكما في الملاحم الشعبية يلجأ الراوي إلى علامات ملحمية في فتح الحصون المنيعة على السيف ممثلة بالحيلة، وهذا ما يقوم به الإسكندر حين يعجز عن فتح حصون الهند. وكذلك المبارزة الفردية بين قادة الجيوش. فهنا تبرز الصورة البلاغية المثيرة لمتعة التلقي:
فبرز إليه الإسكندر، فتجاولا على ظهري فرسيهما ساعة من النهار ليس يلقى أحدهما من صاحبه فرصة ولم يزالا يتعاركان. فلما أعيا الإسكندرَ أمْرُه... أوقع ذو القرنين في عسكره صيحة ارتجت لها الأرض والعساكر، فالتفت "فَوْر" عندما سمع الزعقة وظنها مكيدة في عسكره فعاجله ذو القرنين بضربة أمالته عن سرجه، وأتبعها بأخرى فوقع إلى الأرض[49].
أما تدخُّل الراوي الإخباري في الربط بين الوحدات الوظيفية فهو بغاية تنسيق السرد وتنظيمه بحيث يؤدي إلى نموه واطراده وتنظيم الحوار. ويتدخل كذلك لوصف ما يجول في خاطر الملك من أفكار. وكذا في بداية اللقاء، بين بيدبا الفيلسوف ودبشليم الملك، وبعده.

يتبع





    رد مع اقتباس