عرض مشاركة واحدة
قديم 2020-05-02, 20:02 رقم المشاركة : 2
خادم المنتدى
مدير التواصــل
 
الصورة الرمزية خادم المنتدى

 

إحصائية العضو








خادم المنتدى غير متواجد حالياً


وسام المشاركة السيرة 1438ه

وسام المشاركة في مسابقة السيرة النبوية العطرة

العضو المميز لشهر فبراير

افتراضي رد: 2- سلسلة حكايات كليلة ودمنة .. التفريغ الحكائي وأنماط التخييل ..


أ. الإدراك والملاحظة: يقول الراوي:
كان في زمانه [أي زمان الملك دبشليم] رجل فيلسوف من البراهمة[15]، يُعرف بفضله ويُرجَع في الأمور إلى قوله، يقال له بيدبا. فلما رأى الملك وما هو عليه من الظلم للرعية فكر في وجه الحيلة في صرفه عما هو عليه وردِّه إلى العدل والإنصاف[16].
علامات بيدبا، كما هو ملاحظ في النص، التواجد الموضوعي والزمني المعاصر لدبشليم، فعلاً سرديًا إسناديًا بصيغة الماضي "كان" كما هو الشأن في الإسناد الخبري في بداية السرد، وهي ضرورة تخييلية؛ لأننا ما زلنا في إطار تشكيل الحكاية الأم، ومن ثم الصفات التي بوأته – أي بيدبا – موقع البيان القادم في خطابه كالفلسفة والفضل والمرجعية المعرفية الواسعة التي أهدته إلى الملاحظة وإدراك معاناة شعبه من الظلم والتفكير في إزالته.

ب. المشورة: جمع بيدبا تلامذته وقال لهم – سنعود إلى قوله كلما دعت مقتضيات البحث لأهميته في الكشف عن بيان خطابه :
- أتعلمون ما أريد أن أشاوركم فيه؟ قالوا: لا. قال: اعلموا أني أطلت الفكر في دبشليم وما هو عليه من الخروج عن العدل ولزوم الشر ورداءة السيرة وسوء العشرة مع الرعية، ونحن ما نروِّض أنفسنا لمثل هذه الأمور إذا ظهرت من الملوك إلا لنردهم إلى فعل الخير ولزوم العدل... وقد جمعتكم لهذا الأمر؛ لأنكم أسرتي ومكان سري وموضع معرفتي، وبكم أعتضد وعليكم أعتمد؛ فإن الوحيد في نفسه والمنفرد برأيه، حيث كان، فهو ضائع ولا ناصر له... فليشر كل واحد منكم بما يسنح له من رأي[17].
يعرض بيدبا في مقصورته على تلامذته هواجسه وأفكاره والإمكانات المتاحة له ضمن خصوصيته بوصفه فيلسوفًا وحكيمًا. ومن الحكمة الاعتقاد بأن المنفرد برأيه ضائع. وهي حكمة موجهة في خطاب بيدبا باتجاهين: الأول، إلى الملك دبشليم الذي يرفض اتِّباع سيرة أجداده ويبطش بمن نصبوه ملكًا؛ فهو ضائع في سياسته التي لا تجلب له غير الفساد داخل حاشيته وكره الرعية والملوك الذين غزا بلادهم. والثاني موجه إلى المتلقي النصي الممثل بتلامذته، وإلى المتلقي خارج النصي المقصود بالخطاب بصورته الكلية.
ولذلك فإن بيدبا يكرر استشارة تلامذته في موقع آخر، وذلك حين طلب منه الملك دبشليم تأليف كتاب كليلة ودمنة[18] وما ذلك إلا للتأكيد على إنكار الاستبداد في الرأي. يقول بيدبا:
أرى السفينة لا تجري في البحر إلا بالملاحين لأنهم يعدلونها[19].
إن المشورة في خطاب بيدبا قانون الحاكم السديد الذي يقود السفينة إلى اللجة، وبدونها ستغرق السفينة؛ لأنها تقع تحت سطوة التفرد والإنكار والاستصغار للملاحين الآخرين. وهذا ما فعله دبشليم الملك حين تفرد بالحكم، فطغى وتكبر واستصغر، فأصبح مكروهًا.

ج. المبادرة: كان بإمكان بيدبا، بوصفه واحدًا من الرعية، السكوت على ظلم دبشليم، ولكنه ليس فردًا عاديًا في الرعية، فهو ينتمي إلى الفئة المثقفة، وهو الحكيم والفيلسوف. تلك صفات تموضعه في موقع المسؤولية. وهنا يتوجه بخطابه إلى المتلقي النصي وخارج النصي مرة أخرى، كما فعل بموضوعة المشورة، ويعلل مبادرته بمجموعة من الاحتمالات. يقول:
ومتى أغفلنا ذلك وأهملناه [يقصد السكوت على ظلم دبشليم] لزِمَنا من وقوع المكروه منا وبلوغ المحظورات إلينا ألم الجهال. وبلغ إليهم أن كنا في أنفسهم أجهل منهم وفي عيونهم أقل منهم. وليس عندي الجلاء عن الوطن، ولا يسعنا في حكمتنا إبقاء الملك على ما هو عليه من سوء السيرة وقبح الطريقة، ولا يمكننا مجاهدته بغير ألسنتنا، ولو ذهبنا إلى أن نستعين بغيرنا لم تتهيأ لنا معاودته. وإن أحسَّ منا بمخالفته وإنكارنا سوء سيرته كان في ذلك بوارنا، وقد تعلمون أن مجاورة السبع والكلب والحية والثور على طيب الوطن ونضارة العيش غدر بالنفس[20].
إحساس بيدبا بالمسؤلية نابع من حكمته وثقافته وإدراكه، بوصفه نقيضًا للجاهل، حيث ثنائية التقابل بين العارف وغير العارف، ودوره في ذلك التقابل هو رفض التماثل مع نقيضه الجاهل لإصلاح الفساد وليس التناقض لتعميق الصراع والهوة بين الحاكم والمحكوم. ولذلك فهو لا يستطيع السكوت، فالصمت على الظلم جهل. والمثقف الساكت هنا يضع نفسه موضع الجاهل، لا هو انتفع بعلمه ولا نفع غيره ممن لا يعلمون. وعليه فإن السكوت على الظلم في خطاب بيدبا مستبعد لأنه يحطُّ من قدر العالم الساكت.
الحل الثاني الجلاء عن الوطن، وهو حلٌّ غير وارد في جهاز بيدبا النظري، ولذلك لا يناقشه لبدهية سلبيته. الحل الثالث، الاستعانة بالغير؛ ذلك يعني ضياع الوطن، فمن يأتي بالمحتل لايستطيع إخراجه، ولأن استعمال العنف ومجاهدة الملك به ليس من دأب العلماء. تبقى الكلمة هي السلاح الأمضى في بيان بيدبا، وعليها يراهن تلامذته ومتلقي الصورة الكلية للبيان. يقول له تلامذته:
إن السباحة في الماء مع التمساح تغرير، والذنب فيه لمن دخل عليه في موضعه. والذي يستخرج السم من ناب الحية فيبتلعه ليخبر به على نفسه فليس الذنب للحية. ومن دخل على الأسد في غابته لم يأمن وثبته[21].
وعلى الرغم من تلك المخاطر يبادر بيدبا لتحمل المسؤلية، ويقرر مقابلة دبشليم الملك لحواره ونصحه.
في ذلك الموقف موضوعة هامة يقرها بيدبا في خطابه، وهي أن مسؤولية المثقف في مجتمعه لا تقتصر على الإدراك والملاحظة والمعرفة، بل لا بدَّ من الإقدام والتضحية لكي يحظى بتقدير العامة والخاصة بوصفه مثقفًا وفيلسوفًا وحكيمًا. يقول:
رأيت أن أجود بحياتي فأكون قد أتيت فيما بيني وبين الحكماء بعدي عذرًا. فحملت نفسي على التغرير أو الظفر بما أريده... فإنه قيل في بعض الأمثال: إنه لم يبلغ أحد مرتبة إلا بإحدى ثلاث: إما بمشقة تناله في نفسه، وإما بوضيعة[22] في ماله أو بوكس[23] في دينه، ومن لم يركب الأهوال لم ينل الرغائب[24].

د. الجدل: الجدل هو الركيزة الأساس في خطاب بيدبا، به يشكل السلاح الأمضى، ومن خلاله يفنِّد المواقف والآراء ليصل إلى الإقناع ثم التماثل المتكافئ بين المتصارعين. ولذلك نلاحظ ملامح تلك الموضوعة في كل المكونات الوظيفية في خطاب بيدبا. يبدأ بيان بيدبا بطلب بيدبا النصيحة لنفسه من تلامذته. وهي موضوعة هامة في الصورة الكلية. فهو العالم والفيلسوف والحكيم. ولكنه يدرك أن في الانفراد في الرأي نقص وضياع مهما كانت منزلة المتفرد في الرأي. وهي لا تأتي في بداية الخطاب ارتجالاً، بخاصة إذا علمنا أنها الموضوعة الصغرى التي ينتهي بها أيضًا خطابه مع الملك دبشليم حين يقابله:
الأمر الذي دعاني إلى الدخول على الملك وحملني على المخاطرة في كلامه والإقدام عليه نصيحة اختصصته بها من دون غيره[25].
وهي الموضوعة الكبرى في الصورة الكلية لكتاب كليلة ودمنة أو بيان بيدبا الكلي للمتلقي خارج النصي. وبذلك تمثل الإطار المعادل على مستوى الدلالة للحكاية الإطار، على مستوى البناء، وإليها تنتمي الوحدات الدلالية الجزئية إرجاعيًا، بوصفها مبدءًا قارًا. ولأن النصيحة إنجاز لفظي جاهز على مستوى المتن داخل النصوص الصغرى والحكاية الأم، فهي بحاجة إلى ممهدات متعددة الأنماط لإثبات صحة المنجز اللفظي دلاليًا، وذلك عبر سطوة العقل وهيمنته على الخطاب الدلالي. ومن ذلك تنبع أهمية تفنيد الأقوال والمواقف في خطاب بيدبا أمام تلامذته بوصفهم المتلقي الأول، وأمام الملك متلقيًا ثانيًا، وأمام المتلقي خارج النصي باعتباره البعد الثالث في بيان الصورة الكلية. تبرز أولى صور التفنيد في خطاب بيدبا من خلال لقائه مع تلامذته. ففي الاجتماع الأول يبين الآراء المتوقعة في آلية مواجهة ظلم الملك دبشليم، ثم يبين بطلانها ومواطن الخلل فيها ليصل إلى فسادها عبر سرد المتطلبات المتوجبة من الحكيم أمام الرعية ونتائج التخلي عن تلك الواجبات. وبالتالي، ما الذي يمكن عمله لظهور صورة الفيلسوف بأبهى أوجهها الأخلاقية والاجتماعية والتاريخية؟ ولا يتوانى بيدبا لإثبات ذلك عن الاستعانة بأقوال الفلاسفة السابقين. يقول:
إن الفيلسوف لحقيق أن تكون همته مصروفة إلى ما يحصن به نفسه من نوازل المكروه ولواحق المحذور. ويدفع المخُوف لاستجلاب المحبوب. ولقد كنت أسمع أن فيلسوفًا كتب إلى تلاميذه يقول: إن مجاورة رجال السوء والمصاحبة لهم كراكب البحر، إن هو سلم من الغرق لم يسلم من المخاوف. فإذا هو أورد نفسه موارد الهلكات ومصادر المخوفات عدَّ من الحمير التي لا نفس لها؛ لأن الحيوانات البهيمة قد خصت في طبائعها بمعرفة ما تكتسب به النفع وما تتوقى المكروه، وذلك أننا لم نرها تورد أنفسها موردًا فيه هلكتها وأنها متى أشرفت على مورد مهلك لها مالت بطباعها التي ركِّبت فيها شُّحًا بأنفسها وصيانة لها إلى النفور والتباعد عنه[26].
وحين ينجز بيدبا – لفظيًا – حكمة مجردة يسارع إلى توضيحها بحكاية، ومن ذلك قوله في خطابه لتلامذته:
على أن العقل قد يبلغ بحيلته ما لا يبلغ بالخيل والجنود[27]
فيوضح هذا القول بحكاية القبرة والفيل[28].
أما الصورة التفنيدية الثانية فقد جاءت أمام الملك دبشليم، مع الملاحظة في اختلاف منزلة المتخاطبين في الصورتين، مما يخلق تغيرًا في رتبة الحكيم بيدبا؛ ففي الصورة الأولى يتم التقابل بين (فوق/تحت) ويكون بيدبا في المعادلة في موقع "الفوق" الأقوى والأعلم، ولذلك يقول له تلامذته حين يسألهم: "أتعلمون ما أريد أن أشاوركم فيه؟ قالوا: لا "[29] وبعد أن طرح عليهم فكرته "قالوا أجمعهم:... أنت المقدم فينا... وما عسى أن يكون مبلغ رأينا عند رأيك وفهمنا عند فهمك"[30]، فبيدبا هنا يسأل ليختبر ويفند الآراء ثم يقرر.
ولكن بيدبا، في الصورة التفنيدية الثانية، في معادلة التقابل بين (الفوق = الملك/التحت = بيدبا والرعية) هو في موقع التابع وليس المتبوع، كما تنجزه الصورة البيانية وهذا يستدعي خطابًا، من بيدبا مع الملك لإنجاز القول، مختلفًا على مستوى الأسلوب والوحدات الجزئية، فرضه المقام (فوق/تحت) الجديد. فالمهمة أصعب من الأولى، لأن بيدبا يفتقر في هذه الصورة إلى سلطة (الفوق) التي يملكها دبشليم.
يدخل بيدبا على الملك دبشليم وعليه لباس البراهمة، وهي علامة تعويضية لتقوية المقام (تحت) لبيدبا، لأن البراهمة هم حكماء الهند تاريخيًا؛ وهي إشارة إلى تسلح بيدبا بالحكمة والفلسفة والعلم، وهو ما سيفرض على (الفوق = دبشليم) التفكير في طلب (التحت) وما عساه أن يكون، كما سنلاحظ. ويقدم بيدبا الفيلسوف لدبشليم الملك ما يفرضه تناقض الموقعين المتقابلين من واجب التبعية، وهو اعتراف صريح من بيدبا بوجوب طاعة الرعية للحاكم واحترامه، فـ "سجد له واستوى قائمًا، وسكت"[31].
لعلامة السكوت أكثر من وظيفة سينجز بعضها السرد على لسان بيدبا، وسينجز بعضها الآخر الراوي المتماهي بمرويه (علي بن الشاه الفارسي ودبشليم). الوظيفة الأولى أن السكوت جزء من صيغة احترام المقام الملكي وهيبته. يقول بيدبا: "إن ذلك لم يكن مني إلا لهيبته [أي الملك] والإجلال له"[32]. والوظيفة الثانية تقع في بنية السرد فعلاً تحفيزيًا لنموه من جهة، وعلامة دلالية من جهة أخرى. فهي فعل تحفيزي للسرد ينتقل من خلالها مستوى السرد من (التحت) إلى (الفوق) لرصد العالم الداخلي تجاه (التحت الحكيم) وما يمثله رصيده المعرفي والتاريخي، وهي علامة دلالية لرصد الصورة الشمولية لشخصية دبشليم. فبعد سكوت بيدبا الفيلسوف مباشرة يفكر دبشلييم الملك، أي إن الفعل ينتقل إلى (الفوق) بفعل التفكير، وهي سمة إيجابية في الصورة الشمولية لدبشليم الملك. يقول الراوي:
وفكر دبشليم في سكوته، وقال: إن هذا لم يقصدنا إلا لأمرين: إما أنه يلتمس منا شيئًا يصلح به حاله، أو لأمر لحقه فلم يكن له به طاقة. ثم قال: إن كان للملوك فضل في مملكتها فإن للحكماء فضلاً في حكمتها[33].
الحوار الداخلي لدبشليم يبين أن لباس البراهمة قام بوظيفته في تعديل المقام، أو على الأقل كان حافزًا للتفكير في أمر بيدبا الفيلسوف بأقل قدر ممكن من الاستصغار. ويتضح ذلك بشكل جلي حين يعلن الملك دبشليم جهرًا ما جاء في دخيلة نفسه. يقول لبيدبا:
إن الحكماء لا يشيرون إلا بالخير والجهال يشيرون بضده، وأنا قد فسحت لك في الكلام[34].
لا شك أن تعديل المقام والتخفيف من وطأة (التحت) كانا مشروطين من قبل دبشليم الملك بالقول الحكيم، المناقض لقول الجاهل؛ ولكنه فسح المجال أيضًا، أي إنه فتح الباب للحوار والإصغاء. وبيدبا لا يريد أن ينطق بقول الجاهل، ولا يريد أن يقول بغير الخير. وذلك أول بوادر التماثل الذي يحصل بين طرفي الصراع (الفوق/التحت).
الوظيفة الثالثة للسكوت ينجزها بيدبا الفيلسوف مقدمةً للإقناع. وهي المهمة الأصعب في الإنجاز اللفظي. ولذلك سيستجمع لها بيدبا الفيلسوف جلَّ ثقافته وحكمته، فيبدأ بتأكيد شرط دبشليم؛ إن الحكماء لا يشيرون إلا بالخير؛ الخير في الكلام إن كان لا بد منه وإلا فالسكوت فضيلة، كما يقول الحكماء والملوك في إشارة بيدبا الآتية:
قالت العلماء: الزم السكوت فإن فيه السلامة، وتجنب الكلام الفارغ فإن عاقبته الندامة. وحكي أن أربعة من العلماء ضمهم مجلس ملك، فقال لهم: ليتكلم كل منكم بكلام يكون أصلاً للأدب.
فقال أحدهم: أفضل خلة العلماء السكوت.
وقال الثاني: إن مِنْ أنفع الأشياء للإنسان أن يعرف قدر منزلته من عقله.
وقال الثالث: أنفع الأشياء ألا يتكلم بما لا يعنيه.
وقال الرابع: أروح الأمور للإنسان التسليم للمقادير[35].
تدعوا أقوال الحكماء إلى السكوت، ولكنه ليس سكوتًا مطلقًا أخرسًا، وإنما السكوت المجنب للندم والخطأ. أي لا بدَّ من الكلام، كلام العلماء والحكماء، الذي يدعو إلى الخير. وهذا تماثل آخر بين طرفي الصراع (بيدبا/دبشليم) وتحقيقٌ لشرط دبشليم الملك، وتقوية أخرى لموقع (التحت) في مواجهة (الفوق)، مما يفتح الباب ثانية لبيدبا الفيلسوف للكلام، بعد أن تحقق شرط الملك في قول الحكمة، وبخاصة أن بيدبا ربط الأقوال المأثورة بمعادل لطرفي الصراع أو المقام (فوق = أقوال الملوك/وتحت = أقوال الحكماء) ولذلك ربط بين الحكام والحكماء برابط الحكمة القائمة على دور الكلمة المتبادلة بينهما، مما لا يسمح لدبشليم الملك إلا بالإصغاء بفعل نوازع الفضول لسماع القول الحكيم. ولذلك يكرر دبشليم الملك قوله لبيدبا الفيلسوف: "يا بيدبا تكلم مهما شئت فإنني مصغ إليك"[36].
يبدأ بيدبا خطابه المباشر لدبشليم الملك بكلام الحكمة، فيقول:
إني وجدت أن الأمور التي اختص بها الإنسان من بين سائر الحيوان أربعة أشياء، وهي جماع ما في العالم. وهي: الحكمة والعفة والعقل والعدل. والعلم والأدب داخلة في باب الحكمة. والحلم والصبر والوقار داخلة في باب العقل، والحياء والكرم والصيانة والأنفة داخلة في باب العفة. والصدق والإحسان والمراقبة وحسن الخلق داخلة في باب العدل[37].
تبدأ الخصائص الأربع بالحكمة وتنتهي بالعدل. في باب الحكمة توجد الروية، وفي باب العدل يوجد الإحسان. الروية مطلب بيدبا من الملك دبشليم في اللحظة الراهنة، لكي يتم الإصغاء من قبل الملك، وينجز بيدبا مهمته. ولكن بيدبا لا يبقى في إطار المنجز من الكلام اللفظي، بل يتقدم خطوة أخرى في خطابه المباشر الممزوج بالدعاء للملك ببقاء ملكه، علامةً غير مباشرة على أنه لا يطلب زواله بل بقاءه وصلاحه. ثم ينتقل مباشرة إلى جوهر مطلبه، ولكن من خلال استرجاع ذكرى أجداد الملك دبشليم، مما لايفسح المجال لدبشليم بالإنكار أو الغضب، فهو ذم في صيغة مدح:
أيها الملك إنك في منزلة آبائك وأجدادك من الجبابرة الذين أسسوا الملك قبلك وشيدوه دونك، وبنوا القلاع والحصون، ومهدوا البلاد وقادوا الجيوش واستجاشوا العدة، وطالت لهم المدة، واستكثروا من السلاح والكراع[38] وعاشوا الدهور في الغبطة والسرور، فلم يمنعهم ذلك من استعمال الإحسان إلى من خولوه، والرفق بمن ولَّوه وحسن السيرة فيما تقلدوه[39].
في كل متوالية وظيفية يؤكد بيدبا في خطابه على الجدل. وها هو هنا يلصق، من خلال ضمير المخاطب، صفات الأجداد بدبشليم الملك "الجبابرة، أسس، شيَّد، القلاع والحصون، قادوا الجيوش،...إلخ" مما يستثير في نفس دبشليم الرغبة في التماهي بالأجداد مطلبًا للملك والرعية في الوقت نفسه. وفي ذلك تأكيد آخر على أن الرعية لا تريد زوال ملك دبشليم بل عدله وإنصافه. ولكن التماهي ناقص بفعل لفظتين في الخطاب أدخلهما بيدبا الفيلسوف في المتوالية، هما: "قبلك" و"دونك"؛ فعلى الملك، إذًا، استدراك النقص من خلال متابعة التشييد والبناء ليصبح جزءًا من تلك القوة "الجبابرة" بالإضافة إلى العدل والإحسان للرعية، لأن التشييد والبناء لم يمنع الأجداد من الإنصاف، كما يقول بيدبا الفيلسوف مستدركًا.
بعد ذلك لم يبق أمام بيدبا إلا التصريح بالنقص بدل التلميح إليه:
أيها الملك السعيد جده... قد ورثت أرضهم وأموالهم ومنازلهم [يريد أجداد الملك] ولم تقم بذلك بحق ما يجب عليك، طغيت وبغيت وعتوت[40].
لقد تخلى خطاب بيدبا في هذه المتوالية الوظيفية عن ذكر إنجازات الملك، وذلك للتركيز على النقص وتبيان خروج الملك عن الشرعية التي تحدثنا عنها سالفًا، والتي استمدها دبشليم الملك من طرفين: أجداده والرعية.
دبشليم الملك، إذًا، ورث الملك ولم يقم بواجبه. إن النفي هنا هو تصريح ضمني بنفي المقام الذي يحتله دبشليم في معادلة (فوق/تحت) لفقدانه شروط التربع في المقام. وأصبح من حق (التحت) أن يحاسب (الفوق)، وكأن المعادلة انقلبت رأسًا على عقب، فمن كان في (الفوق) أصبح في (التحت) والعكس صحيح. وهنا تنتفي سلطة (الفوق) وتبرز سلطة (التحت) ويصبح بيدبا هو الأقوى بسلطة العقل والحجة والحق.
بذلك تتوضح الصورة الكلية، في بيان بيدبا، التي تحرض على عمل العقل والحوار، وتركز على دور الكلمة ودور المثقف والحكيم والفيلسوف في مجتمعه. وتصبح تلك الصورة الكلية في البيان هي الأولى، وهي في معادلة الرتبة في (الفوق) مهما أبدت الصورة البيانية الظاهرية من تمويه.

يتبع





    رد مع اقتباس