+ بالفصل الثاني ("العلاقة بين التربية، الأسرة والمجتمع")
يقف الكاتب عند جانب المسؤولية بالمجتمع العربي، ويوضح أن "الأسرة والمدرسة والمجتمع لا تتفق على نهج واحد وموحد في بناء الشخصية... وإلا لما اختلفت الشخصيات في المجتمع عن بعضها البعض".
هي وظيفة مشتركة تحمل الخصائص الثقافية الكبرى للمجتمع (لغة، عادات وتقاليد وتراث...الخ)، " لكنها ليست كفيلة في أن تضمن سلوكيات أو أفكار أو أحاسيس موحدة عند الجميع".
الأسرة والوالدين تحديدا هما الأساس الأول في التربية، والمدرسة هي الوكيلة الثانية للتربية الأسرية، المسؤولية فيها للمعلمين "وللسياسة التعليمية المتجسدة في المناهج التعليمية".
بالتالي، فإذا نجح أحد هذه العناصر وفشل الآخر أو فشلا معا، فإن "الفوضى التربوية سوف تكون هي الظاهرة".
ثم يأتي المجتمع، وهو الذي يتوفر "على القنوات الأكثر تأثيرا في حياة الناس الاجتماعية، السياسية، النفسية والتربوية". والمجتمع العربي في إسرائيل يعيش ضمن مجتمع أوسع، "يقع في قلب الحضارات، باعتباره موجودا مباشرة تحت تأثير المجتمع اليهودي المتفتح جدا على الحضارات الغربية، والذي يحتوي أيضا بداخله خليطا من الثقافات الشرقية والغربية، والذي يمارس سياسته على أقليات مستهدفة ومحكمة".
من هنا، فهذا المجتمع يحمل عناصر الحضارة العربية ويعيش، في الآن ذاته، بمجتمع يهودي متشبع بالحضارة الغربية ... ومن هنا أيضا ارتباكه " في تحديد شخصيته وهويته الاجتماعية والسياسية"، إذ أن أبناء الجيل الجديد من العرب في إسرائيل متأثرون بعادات الغرب، بمفاهيمه ومبادئه وأفكاره... مما يجعل تربيتهم صعبة.
ولما كان المجتمع العربي جزء من المجتمع الإسرائيلي (مع أنه لم يحظ بكل الحقوق) ويعمل داخل مؤسساته، فإنه يحمل نمط حياته بامتياز تربويا واجتماعيا وسياسيا وفكريا ونفسيا وحضاريا. بالتالي، فهو يعيش "ضغطا حضاريا" أكثر من أي شعوب الشرق الأوسط، على اعتبار إخضاعه لأساليب وفلسفات تربوية مختلفة تخلق الاضطراب والفوضى لديه.
هذه الفوضى التربوية منشأها الوضعية الانتقالية للمجتمع العربي بإسرائيل بين التقليد والحداثة.
يقول المؤلف بهذا الخصوص: "إن المشكلة في المجتمع العربي هي أن التربية العربية والتربية غير العربية لا يكملان بعضهما البعض، لأن المجتمع نفسه انتقالي لم يجد حتى اليوم معادلة تربوية سليمة تجمع بينهما".
ف"في المجتمع العربي، توجد فئات كبيرة تربي أبناءها على النهج الحديث سرعان ما تتصادم والتيار التقليدي الذي ربى أبناءه على المحافظة والتقاليد دون الحداثة"...هذا التباين في الشخصيات "يخلق معه نوعا من التوتر الاجتماعي وعدم الاتفاق على أسس حياتية واضحة".
ولما كانت الأسرة بالمحصلة، هي المسؤول الأول عن الأبناء،فإن المفروض أن تصهر كل ما يموج من حولها لتصيغ توجها لأبنائها بالمنزل كما بالشارع كما بغيرهما.
+ بالفصل الثالث ("تغير وسائل الضبط الاجتماعي") يذكر الكاتب بأن هذه الوسائل هي "عبارة عن أدوات (ميكانيزمات) التنشئة الاجتماعية الكفيلة بالتزام الفرد لمعايير المجتمع. فلولاها لعمت الفوضى الاجتماعية بين الناس".
في الماضي، يتابع الكاتب،"كان المجتمع العربي يتبع نفس الوظائف (العقاب/الثواب)، فكان للأبناء شخصية مشابهة". لكن تغيرات اليوم فرضت وسائل ضبط جديدة، وعوض العقاب بالضرب مثلا يتم اللجوء للحوار أو لأسلوب الترغيب،مع استمرار الوسائل التقليدية لدى البعض، مما يخلق فوضى تربوية عند فئة أكثر من عند أخرى.
بالتالي، "فالاختلاف في التربية ووسائل الضبط الاجتماعي يرجع إلى نشوء تغير طبقي ملحوظ في المجتمع العربي في إسرائيل. التغير الاجتماعي والاقتصادي أدى إلى نشوء طبقات بورجوازية وأخرى مثقفة على مستوى القرية والمدينة، وكل طبقة لها ميزاتها الثقافية وأساليب حياتها الخاصة بها، أي أسلوب تربية خاص بها. وهذا يظهر بالقرية أكثر من المدن الكبرى (مسكن، ملبس، تعليم...الخ)". ولما كان المجتمع العربي بإسرائيل عبارة عن قرى ومدن صغيرة، فإن "التباين والتنوع في الشخصيات عند أبناء الجيل الجديد يكون ملحوظا أكثر".
من جهة أخرى فلما كان الإنسان العربي بإسرائيل مواطنا،فهو مجبر على احترام القوانين المدنية التي وضعتها الدولة لمواطنيها، مع تمكينه من "اتباع قوانين عرفية في إدارة شؤون حياته الاجتماعية، لكن ليس على حساب القوانين المدنية".
ببداية دولة إسرائيل، كان القانون المدني يحترم القانون العرفي، لكن اليوم فهو مفروض عليه. وعلى الرغم من عدم اندثار القانون العرفي،يقول المؤلف، فإن الجيل الجديد من العرب يفضل التعامل مع القانون المدني، ليس فقط لأنه نشأ وترعرع في ظله، ولكن أيضا لأنه يحميه من جور العادات والتقاليد وجور التسلط الأبوي في البيت أو المدرسة.
بالتالي،وبسبب العديد من القضايا التي رفعها الأبناء على آبائهم أو معلميهم... فإن الأخيرين بدأوا يتعاملون برفق مع الأبناء، كي لا يجدوا أنفسهم "خارجين عن القانون". وكثير من المعلمين طردوا جراء استخدتامهم للعنف الذي عهدوه في مجتمعهم العرفي. من هنا، فإن الآباء لا يستطيعون مثلا منع أبنائهم من تعاطي الخمر أو التدخين أو ممارسة الزنى، لأن القانون المدني يعطيهم الحق في ذلك.
بالمقابل، وفي ظل انفتاح مجالات العمل للرجال والنساء العرب بإسرائيل، فإن ذلك غالبا ما يبعد الوالدين عن أبنائهم ساعات طويلة ولا يستطيعون مراقبتهم، عكس ما كان سائدا بعصر تعاطيهم للزراعة، حيث مراقبة الأبناء وتربيتهم عن كثب.
وإذا كانت العديد من العائلات الميسورة تصرف أموالا باهظة لتعليم أبنائها والعمل على أن يتبوأوا مراتب عليا،فإن النجاح المادي والمعرفي غالبا ما لا يكون منسجما مع التربية السلوكية والأخلاقية...بحكم سيادة "مجتمع التحصيل" المادي الذي لا قيمة للسلوك أو للأخلاق في سلم أولوياته.
إن انتقال المجتمع العربي إلى مجتمع عمالي وصناعي (وقد كان مع بداية إسرائيل، فلاحيا وزراعيا) أبعد الآباء عن أبنائهم وخلق لامبالاة موضوعية لديهم لمراقبتهم... وهو ما أفرز ما يسميه الكاتب "الإفلاس التربوي والاجتماعي".
التضحية من أجل الأبناء لا تزال قائمة، لكن بجهة إعالتهم وتعليمهم وإدماجهم في "مجتمع التحصيل" ليس إلا.
والسبب في ذلك، يقول الكاتب، هو تغير دور المرأة ومكانتها منذ ولجت "معترك الحياة الاجتماعي، الاقتصادي والسياسي". فخروج المرأة للعمل أدى إلى إهمالها لبيتها وأبنائها، وهو ما أدى إلى زعزعة "الأسس التربوية والأخلاقية عند الأبناء، وكذلك ازدياد المشاكل الزوجية التي تصل حد التفكك الأسري".
بالتالي، فالمسألة " ليست من يعتني بالأطفال بعد خروج الأم إلى العمل، وإنما كيفية تعامل الأم معهم إذا كانت عاملة". وهذا عنصر للتغلب على الفوضى التربوية والحفاظ على التوازن التربوي والأخلاقي داخل الأسرة وخارجها.
بالمقابل، فالمفروض أن يكون ثمة تكامل بين التربية الأسرية والتربية المدرسية. لكن بإسرائيل نلاحظ مثلا، يقول الكاتب، أن وزارة المعارف "لا تعطي المدرسة العربية حقا كافيا لأهمية اللغة العربية كهوية وانتماء للقومية والحضارة العربية. كذلك بالنسبة لموضوع الدين الإسلامي والذي لا يعتبر موضوعا إجباريا بالامتحانات". وكذلك الأمر بالنسبة للتاريخ الذي لا يركز كثيرا على الحضارة العربية، قياسا إلى تاريخ أوروبا الوسطى أو تاريخ العالم... في حين يلاحظ أن اللغة العبرية تتمتع بمكانة مميزة بمناهج المدرسة العربية كونها "تهدف إلى فهم ثقافة الشعب اليهودي، والتعرف على آدابه وتاريخه ودينه على أنه شعب عريق الأصل وكبير الشأن في التاريخ".
بالتالي، فما يجعل "الوظائف بين الأسرة والمدرسة متناقضة فيما بينها هو التباعد المبدئي والثقافي/الحضاري بينهما".
ثم هناك، يتابع الكاتب، قلة الأطر التربوية المكملة للأسرة، حيث غالبا ما يكون الشارع هو المكان اللامنهجي الأساسي كفضاء " ترفيهي"، في غياب النوادي والمراكز الشبابية لقضاء وقت الفراغ. وهو ما يجعل تأثير الشارع أقوى على سلوكياتهم وأخلاقياتهم.
من هنا الاستياء العام بالمنزل والمدرسة والمجتمع... فتعم الفوضى التربوية في المجتمع.
ثم هناك، إلى جانب ما سبق، إهمال التربية الدينية الذي ترتب عنه نشوء جيل متمرد، يميل إلى السلوك العلماني أكثر من السلوك الديني، ناهيك عن تضارب اللباس، مما يعني أنه ليس ثمة نمط تربية موحد... وهو ما يؤدي حتما إلى الفوضى التربوية، على الرغم من الصحوة الإسلامية التي بدأت تعيد للمجتمع بعضا من هويته.
ويلاحظ المؤلف أن هناك ثلاثة عناصر أخرى أثرت في سلوك العربي بإسرائيل:
+ الأول هو الاحتكاك، إذ منذ العام 1948 ازداد احتكاك الإنسان العربي بالمجتمع اليهودي، فأثر ذلك على عاداته ومفاهيمه ومبادئه وسلوكياته سيما وأن نقطة اللقاء بينهما هي أيضا العمل والمؤسسات الحكومية والتعليمية ووسائل الإعلام وغيرها. بالمحصلة، بات العربي يقلد اليهودي في المأكل والملبس والعادات والمسكن... فترتب عن ذلك بالتأكيد "صراع أجيال" انتهى الآباء إلى التسليم به.
+ ثم هناك أزمة الهوية السياسية بين "العربي/الإسرائيلي" أو "العربي/الفلسطيني" أو "العربي/المسلم"... على خلفية من استحضار أبعاد القومية أو المواطنة أو الطائفية...،فإذا كان الآباء لا يزالون مرتبطين بهويتهم القومية الفلسطينية، فإن الأبناء يفضلون الديموقراطية والمنافسة الحرة على ذلك،أي يفضلون الأسرلة.
هناك إذن، فوضى في حالة تحديد الهوية وحالة عدم وضوحها... وما هذا في تصور الكاتب "إلا برهان آخر على عمق الأزمة التربوية التي يعاني منها المجتمع العربي اليوم" بإسرائيل.
+ ثم هناك التطور التكنولوجي ووسائل الإعلام التي تؤثر أيضا في تحديد التربية والهوية، لأنها تدخل حياة الفرد والمجتمع والأسرة، وتؤثر على العلاقات الاجتماعية فيما بينهم بشكل مباشر.
العرب بإسرائيل يستخدمون تكنولوجيا المعلومات والاتصال بكثافة (من هاتف وإنترنيت وفضائيات وغيرها)،وهو ما له تداعيات تربوية كبيرة، إذ يتخلص الأبناء بفضلها من الآباء والمدرسة ومن السلط التقليدية...
ولما كان العرب بإسرائيل (باعتبارهم أقلية) لا يتوفرون على منابر إعلامية تعكس ثقافتهم وحضارتهم وتعالج مشاكلهم، فإن هذا الرافد التربوي غالبا ما تستأثر به إسرائيل كما استأثرت بالفرد والأسرة والمجتمع... وبالأرض أيضا من ذي قبل.
يحيى اليحياوي