2014-06-27, 08:15
|
رقم المشاركة : 3 |
إحصائية
العضو | | | رد: بيان اللسان ...من أجل اللغة العربية | بيان اللسان ...من أجل اللغة العربية 3 / 10 الخبرة التاريخية
يمكن التمييز بين التاريخ "التذكاري" أو "الأثري، وبين التاريخ "النقدي". وينبني هذا التمييز الإجرائي على ما للماضي، عموماً، من إسقاط وإغراء، بل وسطوة على الحاضر. تراوح المجتمعات بين هذه الأشكال المختلفة من العلاقة المضطربة بالتاريخ، تذهب وتجيء باستمرار بين منظومة وأخرى، بين نظر وآخر. النظر التذكاري والاسترجاعي نظرٌ عالم، أو نظر معرفي، من دونه لا مكان للتفكر ولا للتدبر. التذكر يسمح بلملمة خيوط الزمن الطويل، ويضفي معنًى على تلاحق الأحداث وتتابع النوازل. أما التدبر فلكي لا يجنح التفكر لمفارقة، ويؤُول، من ثمة، إلى ترجيع وتوحّد. إن السموّ الحضاري لا يكون من غير وجود الآثار والصروح. بل إن إنجازات الأولين وإبداعاتهم، حتى وإن أمست أثراً بعد عين، تظل تنتج رساميل رمزية لا تعرف الوَكْس ولا النُّضوب، بل تزداد قيمة، وتعلو مردودية.
في المقابل، يسعى النظر "النقدي" إلى الحد من سلطة التذكر، ومن لوعة التوق إلى الماضي، ويدعو إلى مواجهة شجن الحكي والاستظهار باستيعاب الآن، واستباق الزمن، وبصناعة المستقبل. غير أن النظر النقدي، المنسلخ عن الماضي والمنفلت من قبضة التذكر، قد يمضي عميقاً في عملية المحو والنسخ، إلى أن يمسي النسيان التاريخي شرطاً من شروط إنجاز الحداثة، وركوب العصر والحضور في الكون. ينطبق هذا التحليل، إلى حد بعيد، على أنماط النظر إلى اللغة العربية في تفاعل بنياتها النحوية والبلاغية مع سياق التاريخ وإفسال ألسنة أعجمية، تحت هيمنة فرنكوفونية، ما تزال مفاعيلها متواصلة إلى اليوم من جهة؛ ومع سياق الوعي الثقافي الوطني الذي أفضى في السنوات الأخيرة، بعد مخاض طويل، إلى إنفاذ "الحقوق اللغوية" في بلادنا بترسيم الأمازيغية دستورياً، من جهة ثانية.
ليس النظر النقدي إلى قدرة اللغة الفصيحة على استيفاء شروط التداول المعرفي واليومي جديداً؛ حيث إن ما نقرأ اليوم يكاد أن يكون صورة طبق الأصل لما صنف في الموضوع، منذ عصر النهضة على الأقل. المقال نفسُه للمقام نفسِه؛ لا نجد هنا أفصح ولا أفحم من هذه الفقرة البليغة للعلامة عبد الرحمن ابن خلدون : "ثم إن الملة الإسلامية لما اتَّسع مُلكها واندرجت الأُمم في طيِّها ودرست علوم الأولين بنبوَّتها وكتابها، وكانت أمِّية النزعة والشعار، فأخذها الملك والعزة، وسخرت الأمم لهم بالحضارة والتهذيب، وصيَّروا علومهم الشرعية صناعةً بعد أن كانت نقلاً، فحدثت فيهم الملكات، وكثُرت الدواوين والتواليف، وتشوَّفوا إلى علوم الأمم فنقلوها بالترجمة إلى علومهم وأفرغوها في قالب أنظارهم، وجرَّدوها من تلك اللغات الأعجمية إلى لسانهم، وأربوا فيها على مداركهم، وبقيت تلك الدفاتر التي بلغتهم الأعجمية نسيّاً منسيّاً وطللاً مهجوراً وهباءً منثوراً. وأصبحت العلوم كلها بلغة العرب، ودواوينها المسطرة بخطهم". تلك الدواوين والتواليف، دقّها وجلّها، قديمها وحديثها، أكسب لغة الضاد خبرة تاريخية لايستهان بها في نقل العلوم وصياغة المدارك؛ فهي لذلك لغةٌ ونصٌّ، شكلٌ ومحتوى؛ ومن يفرط في القلْب والقالب، معاً، فهو كمن "يسعى إلى حَتْفِه بظِلْفِه". | |
| |