الرئيسية | الصحيفة | خدمات الإستضافة | مركز الملفات | الحركة الانتقالية | قوانين المنتدى | أعلن لدينا | اتصل بنا |

أفراح بن جدي - 0528861033 voiture d'occasion au Maroc
educpress
للتوصل بجديد الموقع أدخل بريدك الإلكتروني ثم فعل اشتراكك من علبة رسائلك :

فعاليات صيف 2011 على منتديات الأستاذ : مسابقة استوقفتني آية | ورشة : نحو مفهوم أمثل للزواج

العودة   منتديات الأستاذ التعليمية التربوية المغربية : فريق واحد لتعليم رائد > المنتديات العامة والشاملة > بنك الاستاذ للمعلومات العامة > سير و شخصيات



إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع
قديم 2015-07-06, 22:38 رقم المشاركة : 6
express-1
بروفســــــــور
 
الصورة الرمزية express-1

 

إحصائية العضو








express-1 غير متواجد حالياً


وسام التميز لشهر مارس 2012

افتراضي رد: عليلوش .. حكاية مغربي قضى ربع قرن بسجون الجزائر


حين واجه عليلوش داء الكوليرا .. وقابَل الموتَ بالإيمان


هسبريس ـ ميمون أم العيد
الأحد 28 يونيو 2015 - 22:04
24 سنة و 9 أشهر و26 يوما، هي المدة التي قضَاها الجندي عْدِّي عْليلوش داخل السجون الجزائرية كأسير حرب. عاد ذات ليلة إلى قريته بعدما تم إطلاق سراحه تحت رعاية الصّليب الأحمر الدولي. وجد زوجته قد تزوجت غيره، وصارت جدّة.
وجد النقود المتداولة في البلد قد تغيرت، وأثمنة المواد قد تضاعفت أربع مرات، والناس غير الناس. أسير عانى الويلات رفقة زملائه دفاعا عن الصّحراء المغربية، وكثير منهم قضى نحبه داخل سجون البوليساريو.. في هذه الزاوية نسرد في حلقات خلال هذا الشهر الفضيل سيرة هذا الرجل، ومعاناته في السجون التي قضى بها ربع قرن.
(6)
تُرهقني ذاكرتي، هاهو ذا شريط حياتي يتراءى لي في شاشة كبيرة، لم تستطع السنين أن تشرخ منه ولو جزءًا كي يكف عن الظهور في شاشة الزمن الكبيرة. مرضت بالكوليرا ولم تكن فضلاتي غير الدم. هزلت بشدة ولم أعد أقوى على الوقوف على رجلاي. أكابر لأقف بعض الوقت تم أسقط.
صباح 20 أبريل عام ستة وسبعين، جاء إلي مسعود ووجدني في تلك الحالة ولم يرأف. نهرني أن أذهب للشّغل الذي نزاوله كل يوم. أحيانا نقوم بعمل مُجدي، كأن ننقل أمتعة أو نبني حائطا أو نحفر خندقا.
وفي فترات قلة الأعمال فأنهم يأمرونا أن نحفر خندقا ثم يأمرونا بعدها أن نردمه. يأمروننا أن نُحول كثبان رملية من مكانها ثم غدا يأمروننا أن نُعيدها إلى مكانها الأول، ويا ويل من يتذمر من شغل السجان في معتقل عوِميرْ.
وأسوأ الأشغال وأذمها عند الأسير أن يؤمَر بأعمال غير ذي نفع لأحد ولو لأعدائه. قلت لمسعود بأني مريض لا أستطيع أن أحمل فأسا ولا بالة. ذهب ليستشير عويمير المسئول الأول عن المعتقل في أمري. فقال له إذا لم يقم للشغل فاضربه حتى الموت، كي لا يأتي نفر من بعده يتخذون المرض ذريعة لترك العمل، والتمرد على أوامر المحبس.
عاد بعد هنيهة يحمل إلي هذا الأمر الشفوي الذي كلفه به رئيس المعتقل وبدأ يضربني بخيط كهربائي مفتول. ضربات عشوائية في كل مكان تنفيذا للأوامر. بدأ أنفي ينزف دما. كنت أنزف بشكل كبير، أكبر من تلك المرة التي عالجتني فيها الممرضة فاطماتّو بروث الحمار. تركني عندما رأى كميات كبيرة من الدم السيّال على وجهي وأنا أحاول أن أجعل أنفي يتوقف عن النزيف دون جدوى. بعد ساعة تقريبا توقف النزيف. كنت متعبا جدا، ولون يداي أكثر اصفرارا من ذي قبل.
تيقنت أني سأموت هذه المرة لكن لا ضير. سيحزن رفاقي الأسرى لفقداني بعض الوقت وسأغدو بعد ذلك مجرد رقم ككل الذين ماتوا هنا وسيموتون. وحدها أمي في تلك البلاد البعيدة ستبكيني بصدق بعد أن تيأس من عودتي. تخيلتها بملامحها الأمازيغية الصارمة وهي تواجه الحياة بعد وفاة والدي. تكابد من أجل أن أكبر كي أكون سندها في الحياة، لكن هذا الأسر قد هدّم آمالها وآمالي.
عاد مسعود إلي بعد برهة وقد وجدني لم أبرح مكاني. ظننته قد يرأف لحالي ولون وجهي الزعفراني لكنه صرخ بجدية:
ـــ تْڭوم تشتغَل ولا نقتلك.
ـــ اقتلني.
قلتها بما تبقى لدي من جهد لعله يعفني من حياة الذل في هذا المحبس اللئيم.
تناول سلاحهُ وعبّأَه ثم شدّ حزامه إلى بطنه وخاطبني.
تا الله لأقْتُلنّك. هيّا لنحفر قبرك ولتكن من بين البشر القلائل في العالم الذين شاهدوا قَبرهم يُحفر وهم يعرفون أنهم سيدفنون فيه بعد قليل.
ذهب وتبعته ليحفر قبري. وقبل أن يصل موضع دفني نادى على رجل يؤمنا في الصلاة يُدعى سي حسن، كما نادى أيضا على أسير موريتاني يُنادونه البُخاري. هذا الموريتاني يقولون عنه بأنه جاسوس يشتغل لحساب البولوزاريو، وإن كان أسيرا فإن الرفاق يحتاطون منه ولا يشاركونه أسرارهم ومواقفهم.
قال لهما بعد أن جاءَا مهرولين:
ــ اشهدا أن هذا الرجل يريد أن يموت رميا بالرصاص، وأن هذه رغبته، حتى لا تقولا يوم غد إنّا ظالمون.
كان الثلاثة أمامي وأنا خلفهم. وصلنا مكانا كنّا نتبول ونتبرّز فيه فتوقفوا. وجدت صخرة فاتكأت عليها أنتظر الرصاصة التي سوف تُخلّصني من هذا الجحيم. كنت أنظر جهة القبلة حتى أستعد للموت عندما تأتي، وأقابل ربّي بالكثير من الإيمان بالقضاء والقدر.
وإن كان ولابد من الموت قتلا فقد كنت دومًا أعتبر الموت بالرصاص أجمل أنواع الموت وأقدسَهُ. عندما اخترت هذه المهنة قبل سنوات اقتنعت أنه سيأتي يوم تخترق فيه رصاصة جسدي دفاعا عن هذه الأرض الطاهرة. بدءوا يحفرون وأنا أنظر إليهم دون اكتراث. تلك هي الحُفرة التي سأُوَارى فيها. بعد قليل سيختفي هذا الجسد النحيل الطويل تحت رمل هذا المكان. ستكون ملابسي المتّسخة هاته هي كفني الذي لم يكن أبيضا. أيَفرق لون الكفن ونقاوته عند ديدان تنتظرني بشغف لوليمة تتكرّر بين الفترة والأخرى. في البلد، كلما أراد شخص ما أن يذكر صديقه بالموت يقول له بأننا سَنُدفن جميعا في شبر، فحفاري القبور يحرصون ألا يتجاوز عرض القبر شبرا واحدا بالنسبة للرجل، ويتجاوز الشبر بمقدار أربعة أصابع بالنسبة للأنثى. لكنّ هذان الحفّاران صنعا لي قبرا عَرضه نصف متر. إنهما أسيران مثلي، ولعلهما يريدان أن أنعم بحرية الحركة وأنا جسد مُسَجّى. أنا الذي لا أنعم بها حيّا.
لعلهما يريدانني أن أجد مساحة كافية لأجرش جلدي بعد موتي. تخيلتني تحت هذا الرمل ميتا أُحاول أن أجرش جلدي في هذا القبر المتّسع، حانت مني ابتسامة عريضة.
لكن مشيئة الله كانت أكبر مما يرغب فيه مسعود وعْوِيميرْ.. في تلك اللحظة وصل طبيب صحراوي وكنّا غير بعيدين عنه. ربما استفسر أحد الحراس عن سبب تواجدنا في ذلك المكان نحن الأربعة. أخبروه بكوني أتمارض كي أتجنب الشغل اليومي في المحبس، فطلب منهم أن يأتوا بي إليه ليكشف عنّي. أغلظ في القَسَم أن يتكفل بقتلي هو إن كشف عني واكتشف أني لا أعاني شيئا. خرج عويمير ينادي ملء الحنجرة:
ــ يا مسعود، وامسعود، تعالَ وجيب الشليّح هون.
نظر إلي مسعود ثم بصق في وجهي، وأمرني أن أتبعه.
مسحت بصاقه على وجهي بطرف قميصي المتسخ ببقع الدم والعرق، واقتفيتُ أثره. أخبرتُ الطبيب لما بلغنا موضع وقوفه أني أتبرز دما وقيحا، وأني لا أستطيع الحراك. كشف عني ثم كتب لي أربع حقن. وأمرهم ألا يجبرونني على الشّغل حتى يعود في المرة المقبلة. خاطبني بالكثير من الحقد:
ــ إبرة وحدة ماكاندڭوها حتى يموت فينا 40 راجل، إوا شوف شحال فيك نتا من راجل يا شْليّح.
كان زملائي الأسرى متيقنين أنهم سيقتلونني، بعدما راجت أخبار عزم مسعود أن يطلق علي الرصاص بحضور شاهدين. لكني بعدما أخذت تلك الحقن وبدأت أتعافى لم يعودوا يُنادونني باسمي، بل صِرْتُ أُنعت بالشهيد الذي لم يمت.
لم يكن لنا علم بالسياسة وفنونها. لقد كنا كجُنود نعتبرها خطّا أحمر لا نتجاوزه. إلا أن أيام الأسر فتحت عيوننا لأمور لم تكن في حسباننا يوما. يُحدثوننا في السياسة وفي الأحزاب والمنظمات والجماعات.
كان أغلبنا لا يفقه في أقوالهم الكثير، كنا أسرى حرب، ولسنا لاجئين سياسيين كي يُحدثونا بكل تلك الخطابات. إذ كان مجموعة من الصّحافيين يزورننا بين الفينة والأخرى. صحافيون من دول مختلفة وجلهم من دول تعادي المغرب وسيادته على أرضه.
وكنا نواجه كلامهم المهين عن ملكنا و رموز دولتنا بأن نبادلهم الشتائم وصنوف السباب الساقط، تماما كما يفعلون معنا. نُذكر السوريين بشهداء المغرب في حرب الجولان ولا يذّكَرون.
مرة جاء فلسطيني قيل لنا أن اسمه جورج حبش . وجيء بالأسرى وبالضباط للاستماع لخطبته ومن بين ما قاله:
"إن فلسطين مستعدة لتُساهم في تحريركم من العبودية التي يريد المغرب أن تعيشوها". كان يخاطب الصحراويين. ثم أشار إلينا وخاطب الضباط الجزائريين:" مثل هؤلاء الحمير لا يستحقون الحياة. إنكم تبذرون أموالكم في إطعامهم. مثل هؤلاء كمثل أولئك الذين نقاتلهم هناك في الأراضي المحتلّة".
زارتنا وفود كثيرة معادية للمغرب من دول كتونس ولبنان. حتى بعض المغاربة لم نسلم من شتائمهم عندما يزوروننا في المحبس، خاصة الذين ينتمون لمنظمات يسارية تعادي الملكية، كانوا يقولون لنا:
" أنتم دُخلاء، مستعمرون جُدُد. مستبدون، عملاء اليهود وأمريكا. أنتم حڭارَة، مَالْقيتُو علَى مْنْ تحڭرُوا غير الصحراويين.."
مع ذلك فإننا ننعم ببعض المعاملة الجيّدة كلما زارنا وفد من الوُفود.






    رد مع اقتباس
قديم 2015-07-06, 22:39 رقم المشاركة : 7
express-1
بروفســــــــور
 
الصورة الرمزية express-1

 

إحصائية العضو








express-1 غير متواجد حالياً


وسام التميز لشهر مارس 2012

افتراضي رد: عليلوش .. حكاية مغربي قضى ربع قرن بسجون الجزائر


عليلوش: الرجال لا يبكون جماعة .. وهذه قصة رؤيا الحرية


هسبريس ـ ميمون أم العيد
الثلاثاء 30 يونيو 2015 - 23:05
24 سنة و 9 أشهر و26 يوما، هي المدة التي قضَاها الجندي عْدِّي عْليلوش داخل السجون الجزائرية كأسير حرب. عاد ذات ليلة إلى قريته بعدما تم إطلاق سراحه تحت رعاية الصّليب الأحمر الدولي. وجد زوجته قد تزوجت غيره، وصارت جدّة.
وجد النقود المتداولة في البلد قد تغيرت، وأثمنة المواد قد تضاعفت أربع مرات، والناس غير الناس. أسير عانى الويلات رفقة زملائه دفاعا عن الصّحراء المغربية، وكثير منهم قضى نحبه داخل سجون البوليساريو.. في هذه الزاوية نسرد في حلقات خلال هذا الشهر الفضيل سيرة هذا الرجل، ومعاناته في السجون التي قضى بها ربع قرن.
(7)
لا يبكي الرجل إلا لأمر جَلل، فيما قد تبكي المرأة كُلما رغبت في ذلك، لكن شتان بين رؤية امرأة تبكي ورجل يذرف الدمع. رؤية رجل يبكي أقسى على المرء من رؤية الموت عيانا. شعور لا يُوصف، تمنيت وقتها أن أكون قد متُّ، وكنت نسيا منسيا على أشاهد دموعه تتدحرج على خدّه الضامر كطفل.
كان ذلك يوم 26 أبريل عام ستة وسبعين. ريح صرصر عاتية لم تجد ما تقتلعه في هذا المكان سوى ما تبقّى من الرحمة القليلة في قلوب السجّانين والحرّاس. دامت هذه الرياح المزمجرة ثلاثة أيام بِلَياليها، فخاف الحُراس أن يهرب الأسرى، خاصة الموريتانيين الذين يعرفون الصحراء ومفازاتها بشكل جيد، فضاعفوا الصّراخ والتعذيب بالضرب والنهش بسكاكين "الكلاش" المثبتة على مقدمة البنادق.
وجدت محمد الوجدي يبكي كطفل فقد شيئا يحبه. كان سائقا لشاحنة. رجل مدني تم أسره في الزاك أيضا. وسِيقَ مع الأسرى لقدره المحتوم.
آثار الكدمات على وجه وما ظهر من جسده والدموع تنزل لتختفي في لحيته. غاظني المنظر، وحاولتُ أن أُواسيه:
ـ لا تبكِ يا مُحمّد. نحنُ رجال والرجال لا يبكون. هذا قَدَرُنا جميعا. أنت مدنيٌّ لم يتم تعذيبك كما عُذِّبنا نحن العسكريون.
قرأت عليه بعض الآيات الداعية إلى الصّبر والرّضى بالقدر مما تعلمته، فانفعل وهو ما يزال يُكفكف دمعته:
ــ اضحك عليّ بتلك الآيات يا عَدّي! فأنت لم تُعذّب كما عُذّبتُ، لم تُهَن كما أُهِنتُ وما عانيت الذي عانيته وما أزال.
ندمت لأني حاورته من أولها، يجدُرُ بي أن أتجنب النظر في مقلتيه المنفوختين وأدعه يبكي لوحده، فلعل الماء المالح يلفظ معه ما يُثقل قلبه، لكنه عزّ عليَّ:
ـ يا محمد! لقد رأيتَ كيف حكموا عليَّ بالموتِ وقرروا أن يسلبوا مني الحياة، وكأنهم من نفخ فيّ الروح. وشاهدتني أخطُو نحو حتفي مُطمئنا أن الموت سوف يخلّصني من هذه الفترة البين بين التي أعيشها، وجاءت إرادة الله التي فوق إرادتنا جميعا وكُتب لي عمر جديد، وتقول بأني أضحك عليك. يا مُحمّد عَزَّ عَلَيّ أن أرى الدمع يُبلّل لحيتك التي غزاها الشيب وأنا مثلك لا أملك لك خلاصا، وأردت أن أواسيك لعل الله يجعل لنا مخرجا.
اغرَورَقت عيناي بالدمع فتركته لوحده.. فالرّجال لا يبكون، على الأقل جمَاعةً!
في الليل استلقيت في مكاني أناجي الله في سِرّي إلى أن غفوت، فجأة شعرت برجل نَقي لا يشبه الأسرى ولا الحُراس. أبيض اللباس نَظيفَهُ. يجثو على رُكبته جهة رأسي وقد لمس كثفي لأستيقظ. كنت نائما على جنبي الأيمن، فتحت عيني ورأيته دون أن أحفظ ملامح وجهه في الظلام، فقال لي بصوت خافت مسموع:
ـ ستغادر هذا المكان يوم 18.
كَرَّرَ هذه العبارة مرتين، فسألتُه:
18 في هذا الشهر أم الشهر المُقبِل؟
ـ الشهر المقبل، أما هذا الشهر فقد بلغ الـ27 هذا اليوم.
استيقظت من نومي، فلم أجد الرجل الجاثي على رُكبتيه. نظرتُ حولي فلم أجد غير الأسرى الذين يغرقون في أحلام السراح والحرية ومعانقة الأهل والأحبة.
لم أنم بعد ذلك. مكثت أفكر في هذه الرؤيا، خاصة وأني لا أعرف كم الشهر اليوم. رتابة الأيام وتشابهها جعلني لا أعرف الأيام ولا الشهور، والكثير من الأحداث كنت أُقَدّرها باستحضار بعض الأحداث الكبيرة والمهمة التي عرفت تاريخ حدُوثها. انتظرت رفيقي مصطفى تعيسات أن يستيقظ. أسير من صفرو ينام إلى جواري وكان أعلم منّي وأدرك للأيام والشهور. لما استيقظ بادرته بالسؤال:
ـ شحال اليوم في الشهر؟
ـ 27. عْلاش؟
ترَدّدت في إخباره، لكن الفرح ولو المؤقت منعني من الاحتفاظ بالسرّ الغريب، فحكيت له الرّؤيا، وبقينا على أمل وصول الـ18 من الشهر المقبل.
بعد يومين أو ثلاثة زارنا رجل يختلف في طريقة كلامه ومعاملته عن الحُرّاس الذين ألفنا تواجدهم معنا. قيل لنا بعدها أنه رئيس الهلال الأحمر الجزائري. لم يأت إلى المعتقل، بل نحن الذين ذهبنا لمقابلته على بعد ثلاث كيلومترات من هذا المحبس كما أمرونا أن نفعل. وجدناه هناك في سيارته، سلّم عليه الحراس الذين كانوا يُرافقوننا. أمرونا أن نشكل نصف دائرتين كي يتمكن من مُخاطبتنا فنسمعه جميعا. وقف قبالة القوسين اللذين شَكّلناهما ثم طلب من الحُراس أن يأتوه بمن يتكلم الفرنسية ويفهمها. أرشدوه إلى الأسير الوحيد الذي يتكلم تلك اللغة. اسمه ميمون عزّة، لكنه مُسجل في سجلات البوليساريو باسم عزيز حميد عندما تم أسره. ظل بهذا الاسم المستعار إلى أن تُوفي رحمه الله في إحدى مستشفيات الجزائر سنة 1984.
نُودي عليه ورافقه بعيدا عن أعين حراس البوليساريو فأراه المعتقل وأماكن العمل الشاق، وأخبره بكل ما نُريد أن يعلمه، تفاصيل عن الأكل السيئ والماء المتعفن وغياب التطبيب والدواء وقلة النوم والعمل المستمر بالليل والنهار. أخبره أيضا عن الأسير الذي مات مؤخرا بسبب الجوع والقمل. بحسب ما نقله إلينا رفيقنا ميمون عزة بعد ذلك اللقاء، فإن رئيس الهلال أخبره أن بومديان يرسل نفقة الأسرى تشمل كل احتياجاتهم من أكل ولباس ودواء ولوازم النظافة ودُخان. أخبره أنه سينقل هذه الصّورة القاتمة لبومديان شخصيا ووعده أن الأمور سوف تتغيّر في غضون أُسبوعين. شاهدناه يغادر المكان دون أن يُحيي مسئولي البوليساريو الذين يشرفون علينا، عرفنا أنه غاضب منهم وسمعنا ذلك بعدها.
أعادونا إلى المحبس كما يُعيد الراعي قطيع معز. طلب منا عويمير رئيس المعتقل أن نُشكل دائرة كبيرة. دخل إلى الحلقة التي شكّلناها وهو يجرّ الأسير عزيز حميد من لحيته الشقراء. وبدأ يتوعّد:
ــ ماذا قلت له؟ بماذا أخبَرتَه أيها الحمار؟ هاهو قد رحَل وتركك هنا بين يدَيّ لأفعل بك ما أُريد. بإمكاني أن أقتلك الآن كما لو دُست على حشرة ولن يُحاسبني أحد. لكني لن أقتلك، سأتركك هنا لأقتلك كل دقيقة لتموت مرات عديدة، أما هؤلاء المعاتيه فإن رصاصة واحد سوف تكفيهم، سأجعلهم صفا واحد وأضغط على الزناد لأوفّر خبزهم اليومي.
كان يشهر مسدّسه الشخصي. مرة يصوبه إلى حميد الذي يمسكه من لحيته، ومرة يصوبه تجاه واحد من الأسرى المتحلّقين حوله. بدأ يصرخ إلى أن بدأ لعابه يتطاير، لم يترك شتيمة إلا قالها، وفي الأخير خرج من الحلقة آمرا الحُرّاس ألاّ يتوقف العمل الشاق وأن يحرمونا من الأكل والشرب.
بعد أيام قليلة زارنا وفد جزائري مكون من 4 أفراد، نُودي علينا من الأعمال التي كنا نزاولها وتم تسجيل معلوماتنا وأسئلة سبق أن أجبنا عنها ألف مرة، مع ذلك نُجيب عنها كلما سُئلنا متشبثين بكل أمل.






    رد مع اقتباس
قديم 2015-07-06, 22:40 رقم المشاركة : 8
express-1
بروفســــــــور
 
الصورة الرمزية express-1

 

إحصائية العضو








express-1 غير متواجد حالياً


وسام التميز لشهر مارس 2012

افتراضي رد: عليلوش .. حكاية مغربي قضى ربع قرن بسجون الجزائر


عليلوش: يوم حملتنا الطائرة إلى معتقل "بوغار" بالجزائر


هسبريس ـ ميمون أم العيد
الخميس 02 يوليوز 2015 - 23:14
24 سنة و 9 أشهر و26 يوما، هي المدة التي قضَاها الجندي عْدِّي عْليلوش داخل السجون الجزائرية كأسير حرب. عاد ذات ليلة إلى قريته بعدما تم إطلاق سراحه تحت رعاية الصّليب الأحمر الدولي. وجد زوجته قد تزوجت غيره، وصارت جدّة.
وجد النقود المتداولة في البلد قد تغيرت، وأثمنة المواد قد تضاعفت أربع مرات، والناس غير الناس. أسير عانى الويلات رفقة زملائه دفاعا عن الصّحراء المغربية، وكثير منهم قضى نحبه داخل سجون البوليساريو.. في هذه الزاوية نسرد في حلقات خلال هذا الشهر الفضيل سيرة هذا الرجل، ومعاناته في السجون التي قضى بها ربع قرن.

(8)
انتظرت ذلك اليوم الذي حلمت به كما تنتظر أم أخبار ابن غائب. لما بزغ فجر 18 ماي من سنة 76، لم أنم كطفل ينتظر شمس العيد ليرتدي الملابس الجديدة المطوية قرب وسادته. أردت أن أتأكد من تلك الرؤيا.
لما أشرقت الشمس ساقونا لمزاولة تلك الأشغال التي نزاولها كل يوم. لا شيء تغير، حتى تيقنت أن ما رأيته في منامي قبل عشرين يوما، ماهو سوى متمنيات تجلت لي في صورة ملاك، أو شيطان يحب العزف على ما حُرمت منه؛ الحرية ..
مر الزوال وجاء المساء، ولا شيء ينذر بأننا سنغادر هذا الأسر نحو ديارنا. اليوم الموعود يقترب من نهايته ورأياي ليست سوى أضغاث أحلام. انهمكنا في العمل كما يأمرنا السّجان الجاثم على أرواحنا.. لما بدأت الشمس في الاختفاء سمعنا هدير شاحنتين عسكريتين، ونادى مناد أننا اليوم سنغادر هذا المكان، لكن ليس إلى الديار، بل نحو الجزائر!
أعدت الحوار المفترض الذي دار بيني وبين الملاك الذي زارني. لم يكذب، قال بأنني سأغادر هذا المكان دون أن يُحدد الوجهة! وها أنا أغادره.
قسّمونا ليلتها إلى نِصفين. اعتقدت أن كُل نصف سوف يرحل في شاحنة. لكننا ملأنا إحداهن بالبضائع والمواد الغذائية، بينما نقلت الأخرى نصف عدد الأسرى فقط، فيما بقي النّصف الآخر إلى الثلث الأخير من الليل، إذ عادت إحدى الشاحنتين. كنت ضمن النصف الثاني.
كلما ركبت آلية عسكرية إلا وأتذكر أول مرة ركبت فيه الشاحنة في اتجاه الصحراء. لم أكن وقتها عبوسا كما اليوم، لكن زملائي الذي سبقوني لحمل السلاح كانوا أكثر تشاؤما. أخبروني يومئذ أن أغلبهم قام بتنظيم عشاء وداع لأهل في الدوار، كتَأبينٍ لحيّ لم يمت بعد، لكنه قد يموت بِلغم أو بسبب ما. لذلك ودّع الأقارب وعانقهم واحدا واحدا. قد لا يطول عمره ولا يتمكن من رؤيتهم مرة أخرى، ويرحل عن هذه الدار وفي قلبه اشتهاء عناق. قالوا لي أن الذي يأتي للصحراء في وقت الحرب قد يعود وقد لا يعود، لذلك يودعون أهلهم بالبكاء، ويتمنون ألا يكون هذا "البرمسيون" هو الأخير الذي يعانق فيه الأهل والأقارب.
مع مرور الوقت أصبح ذلك من سُنن العسكر القادمين من التخوم. وكلما عاد جندي من عطلته نحو الثكنة يستقبلونه مقهقهين وهم يمازحونه: هل قرأ الفقهاء بعض الآيات على روحك؟ هل أقمت لنفسك حفلة تأبين قبل الرحيل؟ أستمع إليهم في اهتمام، وكلي يقين أن أقدارنا قد اختارتنا ولا مفر لكنني في هذه المرة لا أركب شاحنة نحو الصحراء، بل مغادرا إياها. والشاحنة التي تقلني ليست تابعة لجيشي، بل هي مِلك الأعداء، ولا أعرف نحو أية وجهة، فأين تذهب بنا هذه الدابة المهترئة، وأي قدر ينتظرنا في ذلك المكان المجهول!
كان الطريق طويلا وكأننا نسير في مسار دائري. سرعان ما أشعر أني أمر من نفس النقطة التي مررت منها قبل قليل. بلغنا موضع توقف الشاحنة الأولى في تمام الواحدة زوالا، رأيت ذلك في ساعة يدوية لأحد الحُرّاس. توقفنا قليلا لتناول وجبة من اللوبيا على الغذاء.
بعد ذلك جاء صحراوي طويل أسود اللون يَسُوق شاحنة ثالثة. أمرونا أن نركب معه ويذهب بنا نحو تيندوف. سار بنا بشاحنته طويلا إلى أن وجدنا في الطريق شاحنة محملة بالذخيرة الحربية. أمرونا أن نقوم بتفريغها في الشاحنة التي كانت تُقِلّنا ونركب تلك الحربية.
في مَدخل تيندوف أوقفنا كومندار جزائري وطلب من السائق أن يعود إلى الرّابُوني ويترك هناك الموريطانيين ويعود فقط بالأسرى المَغَارِبة.
بعد أن تم إنزال الموريتانيين في الرابوني عُدنا عبر نفس الشاحنة إلى مطار صغير بتندوف. وقفت الشاحنة قبالة مدخل الطائرة، ووقف ضابطان في باب الشاحنة يقومان بانزالنا عدّا. بدأ يُعد ويسمح للفرد المحسوب بالخروج من الشاحنة كما يفعل الرّحل مع العنزات المحلوبة. يخرج الأسير فيوجّهه حارس نحو سُلّم الطائرة، يدله بعد ذلك على مقعده ثم يقوم بتصفيده إليه. لما بلغ 42 فردا توقف عن العدّ وطلب من سائق الشاحنة أن يعود بالـ13 المتبقين نحو الرابوني حتى مطلع الأسبوع المقبل.
انطلقت بنا الطائرة الصغيرة تشق عباب السماء نحو وجهة لا يعلمها سواهم. كنّا 45 شخصا باحتساب الحُرّاس.
توقفت بنا قليلا في مطار بشّار، كان المطر ينهمر مدرار، فنزل بعض المسئولين لوقت قصير وعادوا ورفقتهم ثلاث أسرى مصفدين، علمت فيما بعد أنهم مغاربة تم أسرهم قبيل عيد الأضحى الماضي. كان بينهم أسمر من رُحّل محاميد الغزلان، سمعت ضابطا يقول لزميله إن هذا الرجل من الجواسيس الرّحل الذين ينقلون للمغرب كل كبيرة وصغيرة على الحدود، وهاهو قد سقط بين يدينا ليدفع الثمن.
اتجهت الطّائرة نحو مطار البليدة بعد ذلك. لما توقفت، ركبنا شاحنة عسكرية والمَطر المنهمر ما يزال يربط السماء بالأرض بواسطة خيوط رفيعة. كانت الشاحنة التي أقلتنا إلى بوغار باردة جدا، ولم يمنع تزاحمنا من أن تصطكّ أسناننا بقوة، ضحكنا من ذلك جماعة فشعرنا ببعض الدفء.
بلغنا المَوضِع الذي يُرِيدوهُ لنَا مع بزوغ الفجر. نظرتُ إلى السماء فتذكّرتُ أيام قريتي البعيدة بُعَيدَ السّحور. أيها الكبير الذي في السماء وفي كل مكان، لماذا لا يكون كل هذا مجرد كابوس مزعج، أستفيق منه وأجد نفسي في قريتي الهادئة، أجوب الزقاق المتربة حافي القدمين. لا نعل في رجلاي ولا أصفاد تثقل حركة يداي.
وَلَجنا قاعدة عسكرية، توجد في قصر بُوخاري بولاية المدية. يوجد داخل القاعدة معتقل صَغير شُيِّدَ منذ عهد الاستعمار الفرنسي، ولا يبعد المكان عن العاصمة الجزائرية سوى بـ150 كيلومترا. يتحصّن المعتقل وسط ثلاثة تلال صغيرة. وجدنا في مدخله ضابط صف جلس يُدوّن معلوماتنا فردا فردا. أدخلونا بعد ذلك غرفتين، ووجدنا أن 12 أسيرا قد سبقونا إلى هذا المكان. حييناهم كما نحيي سكان المقابر التي تتواجد بجانب الطرقات: السلام عليكم أيها الأموات، أنتم السابقون وهانحن من اللاحقين..
نام بعضنا، وبعضنا هام في التذكرات المؤلمة، وصدمة انكسار أحلام الإفراج على صخرة التنقيل من أسر لآخر.. لم يطرقوا أبواب الغرفتين حتى توقفت العقارب في الساعة العاشرة. وقتها خرجنا لتناول أول وجبة في هذا المعتقل الجزائري؛ قطعة خبر بداخلها قليل من مربى المشمش وكأسا من الحليب المنكّه بالبُن.
بعد أن تناولنا الفُطور في هذا المكان، تم اقتيادنا إلى ساحة تتوسطُ المعتقل كما يقود الرعاة قطيع أغنام لجز صوفها. جاءوا بمجموعة من الحلاقين لتخليصنا من هذا الشعر الكث المقمل. كانوا يقُصون ويتندرون منا، بعد ذلك جمعوا كل ذلك وملابسنا المتسخة لحرقه في مكان بعيد كمواد محظورة، بعد أن استحممنا وارتدينا منامة جديدة سُلمت لنا.
تمنينا أن تُحرق مع تلك الملابس ذكرياتنا الأليمة ويكون ذلك فأل خير لنعود إلى أوطاننا التي حملناها في أفئدتنا معنا أينما تنقلنا. لكن هؤلاء الذين استقدمونا إلى هذا المكان كانت لهم أغراض استغلالنا في ما يخدم أهدافهم وطروحاتهم.
ذات يوم اقترحوا علينا أن نكتب لأهلنا رسائل إخبار، ننقل فيها ما نشعر به، ونخبرهم فيها بأننا بخير وعلى خير، بين يدي "إخواننا". وأنهم سيتكفلون بإيصالها والتوصل بالأجوبة عن طريق بريد المرادية. تداولنا الأمر فيما بيننا وأخبرنا بعض زملائنا أن نرفض هذا الأمر، لأن ذلك يعني اعترافنا الضمني بالبوليساريو ككيان قائم الذات، فرفَضنا. وبقيت أخبارنا لا يعرفها سوى هؤلاء الذين يتناوبون على حراستنا كل يوم ورؤسائهم في العاصمة.
لم ننل تلك الحرية التي ننشهدها، وإن تحسن حالنا لبضعة أيام مقارنة بحالنا في مكتب عويمير ولد علي بويا. قلّ التعذيب وانعدمت الأشغال غير المجدية التي كنا نزاولها في المأسر الصحراوي. كتحويل الكثبان دون جدوى أو حفر خندق اليوم وردمه غدا. ينادى علينا كل يوم للقيام بأعمال التنظيف وتقشير الخضر وبعض أعمال المطبخ.
أحيانا تصلنا بعض الأخبار عن البلد، سواء مما نسمعه في الزوار أو من بعض الحراس، ومنها أن المملكة السعودية حاولت هذه الأيام التدخل لدى الجزائر لإطلاق سراحنا. قيل لنا أن ولي العهد فهد بن عبد العزيز توسط بين ملكنا وبومديان لرأب الصدع، وأنه تنقل في يوم واحد 6 مرات بين الجزائر والرباط. كان ذلك سيثمر تحريرنا من الأسر حتى قاموا بتوزيع بعض الملابس الجديدة على الأسرى لارتدائها أثناء العودة للوطن. لكن الضغط الليبي والروسي على الرئيس الجزائري جعله يتراجع، فقاموا باسترجاع تلك الملابس التي وزعوها علينا، ونشرت صحف الجزائر في صفحاتها الأولى أن الجزائر لا تبيع مبادئها بالريال السعودي ولا بالدولار الأمريكي. فلماذا تبيعينها أيتها العفيفة الطاهرة بالدينار الليبي والروبل الروسي؟






    رد مع اقتباس
قديم 2015-07-06, 22:41 رقم المشاركة : 9
express-1
بروفســــــــور
 
الصورة الرمزية express-1

 

إحصائية العضو








express-1 غير متواجد حالياً


وسام التميز لشهر مارس 2012

افتراضي رد: عليلوش .. حكاية مغربي قضى ربع قرن بسجون الجزائر


عليلوش: لهذا فضّلتُ حياة المعتقل على المكوث بالمستشفى


هسبريس ـ ميمون أم العيد
السبت 04 يوليوز 2015 - 22:00
24 سنة و 9 أشهر و26 يوما، هي المدة التي قضَاها الجندي عْدِّي عْليلوش داخل السجون الجزائرية كأسير حرب. عاد ذات ليلة إلى قريته بعدما تم إطلاق سراحه تحت رعاية الصّليب الأحمر الدولي. وجد زوجته قد تزوجت غيره، وصارت جدّة.
وجد النقود المتداولة في البلد قد تغيرت، وأثمنة المواد قد تضاعفت أربع مرات، والناس غير الناس. أسير عانى الويلات رفقة زملائه دفاعا عن الصّحراء المغربية، وكثير منهم قضى نحبه داخل سجون البوليساريو.. في هذه الزاوية نسرد في حلقات خلال هذا الشهر الفضيل سيرة هذا الرجل، ومعاناته في السجون التي قضى بها ربع قرن.

(9)
يواصل عدي عليلوش سرد قصته في الأسْر، وما عاناه في تلك الأيام التي لم يستطع نسيانها:
في شهر رمضان من سنة 1977، أصابني داء السّل. كنت أسعل بشدة وبلا انقطاع. طلبت مرات كثيرة أن أُعرَض على الطبيب، فتماطل السجّان حتى بلغ بي المرض أيما مبلغ. لما فحصني الطبيب كتب لي دواءً، وأوصى بأن أنقل بأسرع وقت نحو المستشفى، انتظرت أن ينفذوا ذلك على وجه السرعة سيما وأني أُصبت بهزال شديد، ولم أعد أنم ليلا، أسعل طول الوقت. كلما ذكّرت ممرضا عسكريا من باب الواد بالتقرير الذي يوصي فيه الطبيب بنقلي للمستشفى كان يقول لي:
ــ "ياكما نسيتو ما درتو فينا في 63؟" ثم يتركني.
لم أجد في تلك الأيام الشقية سندا سوى ثلاثة من إخوتي المغاربة. إخوة استعبدنا السجان معا وآخَت ظروف الأسر القاسية بين قلوبنا. صرنا كما لو أنجبَنا رحِمٌ واحد. يقوم مصطفى تعيسات ابن صفرو بوضعي بين رُكبتيه كل ليلة كي أتمكن من النوم ولو قليلا. يُخرجني إيشُّو وعمرو لحسن من إِكْنِيوْن كل صباح للشّمس ويبقى بقُربي ساعة أو بعضها ثم يحملني نحو فراشي.
لم أكن أقوى على التحرك. كومة من العظام التي تجمعها جلود ضامرة بعيون جاحظة وأسنان بارزة. ثالث إخوتي الذين لم تلدهم لي أُمي؛ مكناسي يُدعَى حميد بغدادي. يُنادَى عليه كلما رغب ينادى عليه كلما رغب عمال المطبخ في تنظيف الخضر وتقشيرها لإعداد الغذاء للعسكر والمساجين.. كان يغامر بأن يختلس حبة أو حبتين من الطّماطم، يخفيها في ملابسه ويأتيني بها. بتلك الحبة أسُدّ الرمق وأحافظ على ذلك الخُيَيْط الهش الذي يربطني بعالم الأحياء. ولم يمنعه ما فعله السجان ذلك اليوم بالموريتاني عندما سرق علبة سردين من أن يأتي إلي كل مرة ويمد إليّ تلك الحبة..
كانوا إخوتي الذين كانوا يرعوني في قمة عجزي ومرضي وكنت أرى في عيونهم كلما نظرتُ إلى أحدهم أنهم يؤمنون كل ليلة أنهم سيدفنوني في الصّباح، وتشرق.شمس الموالي وأنا ما أزال أسعل والقلب يأبى أن يوقف النبض.
بعد أيام كثيرة من المرض والإصرار على الحياة جاء ممرض جديد مكان ذلك الذي ظل يكرّر علي لازمة 63 كلما ذكّره أحد بكومة العظام هاته التي لا تكف عن السعال، تلك الكومة التي كُنتها. عرضني ذلك الممرض العسكري على الطبيب، فوجدته نفس الرجل الذي فحصني آخر مرة.
سمعته يُخبر ذلك الجندي الممرض أنه سبق أن أوصى بأن أُنَقّل للمستشفى مرتين، واستغربَ كيف لم يُعجلّوا بذلك.
نُقلت يومهَا على وجه السرعة نحو مشفى صغير خاص بمرضى الربو والرئة. يوجد هذا المستشفى نواحي العاصمة الجزائرية واسمه تيزي، لكنه تابع للمستشفى الكبير مصطفى باشا.
لم تكن لدي فرصة لتوديع إخوتي ورفاقي في الأسر وشكرهم على كل ما فعلوه من أجلي، فقد لا أعود وقد لا ألتيقهم مرة أخرى، وأسوأ ما في الموت أن تتمنى لقاءً وتسلم بعدها روحك مطمئنا، ولا يُكتب لك هذا اللقاء. عندما تم نقلي كانوا هم في الشغل اليومي المفروض على الأسرى. ذلك الشغل المتعلق بالنظافة ومساعدة الطباخين في إعداد طعام المساجين والعسكر.
قضيت هناك ثلاثة أشهر كاملة، ممددا على السرير في غرفة مطلة على الشارع، وحارس لا يبرح قُربي. لم يُصفّدني، لكنه كان يلازمني كظلي.. لا أحدثه ولا هو يسألني. يعرف مهمته لذلك يقوم بها في صمت. في أوقات الزيارة التي ينعم بها المرضى الممددين في الغرف المجاورة، لم يكن هناك أحد ليزورني، كُنت وَحيدا كالخطيئة. أنظر إلى رجال ونساء وأطفال بين الغدو والرواح، يحملون أطعمة وملابس لمرضاهم، وأنا ممدد على فراشي لا أحد يخصص سويعة من عمره لكي يتمنّى لي الشفاء أو يبتسم في وجهي.
حياة الأسر أفضل لي من الحياة في هذا المشفى الذي أعيش فيه منبوذا كقِطٍّ أجرب. لم أكن أشتهي طعاما أو هدية يحملها إلي قريب، بقدر ما تمنيت أن يزورني شخص ما. يسألني عن وضعي هذا اليوم. ولا أحد يزور هذا الجندي الراقد هنا في هذه الحجرة، لا أحد يزوره سوى الأمراض التي تتزاحم في جسده كما لو انقرضت الأجساد.
ذات يوم زارتني عائلة جزائرية. كان لهم مريض ينام بالغرفة المجاورة. لم نكن عادة نتبادل أي حديث في السياسة أو في أمور الواقع، كل ما نفعله عندما يخرج حارسي ليجب القهوة لنفسه، أو ليدخن سيجارة قرب الباب هو أن نتبادل التحية ونتمنى لكلانا الشفاء العاجل. التقينا أول مرة ونحن ننتظر دورنا للكشف بعيدا عن غرفتنا. بعدها التقينا مرات عديدة قرب المرحاض المشترك بالصدفة، لم نكن نتحدث في السياسة ولا الأسر، نتمنى لبعضنا الشفاء العاجل ونتمتم لنا وللجميع بدعوات بطول العمر والصحة الوفيرة.
تحدثنا مرات قليلة عن الأمراض التي تنخر جسدينا، واكتشف من لهجتي أني لست جزائريا، فأخبرته أني مغربي دون أن أشرح له وضعيتي.. ربما خشيت أن يتراجع عن تعاطفه معي، مثلما فعل أحد الأطباء في هذا المستشفى، إذ ما أن علم أني أسير مغربي حتى تغيرت معاملته معي وعاملني بجفاء ولا إنسانية.
عندما جاءت عائلته لتزوره قدموا لي نصف طعامه عندما أَخبرهم أني مغربي. كانت رفقتهم طفلة صغيرة وجاءت لتلعب معي، كانت تمسك مجموعة المفاتيح بها مقص أظافر. تناديني "أخي محمد"، وتحاول أن تذكرني بأشياء تعتقد أنها جمعتنا معا في حياة سابقة، وأنا لا أريد أن أخبرها بالحقيقة، أتمادى مع اعتقادها لعلي أساهم في فرحتها اللحظية. تتكلم وتحكي لي عن ذكريات لم أعشها وأنا أُحرك رأسي فيما يفيد الإيجاب. عندما هامت تلك العائلة بالمغادرة تشبثت الطفلة الصغيرة بطرف ثوبي، وبقيت تبكي. قالت إني أخوها محمد، وأنني يجب أن أذهب معهم للبيت أو تبقى هي معي. تذكرت وقتها ذلك الصّحراوي الذي أصَرّ على أني ابن عمته في أول يوم تم أسري، لكن هذه الطفلة لا تشبهه، والبراءة تسطع في وجهها الجميل. لما هاموا بالمغادرة اغرورقت عيناي بالدموع، وأصرّوا عليّ أن أُخبرهم بما أشتهيه كي يأتوا لي به في المرة المقبلة. لهج لساني بالشكر وأنا أقول في نفسي أن ما أشتهيه أيها الكرام هو حريتي، وهي ليست بين يديكم ولا توجد في كل محلات المدينة كي تبتاعوا لي منها شيئا، فهي لا تقبل القسمة، تؤخذ كُلها أو تترك.
لكن ذلك اليوم كان مشهودا في أيام مكوثي في ذلك المستشفى. على الأقل شعرت فيه أن هناك من خصص دقائق من عمره لعيادتي.
بعد يومين من تلك الزيارة جاءني الطبيب وفحصني وقال لي:
ـ "الله يلعنك، أنت عامل كي الميزان. مرة تزيد مرة تنقص.
بعد الفحص قال لحارسي أني مريض بالقلب، وأمر أن أُنْقَل إلى قسم أمراض القلب بمستشفى مصطفى باشا. عدت إلى سريري، وفي الغد تم نقلي إلى القسم الخاص بمرضى القلب والشرايين. كانت غرفتي في الطابق الرابع، فسيحة تطل على البحر. نسيم البحر البارد أصابني بنزلة برد حادة، عُدت أسعل من جديد. مكثت في تلك الغرفة المشرعة نحو البحر قرابة أسبوعين، فاقترح عليهم حارسي أن أعود إلى الغرفة التي جئت منها مع اشتداد سعالي. قبل أن تتم إعادتي للغرفة التي جئت منها، زارني شخص مجهول. اغتنم فرصة ذهاب حارسي ليجلب كأس قهوة في مقصف المستشفى أو بمقهى قريب. ولج الرجل غرفتي فجأة وبدأ يسألني بتتابع؛ "سميتك، مدينتك المغربية التي جئت منها، العمالة، دوارك، قبيلتك، اسم عائلتك، تاريخ أسرك، مكان أسرك وكم عددنا في الأسر؟
كان السائل رجلا مرتبكا، أبيض البشرة نحيل الجسم. يضع نظارات طبية ويرتدي جلبابا رمادي اللون. كان حليق الرأس ويغطيه بقُبّ الجلباب.
أجبت على أسئلته كطفل يستظهر واجبا منزليا دون أن أسأله عن هويته. عندما خرج بأقل من دقيقة دخل حارسي يحمل كأس قهوة. سألني إن كان أحدٌ ما قد خرج من غُرفتي توا. لست أدري من أوحى لي أن أُنكر ذلك، خمنتُ أن يكون صاحب الجلباب حليق الرأس من المخابرات المغربية.
بعد أسبوعين في جناح القلب عُدت إلى مكاني الأول، لم أمكث فيه سوى بضعة أيام. كتب لي الطبيب وصفة دواء علي الالتزام بها سنة كاملة، وسمح بمغادرتي.
ركبت سيارة إسعاف، وانطلقت بضع أمتار، تم توقفت في قسم آخر لنقل قبطان ينادونه زكاي، يتم نقله كل صباح وإعادته كل مساء إلى زنزانته تحت الأرض بالبليدة، إذ يتلقى علاجا في قدمه التي أصابها طلق رصاصي.
وجدت رفاقي قد تصدّقوا بأغطيتي لأسير جديد من ورزازات، لأن المدة التي قضيتها في المستشفى جعلهم يصلون عليّ صلاة الغائب اعتقادا منهم أني ودّعتُ هذا العالم الموبوء. لكن القلب يرفض إلا أن يواصل النبض.






    رد مع اقتباس
قديم 2015-07-06, 22:42 رقم المشاركة : 10
express-1
بروفســــــــور
 
الصورة الرمزية express-1

 

إحصائية العضو








express-1 غير متواجد حالياً


وسام التميز لشهر مارس 2012

افتراضي رد: عليلوش .. حكاية مغربي قضى ربع قرن بسجون الجزائر


عليلوش: تعلمتُ الكتابة في الأسر بفحم صناديق الخضر


هسبريس ـ ميمون أم العيد
الاثنين 06 يوليوز 2015 - 20:30
24 سنة و 9 أشهر و26 يوما، هي المدة التي قضَاها الجندي عْدِّي عْليلوش داخل السجون الجزائرية كأسير حرب. عاد ذات ليلة إلى قريته بعدما تم إطلاق سراحه تحت رعاية الصّليب الأحمر الدولي. وجد زوجته قد تزوجت غيره، وصارت جدّة.
وجد النقود المتداولة في البلد قد تغيرت، وأثمنة المواد قد تضاعفت أربع مرات، والناس غير الناس. أسير عانى الويلات رفقة زملائه دفاعا عن الصّحراء المغربية، وكثير منهم قضى نحبه داخل سجون البوليساريو.. في هذه الزاوية نسرد في حلقات خلال هذا الشهر الفضيل سيرة هذا الرجل، ومعاناته في السجون التي قضى بها ربع قرن.

(10)
سلّم لي عْدّي مجموعة من الصفحات التي كتبها بخط يده عن ذكرياته المريرة، استعنت بها رفقة التسجيلات لأكتب هذه الحلقات، صفحات كتبها بالدارجة والأمازيغية والقليل من الفصحى. وأثناءَ جلساتنا، كلما سألته عن مصدر معلومة أدلى بها يقول لي قرأتها في جريدة كذا، أو في كتاب كذا. فسألته عن كيفية تعلمه القراءة والكتابة وهو الذي أقَرّ في بداية حديثنا أنه كان لا يقرأ ولا يكتب قبل الأسر، والحروف كانت بالنسبة إليه كتمائم الدجّالين والمشعوذين. فقال:
سبق لي أن ذكرتُ اسم أسير اسمه بغدادي حميد. كان هذا الرجل متعلما، وكنت أنا وإشو وعمرو لحسن وسليمان بباهي بنفس الغرفة لا نفرق بين الألف ومضرب الطبل. كنا وقتها بنفس الغرفة منذ سنة 1976. كانت لنا رغبة كبيرة في التعلم، وكم كانت أمنيتي أن آخذ صفحة من كتاب ما أو جريدة وأعرف ما بها من أولها إلى آخرها.
منيت نفسي أن يأتي يوم أستطيع فيه أن أكتب رسائل لأهلي وأقرأ أجوبتهم دون أن أضطر دائما إلى أن يشاركني طرف ثالث الأخبار والأسرار الصّغيرة. سيكون الأمر جميلا. طلبنا من بغدادي أن يعلّمنا أَلِفٌ بَاءٌ على الأرض. أن يخط بأصبعه الحروف على الرمل ونفعل مثله. اقترح علينا أن نجلب بعض الخشب ونحرقه ثم يعلمنا على الحائط بدل الأرض. سرقنا خلسة بعض الصّفائح الخشبية من صناديق الخضر، حرقناها في المرحاض حتى تفحمت وغدت مثل الطبشور، وإن كان أسود إلا أن رغبتنا في التعلم تُبَدّل في أعيننا لون الفحم ليغدو بألوان قوس قزح الزاهية.
بدأ أستاذنا حميد يعلمنا الحروف الأبجدية، طريقة كتابتها وكيفية نُطقها. كان يعلمنا في أوقات القيلولة وبداية الليل. مرة دخل علينا القبطان الطّاهري، ووجدنا مُصْطَفّين نُحملق في ذلك الرجل الذي يعلمنا كيف نكتب الحروف والأرقام، وكيف نرصّ رموزا مع بعضها لتعطينا كلمات ذات معانٍ. وجد يدي معلمنا ملطخة كميكانيكي يفكك أجزاء سيارة. أعجبه إصرارنا على التعلم بتلك الأدوات البدائية، فوعدنا أن يزودنا بسبورة من الكارتون، وبعض قطع الطباشير التي يتوفر عليها في مكتبه، شريطة أن يسمح القبطان الجزائري بذلك.
لما جاء المسئول الجزائري أخبره الطّاهري برغبتنا في التعلم، وحاجتنا للمساعدة من أجل ذلك فرفض. أجابه بأن هؤلاء الأسرى يوجدون في هذا المكان للعقاب وليس لطلب العلم.
توقفنا عن تعلم الحروف والأرقام مدة أسبوع، سيما أن معلمنا خشي أن تنزل عليه إدارة المعتقل عقوبة إضافية. لكننا توكلنا على الله، واستأنفنا جلسات التعلم بعد انقضاء الأسبوع.
عندما جاء المسئول الجزائري في المرة المقبلة، فاتحه القبطان الطّاهري في موضوع التعلم مرة أخرى. أقنعه أن هؤلاء الأسرى أغلبهم أمي لا يفك شفرة الأرقام والأعداد، وأن مسألة تعلمهم لن تؤثر في السير العادي للمعتقل.
قد يكون يومها في مزاج رائق، المهم أنه وافق على تعلمنا، وجاءنا الطاهري يحمل إلينا دفترا وقلما لكل متعلم وسبورة وقطعا من الطباشير. فاستبدلنا لون الفحم الأسود باللون الأبيض الذي يغري بالقراءة.
كان عددنا سبعة، ثم بلغ 10. بدأت مطالبنا بالحصول على اللوازم تزداد، وبدل معلم واحد أصبح لنا معلمون، بعد أيام بدأ عدد الراغبين في التعلم يزداد، خاصة مع تنوع المواد من عربية وفرنسية وحساب. حتى الذين تعلموا قبل أسرهم يصرون على الالتحاق بنا لملء الفراغ وتمضية الساعات الطويلة داخل المعتقل. بدأ التجمع يكبر وبدأت المشاكل تظهر، فدخلنا في دوامة من المواجهات مع سلطات المعتقل، إلى أن تم منع ذلك منعا مطلقا مع تهديد المعلمين وكل من يساعد الأسرى في تعلم حروف قد تنفعهم يوما.
سنة 1977 صدر قرار يسمح بتعلم الأسرى والمساجين فعدنا إلى جلساتنا التي تنظمت أكثر، بعد سنة من ذلك أصدر الرئيس بومديان قرارا آخر يسمح بتخصيص ميزانية لكل شخص أجنبي دخل التراب الجزائري، سواء كان زعيما أو معارضا أو مرتزقا أو إرهابيا. جعل من الجزائر قبلة لكل هارب حسب شروط تصب في مصلحة بلده، إذ جعل من هؤلاء رأسمال يضغط بها على الدول المجاورة، لتسخيرهم مستقبلا في أعمال إرهابية أو تخريبية وغير ذلك. أرادوا أن يُقحموننا في نفس الفئة ما دمنا نستفيد من ميزانية للتعلم، فأخبرناهم بأننا غير الذين يتحدثون عنهم. نحن لم نلتحق بهذا البلد بمحض إرادتنا. نحن أسرى حرب وحدتنا الترابية، وأن هذا الوضع لن يغير من موقفنا بأن الصحراء مغربية، وأنه من أجل ذلك نحن هنا.
استمر تعلمنا، ومع توالي الأيام نستطيع قراءة الكلمات والنصوص باللغتين العربية والفرنسية، إلى أن توفي معلم الفرنسية عزيز حميد سنة 1984. كان رجلا صبورا مثابرا، يتحمل بلاهتنا وقلة علمنا، ويعاملنا بحب. توقفنا كثيرا حزنا على رحيله، ثم اقتنعنا بعد ذلك أن أحسن طريقة للترحم عليه هي أن نواصل المشوار الذي كان يشجعنا عليه. أسوأ هدية يقدمها تلميذ لمعلمه هي أن ينسى نصائحه ويغادر سكة التعلم.
استمرت قافلة رغبتنا في التعلم بدونه ثلاث سنوات، إذ تم سنة 1987 إطلاق سراح دفعة من الأسرى، وكان عددهم 150 شخصا، ومن سوء حظنا أن تلك الدفعة ضمت 3 معلمين من الذين كرّسوا حياتهم في الأسر لتعليمنا، فتوقفت تلك العملية بشكل نهائي. كان تعلمنا حافزا لنا في الكثير من المحطات، أول فواكه اجتماعنا اليومي وتوحيد كلمتنا في أمور عديدة، منذ بداية تلك العملية بأساليب بدائية إلى أن بدأنا نفك شفرة الكلمات والنصوص. تعلمنا جعلنا نجتمع، نتداول، نتعارف وتتلاقح ثقافاتنا، غيّر نظرتنا لأمور كثيرة، قرّبَ نظراتنا لقضايانا المصيرية.
ففي أبريل من سنة 1978، تفتقت مخيلة مسئولي الجزائر بتصوير فيلم عن البوليساريو. لا أذكر موضوع الفيلم ولا حبكته بالضبط، لكنني أتذكر أن الهدف كان تقديم البوليساريو للعالم في منتوج سينمائي. قاموا بملء ساحة المعتقل الكبيرة بالرمل لصناعة ديكور يشبه الصحراء. جلبوا عسكريين وألبسوهم زي البوليساريو، وتمت المناداة علينا للتمثيل في الفيلم كأسرى. أرغمونا على الخروج إلى تلك الساحة بكل وسائل القمع المتاحة لديهم. بعد ذلك رفعوا قطعة ثوب اتخذوها علما للبوليساريو. أمرونا أن نقف لتحية هذا العلم. ثارت ثائرتنا، وأخبرناهم أننا لن نقف لهذا الثوب ولو على جثتنا.
دفعني المسئول، كما دفع إيشو وْعمر وبباهي، فقد كنا قربه وقته وسَمِعَنا نؤكد رفضنا للأمرـ واش راكم محابْسْ عندنا وكَاتْعْنتُو علينا.
غضب غضبا شديدا. أمر العسكر بتركيب سكاكين الكلاش في مقدمة أسلحتهم النارية. أحاط الحراس بالأسرى ثم قال لهم:
ــ ملّي نعطي الأمر، طعنوهم..
لقد آمنّا عندما رأينا تلك القطعة من الثوب أن الوقوف لها إهانة كبيرة لكل الشهور التي قضيناها هنا، لأهلنا الذين شاخوا من انتظارنا، لوطننا الذي رُحّلنا منه قسرا ونحن ندافع عن جزء منه، ولم تلن مواقفنا رغم التهديد والوعيد وحرماننا من الطعام. لما اقترب مغيب الشمس بادر الممثلون والتقنيون إلى حمل آلاتهم قاصدين وجهة ما.
قال مسئول المعتقل لليوتنان أورحو:
ـ أنت يا دين الكلب من حرضهم علينا.
ـ أنا أسير مثلهم ولا سلطة لي على أحد.
ـ سيرحل هؤلاء الضيوف بعد حين، وسيكون لدي الوقت الكافي لأعذبكم كما أشتهي.
لم يقدموا لنا العشاء في ذلك المساء، مع ذلك أحسسنا بالشبع، شعرنا أننا قدمنا لوطننا شيئا فأشعرنا ذلك ببعض الزهو.
في الليل تداولنا فيما بيننا على عدم تناول فطور الصباح أيضا، أن نخوض إضرابا عن الطعام، وأن تكون مطالبنا حضور مسئول كبير لإخباره بكل ما نعانيه. نحن أسرى حرب ولا يحق لهم إجبارنا على تحية رمز من رموز دولة ذات سيادة، فكيف نحيي رمز عصابة.
اتفقنا أن نلج مطعم المعتقل في الصباح صامتين، لا نأكل طعاما ولا نكلم إنسيا. لا نصرح بصاحب الفكرة، وأن نتحمل جميعا مسئولية ما يحدث وما سيحدث.
صباحا.. سبقنا ليوتنان أورحو للمطعم للوقوف على التنظيم واقتفينا أثره. جلسنا جميعنا في أماكننا دون أن نتناول فطور الصباح. أردنا أن نقول لهم بأنهم وإن حرمونا من عشاء الأمس عقابا فها نحن نتنازل بمحض إرادتنا عن فطور اليوم.
نودي على المسئول المشرف عن المعتقل، بدأ بالسب والتهديد كعادته، ثم أدرك بعد أن صمت لبعض الوقت أن التهديد لم ينفع فليَّنَ قليلا من عبارته:
يجب أن تعرفوا بأننا لا نعامل كمساجين، أنتم ضيوف عندنا. نحن لم نعتقلكم في الصحراء، فقط جلبناكم إلى هذا المكان إنسانية منا، حتى لا تموتوا من الجوع والقمل.
فجأة جاء عسكري وأسَرّ في أذنه كلاما لم نسمعه، لكنه كان كلاما جليلا، فقد تغيرت ملامح الرجل وبدا مرتبكا مرتعدا.
خرج مهرولا، بينما لم نغادر أمكنتنا، بعد دقيقتين عاد رفقة الكولونيل بن هوشات المفتش العام للقوات، ومستشار رئيس الجمهورية بومديان. وجدنا في صف مثير فسألنا:
ـ من أخبركم بمجيئي لتصطفوا هكذا؟
ـ نحن يا مُونْ كولونيلْ لا علم لنا بقدومك، نحن في إضراب عن الطعام بسبب الفيلم، الفيلم الذي تريدون فيه منا أن نقف لرموز البوليساريو. نحن يا مُونْ كولونيل أسرى حرب، لسنا أحرارا كي يتم استغلالنا في تمثيل أفلام دون رغبتنا. نحن يا مُون كولونيل، أسرى حرب، وليس من حقكم أن تجبرونا للوقوف لتحية رمز ما حتى ولو كان أحد رموز دولتكم. والمسئول يا مُونْ كولونيل يتوعدنا بأشد العذاب لأننا لم نسايره في هذا الفيلم.
التفت إلى رئيس المحبس، كان ينظر إلى كتفه ليعرف رتبته، لم يجد نياشين على أكتافه فسأله:
ـ بأي رتبة أنت؟
ـ قبطان يا مون كولونير، فقط تكسرت نياشيني قبل يومين وضاعت مني.
ـ يلعن..، اخرج من هنا، كيف تتجرأ على الدخول إلى المحبس دون أن تكون على أكتافك نياشين.






    رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are معطلة


مــــواقـــع صـــديــقــة مــــواقـــع مـــهــــمــــة خـــدمـــــات مـــهـــمـــة
إديــكـبـريــس تربويات
منتديات نوادي صحيفة الشرق التربوي
منتديات ملتقى الأجيال منتديات كاري كوم
مجلة المدرس شبكة مدارس المغرب
كراسات تربوية منتديات دفاتر حرة
وزارة التربية الوطنية مصلحة الموارد البشرية
المجلس الأعلى للتعليم الأقسام التحضيرية للمدارس العليا
مؤسسة محمد السادس لأسرة التعليم التضامن الجامعي المغربي
الصندوق الوطني لمنظمات الاحتياط الاجتماعي التعاضدية العامة للتربية الوطنية
اطلع على وضعيتك الإدارية
احسب راتبك الشهري
احسب راتبك التقاعدي
وضعية ملفاتك لدى CNOPS
اطلع على نتائج الحركة الإنتقالية

منتديات الأستاذ

الساعة الآن 12:55 لوحة المفاتيح العربية Profvb en Alexa Profvb en Twitter Profvb en FaceBook xhtml validator css validator

RSS RSS 2.0 XML MAP HTML
جميع المواد المنشورة بالموقع تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر بأي شكل من الأشكال عن رأي الموقع ولا يتحمل أي مسؤولية عنها

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd