عرض مشاركة واحدة
قديم 2015-07-06, 22:42 رقم المشاركة : 10
express-1
بروفســــــــور
 
الصورة الرمزية express-1

 

إحصائية العضو








express-1 غير متواجد حالياً


وسام التميز لشهر مارس 2012

افتراضي رد: عليلوش .. حكاية مغربي قضى ربع قرن بسجون الجزائر


عليلوش: تعلمتُ الكتابة في الأسر بفحم صناديق الخضر


هسبريس ـ ميمون أم العيد
الاثنين 06 يوليوز 2015 - 20:30
24 سنة و 9 أشهر و26 يوما، هي المدة التي قضَاها الجندي عْدِّي عْليلوش داخل السجون الجزائرية كأسير حرب. عاد ذات ليلة إلى قريته بعدما تم إطلاق سراحه تحت رعاية الصّليب الأحمر الدولي. وجد زوجته قد تزوجت غيره، وصارت جدّة.
وجد النقود المتداولة في البلد قد تغيرت، وأثمنة المواد قد تضاعفت أربع مرات، والناس غير الناس. أسير عانى الويلات رفقة زملائه دفاعا عن الصّحراء المغربية، وكثير منهم قضى نحبه داخل سجون البوليساريو.. في هذه الزاوية نسرد في حلقات خلال هذا الشهر الفضيل سيرة هذا الرجل، ومعاناته في السجون التي قضى بها ربع قرن.

(10)
سلّم لي عْدّي مجموعة من الصفحات التي كتبها بخط يده عن ذكرياته المريرة، استعنت بها رفقة التسجيلات لأكتب هذه الحلقات، صفحات كتبها بالدارجة والأمازيغية والقليل من الفصحى. وأثناءَ جلساتنا، كلما سألته عن مصدر معلومة أدلى بها يقول لي قرأتها في جريدة كذا، أو في كتاب كذا. فسألته عن كيفية تعلمه القراءة والكتابة وهو الذي أقَرّ في بداية حديثنا أنه كان لا يقرأ ولا يكتب قبل الأسر، والحروف كانت بالنسبة إليه كتمائم الدجّالين والمشعوذين. فقال:
سبق لي أن ذكرتُ اسم أسير اسمه بغدادي حميد. كان هذا الرجل متعلما، وكنت أنا وإشو وعمرو لحسن وسليمان بباهي بنفس الغرفة لا نفرق بين الألف ومضرب الطبل. كنا وقتها بنفس الغرفة منذ سنة 1976. كانت لنا رغبة كبيرة في التعلم، وكم كانت أمنيتي أن آخذ صفحة من كتاب ما أو جريدة وأعرف ما بها من أولها إلى آخرها.
منيت نفسي أن يأتي يوم أستطيع فيه أن أكتب رسائل لأهلي وأقرأ أجوبتهم دون أن أضطر دائما إلى أن يشاركني طرف ثالث الأخبار والأسرار الصّغيرة. سيكون الأمر جميلا. طلبنا من بغدادي أن يعلّمنا أَلِفٌ بَاءٌ على الأرض. أن يخط بأصبعه الحروف على الرمل ونفعل مثله. اقترح علينا أن نجلب بعض الخشب ونحرقه ثم يعلمنا على الحائط بدل الأرض. سرقنا خلسة بعض الصّفائح الخشبية من صناديق الخضر، حرقناها في المرحاض حتى تفحمت وغدت مثل الطبشور، وإن كان أسود إلا أن رغبتنا في التعلم تُبَدّل في أعيننا لون الفحم ليغدو بألوان قوس قزح الزاهية.
بدأ أستاذنا حميد يعلمنا الحروف الأبجدية، طريقة كتابتها وكيفية نُطقها. كان يعلمنا في أوقات القيلولة وبداية الليل. مرة دخل علينا القبطان الطّاهري، ووجدنا مُصْطَفّين نُحملق في ذلك الرجل الذي يعلمنا كيف نكتب الحروف والأرقام، وكيف نرصّ رموزا مع بعضها لتعطينا كلمات ذات معانٍ. وجد يدي معلمنا ملطخة كميكانيكي يفكك أجزاء سيارة. أعجبه إصرارنا على التعلم بتلك الأدوات البدائية، فوعدنا أن يزودنا بسبورة من الكارتون، وبعض قطع الطباشير التي يتوفر عليها في مكتبه، شريطة أن يسمح القبطان الجزائري بذلك.
لما جاء المسئول الجزائري أخبره الطّاهري برغبتنا في التعلم، وحاجتنا للمساعدة من أجل ذلك فرفض. أجابه بأن هؤلاء الأسرى يوجدون في هذا المكان للعقاب وليس لطلب العلم.
توقفنا عن تعلم الحروف والأرقام مدة أسبوع، سيما أن معلمنا خشي أن تنزل عليه إدارة المعتقل عقوبة إضافية. لكننا توكلنا على الله، واستأنفنا جلسات التعلم بعد انقضاء الأسبوع.
عندما جاء المسئول الجزائري في المرة المقبلة، فاتحه القبطان الطّاهري في موضوع التعلم مرة أخرى. أقنعه أن هؤلاء الأسرى أغلبهم أمي لا يفك شفرة الأرقام والأعداد، وأن مسألة تعلمهم لن تؤثر في السير العادي للمعتقل.
قد يكون يومها في مزاج رائق، المهم أنه وافق على تعلمنا، وجاءنا الطاهري يحمل إلينا دفترا وقلما لكل متعلم وسبورة وقطعا من الطباشير. فاستبدلنا لون الفحم الأسود باللون الأبيض الذي يغري بالقراءة.
كان عددنا سبعة، ثم بلغ 10. بدأت مطالبنا بالحصول على اللوازم تزداد، وبدل معلم واحد أصبح لنا معلمون، بعد أيام بدأ عدد الراغبين في التعلم يزداد، خاصة مع تنوع المواد من عربية وفرنسية وحساب. حتى الذين تعلموا قبل أسرهم يصرون على الالتحاق بنا لملء الفراغ وتمضية الساعات الطويلة داخل المعتقل. بدأ التجمع يكبر وبدأت المشاكل تظهر، فدخلنا في دوامة من المواجهات مع سلطات المعتقل، إلى أن تم منع ذلك منعا مطلقا مع تهديد المعلمين وكل من يساعد الأسرى في تعلم حروف قد تنفعهم يوما.
سنة 1977 صدر قرار يسمح بتعلم الأسرى والمساجين فعدنا إلى جلساتنا التي تنظمت أكثر، بعد سنة من ذلك أصدر الرئيس بومديان قرارا آخر يسمح بتخصيص ميزانية لكل شخص أجنبي دخل التراب الجزائري، سواء كان زعيما أو معارضا أو مرتزقا أو إرهابيا. جعل من الجزائر قبلة لكل هارب حسب شروط تصب في مصلحة بلده، إذ جعل من هؤلاء رأسمال يضغط بها على الدول المجاورة، لتسخيرهم مستقبلا في أعمال إرهابية أو تخريبية وغير ذلك. أرادوا أن يُقحموننا في نفس الفئة ما دمنا نستفيد من ميزانية للتعلم، فأخبرناهم بأننا غير الذين يتحدثون عنهم. نحن لم نلتحق بهذا البلد بمحض إرادتنا. نحن أسرى حرب وحدتنا الترابية، وأن هذا الوضع لن يغير من موقفنا بأن الصحراء مغربية، وأنه من أجل ذلك نحن هنا.
استمر تعلمنا، ومع توالي الأيام نستطيع قراءة الكلمات والنصوص باللغتين العربية والفرنسية، إلى أن توفي معلم الفرنسية عزيز حميد سنة 1984. كان رجلا صبورا مثابرا، يتحمل بلاهتنا وقلة علمنا، ويعاملنا بحب. توقفنا كثيرا حزنا على رحيله، ثم اقتنعنا بعد ذلك أن أحسن طريقة للترحم عليه هي أن نواصل المشوار الذي كان يشجعنا عليه. أسوأ هدية يقدمها تلميذ لمعلمه هي أن ينسى نصائحه ويغادر سكة التعلم.
استمرت قافلة رغبتنا في التعلم بدونه ثلاث سنوات، إذ تم سنة 1987 إطلاق سراح دفعة من الأسرى، وكان عددهم 150 شخصا، ومن سوء حظنا أن تلك الدفعة ضمت 3 معلمين من الذين كرّسوا حياتهم في الأسر لتعليمنا، فتوقفت تلك العملية بشكل نهائي. كان تعلمنا حافزا لنا في الكثير من المحطات، أول فواكه اجتماعنا اليومي وتوحيد كلمتنا في أمور عديدة، منذ بداية تلك العملية بأساليب بدائية إلى أن بدأنا نفك شفرة الكلمات والنصوص. تعلمنا جعلنا نجتمع، نتداول، نتعارف وتتلاقح ثقافاتنا، غيّر نظرتنا لأمور كثيرة، قرّبَ نظراتنا لقضايانا المصيرية.
ففي أبريل من سنة 1978، تفتقت مخيلة مسئولي الجزائر بتصوير فيلم عن البوليساريو. لا أذكر موضوع الفيلم ولا حبكته بالضبط، لكنني أتذكر أن الهدف كان تقديم البوليساريو للعالم في منتوج سينمائي. قاموا بملء ساحة المعتقل الكبيرة بالرمل لصناعة ديكور يشبه الصحراء. جلبوا عسكريين وألبسوهم زي البوليساريو، وتمت المناداة علينا للتمثيل في الفيلم كأسرى. أرغمونا على الخروج إلى تلك الساحة بكل وسائل القمع المتاحة لديهم. بعد ذلك رفعوا قطعة ثوب اتخذوها علما للبوليساريو. أمرونا أن نقف لتحية هذا العلم. ثارت ثائرتنا، وأخبرناهم أننا لن نقف لهذا الثوب ولو على جثتنا.
دفعني المسئول، كما دفع إيشو وْعمر وبباهي، فقد كنا قربه وقته وسَمِعَنا نؤكد رفضنا للأمرـ واش راكم محابْسْ عندنا وكَاتْعْنتُو علينا.
غضب غضبا شديدا. أمر العسكر بتركيب سكاكين الكلاش في مقدمة أسلحتهم النارية. أحاط الحراس بالأسرى ثم قال لهم:
ــ ملّي نعطي الأمر، طعنوهم..
لقد آمنّا عندما رأينا تلك القطعة من الثوب أن الوقوف لها إهانة كبيرة لكل الشهور التي قضيناها هنا، لأهلنا الذين شاخوا من انتظارنا، لوطننا الذي رُحّلنا منه قسرا ونحن ندافع عن جزء منه، ولم تلن مواقفنا رغم التهديد والوعيد وحرماننا من الطعام. لما اقترب مغيب الشمس بادر الممثلون والتقنيون إلى حمل آلاتهم قاصدين وجهة ما.
قال مسئول المعتقل لليوتنان أورحو:
ـ أنت يا دين الكلب من حرضهم علينا.
ـ أنا أسير مثلهم ولا سلطة لي على أحد.
ـ سيرحل هؤلاء الضيوف بعد حين، وسيكون لدي الوقت الكافي لأعذبكم كما أشتهي.
لم يقدموا لنا العشاء في ذلك المساء، مع ذلك أحسسنا بالشبع، شعرنا أننا قدمنا لوطننا شيئا فأشعرنا ذلك ببعض الزهو.
في الليل تداولنا فيما بيننا على عدم تناول فطور الصباح أيضا، أن نخوض إضرابا عن الطعام، وأن تكون مطالبنا حضور مسئول كبير لإخباره بكل ما نعانيه. نحن أسرى حرب ولا يحق لهم إجبارنا على تحية رمز من رموز دولة ذات سيادة، فكيف نحيي رمز عصابة.
اتفقنا أن نلج مطعم المعتقل في الصباح صامتين، لا نأكل طعاما ولا نكلم إنسيا. لا نصرح بصاحب الفكرة، وأن نتحمل جميعا مسئولية ما يحدث وما سيحدث.
صباحا.. سبقنا ليوتنان أورحو للمطعم للوقوف على التنظيم واقتفينا أثره. جلسنا جميعنا في أماكننا دون أن نتناول فطور الصباح. أردنا أن نقول لهم بأنهم وإن حرمونا من عشاء الأمس عقابا فها نحن نتنازل بمحض إرادتنا عن فطور اليوم.
نودي على المسئول المشرف عن المعتقل، بدأ بالسب والتهديد كعادته، ثم أدرك بعد أن صمت لبعض الوقت أن التهديد لم ينفع فليَّنَ قليلا من عبارته:
يجب أن تعرفوا بأننا لا نعامل كمساجين، أنتم ضيوف عندنا. نحن لم نعتقلكم في الصحراء، فقط جلبناكم إلى هذا المكان إنسانية منا، حتى لا تموتوا من الجوع والقمل.
فجأة جاء عسكري وأسَرّ في أذنه كلاما لم نسمعه، لكنه كان كلاما جليلا، فقد تغيرت ملامح الرجل وبدا مرتبكا مرتعدا.
خرج مهرولا، بينما لم نغادر أمكنتنا، بعد دقيقتين عاد رفقة الكولونيل بن هوشات المفتش العام للقوات، ومستشار رئيس الجمهورية بومديان. وجدنا في صف مثير فسألنا:
ـ من أخبركم بمجيئي لتصطفوا هكذا؟
ـ نحن يا مُونْ كولونيلْ لا علم لنا بقدومك، نحن في إضراب عن الطعام بسبب الفيلم، الفيلم الذي تريدون فيه منا أن نقف لرموز البوليساريو. نحن يا مُونْ كولونيل أسرى حرب، لسنا أحرارا كي يتم استغلالنا في تمثيل أفلام دون رغبتنا. نحن يا مُون كولونيل، أسرى حرب، وليس من حقكم أن تجبرونا للوقوف لتحية رمز ما حتى ولو كان أحد رموز دولتكم. والمسئول يا مُونْ كولونيل يتوعدنا بأشد العذاب لأننا لم نسايره في هذا الفيلم.
التفت إلى رئيس المحبس، كان ينظر إلى كتفه ليعرف رتبته، لم يجد نياشين على أكتافه فسأله:
ـ بأي رتبة أنت؟
ـ قبطان يا مون كولونير، فقط تكسرت نياشيني قبل يومين وضاعت مني.
ـ يلعن..، اخرج من هنا، كيف تتجرأ على الدخول إلى المحبس دون أن تكون على أكتافك نياشين.






    رد مع اقتباس