ليس في الإسلام مشكلة.. المشكلة في حكام المسلمين وفقهائهم
من الأحاديث المعروفة أن الإسلام دين الفطرة، وأنه يتسم ببساطة خاصة ورثها من ظهوره في صحراء متفتحة لا تعرف الأبواب أو السدود، تهب بها الرياح ليل نهار. وبين قوم لم يخضعوا لنير الملوك والأباطرة وأحكام الدولة المركزية، ولا كان في حياتهم الساذجة أي صورة من صور التعقيد. ومعروف أيضاً أن الإسلام ليس له كنيسة، وانه حارب الأحبار ورجال الدين الذين يقيمون أنفسهم بين الناس والله، وجعل تشريع هؤلاء وتحريمهم وتحليلهم نوعاً من الشرك كما يوضحه الحديث بين الرسول وعدي بن حاتم الذي كان يتدلى من رقبته صليب وقال للرسول إننا لم نعبد الكهنة دون الله فرد عليه الرسول أليس كانوا يحرمون ويحللون فلما أجاب بالإيجاب قال إن ذلك نوع من العبادة لغير الله.
كان يفترض والأمر كذلك أن لا تكون هناك مشكلة في الإسلام. ولكن الواقع غير ذلك فما أكثر المشاكل وما أكثر الأسئلة، وما أكثر الفتاوى وما أكثر الأوضاع التي تنافي الإسلام.
ليس في الإسلام مشكلة إذا قلنا إن الإسلام هو الله والرسول. هو القرآن والسُنة الثابتة، ولكن ما أكثر المشاكل التي يثيرها الفقهاء، وما أكثر البلاوي التي يهيلها الحكام على رؤوس المسلمين ليثقلوا بها ظهرهم فلا تعود فيهم قوة أو همة لمعارضة أو مطالبة وليجعلوهم ضياعاً كالأيتام في مأدبة اللئام .
ولسائل أن يسأل كيف لا يكون هناك مشكلة في القرآن والسُنة وهذه التلال "المتلتلة" من الشروح والحواشي عن التفسير والفقه والحديث؟ .
نقول إن هذا هو بيت القصد، ولو أننا ضربنا صفحاً عنها. كائنا ما كان الاسم الذي تحمله.. ورجعنا إلى القرآن الكريم نفسه لانحلت المشكلة .
ذلك أن تسعة أعشار القرآن الكريم آيات محكمة، بمعنى أنها واضحة، مفهومة وأنها عادة تتعلق بموضوعات من موضوعات الحياة. ولا يعسر على المثقف ثقافة عادية أن يلم بمعناها. وإذا عجز فيمكن أن يستعين بمعجم ألفاظ القرآن الكريم الذي وضعه الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي وخدم به القرآن خدمة تفوق كل ما قدمه المفسرون نقول: يرجع إليه ليرى مواضع الكلمة التي لم يفهمها في الآيات المختلفة، وسيجد في بعضها بيانا وتفصيلاً. وحتى لو لم يفهم نصف ما قرأه، فليس مفروضا على كل مسلم أن يلم بكل ما بين دفتي المصحف. وما كان الصحابة أنفسهم يحفظون إلا سوراً معدودة. بل كان بعضهم إذا قرأ عشر آيات لم ينتقل إلى غيرها حتى يعلم ما فيها من العلم والعمل. والقرآن الكريم ليس كتاباً كالكتب الأخرى تقرأ فيه الفصل الأول الذي يمهد للفصل الثاني والفصل الثاني الذي يرتبط به الفصل الثالث الخ، بحيث لا يفهم الكتاب إلا إذا ألم بفصوله، ولا هو برواية لا يعرف كل أحداثها وخاتمتها إلا عندما يقرأها كلها. القرآن أشبه بثوب قماش يكفي أن تقطع فيه "قصقوصة" في مثل عشر أو عشرين سنتيمتراً لتعرفه. تعرف لونه ونسيجه ولحمته وسداه. لأن القرآن يكرر معانيه في كل آياته فإذا ألممنا بعشر آيات أخذنا فكرة عما يريد القرآن بصفة عامة.
ويجب أن نعلم أن القرآن كتاب هداية وليس كتاب معلومة بمعنى أن غرضه هو هداية النفس والتأثير فيها بحكم صياغته، ونظمه، وقيّمه من خير أو عدل أو مساواة الخ. وهذا ما يحدث عندما يقرأ الإنسان القرآن بفكر مفتوح وقلب سليم وبروح خاشعة تلتمس الهداية. إن هذا يحدث نتيجة للانطباع كما يحدث في النفس سماع "سيمفونية"، إن هذا يحدث تلقائيا دون تفسير وقد كان هذا هو شأن المسلمين الأول في عهد الرسول، الذين ما إن سمعوا القرآن حتى آمنوا به .
وقد دعانا القرآن مراراً وتكراراً لأن نتدبر، هذا التدبر هو الذي سيؤكد لنا أنه من عند الله. فالقرآن لا يخشى التدبر، إنه يدعو إليه.. ]أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا[. 28 النساء.. ]أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَي قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا[. 24 محمد.. فضلاً عن آيات لا عداد لها تأمر بالتفكر وأمرنا _ حتى بالنسبة لآيات الله أن لا نخر عليها صما وعميانا .
ومن هنا فيجوز لنا إذا وجدنا نصاً قرآنيا أنزل لحكمة معينة كانت قائمة عندما أنزل ثم انتهت هذه الحكمة، فلا تثريب علينا إذا لم نعملها لانتفاء العلة التي من أجلها أنزلت، وهذا هو ما فعله عمر بن الخطاب عندما أوقف مصرف المؤلفة قلوبهم من مصارف الزكاة، وعندما لم يقسم الأرض المفتوحة وتقسيم الأنفال والرقيق الخ.
وقد نجد في القرآن الكريم آيات عديدة تبدو متعارضة أو مختلفة. وحيرت هذه الظاهرة الأسلاف وجعلتهم يأخذون بمبدأ النسخ _ تعالى القرآن عنه _ ولم يفهموا أن الحكمة من وجود آيات مختلفات إنما أريد به التيسير على الناس والسير مع التطور وعدم حمل الناس على مثل حد السيف: وهنا أيضاً فيمكن أن نأخذ بأي آية ولا يرد علينا بأن هناك آية مختلفة لأن القرآن يكمل بعضه بعضا، لا يضرب بعضه بعضا. وللناس الحرية في أن يأخذوا بهذه الأمة أو تلك لأنها كما قال القرآن "بدائل" ]وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ[. 101 النحل.. فلا تثريب ولا مشكلة وإنما حرية وسعة .
هذا بالنسبة للآيات المحكمات. أما الآيات المتشابهات ومعظمها عن الله تعالى وصفاته، أو اليوم الآخر الخ، فحسبنا أن نقول كما علمنا القرآن ]هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُوْلُوا الأَلْبَابِ[. 7 آل عمران ..فيجب أن يكون موقفنا هو موقف الراسخين في العلم الذين يقولون آمنا به كل من عند ربنا" ولا نحاول التعسف في التأويل أو التفسير، ولا يعيبنا أن لا نجهل هذه المتشابهات وأن نكل عليها إلى الله أو أن نأخذ بما استقر في قلوبنا واطمأنت إليه على أن لا نجادل فيه أحداً، فإن كان صوابا، فالحمد الله وإن كان خطأ فلنا حسنة الاجتهاد وحسن النية ..
هذا هو الأمر في القرآن الكريم ...
وكما رأينا فلا مشكلة ...
الأمر أعقد شيئاً ما بالنسبة للسُنة بحيث قد يضيق المجال عن الشرح الكافي، ولكن الرأي الذي انتهينا إليه هو أن السُنة ليس لها تأبيد القرآن. أي أن أحكامها لا تكون في منزلة القرآن وهذا هو الترتيب المنطقي والمعقول، وما يثبت هذا هو أمر الرسول بعدم كتابة حديثه، وأمره من كتب شيئاً أن يمحه، وليس لهذا من معنى إلا أن الرسول لم يشأ أن تكتب فتصبح كالقرآن ولكن أن تبقى بين الصدور يتناقلها الأبناء عن الأباء. حتى يحكمها قانون التطور. وقد تقبل الخلفاء الراشدون ذلك فلم يحاول أحد منهم أن يكتب السنن وأراد عمر ذلك ووافقه الصحابة ثم مكث شهراً يستخير الله حتى خار الله له، فقال إني كنت قد أردت كتابة السنن ثم ذكرت أقواما كتبوا كتبا عكفوا عليها وإني لا ألبس بكتاب الله شيئاً .
ولكي يكون هناك ضابط موضوعي فعلينا أن نحكم السُنة بالقرآن "فما اتفق مع القرآن يمكن الأخذ به وما اختلف مع القرآن يتوقف فيه" وقد يقول أحد وهل يمكن أن يحدث هذا أي أن يتعارض حديث مع آية فنقول له إن الفقهاء أحدثوا هذا عندما أخذوا يما يروونه عن عكرمة أن الرسول قال "من بدل دينه فاقتلوه" فنسخوا عشرات الآيات كلها تأمر بحرية الفكر والعقيدة .
ويجب أن نعلم أن السُنة بعد كل شيء تتضمن دراري وجوامع الكلم.. وكلمات تشع نوراً ولا يشك الإنسان أنها من هداية الله بل نحن نذهب أكثر من ذلك فنقول إن السُنة ليست ملكا للمسلمين يتصرفون فيها كما يشاءون إنها ملك للبشرية كلها لأن الرسول أرسل للعالمين _ وحقنا كمسلمين _ في السُنة هو كحق بقية الشعوب .
من هذا يتضح أن لا مشكلة مع القرآن أو السُنة وإنما المشكلة مع الفقهاء والحكام.