عرض مشاركة واحدة
قديم 2015-11-28, 18:49 رقم المشاركة : 1
روبن هود
بروفســــــــور
إحصائية العضو







روبن هود غير متواجد حالياً


وسام1 السيرة 1438ه

وسام المشاركة في مسابقة السيرة النبوية العطرة

افتراضي محاولة لفهم الانحراف السلوكي داخل المدرسة


في ظل تواتر حالات العنف كأحد المظاهر السلبية داخل المدرسة، سواء العنف بين المتعلمين وبأساليب مختلفة، أو العنف تجاه المدرس، يبرز السؤال حول الأسباب التي نزلت بالمؤسسة التربوية إلى هذا المستوى الذي هي عليه اليوم.



السؤال يتداوله الجميع بالنظر إلى كون القضية التربوية قضية عامة، لكن البحث غالبا ما يتجه نحو أسباب تقنية تتعلق بالممارسة التربوية داخل المدرسة، وأقصد الديداكتيك تحديدا، وفي أحيان أخرى يتجه نحو الخلفيات الاجتماعية والنفسية للمتعلمين، مع قدر كبير من التبرير المغلف بغلاف ضرورة تفهم الظروف النفسية والاجتماعية للمتعلم، وكذا سنه كطفل أو مراهق ما زالت شخصيته قيد التكون والتشكل، هذا في الوقت الذي ينبغي ألا يتطلب فيه السؤال حول أسباب شيوع العنف واستشرائه البحث بعيدا عن المجتمع نفسه من أجل الإجابة. فالمدرسة ابنة المجتمع ووريثة قيمه وأنماطه السلوكية، ومكوناتها، أي الأطفال والمراهقون، هم جزء من مكونات المجتمع، يتكلمون لغته الرمزية. لذلك بدل الاستغراب من واقع المدرسة وكيف تحولت إلى حاضن لأمراض المجتمع وصراعاته وقيمه، ينبغي مساءلة الدولة عما قامت به لتجعل من المدرسة فضاء معقما في محيط ملوث، حتى تنجز دورها المبدئي والنظري في التنشئة والتربية والتعليم والتكوين. بالتالي، السؤال الذي يجب طرحه هو: كيف أصبحت المدرسة خاضعة خضوعا تاما لتأثير المجتمع وتابعة له، بعد أن تسللت إليها قيم الشارع، والمبدأ هو أن يكون التأثير من جانبها هي، وكيف تحولت هي إلى مجسم صغير لمجتمع مريض؟


إن حصيلة عقود من الزمن أهدرت فيها موارد مالية هائلة ضاعت في التجريب والتردد والغموض في مجال التربية بحثا عن هوية تربوية خاصة، أو بحثا عن ستر عيوب النظام التربوي، أو سعيا إلى حل المشكلات التربوية التي تطرح، كل ذلك يعطي الجواب الواضح على هذا السؤال. فالدولة لم توفر للمدرسة مقومات النجاة بنفسها أولا، بإعطائها المناعة اللازمة ثقافيا وتربويا واجتماعيا، كما لم توفر لها مقومات النهوض بغيرها ثانيا، والغير هنا هو الإنسان، بمؤسساته وثقافته وعاداته وتمثلاته.



في ظل هذين الأمرين، تتحمل الدولة مسؤولية كبيرة في انهيار المدرسة. فما قامت به هي، أي الدولة، هو تهييء فضاء للمنحرفين الذين كانوا يخشون السلطة الأمنية، والسلطة الاعتبارية للمجتمع، فأصبحوا في مأمن طالما هم داخل حرم المؤسسات التربوية. وليس هناك أي ظلم في وصف بعض المتعلمين بالمنحرفين طالما ما يقترفونه يدخل ضمن السلوك الممنوع قانونا. أما غير المنحرفين، فقد تهيأت لهم أسباب وشروط الانحراف من جراء تكون المجموعات المنحرفة بالقرب منهم.



ما نتج عن هذا الوضع أن ما كان ممنوعا خارج المدرسة على المراهق، كالتحرش والعنف والتخريب أصبح متاحا داخل المؤسسة، وأصبحت تبعاته أخف، وكأن المدرسة يباح فيها ما لا يباح في سواها. لقد لعبت الدولة دورا حاسما في تسهيل التواصل بين أفراد الجماعات بأن جمعتهم في أماكن ووضعت القوانين الضمنية لحمايتهم.


كذلك، من زاوية نفسية واجتماعية، ما قامت به الدولة هو أنها وفرت الظروف المواتية لنشوء جماعات وحشود منظمة وأخرى عشوائية، إذ قامت بتجميع الأفراد داخل الأسوار، وأتاحت لهم فرصة التفاعل وتكوين الجماعات ذات الأهداف المعلنة الموحدة، وما يترتب على ذلك من تكوين الزعامات ونشر العدوى، بمفهوم علم النفس السياسي. فليس مستغربا إطلاقا أن يتسم سلوك الجماعات داخل المؤسسة التربوية بالعنف والتجاوز وتغليب منطق المشاعر على التفكير، وتغليب سطحية التفكير على عمقه، لأنها تخضع لما تخضع له سائر الجماعات. وإذا كان الأمن مثلا يفرق الجماعات الصغيرة في الشارع، فإن المدرسة أصبحت حاضنة للجماعات الكبيرة، وساهرة على نشاطها.


إن واقع حال المدرسة بالنظر إلى إنجازات المتعلمين والمخرجات يشي بأن الدولة شيدت المدرسة، وعملت جاهدة ـ بمبررات مختلفة ومتعددة غير مبنية على أسس علمية وتربوية بحثة ـ على الحفاظ والتمسك بالأشخاص الفاشلين اجتماعيا وأخلاقيا ومعرفيا داخلها، وتعهدت بحمايتهم مقابل "تمدرسهم". ومنطق الأشياء بالتالي يقتضي ألا يمكن انتظار شيء سوى إسقاط السلوكات المنحرفة، والإجرامية في حالات كثيرة، على المدرسة.


في هذه الحالة، يمكن فهم السلوكات التي صارت تسود في الدرسة، كما يمكن التنبؤ بالكثير من السلوكات التي ستصير المدرسة مجالا لها. فداخل المدرسة سيستمر العنف والتحرش وغيرهما، وستتكون الجماعات التي تتأثر بمؤثرات معينة، والتي تتحول بعد ذلك إلى عصابات لها زعماؤها. والفرق سيكون أن العصابات تلك ستتمتع بمشروعية اسمها التمدرس.


يمكن فهم الانحراف السلوكي داخل المدرسة بناء على رؤية نفسية اجتماعية، لكن غير تبريرية. وكل محاولة لمعالجة المشكلة ينبغي أن تنطلق من هذا المعطى، أي أن العنف والسلوكات المنحرفة الأخرى ستبقى صامدة داخل المدرسة ما لم تتحول المدرسة إلى مؤسسة أقوى وأشد تأثيرا على النفس والفكر، وهذا فقط ما سيمكنها من النجاح في تعديل السلوك وتقويمه وضبط الجماعات.


بقلم: روبن هود





    رد مع اقتباس