2012-04-29, 21:03
|
رقم المشاركة : 1 |
إحصائية
العضو | | | في تأسيس علوم التاريخ والإنسان. بين ارسطو وابن خلدون. | في تأسيس علوم التاريخ والإنسان بين أرسطو وابن خلدون1/4 أبو يعرب المرزوقي تمهيد: ما وراء الجدلية السطحية: قد لا يكون المدخل لهذه المسألة المعرفية التي تستهدف المقارنة بين تأسيس علوم الطبيعة عند أرسطو وتأسيس علوم الإنسان عند ابن خلدون بدهيا. فقل أن يتبادر إلى الذهن ما بين هذه المسألة المعرفية ومسألة العلاقة بين البداوة والحضارة لأن غلبة القانون الطبيعي على البداوة وغلبة القانون التاريخي على الحضارة الغلبتين الواصلتين بين المسألتين ليست من الأمور البينة بنفسها. لكن فهم جدلية البداوة والحضارة إذا لم تحصر في المعنى الإضافي الذي يستنتج من فرضية مراحل تكون العمرانالفرضية النظرية لبداية مطلقة يكون فيها العمران البدوي متقدما بإطلاق على الحضارة هذا الفهم بهذا الشرط هو الذي سيوضح أبعاد القضية فيبرز طبيعة الثورة الخلدونية التي مرت مرور الكرام لما ساد على قراءاتها من توظيف مباشر إيديولوجي (عند أصحاب اليسار العربي) أو عملي (عند مفكري النهضة الأول). فالبداوة تعتبر عندئذ مرحلة العمران الأولى التي تليها الحضارة مرحلته الثانية-فلا تكون الجدلية بهذا المعنى إلا علاقة بين مرحلتين متخارجتين-بل لا بد من الغوص إلى الجدلية التي تفسرها هي بدورها بوصف حديهما رمزين لقطبي التوتر الدائم المحرك للعمران والتاريخ حتى بعد اكتمال التكون وتلو الحضارة للبداوة. وتكمن هذه الجدلية في أعماق العمران ذاته سواء كان بدويا أو حضريا بالمعنى المرحلي في التكوينية النظرية للعمران: إنها جدلية فواعل التاريخ الطبيعي (وهي الغالبة في مرحلة البداوة بمعناها المرحلي) وفواعل التاريخ الحضاري (وهي الغالبة في الحضارة بمعناها المرحلي) في كل عمران بشري. فهذه الجدلية العميقة ليست مقصورة على مرحلة أولى فرضية يكون فيها العمران في طور النشوء أعني قبل الوصول إلى مرحلة ثانية هي مرحلة الحضارة ثم تكون البداوة بعد ذلك ظاهرة قادمة إليها من خارجها دائما كما قد يفهم من هجوم بعض من هم أقل تحضرا على من هم أكثر تحضرا أعني الظاهرة التي ظنت مفتاحا لفهم التاريخ عند ابن خلدون. وإنما الفرضية التي نريد إثباتها تعتمد على التناسب الدائم بين الأمرين داخل العمران نفسه سواء كان في طور النشوء أوفي طور الكمال الحضاري الفرضيين. ذلك أن هذه الجدلية تلازم مستويات التاريخ الخمسة التي ميز بينها ابن خلدون أعني: 1-في التاريخ الحدثي الخاص بأمة بعينها: وحدته هي أي حدث يؤرخ له في لحظة معينة سواء كان مما يعم كل أبعاد العمران أو أحد أبعاده. 2-في تاريخ الحقب الخاصة بحضارة معينة: وحدته هي المدد الثابتة بين التغيرات الجوهرية في نفس الحضارة سواء كانت عامة بالمعنى السابق أو خاصة بأحد أبعاد العمران. 3-في التاريخ الحدثي العالمي: وحدته هي أي لحظة من لحظات التاريخ الدولي وعلاقتها ب 1. بنفس المعنيين اللذين وصفنا فيه. 4-في تاريخ الحقب الخاصة بالتاريخ العالمي: وحدتها هي الحضارات المتوالية وعلاقتها ب 2. بنفس المعنيين المشار إليهما فيه. 5-في وحدة هذه المعاني أي في العلاقة بين فلسفة التاريخ وفلسفة الدين من خلال نظرية استخلاف الإنسان وتحقيق معاني الإنسانية في العمران البشري والاجتماع الإنساني. ويمكن الدخول إلى هذه المسائل إما من 1و2 أعني من التاريخ الخاص بحضارة معينة ككل أو من أحد أبعادها إلى التاريخ الإنساني ككل أو من حيث أحد أبعاده أو العكس فيكون الدخول إليها من 3 و 4 أي من التاريخ الإنساني ككل أو من أحد أبعاده إلى التاريخ الخاص بحضارة معينة ككل أو من أحد أبعادها أو من وحدة المعاني أعني من الجمع بين المدخلين بفضل العلاقة بين فلسفة التاريخ وفلسفة الدين. فتكون أبعاد التاريخ بهذا المعنى قابلة للحصر: 5 (=أنواع التاريخ) مضروب في 3 (=المداخل) مضروب في عدد أبعاد العمران (وهي خمسة عند الاقتصار على المقومات) مع واحد فيكون المجموع 76 نوعا أساسيا: وابن خلدون دخل إليها من المداخل الثلاثة بمعنييها دون أن يشمل كل أبعاد العمران إلا لماما. والجمع بين المدخلين هو المدخل الثالث والأكثر صوابا لأنه هو الذي يبين طبيعة العلاقة بين فلسفة التاريخ وفلسفة الدين: ذلك أن التاريخ العالمي هو الأقرب إلى حيز العلاقة بين الإنساني عامة والعالم ككل ومن ثم فهو السبيل إلى فهم مصير الإنسانية في مجرى أحداث الكون التي تتجاوز ما يتصوره الإنسان مقصورا على مقاصده الذاتية فلا يرى علاقته بما يتعالى عليها. ولما كان ابن خلدون مؤسسا لهذا العلم الجديد من أجل نقل علم التاريخ من جنس الخطاب الأدبي والحكمة الوعظية إلى جنس الخطاب العلمي والحكمة العقلية فقد احتاج إلى علاج مسألة الجدلية بين البداوة والحضارة من وجهيها: في مدلولها المرحلي وفي مدلولها المقوم. فمن حيث فرضية النشوء كان لا بد من دراسة العمران البدوي بوصفه مرحلة تليها مرحلة العمران الحضري. أما من حيث البحث في آليات الحركية العمرانية فكان لا بد من فهم العلاقة المقومة للعمران من حيث هو عمران العلاقة بين الطبيعي والثقافي في كل لحظات التاريخ العمراني أيا كان الشكل الذي نتكلم عليه أعني بدويا كان أو حضريا. وقد وصل به الأمر إلى تفسير فساد الحضارات بآليات التدجين التي تقتل الطبيعي في الإنساني من أجل الثقافي: في التربية والسياسة خاصة أعني ما يمثل صورة العمران عند ابن خلدون. كما استعمل المدخلين اللذين ميزنا وكذلك المدخل الجامع بينهما. ففي النظرية يدخل ابن خلدون إلى المسألة من 3و4 وفي التمثيل لنظريته من أجل توضيحها يدخل إليها من 1 و2. وعند الجمع بين النظرية والتمثيل يجمع المدخلين. وذلك لأن منطلقه في تعليل الظاهرات منظور عميق إلى علاقة فلسفة التاريخ بفلسفة الدين من خلال بناء نظريته كلها على مفهوم الاستخلاف بمعانيه التالية: 1و2- استخلافان غايتان: كون الإنسان من حيث هو إنسان رئيسا بالطبع ونتيجته الحرية المدنية والسياسية تحققا مؤسسيا لحريته الخلقية.وذلك هو أساس موقفه النقدي من السياسي الطبيعي ومحاولة نقله إلى السياسي العقلي على الأقل والسياسي العقلي الديني في الغاية لأن سياسة البشر لا بد فيها من بعد متعال على الزماني والتاريخي الدنيوي. 3و4- استخلافان أداتان: كون الإنسان من حيث هو إنسان عاقلا بالطبع ونتيجته السيطرة على ما دونه من الكائنات (سيطرة تكون رعاية دون فساد في الأرض عند اعتبار 1و2).وذلك هو أساس نقده للحضارات التي تولي وجهها لشروط البقاء السعيد في الدنيا بوهم العمل للآخرة وتناسي أن الآخرية لا يعمل لها إلا بامتطاء الدنيا ومن ثم بالتخلص من الحوائل المادية دون التسامي والتعالي والإخلاد إلى الأرض الناتج عن الحاجة المادية. 5- ووحدة المعاني جميعا: كون الإنسان واعيا بأن لعالم الشهادة ما وراءه بمعنى ما قبله وما بعده ومن ثم كونه مؤمنا كرها في الاستخلافين الأخيرين (الدين الطبيعي حيث يكون الله ربا أو عالم الربوبية والمشيئة الكونية) وطوعا في الاستخلافين الأولين (الدين المنزل حيث يكون الله إلها أو عالم الألوهية والمشيئة الأمرية). ويقتضي إدراك هذه الأبعاد من فكر ابن خلدون أن نتجاوز الفهم التوظيفي المجرد لفكره فنغوص إلى المعاني العميقة متجاوزين سطح الأمثلة التي ضربها في توضيح نظرياته إلى المعنى المجرد الذي تعتبر أمثلته في المقدمة أعيانا منه. لن يكون همنا التوظيف العملي المباشر لنظرياته رغم كون هذا الهم مشروعا بل فهم القوانين الخفية التي تحكم الظاهرات العمرانية فهمها بما يمكن أن تؤدي إليه ثورته من معرفة ذات فائدة سياسية واجتماعية في الدنيا غير الملغية للآخرة (فلسفة التاريخ) وفائدة خلقية وروحية في الآخرة غير الملغية للدنيا (فلسفة الدين): فيكون التكامل بين علم الغايات في الثانية وعلم الأدوات في الأولى. وبذلك يكون بحثنا مؤلفا من المسائل التالية: المسألة الأولى: مستويات الجدلية بين البداوة والحضارة. المسألة الثانية: التناظر بين ثورة ابن خلدون وثورة أرسطو. المسألة الثالثة: من جدلية البداوة والحضارة إلى جدلية الطبيعة والثقافة, المسألة الأخيرة: الخلدونية غاية الأشعرية تجاوزا للفكر اليوناني. المسألة الأولى مستويات الجدلية بين البداوة والحضارة ننظر في وجهين يحصلان في العمق من تفاعل مضمون الظاهرة العمرانية (ما قاله عن العلاقة بين البداوة والحضارة) وشكلها (ما قاله عن العلاقة بين صورة العمران أو الدولة والتربية وعن مادته أو الاقتصاد والثقافة) في اتجاهين متعاكسين. وكلاهما يشبه إخراج الميت من الحي والحي من الميت في العملية العمرانية التي بعلمها يمكن عمل التاريخ على علم تماما كما تكون العلاقة بين العلوم النظرية الطبيعية والتكنولوجيا فيكون ابن خلدون بذلك مؤسسا للتكنولوجيا العمرانية التي لم يستفد منها فكر المسلمين إلى الآن: ذلك أنه لو قرئ كما ينبغي لما حصلت كل النكبات التي عرفها نصف القرن الأخير كامن من تاريخها الحديث. وذلك هو جوهر الحداثة التي يمكن اعتبار أفلاطون مؤسس شكلها الخرافي وابن خلدون شكلها العلمي: أي عمل العمران على علم قبلي يصحبه تعديل دائم بالعلم البعدي وذلك هو الجدل بين النظرية والتطبيق[1]: الوجه الأول: فأثر الوجه الأول (المضموني) في الوجه الثاني (الشكلي) يجعل ثورة ابن خلدون تكتشف في العمران البشري ثوابت تشبه الثوابت العضوية. فلا يوجد مجتمع يخلو من الطبقات العميقة للعمران البشري أعني ما يقربه من التاريخ الطبيعي الذي يؤدي الدور الأول في تفسير ظاهرات العمران البدوي لكونه عينا منه في شكل بداية الانتقال إلى ظاهرات العمران الحضري. فأساس الحياة العمرانية الدائم حالة من الاجتماع شبه فوضوية أو شبه ما قبل حالة الاجتماع الخاضع للقانون والنظام لكأنه الفوضى التي يصدر عنها النظام. ويشبه هذا الأمر بؤرة البركان التي تقذف الحمم السائل في الحياة العمرانية. وتنتظم هذه الحياة مؤسسيا بما يشبه التجمد الحاصل بعد أن يبرد الحمم. وهذه الحال عنده قانون عام يجعل العمران البشري يتجدد في التاريخ الطويل بمنطق تحريك الترسب الجيولوجي للمآثر الرمزية أي بالعلاقة الجدلية بين ما يصدر عن صفائحه الباطنة (الإنسان الأقرب إلى الغرائز الطبيعية ذات السيلان الدفاق) التي تصعد إلى صفائحه الأظهر (الإنسان الأقرب إلى التكلف الحضاري الذي يبدو حصيلة لتوقف الدفق السيال: وهو ما يسميه ابن خلدون بالدعة والراحة). وتلك هي العين الأولى من جدلية البداوة والحضارة عنده أو جدلية الطبيعة والثقافة جدليتهما في وجهها الصاعد كما سنبين. الوجه الثاني: وأثر الوجه الثاني (الشكلي أي صورة العمران التي هي الدولة والتربية: وهما يصدران عن التاريخ الحضاري أو الفعل التصويري للنبع الحي بمؤسسات الدولة والتربية) في الوجه الأول (المضموني أي مادة العمران أي الاقتصاد والثقافة: وهما يصدران من النبع الحي للتاريخ الطبيعي أعني الصفات الداخلية للكائن البشري (مطالب الجسد والنفس) والصفات الخارجية لمحيطه الطبيعي والتاريخي (معين الإشباع لتلك المطالب) يجعل ثورة ابن خلدون تكتشف في العمران البشري ثوابت من نفس الجنس ولكن في الاتجاه المقابل بمنطق تسكينالترسب الجيولوجي بواسطة المآثر الرمزية مع عكس التأثير. فيكون أثر الصفائح الظاهرة التنظيمي نازلا إلى الصفائح الباطنة الدفاقة بخلاف الحالة السابقة حيث يصعد أثر الصفائح الباطنة إلى الصفائح الظاهرة. إنها حالة شبه آلية من الإجراءات النظامية أو المؤسسية التي تشبه موت حيوية العمران لفرط خضوعه للنظام والقانون. فلكأن العمران يصبح في حال الموت الذي تنحل فيه قوى الإنسان الطبيعية استعاضة عنها بالعوائد الآلية: الترويض الحضاري أو تدجين الحيوان من الإنسان. ومن علامات ذلك تناقص شاهية الحياة المدجنة. فشلالها ينضب وانبجاسها يضطرب فينقص التوالد وتستنوق الرجال وتستجمل النساء ويصبح العمران بحاجة إلى التجدد البايولوجي من الخارج في حالات الجهل بهذه الجدلية لأن العلم بها سيغني عن الحاجة إلى المدد الخارجي (وهو خارجي عند الاقتصار على التاريخ الوطني لكنه داخلي عند الكلام في تاريخ المعمورة كلها وذلك هو غرض ابن خلدون من علمه)[2]. ونحن نرى ذلك جاريا بأم العين في الغرب الذي بلغ أرذل العمر بايولوجيا فاضطر إلى تجديد العمران باستيراد السكان بسبب الهرم وفقدان تنور الحياة فيه غليانه. كما أن التاريخ يمدنا بعدة أمثلة من التجدد البايولوجي للحضارات التي هرمت بالموجات البشرية الناتجة عن الغزو البربري في التاريخ السابق. وتلك هي العين الثانية من جدلية الحضارة والبداوة عنده أو جدلية الطبيعة والثقافة جدليتهما في وجهها النازل. فيتوالى على إيقاع التاريخ البشري الطويل[3] أمر أشبه بالتناوس النبضي بين العينين الأولى والثانية لكأن البشرية كلها تمثل كائنا حيا واحدا له قلب ينبض لكن نبضاته هي الحضارات المتوالية والمتوارثة خلال تناوب الصعود والنزول في انتقالها من منطق التاريخ الطبيعي إلى منطق التاريخ الحضاري ذهابا بينهما وإيابا. والحدان الأقصيان لهذه الجدلية هما التصوران المجردان للطبيعة والثقافة وأولاهما منبع الإمداد الدائم للحضارة والحياة موضوع قيامها والثانية منبع التصوير الدائم لما يفيض عن هذا المنبع. والعمران يحيا بما بين هذين الحدين اللذين يمكن أن يكونا قاتلين بمجرد أن يزول التوازن بين دوريهما. والمعلوم أن ابن خلدون يربط هذه النظرية بفلسفة التاريخ القرآنية فلسفته المتعلقة بتداول الوارثين والمستخلفين في خطة إلهية تنتسب إلى الغيب وهي عنده محكومة بقانون التاريخ الخلقي المحرر من قانون التاريخ الطبيعي والموظف له من أجل جعل الإنسانية أمة واحدة مبدأ شعوبها التعارف ومعيارها التقوى لئلا تبقى أمما متناحرة فيكون مبدأ شعوبها التناكر ومعيارها العدوان. لكن القارئ فاقد البصيرة لا يمكن أن يلحظ هذه المعاني في ثورة ابن خلدون فيعتبر العودة إليه لفهم قوانين العمران وأثرها في الحاضر هروبا إلى الماضي ويتهم العائد بالماضوية إما لفرط نظرة المتهم التاريخانية أو لجهله بطبيعة العلم الذي يعنى به ابن خلدون: علم قوانين عمل التاريخ أو علم العمران لفهم عمل التاريخ ولنقد علمه نظريا ثم لعمل التاريخ فعليا أو علم السياسة وعملها اللذان يحققان غايات العمران على علم بقوانينه. وإغفال هذه القوانين المجردة يلغي كل إمكانية للغوص إلى العلاقة بين فلسفة التاريخ وفلسفة الدين في فكر ابن خلدون فيكثر التأويل السطحي الذي يرجع تردد الإحالات القرآنية في المقدمة إلى ظاهرة عائدة إما إلى عوائد عصر ابن خلدون الأسلوبية في الكتابة أو إلى التقية التي يلجأ إليها ابن خلدون لإخفاء نظرياته المزعومة مادية[4]. [1] والفرق بين ابن خلدون وأفلاطون هو المحدد الحقيقي لطبيعة الثورة الخلدونية. فأفلاطون يؤسس "عمل التاريخ على علم" على ميتافيزيقا تجعل النفس مثال المدينة ومن ثم يكون التاريخ ثمرة نظرية النفس في حين أن ابن خلدون يعكس تماما فيعتبر التاريخ متقدما على النفس التي هي حصيلة التطور التاريخي: النفس في العمران البدوي غيرها في العمران الحضري. أفلاطون لم يكتشف الظاهرة العمرانية بل اعتبرها نتيجة للظاهرة النفسية (المدينة نفس كبرى والنفس مدينة صغرى) في حين أن ابن خلدون اكتشف الظاهرة العمرانية واعتبر علمها هو المؤسس لعمل التاريخ على علم: إنه يستعيض عن ما بعد الطبيعة بما بعد التاريخ. لذلك اعتبر أفلاطون الدولة من صنع الفيلسوف مثلما أن العالم من صنع الإله الصانع في حين أن ابن خلدون اعتبر العمران من صنع قوى جماعية في صلتها بمحيطها الطبيعي والثقافي: لا وجود لفيلسوف ولا لإله صانع في عمل التاريخ. فالله يعمل المقومات الفاعلة للتاريخ دون أن يفعل التاريخ والفيلسوف يعلم التاريخ دون أن يعمله حتى وإن كان علمه يؤثر في المقومات العاملة للتاريخ بتوسط التصوير السياسي والتربوي بل أكثر من ذلك فابن خلدون يعتبر الفيلسوف والعالم من أكبر الأخطار على العمران إذا كان لهم سلطان إذا لم يميزا بين أوهامهما وقوانين الظاهرة العمرانية: ولعل تصرف النخب العربية أكبر الأدلة على صحة نظرية ابن خلدون. فهم يهدمون الموجود من منطلق أوهامهم الأيديولوجية دون علم بالظاهرات العمرانية فينقلب البناء تهديما. [2] وهذا هو الداء الأول الذي ينبغي علاجه. والعلاج مضاعف: كيف نمنع المفعول الثاني والمفعول الأول: أي كيف نجعل الحضارة غير قاتلة للغرائر وكيف نجعل البداوة غير مهدمة للمآثر الحضارية. والجامع بين العاملين هو كيف نتحرر من العود الأبدي للهوهو فيكون التحدد فيه ما تجدد دون تكرار. [3]المعلوم أن ابن خلدون قد ميز بين إيقاعين للتاريخ طويل أو تاريخ الحقب الإطار وقصير أو تاريخ الأحداث العادي. وكلاهما مضاعف خاص بحضارة بعينها وشامل لكل المعمورة. فتكون المعاني أربعا. وهي معان تتعدد تعددا لا يكاد يحصر عندما تتفرع بتفرع العلوم الخمسة إذا أرخنا لموضوعاتها كلا على حدة في حضارة بعينها أو في الحضارة الإنسانية ككل. وإذن فتاريخ الحقب أو تاريخ الأحداث يمكن أن يكون شاملا لكل الحضارة الخاصة أو العامة أو لأحد الموضوعات الجزئية الأربعة التي هي أوجه العمران الجزئية وقد ذكرناها حين التعريف بأصناف العلوم. وهو يعتبر نفسه قد أرخ لحقبة وليس لأحداث بسبب ما اعتبره انقلابا في إطار تاريخ الأحداث. وهو يؤرخ للحقبة المنقضية وليس للحقبة المقبلة وبصورة أدق هو يؤرخ لغاية الحقبة السالفة وبداية الحقبة الخالفة من خلال دراسة العلامات الدالة على النهاية والبداية. ويشمل تاريخه كما يبين العنوان تاريخ الحقبة الخاصة بالمسلمين مدخلا للحقبة الشاملة لكل المعمورة. لكنه لم يهمل تاريخ الأحداث. [4] وطبعا فكل من يلجأ إلى مثل هذا الكلام يشي بجهل طبيعة التفسير الديني للتاريخ على الأقل في القرآن: فكل التاريخ يدور حول أدوات عيش الإنسان المادية وغايات عيشه الروحية. والأولى يمكن ردها إلى الرزق وشروط الحصول عليه ومنها الأمن والعدل فيقتضي تأسيس السلطة الزمانية لإدارة الرزق إدارة تجعل التعاون ممكنا والثانية يمكن ردها إلى الذوق وشروط الحصول عليه ومنها الطمأنينة والمعنى فيقتضي تأسيس السلطة الروحية لإدارة الذوق إدارة تجعل التعارف ممكنا. فيكون العمران دائرا من حيث الأدوات حول الرزق والسلطة المحققة لشروط إنتاجه وتبادله واستهلاكه ومن ثم التصرف في الرزق وشروطه كما يكون دائرا من حيث الغايات حول الذوق والسلطة المحققة لشروط إنتاجه وتبادله واستهلاكه ومن ثم التصرف في الذوق. لذلك فلا يخلو العمران البشري من المطلبين والسلطانين ومن التفسير بأحدهما هذا أو ذلك أو بالعلاقة بينهما تقديما لهذا على ذاك أو العكس. والإسلام يستعمل هذه التفسيرات الأربعة ويوحد بينها بما يتعالى عليها أعني بفلسفة الدين أو بالقوانين المحجوبة للمشروع الإلهي من الوجود الإنساني.
| : منتديات الأستاذ التعليمية التربوية المغربية : فريق واحد لتعليم رائد https://www.profvb.com/vb/showthread.php?p=554845 التوقيع | "لا شيء يعتم الرؤية ويوقع في التيه الوجداني والضلال الفكري كالأسئلة المزيفة. الأسئلة المزيفة هي، كأسئلة الأطفال، أسئلة تطرح مشاكل مزيفة يعيشها الوعي على أنها مشاكل حقيقية" محمد عابد الجابري | |
| |