عبد الوهاب بارع
"البيضاوي"
ذكريات حلاق درب ميلان

أَتَوقفَ الزمن؟ أم أنه فتح ثغرة من جداره ليطلع الحاضرين على نتفة من تجلياته!

"البيضاوي" ليس قطارا، أو حتى جريدة أسبوعية وليس لقبا عابرا من صغار تستهويهم تمائم الألقاب فيرموا بها كل من صادفهم في لعبة الشغب اليومي.

إنه نسخة أصلية ونموذج صالح للتمعن من أرشيف مملكة " درب ميلان" الغابر.

ملابس بسيطة لايهتم بمظهرها ولا حتى باتساق ألوانها ولا يعرف شيئا اسمه الموضة، يقف حلاقنا في حانوته الصغير ومجموعة من الصور أغلبها قديم ولا رابط بينها سوى أنها مصففة ومعلقة على الجدار دون إطار فوق وبجانب المرآة التي خفت بريق أجزاء كبيرة منها، فصارت كأنها صفحة قصديرية صدئة وبحاجة إلى صقل، أدوات حلاقة مازالت تذكر أيام احمد الغول وعمر العيار وولد الفايزة والمعروفي وعرنوس.

أسماء وشمت تاريخ المنطقة وعبره تاريخ مدينة البيضاء سنوات الستينات والسبعينات.

شارب كث يصارع علامات الشيب في عناد دائم ووجه حليق لا يكاد ينبت حتى تمر عليه موسى الحلاقة في سرعة لتعيد إليه نعومته .
.
ابتسامة دائمة لا تفارق الوجه الذي لم تتمكن التجاعيد المتسللة إليه من جعله شيخا كبيرا ولم تغير في ملامحه نظرات الرضى.

زبائن "البيضاوي" من نوع خاص أكثر ما يشدهم إليه الألفة وسرعته في العمل وذاكرته القوية إضافة إلى طيبوبته المرسومة على تقاسيم وجهه وحركاته.

فعمله مرتكز على السرعة أو كما يقول: "الطليعة والهبيطة" تعبير يردده كدليل على سرعته في حلاقة الوجه، أغلب الزبائن شيوخ أو شباب لا تعرف الموضة طريقا لقواميسهم التجميلية، فقط يعتبرون شعر الرأس " غوفالة " ونمو شعر الوجه " وسخ " كما يقولون لتبقى السمة الغالبة لديهم كونهم من الطبقة الممحوقة، وقليل منهم موسر تستهويه ايام زمان.
.
بعضهم يستغل مدة جلوسه أمام "البيضاوي" على الكرسي الخشبي لحلاقة رأسه أو وجهه ولفتح بوثقة من الماضي والانسياب في ذاكرة الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي في ابتسامة معبرة عن الانتشاء والسعادة الغامرة والتي لا تخفيها العيون ولا الضحكات المرتفعة:
- عقلتي آ البيضاوي ملي كنتي كاتحسن ليا حسانة سْبور بـ 10 دريال وكا تدهن لي راسي بالبريانطي، وما كنبغيكش تدري لي هاديك الدهنة كومينة حيت كا يلصق ليا العجاج فراسي.

- لتمتد ابتسامة حلاقنا، وتفتح شهية الذكريات لتنساب الكلمات ساخنة وملفوفة برائحة الحنين لزمن " الصولة والجولة" وحكايات الفَتْوَنة والقوة العضلية، التي أرخت لنزالات كانت ومازالت الألسن تلوكها بين من حضر أو من سمع بها :
- عقلتي على ايّامات أحمد الغول ملِّي تحاماو عليه ولاد درب الكبير وخشاوليه كادر ديال البيكالا فراسو؟
ليرد عليه البيضاوي في تأكيد على ضبط الفترة:
- إيه كان مْدَوزها فْالصحة، وعْقْلتي عليه ملِّي تضارب مع المعروفي - الله يرحمو - ملِّي جا من فرنسا، حدا الحَسَنية.
.
.
- لتستمر حكايات الماضي في أخذ مواقعها طوابيرَفي أحاديث الحلاق والزبون لدرجة أن " البيضاوي" انتهى من حلاقة رأس الزبون ووجهه، ولكن قوة الذكريات جعلت الزبون يجلس على كرسي جانبي وهو يمرر يديه على رأسه ووجهه، وحديثه مسترسل في غياهب الذكريات، لينتقلوا إلى مواضيع كثيرة ومتنوعة " الحْلاقي" وحكايات العنترية والأزلية والحمزاوية، والمتعة مع خْليفة ورزّوق.
.
و.
.
و.
.
.
ثم أيام الموسيقى بـ "التورنيديسك" حيث عبد الوهاب وكلثوم وفريد، والقصص الموسيقية لعبد الكريم الفيلالي كقصة " السبع وبوفسيوْ " وقصة "السكايري ومول الكيف".

ومرورا بإذاعة "صوت العرب" عن طريق الراديو صاحب " الحجْرة الكبيرة - بيريك" ليقفزوا إلى موضوع " المعيشة" أو أحوال الحياة من مأكل وملبس ونقل:
- كنا كانشدو الطوبيس دايل السلك رقم 4 من درب الكبير حتى لفيردان بربعة دْريال.

وهكذا تستمر لعبة التداعي بين البيضاوي وزبنائه، بل منهم من يدخل في تفاصيل أدوات الحلاقة القديمة والتي أصبحت ذكرى فقط، كموسى الحلاقة والتي كانت تشحذ على " الحرّاشة" وهي قطعة حجر خشنة تبتدئ بها عملية إعداد الموسى ليمر بعد ذلك إلى مرحلة "الميلك" وهو حجر من معدن خاصة، أملس، يذهن بزيت الزيتون ويشحذ عليه الموسى وكما يقول البيضاوي:
- كنا كاندهنوا الميلك بزيت العود ونمضّيوْ عليه الموس، وفالصباح كانلقاوه ناشف من الزيت حيت كايلحسوه الفيران .

لتأتي مرحلة "الصمطة" وهي قطعة جلدية كحزام السروال تشد من جانب واحد على مسمار بطرف " الكونطوار" ليمسك الحلاق بالطرف الثاني ويشحذ عليه الموسى في آخر مرحلة قبل البدء في حلاقة الزبون.

وأحيانا يمرر الموسى على صفحة ذراعه لمزيد من الشحذ والنعومة.
وهاته الموسى كانت تعرف بأسماء بلدانها المستوردة منها، وكذا بأرقامها، فموسى اسبانيا مثلا كانت تعرف برقم 34 بينما نظيرتها الفرنسية كانت تحمل رقم 66، لتدخل حلبة التنافس في الأخير الموسى الصينية، ثم تظهر في أواخر السبعينات تقنية متطورة أكثر ومريحة، إنها موسى تعتمد شفرة الحلاقة، يقول البيضاوي:
- كنا كانشريوا الزيزوار ديال راس السبع أحمر بريال أبيض.

ثم تجتذب نفحة الذكريات أرشيف أنواع الحلاقة من رفوف الوقت "الزوينة" كما يقولون، حيث كانت تطغى " حسانة سبور" و" دوميسبور" و" كوباس" و" دوميكوباس" بالنسبة للكبار، أما حلاقة الصغار فتعرف بـ " العَرف والكرون" وهذه الطريقة قد تدخل ضمن ما كان يعرف بـ " الزيادة والعادة" ثم " حسانة الختانة" وهي طريقة حلاقة خاصة بتجهيز الأطفال للإعذار. هذا بالإضافة إلى حلاقة الرأس بالموسى ليستوي عندها الصغار والكبار.

"البيضاوي" نموذج واضح على صخب فترة من الفترات الحالمة في منطقة ابن امسيك التي كانت منصهرة مع الفداء درب السلطان قبل وضع حدود للعمالات.

وهو شاهد كذلك على تاريخ مفعم بالتفاصيل والحيثيات ومعالم البيضاء العمرانية منها والبشرية على الخصوص، إذ أن الحلاق كان بمثابة المقهى الشعبي، حيث كان " الحانوت" يملأ بالزبائن لتنهال " صينيات الشاي" وتوضع رقعة " ضاما" وهي اللعبة الشعبية الأكثر تداولا في ذاك الوقت والتي مازالت تمارس الى الآن ولكن بحدة أقل، كما تنهمر الأخبار والأحاديث من كل صوب كأن الحلاق آنئذ وكالة إخبارية.

وبين الماضي والحاضر يظل "البيضاوي" يعيش لحظات حياته بين البيت " والحانوت" في مسافة يتجاوز الساعة والنصف لقطعها يوميا على قدميه في رحلة تمتد صيفا وشتاء دون عناء لمدة تتجاوز 30 سنة.

وهذا الروتين غير الممل يجعل "البيضاوي" دائم الحنين للماضي وللتذكر غير المنقطع والسفر الى التاريخ عبر فجوات الكلمات وإضاءات الذكريات ليعود الى الحاضر القاسي ويفكر في بيته وعائلته.

هذه هي حياة "البيضاوي" المليئة بالحيوية والنشاط التي قد تناسب أو قد لا تناسب سنه.

فلنترك البيضاوي يغلق "حانوته" قبل الغروب، ليصل بيته بعد الغروب بكثير وفي يده قفة تضم بعض الخضر أو كما يقول: "عشا الدراري".

الاتحاد الاشتراكي

موضوع مميز انتقاء موفق
شكرا لك