مسألة فدك أرض فدك ، قرية في الحجاز كان يسكنها طائفة من اليهود، ولمّا فرغ الرسول عليه الصلاة والسلام من خيبر، قذف الله عز وجل في قلوبهم الرعب ، فصالحوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على فدك ، فكانت ملكاً لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأنها مما لم يُوجف عليها بخيل ولا ركاب. ورغم أنّّ خلاف الخليفة أبو بكر مع السيدة فاطمة رضوان الله عليهما كان خلافاً سائغاً بين طرفين يملك كل منهما أدلة على رأيه إلا أنّ حساسية البعض من شخصية أبو بكر تجعله ينظر إلى الأمور بغير منظارها فتنقلب الحبة إلى قبة. ولو أننا استبدلنا شخصيات القصة ( أبو بكر وفاطمة ) بفقيهين من الشيعة مثلاً أو مرجعين من مراجعهم لكان لكل طرف منهما مكانته وقدره دون التشنيع عليه وإتهام نيته ، ولكانت النظرة إلى رأي الطرفين نظرة احترام وتقدير على اعتبار وجود نصوص وأدلة يستند إليها الطرفين في دعواهما وإن كان الأرجح قول أحدهما. لكن أمام ( ابو بكر ) و( فاطمة ) الأمر يختلف ، فأبو بكر عدو عند البعض وما دام عدواً فكل الشر فيه وكل الخطأ في رأيه ، هكذا توزن الأمور!!! توزن بميزان العاطفة التي لا تصلح للقضاء بين متنازعين فكيف بدراسة أحداث تاريخية ودراسة تأصيلها الشرعي!!! لكن المنصف الذي لا ينقاد إلى عاطفته بل إلى الحق حيث كان ، يقف وقفة تأمل لذاك الخلاف ليضع النقاط على الحروف فأرض فدك هذه لا تخلو من أمرين: إما أنها إرث من النبي صلى الله عليه وآله وسلم لفاطمة رضوان الله عليها أو هي هبة وهبها رسول الله لها يوم خيبر. فأما كونها إرثاً فبيان ذلك ما رواه البخاري ومسلم وغيرهما من أنه بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم جاءت فاطمة رضوان الله عليها لأبي بكر الصدّيق تطلب منه إرثها من النبي عليه الصلاة والسلام في فدك وسهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم من خيبر وغيرهما. فقال أبو بكر الصدّيق: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ( إنّا لا نورّث ، ما تركناه صدقة ) وفي رواية عند أحمد ( إنّا معاشر الأنبياء لا نورّث )، فوجدت فاطمة على أبي بكر بينما استدلت رضوان الله عليها بعموم قوله تعالى {يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين}. ولنكن حياديين ها هنا ولننسى أنّ المطالب بالإرث امرأة نحبها ونجلها لأنها بنت نبينا وأنّ لها من المكانة في نفوسنا وعند الله عز وجل ما لها ، لنقول : كلام محمد عليه الصلاة والسلام فوق كلام كل أحد ، فإذ صح حديث كهذا عن رسول الله فلا بد ان نقبله ونرفض ما سواه ، فإذا كان الأمر كذلك فلماذا نلوم أبو بكر على التزامه بحديث رسول الله وتطبيقه إياه بحذافيره ؟!! لقد صح حديث ( إنّا معاشر الأنبياء لا نورّث ) عند الفريقين السنة والشيعة ، فلماذا يُستنكر على أبي بكر استشهاده بحديث صحيح ويُتهم بالمقابل باختلاقه الحديث لكي يغصب فاطمة حقها في فدك؟!! أما صحته عند أهل السنة فهو أظهر من أن تحتاج إلى بيان ، وأما صحته عند الشيعة فإليك بيانه: روى الكليني في الكافي عن أبي عبد الله عليه السلام قوله: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ( … وإنّ العلماء ورثة الأنبياء ، إنّ الأنبياء لم يورّثوا ديناراً ولا درهماً ولكن ورّثوا العلم فمن أخذ منه أخذ بحظ وافر ). قال عنه المجلسي في مرآة العقول 1/111 ( الحديث الأول ( أي الذي بين يدينا ) له سندان الأول مجهول والثاني حسن أو موثق لا يقصران عن الصحيح ) فالحديث إذاً موثق في أحد أسانيده ويُحتج به ، فلماذا يتغاضى عنه علماء الشيعة رغم شهرته عندهم!! والعجيب أن يبلغ الحديث مقدار الصحة عند الإمامية حتى يستشهد به الخميني في كتابه الحكومة الإسلامية على جواز ولاية الفقيه فيقول تحت عنوان (صحيحة القداح ) : ( روى علي بن إبراهيم عن أبيه عن حماد بن عيسى عن القداح ( عبد الله بن ميمون ) عن أبي عبد الله عليه السلام قال: ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : (من سلك طريقاً يطلب فيه علماً ، سلك الله به طريقاً إلى الجنة … وإنّ العلماء ورثة الأنبياء ، إنّ الأنبياء لم يورّثوا ديناراً ولا درهماً ، ولكن ورّثوا العلم ، فمن أخذ منه أخذ بحظ وافر) ويعلق على الحديث بقوله ( رجال الحديث كلهم ثقات ، حتى أنّ والد علي بن إبراهيم ( إبراهيم بن هاشم ) من كبار الثقات ( المعتمدين في نقل الحديث ) فضلاً عن كونه ثقة). إنّ الاستدلال بقول الله تبارك وتعالى عن زكريا عليه السلام { فهب لي من لدنك ولياً يرثني ويرث من آل يعقوب } على جواز توريث الأنبياء لأبنائهم استدلال غريب يفتقد إلى المنطق في جميع حيثياته ، وذلك لعدة أمور هي: أولاً: لا يليق برجل صالح أن يسأل الله تبارك وتعالى ولداّ لكي يرث ماله فكيف نرضى أن ننسب ذلك لنبي كريم كزكريا عليه السلام في أن يسأل الله ولداً لكي يرث ماله ، إنما أراد زكريا عليه السلام من الله عز وجل أن يهب له ولداً يحمل راية النبوة من بعده ، ويرث مجد آل يعقوب العريق في النبوة. ثانياً: المشهور أنّ زكريا عليه السلام كان فقيراً يعمل نجاراً ، فأي مال كان عنده حتى يطلب من الله تبارك وتعالى أن يرزقه وارثاً ، بل الأصل في أنبياء الله تبارك وتعالى أنهم لا يدخرون من المال فوق حاجتهم بل يتصدقون به في وجوه الخير. ثالثاً: إنّ لفظ ( الإرث ) ليس محصور الاستخدام في المال فحسب بل يستخدم في العلم والنبوة والملك وغير ذلك كما يقول الله تعالى { ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا } وقوله تعالى { أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون } فلا دلالة في الآية السابقة على وراثة المال.
رابعاً: حديث (إنّ الأنبياء لم يورّثوا ديناراً ولا درهماً ولكن ورّثوا العلم) الذي ذكرناه آنفاً يتضمن نفي صريح لجواز وراثة أموال الأنبياء ، وهذا كاف بحد ذاته. وكذلك الحال في قوله تعالى { وورث سليمان داود } فإنّ سليمان عليه السلام لم يرث من داود عليه السلام المال وإنما ورث النبوة والحكمة والعلم لأمرين إثنين: الأول: أنّ داود عليه السلام قد اشتُهر أنّ له مائة زوجة وله ثلاثمائة سريّة أي أمة ، وله كثير من الأولاد فكيف لا يرثه إلا سليمان عليه السلام؟!! فتخصيص سليمان عليه السلام حينئذ بالذكر وحده ليس بسديد. الثاني: لو كان الأمر إرثاً مالياً لما كان لذكره فائدة في كتاب الله تبارك وتعالى، إذ أنّه من الطبيعي أنّ يرث الولد والده ، والوراثة المالية ليست صفة مدح أصلاً لا لداود ولا لسليمان عليهما السلام فإنّ اليهودي أو النصراني يرث ابنه ماله فأي اختصاص لسليمان عليه السلام في وراثة مال أبيه!! ، والآية سيقت في بيان المدح لسليمان عليه السلام وما خصه الله به من الفضل ، وإرث المال هو من الأمور العادية المشتركة بين الناس كالأكل والشرب ودفن الميت ، ومثل هذا لا يُقص عن الأنبياء ، إذ لا فائدة فيه ، وإنما يُقص ما فيه عبرة وفائدة تُستفاد وإلا فقول القائل ( مات فلان وورث فلان ابنه ماله ) مثل قوله عن الميت ( ودفنوه ) ومثل قوله ( أكلوا وشربوا وناموا ) ونحو ذلك مما لا يحسن أن يُجعل من قصص القرآن. وأعجب من هذا كله حقيقة تخفى على الكثيرين وهي أنّ المرأة لا ترث في مذهب الإمامية من العقار والأرض شيئاً ، فكيف يستجيز الشيعة الإمامية وراثة السيدة فاطمة رضوان الله عليها لفدك وهم لا يُورّثون المرأة العقار ولا الأرض في مذهبهم؟!! فقد بوّب الكليني باباً مستقلاً في الكافي بعنوان ( إنّ النساء لا يرثن من العقار شيئاً ) روى فيه عن أبي جعفر قوله: ( النساء لا يرثن من الأرض ولا من العقار شيئاً ) ورووا عن ميسر قوله (سألت أبا عبد الله عليه السلام عن النساء ما لهن من الميراث ، فقال: لهن قيمة الطوب والبناء والخشب والقصب فأما الأرض والعقار فلا ميراث لهن فيهما) وعن محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام قال: (النساء لا يرثن من الأرض ولا من العقار شيئاً) وعن عبد الملك بن أعين عن أحدهما عليهما السلام قال: (ليس للنساء من الدور والعقار شيئاً). كما أنّ فدك لو كانت إرثاً من النبي صلى الله عليه وآله وسلم لكان لنساء النبي ومنهن عائشة بنت أبي بكر وزينب وأم كلثوم بنات النبي حصة منها ، لكن أبا بكر لم يعط ابنته عائشة ولا أحد من نساء النبي ولا بناته شيئاً استناداً للحديث ، فلماذا لا يُذكر هؤلاء كطرف في قضية فدك بينما يتم التركيز على السيدة فاطمة وحدها؟!! هذا على فرض أنّ فدك كانت إرثاً من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أما إذا كانت فدك هبة وهدية من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لفاطمة رضوان الله عليها كما يروي ذلك الكاشاني في تفسيره[1] فالأمر يحتاج إلى وقفة أخرى أيضاً. فعلى فرض صحة الرواية والتي تناقضها مع روايات السنة والشيعة حول مطالبة السيدة فاطمة رضوان الله عليها لفدك كأرث لا كهبة من أبيها ، فإننا لا يمكن أن نقبلها لاعتبار آخر وهو نظرية العدل بين الأبناء التي نص عليها الإسلام. إنّ بشير بن سعد لمّا جاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله ، إني قد وهبت ابني حديقة واريد أن أُشهدك ، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أكُلّ أولادك أعطيت؟ قال: لا ، فقال النبي صلوات الله وسلامه عليه ( اذهب فإني لا أشهد على جور ) فسمّى النبي صلى الله ليه وآله وسلم تفضيل الرجل بعض أولاده على بعض بشيء من العطاء جوراً ، فكيف يُظن برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كنبي معصوم لا يشهد على جور أن يفعل الجور (عياذاً بالله )؟!! هل يُظن به وهو أمين من في السماء أو يجور في أمانة أرضية دنيوية بأن يهب السيدة فاطمة فدك دون غيرها من بناته؟!! فكلنا يعرف أنّ خيبر كانت في السنة السابعة من الهجرة بينما توفيت زينب بنت رسول الله في الثامنة من الهجرة ، وتوفيت أم كلثوم في التاسعة من الهجرة ، فكيف يُتصور أن يُعطي رسول الله فاطمة رضوان الله عليها ويدع أم كلثوم وزينباً؟!! والثابت من الروايات أنّ فاطمة رضوان الله عليها لمّا طالبت أبو بكر بفدك كان طلبها ذاك على اعتبار وراثتها لفدك لا على أنها هبة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. ولذا فإنّ فدك لم تكن لا إرثاً ولا هبة ، وهذا ما كان يراه الإمام علي نفسه إذ أنه لمّا استُخلف على المسلمين لم يعط فدك لأولاده بعد وفاة أمهم فاطمة بحيث يكون له الربع لوجود الفرع الوارث ، وللحسن والحسين وزينب وأم كلثوم الباقي { للذكر مثل حظ الأنثيين } وهذا معلوم في التاريخ ، فلماذا يُشنع على أبي بكر في شيء فعله علي بن أبي طالب نفسه ؟!! بل يروي السيد مرتضى ( الملقب بعلم الهدى ) في كتابه الشافي في الإمامة عن الإمام علي ما نصه ( إنّ الأمر لمّا وصل إلى علي بن أبي طالب عليه السلام كُلّم في رد فدك ، فقال: إني لأستحيي من الله أن أرد شيئاً منع منه أبو بكر وأمضاه عمر ) ومن الردود على الإستدلال بقول الله عزوجل { يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظِّ الأنثيين } أنه ليس في عموم لفظ الآية ما يقتضي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يورث فإن الله تعالى قال { يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الانثيين، فإن كُنَّ نساءً فوق اثنتين فلهنَّ ثُلُثا ماترك وإن كانت واحدةً فلها النّصفُ لكل واحدٍ منهما السُدس مما ترك إن كان له ولد، فإن لم يكن لهُ ولدٌ وورثه أبواه فلأُمِّه الثُلُث فإن كان له إخوةٌ فلأمِّه السُدس } وفي الآية الاخرى { ولكم نِصفُ ما ترك أزواجُكُم إن لم يكُنْ لهُنَّ ولد فإنْ كان لهُنَّ ولد فلكم الرُّبُع مما تركْنَ إلى قوله من بعد وصيَّةٍ يُوصي بها أو دين غير مُضارّ } وهذا الخطاب شامل للمقصودين بالخطاب وليس فيه ما يوجب أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مخاطب بها، وكاف الخطاب يتناول من قصده المخاطب، فإن لم يعلم أن المعيّن مقصود بالخطاب لم يشمله اللفظ، حتى ذهبت طائفة من الناس إلى أن الضمائر مطلقاً لا تقبل التخصيص فكيف بضمير المخاطب؟ فإنه لا يتناول إلا من قُصد بالخطاب دون من لم يُقصد، ولو قدّر أنه عام يقبل التخصيص، فإنه عام للمقصودين بالخطاب، وليس فيها ما يقتضي كون النبي صلى الله عليه وآله وسلم من المخاطبين بهذا. ولأنّ كاف الجماعة تأتي بالقرآن وتشمل بالخطاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين وتأتي دونه كقوله تعالى { أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم } محمد 33 وقوله تعالى { إن كنتم تحبُّون الله فاتّبعوني يُحببكم الله ويغْفر لكُم ذُنُوبكم } آل عمران 31 فإن كاف الخطاب لم تشمل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بل تناولت المخاطبين بالسياق وهذه كقوله تعالى { يوصيكم الله في أولادكم } فهي مثل الآيات السابقة، وكذلك كقوله تعالى { إنْ خفتُم إلا تُقسِطوا في اليتامَى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مَثْنى وثُلاث ورُباع فإن خِفتم ألا تعْدلوا فواحِدةً أو ما ملكت أيمانُكم ذلك أدنى ألا تعُولوا، وآتُوا النساء صدُقاتِهنَّ نِحلَة فإن طِبنَ لكم عن شيء منهُ نفساً فكُلوه هنيئاً مريئاً } النساء 3 4 فإن هذه الآية تشمل المخاطبين أيضاً دون النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي يحل له أن يتزوج أكثر من أربعة وبدون مهر، كما ثبت بالنصوص الصحيحة والتي لا تخفى على أحد1. اما بالنسبة الاستدلال بقوله تعالى { وورث سليمان داود } وقوله كلاهما نبي فأقول: أ مجرّد ذكر كلمة الإرث لا يدل على أن المقصود به المال لأن هذه الكلمة تأتي بمعاني كثيرة كقوله تعالى { ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا } فاطر 23 وكقوله تعالى { وأورثَكم أرضَهُم وديارهُم وأموالَهم وأرضاً لم تطؤوها } الأحزاب 27 وكقوله تعالى { ولقد كتبْنا في الزبُورِ من بعد الذكْر أنّ الأرضَ يرثُها عبادِيَ الصالحون } الأنبياء 5 فليست الوراثة تعني إرث المال وفقط بل تشتمل على معاني أخرى. ب وقوله تعالى { وورث سليمان داود } فإن الإرث المقصود في هذه الآية هو إرث العلم والنبوّة لا إرث المال لأن داود كان له من الأولاد الكثير غير سليمان فلا يخصّه بالمال وأيضاً ليس في كونه ورث ماله صفة مدح، لا لداود ولا لسليمان فإن اليهودي والنصراني يرث أباه ماله، والآية سيقت في بيان المدح لسليمان، وما خصّه الله به من النعمة . وأيضاً فإرث المال هو من الأمور العادية المشتركة بين الناس، كالأكل والشرب، ودفن الميت، ومثل هذا لا يُقصُّ عن الأنبياء إذ لا فائدة فيه، وإنما يُقص ما فيه عبرة وفائدة تستفاد، وإلا قول القائل مات فلان وورث أبنه ماله مثل قوله ودفنوه ومثل قوله أكلوا وشربوا وناموا ونحو ذلك مما لا يحسن أن يجعل من قصص القرآن. ت أما وقوله تعالى { فهب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب } ومن المسلّم به أن هذا هو كلام زكريا وهو لا يرث من آل يعقوب مالاً بل يرثهم أولادهم وورثتهم، فلا يدل الارث هنا على أنه إرث المال بالتأكيد، هذا بالإضافة إلى أنّ زكريا كان نجّاراً وليس ذو مالٍ وفير حتى يوّرثه ليحي، إضافةً إلى أننا لو راجعنا بداية هذه الآية والتي أخفاها هذا الطاعن وهي قوله تعالى { وإني خفت المَوالي من ورائي } مريم 5 لتبيّن لنا أنه لم يخف أن يأخذوا ماله من بعده إذا مات، فإن هذا ليس بمخوف 4 ومن هنا تبين لنا انه أراد بالوراثة وراثة العلم والنبوة. ج وقد اعترف بهذا المعنى مفسرو الشيعة الاثني عشرية فصاحب التفسير المبين محمد جواد مغنية من كبار علمائهم المعاصرين يقول عند تفسير قوله تعالى { وورث سليمان داود } قال في الملك والنبوة. ويقول عند تفسير قوله تعالى { وإني خفت الموالي من ورائي } الموالي: العمومة وبنو العم، ومن ورائي، خاف زكريا إذا ورثوه أن يسيئوا إلى الناس، ويفسدوا عليهم دينهم ودنياهم.... { فهب لي من لدنك وليا } وارثاً، { يرثني ويرث من آل يعقوب} قال: العلم والنبوة!؟ بالإضافة لتأكيد الكليني لهذه القضية عندما ساق الحديث الصحيح باعتراف الإمامهم الخميني والذي يثبت أنّ الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهما، وإنما ورثوا العلم؟! فهل يوجد حق بهذا الوضوح والبيان ؟! ومن الردود أيضاً: الوجه الأول: أن كتب الطاعنون متناقضة في نقل هذه الحادثة فبعضها تذكر أن فاطمة طالبت لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منحها إياها،[2] وبعضها تذكر أن فاطمة -رضي الله عنها- طالبت بإرثها[3] وهذا تناقض واضح يدل على الإضطراب والجهل بأصل هذه المسألة، وبالتالي سقوط ما بنوا عليها من أحكام. قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: «إن ما ذكر من ادعاء فاطمة -رضي الله عنها- فدك فإن هذا يناقض كونها ميراثاً لها، فإن كان طلبها بطريق الإرث امتنع أن يكون بطريق الهبة، وإن كان بطريق الهبة امتنع أن يكون بطريق الإرث، ثم إن كانت هذه هبة في مرض الموت فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منزه إن كان يُورث كما يُورث غيره أن يوصي لوارث، أو يخصه في مرض موته بأكثر من حقه، وإن كان في صحته فلابد أن تكون هذه هبة مقبوضة، وإلا فإذا وهب الواهب بكلامه، ولم يقبض الموهوب شيئاً حتى مات الواهب كان ذلك باطلاً عند جماهير العلماء، فكيف يهب النبي صلى الله عليه وآله وسلم فدكاً لفاطمة ولا يكون هذا أمراً معروفاً عند أهل بيته والمسلمين، حتى تختص بمعرفته أم أيمن أو علي -رضي الله عنهما-[4]».[5] الوجه الثاني: أن الصحيح الثابت في هذه الحادثة أن فاطمة -رضي الله عنها- طالبت أبا بكر بميراثها من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاعتذر إليها من ذلك محتجاً بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لا نورث، ما تركنا صدقة) على ما أخرج ذلك الشيخان من حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: (إن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أرسلت إلى أبي بكر الصديق تسأله ميراثها من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مما أفاء الله عليه بالمدينة وفدك، وما بقي من خمس خيبر، فقال أبو بكر: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: (لا نورث، ما تركنا صدقه، إنما يأكل آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم في هذا المال، وإني والله لا أغير شيئاً من صدقة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن حالها التي كانت عليها في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولأعملن فيها بما عمل به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأبى أبو بكر أن يدفع لفاطمة منها شيئاً، فوجدت فاطمة على أبي بكر في ذلك فهجرته فلم تكلمه حتى توفيت).[6] فقد كانت فاطمة -رضي الله عنها- مجتهدة في ذلك، اعتقدت أن الحق معها، ثم لما رأت من عزم الخليفة على رأيه أمسكت عن الكلام في المسألة، وما كان يسعها غير ذلك. قال ابن حجر في توجيه اجتهادها: «وأما سبب غضبها [أي فاطمة] مع احتجاج أبي بكر بالحديث المذكور فلاعتقادها تأويل الحديث على خلاف ما تمسك به أبو بكر، وكأنها اعتقدت تخصيص العموم في قوله: (لا نورث) ورأت أن منافع ما خلفه من أرض وعقار لا يمتنع أن تورث عنه،وتمسك أبو بكر بالعموم، واختلفا في أمر محتمل للتأويل، فلما صمم على ذلك انقطعت عن الاجتماع به لذلك».[7] الوجه الثالث: أن السنة والإجماع قد دلا على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يورث فيكون الحق في هذه المسألة مع أبي بكر -رضي الله عنه-. قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: «كون النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يورث ثبت بالسنة المقطوع بها، وبإجماع الصحابة، وكل منهما دليل قطعي، فلا يعارض ذلك بما يظن أنه عموم، وإن كان عموماً فهو مخصوص، لأن ذلك لو كان دليلاً لما كان إلا ظنياً فلا يعارض القطعي، إذ الظني لا يعارض القطعي، وذلك أن هذا الخبر[8] رواه غير واحد من الصحابة في أوقات ومجالس، وليس فيهم من ينكره بل كلهم تلقاه بالقبول والتصديق، ولهذا لم يصرّ أحد من أزواجه على طلب الميراث ولا أصرّ العم على طلب الميراث، بل من طلب من ذلك شيئاً فأخبر بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم رجع عن طلبه، واستمر الأمر على ذلك على عهد الخلفاء الراشدين إلى علي، فلم يغير من ذلك شيئاً، ولاقسم له تركة».[9] وبإجماع الخلفاء الراشدين على ذلك احتج الخليفة العباسي أبو العباس السفاح على بعض مناظريه في هذه المسألة على ما نقل ابن الجوزي في تلبيس إبليس قال: «وقد روينا عن السفاح أنه خطب يوماً فقام رجل من آل علي -رضي الله عنه- قال: أنا من أولاد علي -رضي الله عنه-، فقال: يا أمير المؤمنين أعدني على من ظلمني قال: ومن ظلمك؟ قال: أنا من أولاد علي -رضي الله عنه- والذي ظلمني أبو بكر -رضي الله عنه- حين أخذ فدك من فاطمة، قال: ودام على ظلمكم؟ قال: نعم، قال: ومن قام بعده؟ قال: عمر -رضي الله عنه-، قال: ودام على ظلمكم؟ قال: نعم، قال: ومن قام بعده؟ قال عثمان -رضي الله عنه-، قال: ودام على ظلمكم؟ قال: نعم، قال: ومن قام بعده؟ فجعل يلتفت كذا وكذا ينظر مكاناً يهرب منه...».[10] وبتصويب أبي بكر -رضي الله عنه- في اجتهاده صرح بعض أولاد علي من فاطمة -رضي الله عنهما- على ماروى البيهقي بسنده عن فضيل بن مرزوق قال: قال زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب: (أما لو كنت مكان أبي بكر، لحكمت بما حكم به أبو بكر في فدك).[11] كما نقل القرطبي اتفاق أئمة أهل البيت بدأً بعلي -رضي الله عنه- ومن جاء بعده من أولاده، ثم أولاد العباس الذين كانت بأيديهم صدقة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أنهم ما كانوا يرون تملكها، وإنما كانوا ينفقونها في سبيل الله قال -رحمه الله-: «إن علياً لما ولي الخلافة لم يغيرها عما عمل فيها في عهد أبي بكر، وعمر، وعثمان، ولم يتعرض لتملكها، ولا لقسمة شيء منها، بل كان يصرفها في الوجوه التي كان من قبله يصرفها فيها، ثم كانت بيد حسن بن علي، ثم بيد حسين بن علي، ثم بيد علي بن الحسين، ثم بيد الحسين بن الحسن، ثم بيد زيد بن الحسين، ثم بيد عبدالله بن الحسين، ثم تولاها بنو العباس على ما ذكره أبو بكر البرقاني في صحيحه، وهؤلاء كبراء أهل البيت -رضي الله عنهم- وهم معتمد الشيعة وأئمتهم، لم يُرو عن واحد منهم أنه تملكها ولا ورثها ولا ورثت عنه، فلو كان ما يقوله الشيعة حقاً لأخذها علي أو أحد من أهل بيته لما ظفروا بها ولم فلا».[12] فظهر بهذا إجماع الخلفاء الراشدين، وسائر الصحابة، وأئمة أهل البيت –رضي الله عنهم- أجمعين، على أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يورث، وأن ما تركه صدقة، وعلى ذلك جرى عمل الخلفاء الراشدين وأئمة أهل البيت الذين كانت بأيديهم صدقة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. الوجه الرابع: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما أراد بغضب فاطمة الذي يغضب له هو:أن تغضب بحق، وإلا فالرسول صلى الله عليه وآله وسلم لا يغضب لنفسه، ولأحد من أهل بيته بغير حق، بل ما كان ينتصر لنفسه ولو بحق مالم تنتهك محارم الله، كما جاء في الصحيحين من حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: (ما خير النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما مالم يأثم، فإذا كان الإثم كان أبعدهما منه، والله ما انتقم لنفسه في شيء يؤتى إليه قط، حتى تنتهك حرمات الله فينتقم لله).[13] وفاطمة -رضي الله عنها- على جلالتها، وكمال دينها، وفضلها، هي مع ذلك ليست معصومة، بل قد كانت تصدر منها بعض الأمور التي ماكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقرها عليها، وقد تطلب من النبي صلى الله عليه وآله وسلم الشيء فلا يجيبها له: كسؤالها النبي صلى الله عليه وآله وسلم خادماً فلم يعطها وأرشدها وعلياً للتسبيح كما ثبت في حديث علي -رضي الله عنه- في الصحيحين.[14] وفي سنن أبي داود عن عمر بن عبدالعزيز: إن فاطمة سألت الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أن يجعل لها فدكاً فأبى.[15] وثبت في صحيح مسلم من حديث عائشة -رضي الله عنها- أن فاطمة جاءت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقالت له: إن أزواجك أرسلنني إليك يسألنك العدل في ابنة أبي قحافة، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أي بنية ألست تحبين ما أحب؟ فقالت: بلى، قال: فأحبي هذه...).[16] فلم يجبها النبي صلى الله عليه وآله وسلم لشيء من ذلك، فدل على عدم موافقته لها في كل شيء، بل قد تفعل الأمر مجتهدة فتخطئ فلا يقرها عليه، وبالتالي فأن لا يغضب لغضبها من باب أولى. وطلبها ميراث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أبي بكر من جنس ذلك، فقد كانت -رضي الله عنها- مجتهدة وكان الحق في ذلك مع أبي بكر للنص الصريح في ذلك، ولموافقة الصحابة له في رأيه، فكان إجماعاً معتضداً بالنص كما تقدم، فأبو بكر في ذلك قائم بالحق متبع للنص مستمسك بعهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في هذه المسألة، فكيف يتصور أن يسخط بفعله هذا رسول الله، وهو إنما يعمل بشرعه، ويهتدي بهديه. الوجه الخامس: أن قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (فاطمة بضعة مني فمن أغضبها فقد أغضبني)، من نصوص الوعيد المطلق التي لا يستلزم ثبوت موجبها في حق المعنيين، إلا بعد وجود الشروط، وانتفاء الموانع.[17] هذا مع أن ما في هذا الحديث من الوعيد لو كان لازماً لكل من أغضبها مطلقاً، لكان لازماً لعلي قبل أبي بكر، ولكان لحوقه بعلي أولى من لحوقه بأبي بكر، إذ أن مناسبة هذا الحديث هو خطبة علي -رضي الله عنه- لابنة أبي جهل وشكوى فاطمة له على النبي صلى الله عليه وآله وسلم على ما روى الشيخان من حديث المسور بن مخرمة قال: (إن علياً خطب بنت أبي جهل فسمعت بذلك فاطمة، فأتت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: يزعم قومك أنك لا تغضب لبناتك، وهذا علي ناكح بنت أبي جهل، فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فسمعته حين تشهد يقول: أما بعد أنكحت أبا العاص ابن الربيع فحدثني وصدقني، وإن فاطمة بضعة مني وإني أكره أن يسوءها، والله لا تجتمع بنت رسول الله وبنت عدو الله عند رجل واحد فترك علي الخطبة).[18] وفي رواية: (إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: فاطمة بضعة مني فمن أغضبها أغضبني).[19] فظهر أن مناسبة الحديث هي خطبة علي -رضي الله عنه- لابنة أبي جهل وغضب فاطمة من ذلك، والنص العام يتناول محل السبب، وهو نص فيه باتفاق العلماء، حتى قالوا لا يجوز إخراج السبب بدليل تخصيص، لأن دلالة العام على سببه قطعية وعلى غيره على وجه الظهور[20] وعلى هذا فلو كان هذا الحديث متنزلاً على كل من أغضب فاطمة لكان أول الناس دخولاً في ذلك علياً -رضي الله عنه-. قال شيخ الإسلام ابن تيمية ضمن رده على في هذه المسألة وبعد أن ذكر الحديث: «فسبب الحديث خطبة علي -رضي الله عنه- لابنة أبي جهل والسبب داخل في اللفظ قطعاً، إذ اللفظ الوارد على سبب لا يجوز إخراج سببه منه، بل السبب يجب دخوله بالاتفاق. وقد قال في الحديث: (يريبني ما رابها ويؤذيني ما آذاها) ومعلوم قطعاً أن خطبة ابنة أبي جهل عليها رابها وآذاها، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم رابه ذلك وآذاه، فإن كان هذا وعيد لاحقاً لزم أن يلحق هذا الوعيد علي بن أبي طالب، وإن لم يكن وعيداً لاحقاً بفاعله، كان أبو بكر أبعد عن الوعيد من علي».[21] الوجه السادس: أن فاطمة -رضي الله عنها- كانت قد رجعت عن قولها في المطالبة بإرث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كما نص على ذلك غير واحد من الأئمة في الحديث والسير. قال القاضي عياض: «وفي ترك فاطمة منازعة أبي بكر بعد احتجاجه عليها بالحديث: التسليم للإجماع على قضية، وأنها لما بلغها الحديث وبين لها التأويل، تركت رأيها ثم لم يكن منها ولا من ذريتها بعد ذلك طلب ميراث، ثم ولي علي الخلافة فلم يعدل بها عما فعله أبو بكر، وعمر -رضي الله عنهما-».[22] وقال القرطبي: «فأما طلب فاطمة ميراثها من أبيها من أبي بكر فكان ذلك قبل أن تسمع الحديث الذي دل على خصوصية النبي صلى الله عليه وآله وسلم بذلك، وكانت متمسكة بما في كتاب الله من ذلك، فلما أخبرها أبو بكر بالحديث توقفت عن ذلك ولم تعد إليه».[23] وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: «فهذه الأحاديث الثابتة المعروفة عند أهل العلم، وفيها ما يبين أن فاطمة -رضي الله عنها- طلبت ميراثها من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على ما كانت تعرف من المواريث، فأخبرت بما كان من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فسلمت ورجعت».[24] وقال ابن كثير -رحمه الله-: «وقد روينا أن فاطمة -رضي الله عنها- احتجت أولاً بالقياس، وبالعموم في الآية الكريمة، فأجابها الصديق بالنص على الخصوص بالمنع في حق النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأنها سلمت له ما قال، وهذا هو المظنون بها -رضي الله عنها-».[25] فظهر بهذا رجوع فاطمة -رضي الله عنها- إلى قول أبي بكر وما كان عليه عامة الصحابة، وأئمة أهل البيت من القول بعدم إرث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا هو اللائق بمقامها في الدين والعلم -فرضي الله عنها وأرضاها-. الوجه السابع: أنه ثبت عن فاطمة -رضي الله عنها- أنها رضيت عن أبي بكر بعد ذلك، وماتت وهي راضية عنه، على ماروى البيهقي بسنده عن الشعبي أنه قال: (لما مرضت فاطمة أتاها أبو بكر الصديق فاستأذن عليها، فقال علي: يافاطمة هذا أبو بكر يستأذن عليك؟ فقالت: أتحب أن آذن له؟ قال: نعم، فأذنت له فدخل عليها يترضاها، فقال: والله ما تركت الدار والمال، والأهل والعشيرة، إلا إبتغاء مرضاة الله، ومرضاة رسوله، ومرضاتكم أهل البيت، ثم ترضاها حتى رضيت).[26] قال ابن كثير: «وهذا إسناد جيد قوي والظاهر أن عامر الشعبي سمعه من علي أو ممن سمعه من علي».[27] وقال ابن حجر: «وهو وإن كان مرسلاً فاسناده إلى الشعبي صحيح، وبه يزول الإشكال في جواز تمادي فاطمة عليها السلام على هجر أبي بكر».[28] وقال أيضاً: «فإن ثبت حديث الشعبي أزال الإشكال وأخلق بالأمر أن يكون كذلك، لما علم من وفور عقلها ودينها، عليها السلام». وبهذا تندحض هذه المطاعن على أبي بكر التي يعلقونها على غضب فاطمة عليه، فلئن كانت غضبت على أبي بكر في بداية الأمر فقد رضيت عنه بعد ذلك وماتت عليه، ولا يسع أحد صادق في محبته لها، إلا أن يرضي عمن رضيت عنه، ولا يعارض هذا ما ثبت في حديث عائشة المتقدم (أنها وجدت على أبي بكر فلم تكلمه حتى توفيت) فإن هذا بحسب علم عائشة -رضي الله عنها- راوية الحديث، وفي حديث الشعبي زيادة علم، وثبوت زيارة أبي بكر لها وكلامها له ورضاها عنه، فعائشة -رضي الله عنها- نفت والشعبي أثبت، ومعلوم لدى العلماء أن قول المثبت مقدم على قول النافي، لأن احتمال الثبوت قد حصل بغير علم النافي، خصوصاً في مثل هذه المسألة فإن عيادة أبي بكر لفاطمة -رضي الله عنها- ليست من الأحداث الكبيرة التي تشيع في الناس، ويطلع عليها الجميع، وإنما هي من الأمور العادية التي تخفى على من لم يشهدها، والتي لا يعبأ بنقلها لعدم الحاجة لذكرها. على أن الذي ذكره العلماء أن فاطمة -رضي الله عنها- لم تتعمد هجر أبي بكر -رضي الله عنه- أصلاً، ومثلها ينزه عن ذلك لنهي النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الهجر فوق ثلاث، وإنما لم تكلمه لعدم الحاجة لذلك. قال القرطبي في سياق شرحه لحديث عائشة المتقدم: «ثم إنها (أي فاطمة) لم تلتق بأبي بكر لشغلها بمصيبتها برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولملازمتها بيتها فعبر الراوي عن ذلك بالهجران، وإلا فقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ( لايحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث)[29] وهي أعلم الناس بما يحل من ذلك ويحرم، وأبعد الناس عن مخالفة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم) كيف لا يكون كذلك وهي بضعة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسيدة نساء أهل الجنة».[30] وقال النووي: «وأما ما ذكر من هجران فاطمة أبا بكر -رضي الله عنه- فمعناه انقباضها عن لقائه، وليس هذا من الهجران المحرم، الذي هو ترك السلام والإعراض عند اللقاء، وقوله في هذا الحديث (فلم تكلمه) يعني في هذا الأمر، أو لانقباضها لم تطلب منه حاجة ولا اضطرت
إلى لقائه فتكلمه، ولم ينقل قط أنهما التقيا فلم تسلم عليه ولا كلمته».[31] وبهذا يظهر الحق في هذه المسألة، وتبطل دعوى الطاعن وتندحض شبهته بما تم تقريره من خلال النصوص والأخبار الصحيحة الدالة على براءة الصديق من هذه المطاعن ، وأن ما جرى بين الصديق وفاطمة لايعدو أن يكون اختلافاً في مسألة فقهية ظهر لفاطمة -رضي الله عنها- الحق فيها فرجعت له، وعرف لها الصديق فضلها، فعادها قبل وفاتها واسترضاها فماماتت إلا وهي راضية عنه فرضي الله عنهما جميعاً. ومن الردود القول أن إرث النبي صلى الله عليه وآله وسلم لو كان له إرث من الذي يرث النبي صلى الله عليه وآله وسلم ؟ يرثه ثلاثة : ترثه فاطمة ويرثه أزواجه ويرثه عمه العباس . أما فاطمة فلها نصف ما ترك لإنها فرع وارث .. أنثى .. وأزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم يشتركن في الثُمُن لوجود الفرع الوارث وهي فاطمة .. والعباس عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم يأخذ الباقي تعصيباً .. هذا هو إرث النبي صلى الله عليه وآله وسلم , إذا ليست القضية خاصة بفاطمة ولذلك أين العباس لماذا لم يأت ويطالب بإرثه من النبي صلى الله عليه وآله وسلم , أين أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يأتين ويطالبن بإرثهن من النبي صلى الله عليه وآله وسلم . فلم يعطها الإرث , قد يقول قائل كيف تحرمونها من الإرث ؟ والله سبحانه وتعالى يقول : { وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ } ويقول عن زكريا عليه الصلاة والسلام أنه قال عن يحى لما طلب الولد قال: { يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ } , وأنتم تقولون ( نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه فهو صدقة ) هذا الحديث يقوله أبو بكر وتلك آية والآية إذا عارضت الحديث فالآية مقدمة على الحديث. فنقول ليس الأمر كما قلتم لماذا . ولكن نقول إقرأوا الآيات وتدبروها قليلاً لا نريد أكثر من ذلك , الله جل وعلا ماذا يقول عن زكريا ؟ قال { يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ } ما الآيات التي قبلها , يقول الله تبارك وتعالى عن زكريا { كهيعص 1 ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا 2 إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيًّا 3 قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا 4 وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا 5 يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا 6} .. سياق الآيات هل هي وراثة مال ؟ إقرأوا كتب السيرة ماذا كان حال زكريا .. فقير .. زكريا كان نجاراً كان فقيراً ما هو المال الذي عند زكريا حتى يطلب وارثاً له , ثم هل يعقل أن رجلاً صالحاً يسأل الله الولد ليرث ماله !! أين الصدقة في سبيل الله .. أين البذل ؟ يطلب ولداً ليرث ماله !! لا نقبل هذا لرجل صالح فكيف تقبلونه لنبي كريم !! أن يسأل الله الولد لأي شيء قال : حتى يرث أموالي !! هذا لا يمكن أن نقبله في نبي كريم مثل زكريا عليه الصلاة والسلام , ثم ماذا يقول : { يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ } كم بين يعقوب وزكريا من الآباء والأجداد ؟ مئات السنين عشرات إن لم نقل مئات الآباء بين زكريا ويعقوب , موسى بين زكريا ويعقوب أيوب بين زكريا ويعقوب , داوود وسليمان بين زكريا ويعقوب , يونس بين زكريا ويعقوب , يوسف بين زكريا ويعقوب .. كل أنبياء بني إسرائيل تقريباً بين زكريا ويعقوب زكريا يمثل آخر أنبياء بني إسرائيل زكريا يحى عيسى .. إنتهت النبوة ويعقوب هو إسرائيل , كل أنبياء بني إسرائيل هم بين زكريا ويعقوب ونحن لانتكلم عن جميع الأنبياء نتكلم عن بني إسرائيل أمة كاملة .. كم سيكون نصيب هذا الولد { يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ } وكم وكم من الذين سيحجبونه عن الميراث , الأولاد الأقرب .. هذا كلام لا يُعقل .. إذاً ماذا أراد زكريا .. أراد ميراث النبوة هذا الميراث الحقيقي ميراث النبوة .. يرث النبوة .. يرث الدعوة إلى الله تبارك وتعالى يرث العلم , ولذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول ( إن الأنبياء لم يورثوا درهماً ولا ديناراً وإنما ورثوا العلم ) هذا الذي أراده زكريا صلوات الله وسلامه عليه , ومنه ميراث سليمان صلوات الله وسلامه عليه لما قال الله تبارك وتعالى { وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ } ورث ماذا ؟ .. ورث العلم ورث النبوة ورث الحكمة , لم يرث المال لو كان مالاً ما فائدة ذكره .. طبيعي جداً الولد يرث أباه , هذا أمر طبيعي فلماذا يذكر في القرآن ؟ إذاً الذي ذكر في القرآن أمر ذا أهمية عندما يقول الله تبارك وتعالى { وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ } أراد أن ينبه إلى شيء مهم ليس مجرد وراثة مال , ثم كم لداوود من الأبناء إرجعوا إلى سيرة داوود , داوود على المشهور كانت له ثلاثمئة زوجة وسبع مئة سُرّية – يعني أمة - ذكروا لداوود أولاد كثر ألا يرثه إلا سليمان ! صلوات الله وسلامه عليه .. هذا لا يمكن أن يكون أبداً . ولنفرض أنه ورث طيب ما شأن أبي بكر وعمر وعثمان هل أخذوا هذا المال لهم ؟ , كانوا يعطونه لآل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما كان يفعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما ذنبهم .. ما الخطيئة التي أرتكبوها .. هل أبو بكر إستدخل فدك له , هل إستدخلها عمر .. هل إستدخلها عثمان أبداً لم يستدخلوها , إذاً لماذا يُلامون ؟ ! لماذا نزرع الكراهية في قلوب الناس لأبي بكر وعمر وعثمان ؟! ماذا صنعوا بفدك ؟! خاصة إذا قلنا إن عمر وعثمان عاشا بعد فاطمة زمن الخلافة , فاطمة ماتت بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ورضي عنها بعده بستة أشهر على المشهور .. ما شأن عمر وعثمان بفدك ؟! .. دعونا نسلم بأن فدك إرث لفاطمة رضي الله عنها .. نصيبها الذي هو النصف إذا ماتت فاطمة من يرث فاطمة ؟ يرثها أولادها وزوجها من أولاد فاطمة ؟ .. اربعة : الحسن والحسين وزينب وأم كلثوم وزوجها علي , أبوها توفي صلى الله عليه وآله وسلم وأمها توفيت وهي خديجة رضي الله عنها , مابقي من الورثة إلا الأولاد والزوج .. الزوج يأخذ الربع لوجود الفرع الوارث فربع الميراث لعلي , وبقية الميراث - ميراث فاطمة – لأولاد فاطمة للذكر مثل حظ الأنثيين .. طيب علي في خلافته لم يعط فدك لفاطمة ولم يعطها لأولاد فاطمة .. فإن كان أبو بكر ظالماً وعمر كان ظالماً وعثمان كان ظالماً لفدك فعلي كان ظالماً كذلك , فكلهم لم يعطوا فدك لأهلها .. أبو بكر لم يعطها لأهلها , عمر لم يعطها لأهلها , عثمان لم يعطها لأهلها , علي لم يعطها لأهلها , وإسألوا علمائكم في هذا الأمر هل أعطى علي فدك لأولاد فاطمة ؟ لم يعطهم فدك . الحسن إستخلف بعد علي هل أعطى فدك لأخيه الحسين ولأخته زينب لم يعطهم , لأن أم كلثوم كانت قد توفيت .. إذاً لماذا يُلام أبو بكر وعمر وعثمان ولا يُلام علي رضي الله عنه ؟! إما أن يُلام الجميع وإما أن لايُلام أحد .. ننظر موقف أهل السنة وموقف الشيعة , أهل السنة لا يلومون أحداً , لماذا لا تلومون أحداً .. قالوا لأنها أصلاً ليست ميراثاً لفاطمة ولذلك لا نلوم أحداً . أما الشيعة فيلومون أبو بكر ويلومون عمر ويلومون عثمان ويلزمهم أن يلوموا علي ولذلك خرجت طائفة من الشيعة يُقال لها الكاملية هذه الطائفة تطعن في علي مع أنها شيعية .. قالوا أبو بكر وعمر وعثمان ظلمة أخذوا الخلافة من علي , وعلي لم يستجب لأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأنه أمره بالخلافة وبايعهم وترك أمر الخلافة فعلي أيضاً مذنب .. وهذا يلزمهم لأنهم لو فكروا بعقولهم بناءً على الأدلة الباطلة التي إستدلوا بها , إذاً فدك ليست إرثاً لفاطمة رضي الله عنها وأبو بكر خيراً صنع لأنه إتبع النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأنه سمعه يقول : ( نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه فهو صدقة ) . هناك قول آخر وهو أن فدك هبة وهبها النبي صلى الله عليه وآله وسلم لفاطمة كيف وهبها النبي صلى الله عليه وآله وسلم لفاطمة .. قالوا لما فتح الله تبارك وتعالى فدك على النبي صلى الله عليه وآله وسلم نادى فاطمة وأعطاها إياها .. هل هذا صحيح ؟ قالوا نعم لما نزل { وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ } بعد فتح خيبر ناداها قال هذا حقك خذي حقك وأعطاها النبي صلى الله عليه وآله وسلم لفاطمة رضي الله عنها وأرضاها .. هل هذا الكلام صحيح .. هل يُقبل أصلاً هذا الكلام .. للنبي صلى الله عليه وآله وسلم سبعة من الولد ثلاثة ذكور وأربعة إناث .. الذكور عبد الله والقاسم وإبراهيم كلهم ماتوا في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهم صغار لا دخل لهم هنا إذاً , بقي للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أربع من البنات أصغرهن فاطمة رضي الله عنها , ثم تأتي بعد فاطمة رقية ثم أم كلثوم ثم زينب وهي الكبيرة هؤلاء هن بنات النبي صلى الله عليه وآله وسلم . يقولون النبي صلى الله عليه وآله وسلم أعطى فاطمة فدك ولم يعطي باقي البنات , بنات النبي صلى الله عليه وآله وسلم توفيت رقية بنت النبي صلى الله عليه وآله وسلم في السنة الثانية من الهجرة لما خرج إلى بدر صلى الله عليه وآله وسلم , لكن أم كلثوم وزينب توفيتا بعد ذلك , أم كلثوم توفيت في السنة التاسعة من الهجرة , وزينب توفيت في السنة الثامنة من الهجرة .. خيبر في أول السنة السابعة من الهجرة .. أنظروا كيف يتلاعب الشيطان بالناس , فيكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم فتح الله عليه خيبر له ثلاث بنات أحياء فاطمة وزينب وأم كلثوم .. تصوروا كيف ينسبون إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم كأن النبي يأتي إلى بناته الثلاث ويقول تعالي يا فاطمة هذه فدك لك وأنتما يا أم كلثوم ويا زينب مالكما شيء .. أيجوز أن يُقال هذا في النبي صلى الله عليه وآله وسلم ؟ , إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما جاءه بشير بن سعد والد النعمان بن بشير وقال : يا رسول الله إني أريد أن أنحل إبني هذا حديقة وأريدك أن تشهد على ذلك , والنبي يعلم أن له أولاد آخرون غير هذا الولد , فقال له صلوات الله وسلامه عليه : ( أكل أولادك أعطيت ؟ ) يعني أعطيت بقية أولادك أو أعطيت هذا فقط , قال : لا , فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ( إذهب فإني لا أشهد على جور ) . والنبي يقول : ( إتقوا الله وأعدلوا بين أولادكم ) ويقول : ( لا أشهد على جور ) الله أكبر ! أنرضى أن هذا النبي الكريم صلى الله عليه وآله وسلم الذي لا يشهد على الجور والذي قول لنا : ( إتقوا الله وأعدلوا بين أولادكم ) أرضى أن يكون هو بذاته صلى الله عليه وآله وسلم الذي يفرق بين أولاده !! الذي لا يشهد على الجور هل يفعل الجور ؟! صلى الله عليه وآله وسلم .. لا يمكن هذا أبداً , إذاً لن يعط النبي صلى الله عليه وآله وسلم فدك لفاطمة دون بناته . ثم يا عقلاء إن كان النبي أعطاها لفاطمة فجاءت تطالب بماذا إذاً في عهد أبي بكر , إذا أخذتها وأستلمتها تطالب بماذا ؟ هي ملكك تطالبيني بماذا ؟ ! تقول أعطاها النبي في السنة السابعة من الهجرة وتوفي بعد أن أعطاها بأربعة سنوات .. وتأتي في عهد أبي بكر تقول أعطني الذي أعطاني النبي قبل أربع سنين !! أيعقل هذا الكلام .. لا يُعقل هذا أبداً ولا يُقبل مثل هذا الكلام . بقي شيء واحد يقولون لما غضبت فاطمة إذاً رضي الله عنها وأرضاها .. فاطمة إستدلت بعموم قول الله تبارك وتعالى { يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ } فعلى هذا الأساس جاءت تطالب بإرثها رضي الله عنها فلما قال لها أبو بكر رضي الله عنه ( لا نورث ما تركناه صدقة ) إنتهى الأمر ورجعت , عائشة رضي الله عنها التي تروي هذه القصة وتروي هذا الحديث تقول : فوجدت على أبي بكر أي غضبت أنه لم يعطيها فدك , لكن ليس في الحديث شيء أن فاطمة تكلمت على أبي بكر بشيء وإنما هذا فهم عائشة فهمت أن فاطمة وجدت وتضايقت وأنها لم تكلم أبا بكر , طبيعي جداً أنها لم تكلم أبا بكر لأنها كانت مريضة وما كان أبا بكر يخالطها أصلاَ , ليست إبنته وليست قريبة له , هي إبنة النبي وزوجة علي رضي الله عنه ما شأن أبي بكر بها ؟ ولذلك زارها قبل موتها رضي الله عنها , بل وعلى المشهور أن التي غسلتها والتي كانت تمرضها هي أسماء بنت عميس زوجة أبي بكر الصديق هي التي غسلت فاطمة رضي الله عنها .. فقضية أن فاطمة وجدت على أبي بكر الله أعلم بذلك . هذا فهم عائشة تقول أنها وجدت لكن ليس الحديث نص أن فاطمة تكلمت في أبي بكر أو طعنت فيه أبداً .. سكتت رجعت إلى بيتها بعد أن قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول ( لا نورث ما تركناه فهو صدقة ) . ردود أخرى... زعموا أن أبوبكر رضي الله عنه ظالم لفاطمة رضي الله عنها لمنعه إياها مخلف أبيها ، وأنه لا دليل له في الخبر الذي رواه : نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة ؛ لأن فيه احتجاجا بخبر الواحد مع معارضته لآية المواريث ، وفيه ما هو مشهور عند الأصوليين . وزعموا أيضا أن فاطمة معصومة بنص " إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت " . وخبر : " فاطمة بضعة منى " وهو معصوم ، فتكون معصومة ، وحينئذ فيلزم صدق دعواها الإرث . وجوابها : أما عن الأول ، فهو لم يحكم بخبر الواحد الذي هو محل الخلاف، وإنما حكم بما سمعه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو عنده قطعى فساوى آية المواريث في قطعية المتن ، وأما حمله على ما فهمه منه فلانتفاء الاحتمالات التي يمكن تطرقها إليه عنه بقرينة الحال ، فصار عنده دليلا قطعيا مخصصا لعموم تلك الآيات . وأما عن الثانى ، فمن أهل البيت أزواجه على ما يأتي في فضائل أهل البيت ، ولسن بمعصومات اتفاقا ، فكذلك بقية أهل البيت . وأما بضعة منى : فمجاز قطعا فلم يستلزم عصمتها وأيضا فلا يلزم مساواة البعض للجملة في جميع الأحكام بل الظاهر أن المراد أنها كبضعة منى : فيما يرجع للخير والشفقة ، ودعواها أنه صلى الله عليه وآله وسلم نحلها فدك لم تأت عليها إلا بعلى وأم أيمن ، فلم يكمل نصاب البينة ، على أن في قبول شهادة الزوج لزوجته خلافا بين العلماء ، وعدم حكمه بشاهد ويمين ، إما لعلة كونه ممن لا يراه ككثيرين من العلماء ، أو أنها لم تطلب الحلف مع من شهد لها ، وزعمهم أن الحسن والحسين وأم كلثوم شهدوا لها باطل ، على أن شهادة الفرع والصغير غير مقبولة ، وقد صوب الإمام زيد بن الحسن بن على بن الحسين رضي الله عنهم ما فعله أبو بكر ، وقال : لو كنت مكانه لحكمت بمثل ما حكم به . وفى رواية تأتى في الباب الثانى أن أبا بكر كان رحيما وكان يكره أن يغير شيئا تركه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ولما قالت : أعطانى فدك ، فقال : هل لك بينة ، فشهد لها على وأم أيمن ، فقال لها : فبرجل وأمرأة تستحقينها . ثم قال زيد : والله ، لو رفع الأمر فيها إلى لقضيت بقضاء أبى بكر رضي الله عنه . وعن أخيه الباقر أنه قيل له : أظلمكم الشيخان من حقكم شيئا ؟ فقال : لا ومنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا ، ما ظلمنا من حقنا ما يزن حبة خردلة . وأخرج الدارقطنى ، أنه سئل ما كان يعمل على في سهم ذوى القربى ؟ قال: عمل فيه بما عمل أبو بكر وعمر ، وكان يكره أن يخالفهما . وأما عذر فاطمة في طلبها روايته لها الحديث ، فيحتمل أنه لكونها رأت أن خبر الواحد لا يخصص القرآن كما قيل به . فاتضح عذره في المنع وعذرها في الطلب ، فلا يشكل عليك ذلك ، وتأمله فإنه مهم . ويوضح ما قررناه في هذا المحل حديث البخاري ، فإنه مشتمل على نفائس تزيل ما في نفوس القاصرين من شبه وهو : عن الزهرى ، قال : أخبرني مالك بن أوس بن الحدثان النضرى ، أن عمر بن الخطاب دعاه إذ جاءه حاجبه يرفا فقال : هل لك في عثمان وعبد الرحمن والزبير وسعد يستأذنون ؟ قال : نعم ، فأدخلهم فلبث قليلا ، ثم جاء فقال : هل لك في عباس وعلى يستأذنان ؟ قال : نعم ، فلما دخلا قال عباس : يا أمير المؤمنين ، اقض بينى وبين هذا ، وهما يختصمان في الذي أفاء الله على رسوله من بنى النضير ، فاستب على وعباس ، فقال الرهط : يا أمير المؤمنين اقض بينهما وأرح أحدهما من الآخر . فقال عمر : اتئدوا أنشدكم بالله الذي بإذنه تكون السماء والأرض هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لا نورث ما تركناه صدقة ، يريد بذلك نفسه ، قالوا : قد قال ذلك . فأقبل عمر على على وعباس ، فقال : أنشدكما بالله هل تعلمان أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد قال ذلك ؟ قالا : نعم . قال : فإنى أحدثكم عن هذا الأمر ، إن الله كان خص رسوله في هذا الفيء بشيء لم يعطه أحدا غيره فقال : " وَمَا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ" إلى قوله "قَدِيرٌ"، فكانت هذه خالصة برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم والله ما اختارها دونكم ولا استأثر بها عليكم لقد أعطاكموها ، وقسمها فيكم حتى بقى هذا المال منها ، فكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ينفق على أهله نفقة سنتهم من هذا المال، ثم يأخذ ما بقى فيجعله مجعل مال الله فعمل بذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حياته ، ثم توفى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال أبو بكر رضي الله عنه : فأنا ولى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فقبضه أبو بكر يعمل فيه بما عمل فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنتم حينئذ ، وأقبل على على والعباس وقال: تذكرانى أن أبا بكر كان فيه كما تقولان ، والله يعلم أنه لصادق بار راشد تابع للحق، ثم توفى الله أبا بكر ، فقلت : أنا ولى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبى بكر ، فقبضته سنتين من إمارتى أعمل فيه بما عمل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبو بكر ، والله يعلم أنى فيه لصادق بار راشد تابع للحق ، ثم جئتمانى كلاكما وكلمتكما واحدة وأمركما جميع ، فجئتنى يعنى عباسا ، فقلت لكما إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : لا نورث ما تركناه صدقة، فلما بدا لي أن أدفعه إليكما قلت إن شئتما دفعته إليكما على أن عليكما عهد الله وميثاقه لتعملان فيه بما عمل فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبو بكر وما عملت فيه منذ وليت ، وألا فلا تكلمانى ، فقلتما ادفعه إلينا بذلك ، فدفعته إليكما ، أفتلتمسان منى قضاء غير ذلك ، فوالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض لا أقضى فيه بقضاء غير ذلك حتى تقوم الساعة ، فإن عجزتما عنه فادفعاه إلى فأنا أكفيكماه . قال ، فحدثت هذا الحديث عروة بن الزبير ، فقال : صدق مالك بن أوس أنا سمعت عائشة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم تقول أرسل أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم عثمان إلى أبى بكر يسألنه مما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم فكنت أنا أردهن ، فقلت لهن : ألا تتقين الله ، ألم تعلمن أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول : لا نورث ما تركناه صدقة ، يريد بذلك نفسه ؛ إنما يأكل آل محمد في هذا المال ، فانتهى أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى ما أخبرتهن . قال ، فكانت هذه الصدقة بيد على منعها على عباسا ، فغلبه عليها ، ثم كانت بيد الحسن بن على رضي الله عنهما ، ثم بيد الحسين بن على ، ثم بيد على بن الحسين ، وحسن بن حسن كلاهما كانا يتداولانها ، ثم بيد زيد بن حسن رضي الله عنهم ، وهى صدقة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حقا . ثم ذكر البخاري بسنده أن فاطمة والعباس أتيا أبا بكر يلتمسان ميراثهما أرضه من فدك وسهمه من خيبر ، فقال أبو بكر : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : لا نورث ما تركناه صدقة إنما يأكل آل محمد في هذا المال ، والله لقرابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحب إلى أن أصل من قرابتى. فتأمل ما في حديث عائشة والذى قبله تعلم حقيقة ما عليه أبو بكر رضي الله عنه ، وذلك أن استباب على والعباس صريح في أنهما متفقان على أنه غير إرث ، وإلا لكان للعباس سهمه ولعلى سهم زوجته ، ولم يكن للخصام بينهما وجه، فخصامهما إنما هو لكونه صدقة وكل منهما يريد أن يتولاها ، فأصلح بينهما عمر رضي الله عنهم وأعطاه لهما بعد أن بين لهما وللحاضرين السابقين ، وهم من أكابر العشرة المبشرين بالجنة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : لا نورث ما تركناه صدقة ، وكلهم حتى على والعباس أخبر بأنه يعلم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال ذلك ، فحين إذن أثبت عمر أنه غير إرث ثم دفعه إليهما ليعملا فيه بسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبسنة أبى بكر ، فأخذاه على ذلك وبين لهما أن ما فعله أبو بكر فيه كان فيه صادقا باراً راشداً تابعاً للحق ، فصدقاه على ذلك . فهل بقى لمعاند بعد ذلك من شبهة ؟! فإن زعم بقاء شبهة قلنا يلزمك أن تغلب على الجميع وأخذه من العباس ظلم لأنه يلزم على قولكم بالإرث ، أن للعباس فيه حصة ، فكيف مع ذلك ساغ لعلى أن يتغلب على الجميع ويأخذه من العباس ، ثم كان في يد بنيه وبنيهم من بعده ولم يكن منه شئ في يد بنى العباس ، فهل هذا من على وذريته إلا صريح الاعتراف بأنه صدقة ، وليس بإرث ، وإلا لزم عليه عصيان على وبنيه وظلمهم وفسقهم وحاشاهم الله من ذلك بل هم معصومون عند الإمامية ، ونحوهم ، فلا يتصور بهم ذنب ، فإذا استبدوا بذلك جميعه دون العباس وبنيه علمنا أنهم قائلون بأنه صدقة وليس بإرث ، وهذا عين مدعانا ، وتأمل أيضا أن أبا بكر منع أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم من ثمنهن أيضا ، فلم يخص المنع بفاطمة والعباس ولو كان مداره على محاباة لكان أولى محاباة ولده ، فلما لم يحاب عائشة ولم يعطها شيئا علمنا أنه على الحق المر الذي لا يخشى فيه لومة لائم . وتأمل أيضا تقرير عمر للحاضرين ولعلى وللعباس بحديث لا نورث وتقرير عائشة لأمهات المؤمنين به أيضا وقول كل منهما ألم تعلموا ! يظهر لك من ذلك أن أبا بكر لم ينفرد برواية هذا الحديث ، وأن أمهات المؤمنين وعلياً والعباس وعثمان وعبد الرحمن بن عوف والزبير وسعد كلهم كانوا يعلمون أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال ذلك ، وأن أبا بكر إنما انفرد باستحضاره أولاً ، ثم استحضره الباقون ، وعلموا أنهم سمعوه منه صلى الله عليه وآله وسلم: فالصحابة رضوان الله عليهم لم يعلموا برواية أبى بكر وحدها. ومن الردود... إن الحديث عن موقف فاطمة رضي الله عنها من ميراث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يكتنفه شيء من الغموض الناتج عن الاختصار الذي سارت عليه معظم الروايات التي تحدثت عن هذه القضية ، لذا فإن الجمع بين الروايات المتعددة والمتفرقة في بطون الكتب كفيل بتجلية هذا الغموض.
وخلاصة هذا الأمر ما أخرجه البخاري في صحيحه ، أن فاطمة رضي الله عنها (أرسلت إلى أبي بكر تسأله ميراثها من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ... فقال أبو بكر: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : (لا نورث ، ما تركنا صدقة) وإني والله لا أغير شيئاً من صدقة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم التي كانت عليها في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ولأعملن فيها بما عمل فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ... فوجدت فاطمة على أبي بكر في ذلك فهجرته ، فلم تكلمه حتى توفيت). قلت : وقد يظن بعض القراء أن الزهراء رضي الله عنها لم ترض بحكم الله سبحانه وتعالى في ميراث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ولكن حاشا لفاطمة رضي الله عنها أن تقف هذا الموقف ، وهي من هي ديناً وتقى وورعاً ، غير أن الرواية تحتاج إلى شيء من التفسير حتى تزول هذه الشبهة.
وخلاصة الأمر أن فاطمة رضي الله عنها عتبت على الصديق رضي الله عنه في أمر آخر مختلف تماماً ، إلا وهو أنها رضي الله عنها كانت ترغب أن يكون زوجها علياً رضي الله عنه قيًّماً على صدقة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، كما هو موضح في رواية البيهقي. ولكن الصديق رضي الله عنه كان يرى أن خليفة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو القيًّم على ميراث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. أما جملة ( فهجرته فلم تكلمه) الواردة في الرواية ، فقد بين الترمذي في سننه ، وعمر بن شبة في تاريخ المدينة ، أن المقصود هو أن فاطمة رضي الله عنها تركت تكليم الصديق رضي الله عنه في أمر الميراث. أي أنها تركت تكليمه في أن يكون زوجها علياً رضي الله عنه قيًّماً على صدقة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وحرصاً من الصديق رضي الله عنه على تطييب خاطر فاطمة رضي الله عنها فقد عادها في مرضها، وترضاها حتى رضيت رضوان الله عليها ، وهو ما أخرجه البيهقي ( أن أبا بكر عاد فاطمة ، فقال لها علي : هذا أبو بكر يستأذن عليك . قالت: أتحب أن آذن له ؟ قال : نعم . فأذنت له ، فدخل عليها فترضاها حتى رضيت). وهذا الفعل من أبي بكر رضي الله عنه يدل على محبته العظيمة لآل البيت ، كيف لا ، وهو القائل في الرواية التي أخرجها البخاري في صحيحه : ( والذي نفسي بيده ، لقرابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحب إليّ أن أصل من قرابتي). ولما توفيت فاطمة رضي الله عنه تولت أسماء بنت عميس زوج أبي بكر الصديق رضي الله عنهما تغسيل الزهراء ، كما أن الصديق كان ممن صلى عليها عند وفاتها رضوان الله عليهم أجمعين.[32]
ومن الردود على ادعاؤهم منع أبي بكر فاطمة ميراثها وقولهم (( ومنع أبو بكر فاطمة إرثها فقالت يا ابن أبي قحافة أترث أباك ولا أرث أبي ؟ والتجأ في ذلك إلى رواية انفرد بها – وكان هو الغريم لها ، لأن الصدقة تحل ّله – لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (( نحن معاشر الأنبياء لا نُورث ، ما تركناه صدقة )) على أن ما رووه عنه فالقرآن يخالف ذلك ، لأن الله تعالى قال:] ُيوصيكمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُم لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَينْ [.ولم يجعل الله ذلك خاصا بالأمة دونه صلى الله عليه وآله وسلم، وكذّب روايتهم فقال تعالى : ] وَوَرِثَ سُلَيْمَانَ دَاوُد [ ، وقال تعالى عن زكريا : ] وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَّدُنْكَ وَلِيًّا . يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوب [. والجواب من وجوه: أحدها: أن ما ذكر من قول فاطمة – رضي الله عنها -: أترث أباك ولا أرث أبي؟ لا يُعلم صحته عنها، وإن صحّ فليس فيه حجة، لأن أباها صلوات الله عليه وسلامه لا يُقاس بأحد من البشر، وليس أبو بكر أَوْلى بالمؤمنين من أنفسهم [كأبيها]، ولا هو ممن حرَّم الله عليه صدقة الفرض والتطوع كأبيها، ولا هو أيضاً ممن جعل الله محبته مقدمة على محبة الأهل والمال، كما جعل أباها كذلك. والفرق بين الأنبياء وغيرهم أن الله تعالى صان الأنبياء عن أن يورِّثوا دنيا، لئلا يكون ذلك شبهة لمن يقدح في نبوتهم بأنهم طلبوا الدنيا وخلَّفوها لورثتهم. وأما أبو الصديق وأمثاله فلا نبوة لهم يُقدح فيها بمثل ذلك، كما صان الله تعالى نبينا عن الخط والشعر صيانة لنبوّته عن الشبهة، وإن كان غيره لم يحتج إلى هذه الصيانة. الثاني: أن قوله: «والتجأ في ذلك إلى رواية انفرد بها» كذب؛ فإن قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «لا نُورَثُ ما تركنا فهو صدقة» رواه عنه أبو بكر وعمر وعثمان وعليّ وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن بن عوف والعباس بن عبد المطلب وأزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأبو هريرة، والرواية عن هؤلاء ثابتة في الصحاح والمسانيد، مشهورة يعلمها أهل العلم بالحديث، فقول القائل: إن أبا بكر انفرد بالرواية، يدل على فرط جهله أو تعمده الكذب. الثالث: قوله «وكان هو الغريم [لها]» كذب، فإن أبا بكر – رضي الله عنه – لم يدع هذا المال لنفسه ولا لأهل بيته، وإنما هو صدقة لمستحقها، كما أن المسجد حق للمسلمين. [والعدل] لو شهد على رجل أنه وصَّى بجعل بيته مسجداً، أو بجعل بئره مسبلة، أو أرضه مقبرة، ونحو ذلك، جازت شهادته باتفاق المسلمين، وإن كان هو ممن يجوز له أن يصلي في المسجد، ويشرب من تلك البئر، ويدفن في تلك المقبرة. فإن هذا شهادة لجهة عامة غير محصورة، والشاهد دخل فيها بحكم العموم لا بحكم التعيين، ومثل هذا لا يكون خصماً. ومثل هذا شهادة المسلم بحق لبيت المال مثل كون هذا الشخص لبيت المال عنده حق، وشهادته بأن هذا ليس له وارث إلا بيت المال، وشهادته على الذميّ بما يوجب نقض عهده وكون ماله فيئاً لبيت المال، ونحو ذلك. ولو شهد عدل بأن فلاناً وقّف ماله على الفقراء والمساكين قُبلت شهادته، وإن كان [الشاهد] فقيراً. الرابع: أن الصديق – رضي الله عنه – لم يكن من أهل هذه الصدقة، بل كان مستغنياً عنها، ولا انتفع هو ولا أحد من أهله بهذه الصدقة؛ فهو كما لو شهد قوم من الأغنياء على رجل أنه وصَّى بصدقة للفقراء؛ فإن هذه شهادة مقبولة بالاتفاق. الخامس: أن هذا لو كان فيه ما يعود نفعه على الراوي له من الصحابة لقُبلت روايته لأنه من باب الرواية لا من باب الشهادة، والمحدِّث إذا حدَّث بحديث في حكومة بينه وبين خصمه قُبلت روايته للحديث، لأن الرواية تتضمن حكماً عاماً يدخل فيه الراوي وغيره. وهذا من باب الخير، كالشهادة برؤية الهلال؛ فإن ما أمر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتناول الراوي وغيره، وكذلك ما نهى عنه، وكذلك ما أباحه. وهذا الحديث تضمَّن رواية بحكم شرعي، ولهذا تضمن تحريم الميراث على ابنة أبي بكر عائشة – رضي الله عنها -، وتضمن تحريم شرائه لهذا الميراث من الورثة واتِّهابه لذلك منهم، وتضمن وجوب صرف هذا المال في مصارف الصدقة. السادس: أن قوله: «علي أن ما رووه فالقرآن يخالف ذلك، لأن الله تعالى قال: }يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ{ [سورة النساء: 11] ولم يجعل الله ذلك خاصًّا بالأُمَّة دونه صلى الله عليه وآله وسلم. فيقال: أولاً : ليس في عموم لفظ الآية [ما يقتضي] أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يورث، فإن الله تعالى قال: }يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ{ [سورة النساء: 11]، وفي الآية الأخرى: }وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّهُنَّ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ{ إلى قوله: }مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَآ أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَآرٍّ{ [سورة النساء: 12]، وهذا الخطاب شامل للمقصودين بالخطاب وليس فيه ما يوجب أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مخاطب بها. و«كاف» الخطاب يتناول من قصده المخاطب، فإن لم يعلم أن المعين مقصود بالخطاب لم يشمله اللفظ، حتى ذهبت طائفة من الناس إلى أن الضمائر مطلقاً لا تقبل التخصيص [فكيف بضمير المخاطب؟] فإنه لا يتناول إلا من قُصد بالخطاب دون من لم يُقصد. ولو قُدِّر أنه عام يقبل التخصيص، فإنه عام للمقصودين بالخطاب، وليس فيها ما يقتضي كون النبي صلى الله عليه وآله وسلم من المخاطبين بهذا. فإن قيل: هب أن [الضمائر] ضمائر التكلم والخطاب والغيبة لا تدل بنفسها على شيء بعينه، لكن بحسب ما يقترن بها؛ فضمائر الخطاب موضوعة لمن يقصده المخاطِب بالخطاب، وضمائر التكلم لمن يتكلم كائناً من كان. لكن قد عرف أن الخطاب بالقرآن هو للرسول صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين جميعاً، كقوله تعالى: }كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ{ [سورة البقرة: 183] وقوله: }إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ{ [سورة المائدة: 6] ونحو ذلك. وكذلك قوله تعالى: }يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ{ [سورة النساء: 11]. قيل: بل «كاف» الجماعة في القرآن تارة تكون للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين، وتارة تكون لهم دونه. كقوله تعالى: }وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ{ [سورة الحجرات: 7]؛ فإن هذه «الكاف» للأمة دون النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وكذلك قوله تعالى: }لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ{ [سورة التوبة: 128]. وكذلك قوله تعالى: }أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ{ [سورة محمد:33] وقوله تعالى: }كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ{ [سورة آل عمران: 31] ونحو ذلك؛ فإن كان الخطاب في هذه المواضع لم يدخل فيها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، بل تناولت من أُرسل إليهم. فلم لا يجوز أن تكون الكاف في قوله تعالى: }يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ{ [سورة النساء: 11] مثل هذه الكافات، فلا يكون في السنة ما يخالف ظاهر القرآن. ومثل هذه الآية قوله تعالى: }وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ * وَآتُواْ النَّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيئًا{ [سورة النساء: 3 – 4]، فإن الضمير هنا في «خفتم» و«تقسطوا» و«انكحوا» و«طاب لكم» و«ما ملكت أيمانكم» إنما يتناول الأمة دون نبيها صلى الله عليه وآله وسلم، فإن [النبي صلى الله عليه وآله وسلم] له أن يتزوج أكثر من أربع، وله أن يتزوج بلا مهر، كما ثبت ذلك بالنص والإجماع. فإن قيل: ما ذكرتموه من الأمثلة فيها ما يقتضي اختصاص الأمة، فإنه لما ذكر ما يجب من طاعة الرسول وخاطبهم بطاعته ومحبته، وذكر بعثه إليهم، عُلم أنه ليس داخلاً في ذلك. قيل: وكذلك آية الفرائض لما قال: }آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً{ [سورة النساء: 11]، وقال: }مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ{ [سورة النساء: 11]، ثم قال: }تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ{ [سورة النساء: 13- 14]، فلما خاطبهم بعدم الدراية التي لا تناسب حال الرسول، وذكر بعد هذا ما يجب عليهم من طاعته فيما ذكره من مقادير الفرائض، وأنهم إن أطاعوا الله ورسوله في هذه الحدود استحقوا الثواب، وإن خالفوا الله والرسول استحقُّوا العقاب، وذلك بأن يعطوا الوارث أكثر من حقه، أو يمنعوا الوارث ما يستحقه – دلّ ذلك على أن المخاطبين المسلوبين الدراية [لما ذكر]، الموعودين على طاعة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، المتوعدين على معصية الله ورسوله وتعدّى حدوده فيما قدره من المواريث وغير ذلك، لم يدخل فيهم الرسول صلوات الله وسلامه عليه، كما لم يدخل في نظائرها. ولما كان ما ذكره من تحريم تعدّى الحدود عقب ذكر الفرائض المحدودة، دلّ على أنه لا يجوز أن يزاد أحد من أهل الفرائض على ما قُدِّر له، ودلّ على أنه لا تجوز الوصية لهم، وكان هذا ناسخاً لما أُمر به أولاً من الوصية للوالدين والأقربين. ولهذا قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم عام حجة الوداع: «إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث» رواه أهل السنن كأبي داود وغيره، [ورواه أهل السير]، واتفقت الأمة عليه، حتى ظن بعض الناس أن آية الوصية إنما نُسخت بهذا الخبر، لأنه لم ير بين استحقاق الإرث وبين استحقاق الوصية منافاة، والنسخ لا يكون إلا مع تنافي الناسخ والمنسوخ. وأما السلف والجمهور فقالوا: الناسخ هو آية الفرائض، لأن الله تعالى قدَّر فرائض محدودة، ومنع من تعدّي حدوده، فإذا أعطى الميت لوارثه أكثر مما حدَّه الله له، فقد تعدّى حدّ الله، فكان ذلك محرّماً، فإن ما زاد على المحدود يستحقه غيره من الورثة أو العصبة، فإذا أخذ حق العاصب فأعطاه لهذا كان ظالماً له. ولهذا تنازع العلماء فيمن ليس له عاصب: هل يردّ عليه أم لا؟ فمن منع الردّ قال: الميراث حق لبيت المال، فلا يجوز أن يعطاه غيره. ومن جوَّز الرد قال: إنما يوضع المال في بيت المال، لكونه ليس له مستحق خاص، وهؤلاء لهم رحم عام ورحم خاص، كما قال ابن مسعود – رضي الله عنه -: «ذو السهم أَوْلى ممن لا سهم له». والمقصود هنا أنه لا يمكنهم إقامة دليل على شمول الآية للرسول صلى الله عليه وآله وسلم أصلاً. فإن قيل: فلو مات أحد من أولاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ورثه، كما ماتت بناته الثلاث في حياته، ومات ابنه إبراهيم؟ قيل: الخطاب في الآية للموروث دون الوارث، فلا يلزم إذا دخل أولاده في كاف الخطاب لكونهم موروثين أن يدخلوا إذا كانوا وارثين. يوضح ذلك أنه قال: }وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ{ [سورة النساء: 11]، فذكره بضمير الغَيْبة لا بضمير الخطاب، وهو عائد على المخاطب بكاف الخطاب وهو الموروث، فكل من سوى النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أولاده وغيرهم موروثون شملهم النص وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم وراثاً لمن خوطب، ولم يخاطب هو بأن يورث أحداً شيئاً، وأولاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ممن شملهم كاف الخطاب فوصَّاهم بأولادهم للذكر مثل حظ الأنثيين، ففاطمة – رضي الله عنها - وصَّاها الله في أولادها للذكر مثل حظ الأنثيين، ولأبويها لو ماتت في حياتهما لكل واحد منهما السدس. فإن قيل: ففي آية الزوجين قال: (ولكم)، (ولهن). قيل: أولاً: هؤلاء يقولون: إن زوجاته لم يرثنه ولا عمه العباس، وإنما ورثته البنت وحدها. الثاني: أنه بعد نزول الآية لم يُعلم أنه ماتت واحدة من أزواجه ولها مال حتى يكون وارثاً لها. وأما خديجة – رضي الله عنها – فماتت بمكة، وأما زينب بنت خزيمة الهلالية فماتت بالمدينة، لكن من أين نعلم أنها خلَّفت مالاً، وأن آية الفرائض كانت قد نزلت. فإن قوله تعالى: }وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ{ [سورة النساء: 12] إنما تناول من ماتت له زوجة ولها تركة، فمن لم تمت زوجته أو ماتت ولا مال لها لم يخاطب بهذه الكاف. وبتقدير ذلك فلا يلزم من شمول إحدى الكافين له شمول الأخرى، بل ذلك موقوف على الدليل. فإن قيل: فأنتم تقولون: إن ما ثبت في حقه من الأحكام ثبت في حق أمته وبالعكس. فإن الله إذا أمره بأمر تناول الأمة، وإن ذلك قد عرف بعادة الشرع. ولهذا قال تعالى: }فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا{ [سورة الأحزاب: 37]، فذكر أنه أحل ذلك له، ليكون حلالاً لأمته. ولما خصّه بالتحليل قال: }وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ{ [سورة الأحزاب: 50] فكيف يقال إن هذه الكاف لم تتناوله؟ قيل: من المعلوم أن من قال ذلك قاله لما عرف من عادة الشارع في خطابه، كما يعرف من عادة الملوك إذا خاطبوا أميراً بأمر أن نظيره مخاطَب بمثل ذلك، فهذا يُعلم بالعادة والعرف المستقر في خطاب المخاطب، كما يُعلم معاني الألفاظ بالعادة المستقرة لأهل تلك اللغة: أنهم يريدون ذلك المعنى. وإذا كان كذلك فالخطاب بصيغة الجمع قد تنوعت عادة القرآن فيها: تارة تتناول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وتارة لا تتناوله، فلا يجب أن يكون هذا الموضع مما تناوله، وغاية ما يدّعي المدّعي أن يقال: الأصل شمول الكاف له، كما يقول: الأصل مساواة أمته له في الأحكام، ومساواته لأمته في الأحكام، حتى يقوم دليل التخصيص. ومعلوم أن له خصائص كثيرة خُصَّ بها عن أمته. وأهل السنة يقولون: من خصائصه أنه لا يورث، فلا يجوز أن يُنكر اختصاصه بهذا الحكم إلا كما ينكر اختصاصه بسائر الخصائص، لكن للإنسان أن يطالب بدليل الاختصاص. ومعلوم أن الأحاديث الصحيحة المستفيضة، بل المتواترة [عنه] في أنه لا يورث، أعظم من الأحاديث المروية في كثير من خصائصه، مثل اختصاصه بالفيء وغيره. وقد تنازع السلف والخلف في كثير من الأحكام: هل هو من خصائصه؟ كتنازعهم في الفيء والخمس، هل كان ملكاً له أم لا؟ وهل أُبيح له من حُرِّم عليه من النساء أم لا؟ ولم يتنازع السلف في أنه لا يُورث، لظهور ذلك عنه واستفاضته في أصحابه. وذلك أن الله تعالى قال في كتابه: }يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ{ [سورة الأنفال: 1]، وقال في [كتابه]: }وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ{ [سورة الأنفال: 41]، وقال في كتابه: }مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ{ [سورة الحشر: 7]. ولفظ آية الفيء كلفظ آية الخمس، وسورة الأنفال نزلت بسبب بدر، فدخلت الغنائم في ذلك بلا ريب، وقد يدخل في ذلك سائر ما نفله الله للمسلمين من مال الكفار. كما أن لفظ «الفيء» قد يُراد به كل ما أفاء الله على المسلمين، فيدخل فيه الغنائم، وقد يختص ذلك بما أفاء الله عليهم مما لم يُوجف عليه المسلمون بخيل ولا ركاب. ومن الأول قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «ليس لي مما أفاء الله عليكم إلا الخُمُس، والخمس مردود عليكم». فلما أضاف هذه الأموال إلى الله والرسول رأى طائفة من العلماء أن [هذه] الإضافة تقتضي أن ذلك ملك للرسول صلى الله عليه وآله وسلم كسائر أملاك الناس، ثم جعلت الغنائم بعد ذلك للغانمين، وخُمُسها لمن سمى، وبقي الفيء، أو أربعة أخماسه، ملكاً للرسول صلى الله عليه وآله وسلم، كما يقول ذلك الشافعي، وطائفة من أصحاب أحمد، وإنما ترددوا في الفيء، فإن عامة العلماء لا يخمِّسون الفيء، وإنما قال بتخميسه الشافعي وطائفة من أصحاب أحمد كالخرقي. وأما مالك وأبو حنيفة وأحمد وجمهور أصحابه وسائر أئمة المسلمين فلا يرون تخميس الفيء، وهو ما أُخذ من المشركين بغير قتال، كالجزية والخراج. وقالت طائفة ثانية من العلماء: بل هذه الإضافة لا تقتضي أن تكون الأموال ملكاً للرسول، بل تقتضي أن يكون أمرها إلى الله والرسول، فالرسول ينفقها فيما أمره الله [به]. كما ثبت في صحيح البخاري عن أبي هريرة – رضي الله عنه – عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «إني والله لا أُعطي أحداً ولا أمنع أحداً، وإنما أنا قاسم أضع حيث أمرت». وقال أيضاً في الحديث الصحيح: «تسُّموا باسمي، ولا تكنوا بكنيتي، فإنما أنا قاسم أُقسم بينكم». فالرسول مبلِّغ عن الله أمره ونهيه، فالمال المضاف إلى الله ورسوله، هو المال الذي يُصرف فيما أمر الله به ورسوله من واجب ومستحب، بخلاف الأموال التي ملَّكها الله لعباده، فإن لهم صرفها في المباحات. ولهذا لما قال الله في المكاتبين:}وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ{ [سورة النور:33] ذهب أكثر العلماء، كمالك وأبي حنيفة وغيرهما، إلى أن المراد: آتاكم [الله] من الأموال التي ملَّكها الله لعباده، فإنه لم يضفها إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، بخلاف ما أضافه إلى الله والرسول، فإنه لا يُعطي إلا فيما أمر الله به ورسوله. فالأنفال لله والرسول، لأن قسمتها إلى الله والرسول ليست كالمواريث التي قسمها الله بين المستحقين. وكذلك مال الخُمس ومال الفيء. وقد تنازع العلماء في الخمس والفيء، فقال مالك [وغيره من العلماء]: مصرفهما واحد، وهو فيما أمر الله به ورسوله، وعيَّن ما عيَّنه من اليتامى والمساكين وابن السبيل تخصيصاً لهم بالذكر. وقد رُوي عن أحمد بن حنبل ما يوافق ذلك، وأنه جعل مصرف الخُمس من الركاز مصرف الفيء، وهو تبع لخمس الغنائم. وقال الشافعي، وأحمد في الرواية المشهورة: الخمس يقسم على خمسة أقسام. وقال أبو حنيفة: على ثلاثة، فأسقط سهم الرسول وذوي القربى بموته صلى الله عليه وآله وسلم. وقال داود بن على: بل مال الفيء [أيضاً] يُقسَّم [على خمسة أقسام]. والقول الأول أصح [الأقوال] كما قد بُسطت أدلته في غير هذا الموضع، وعلى ذلك تدل سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وسنة خلفائه الراشدين. فقوله: (لله وللرسول) في الخمس والفيء، كقوله في الأنفال: (لله والرسول) فالإضافة للرسول لأنه هو الذي يقسِّم هذه الأموال بأمر الله، ليست ملكاً لأحد. وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «إني والله لا أعطي أحداً ولا أمنع أحداً، وإنما أنا قاسم أضع حيث أُمرت» يدل على أنه ليس بمالك للأموال، وإنما هو منفذ لأمر الله عز وجل فيها، وذلك لأن الله خيَّره بين أن يكون ملكاً نبيًّا وبين أن يكون عبداً رسولاً، فاختار أن يكون عبداً رسولاً، وهذا أعلى المنزلتين، فالملك يصرف المال فيما أحب ولا إثم عليه، والعبد الرسول لا يصرف المال إلا فيما أُمر به، فيكون فيما يفعله عبادة لله وطاعة له، ليس في قسمه ما هو من المباح الذي لا يُثاب عليه، بل يُثاب عليه كله. وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «ليس لي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس، والخمس مردود عليكم» يؤيد ذلك، فإن قوله: «لي» أي أمره إليّ، ولهذا قال: «والخمس مردود عليكم». وعلى هذا الأصل فما كان بيده من أموال بني النضير وفَدَك وخُمس خيبر وغير ذلك، هي كلها من مال الفيء الذي لم يكن يملكه فلا يورث عنه، وإنما يورث عنه ما يملكه. بل تلك الأموال يجب أن تُصرف فيما يحبه الله ورسوله من الأعمال. وكذلك قال [أبو بكر] الصديق – رضي الله عنه -. وأما ما قد يظن أن مَلَكَه، كمال أوصى له به [مخيريق] وسهمه من خيبر، فهذا إما أن يُقال: حُكمه حكم المال الأول، وإما أن يُقال: هو ملكه، ولكن حكم الله في حقه أن يأخذ من المال حاجته، وما زاد على ذلك يكون صدقة ولا يُورث. كما في الحديث الصحيح عن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لا يقتسم ورثتي ديناراً ولا درهماً، ما تركت بعد نفقة نسائي ومؤنة عاملي فهو صدقة». وفي الصحيحين عن أبي هريرة – رضي الله عنه – عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لا نورث، ما تركناه فهو صدقة» أخرجه البخاري عن جماعة منهم أبو هريرة – رضي الله عنه-، ورواه مسلم عنه وعن غيره. يبيِّن ذلك أن هذا مذكور في سياق قوله تعالى: }وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ * وَآتُواْ النَّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيئًا{ [ سورة النساء: 3، 4] إلى قوله: }يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ{ [ سورة النساء: 11]. ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يخاطب بهذا، فإنه ليس مخصوصاً بمثنى ولا ثلاث ولا رباع، بل له أن يتزوج أكثر من ذلك، ولا مأموراً بأن يوفِّي كل امرأة صداقها، بل له أن يتزوج من تهب نفسها له بغير صداق. كما قال تعالى: }يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَيْكَ{ [سورة الأحزاب: 50] إلى قوله: }وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلاَ يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا{ [سورة الأحزاب: 50]. وإذا كان سياق الكلام إنما هو خطاب للأمة دونه لم يدخل هو في عموم هذه الآية. فإن قيل: بل الخطاب متناول له وللأمة في عموم هذه الآية، لكن خُصَّ هو من آية النكاح والصداق. قيل: وكذلك خص من آية الميراث، فما قيل في تلك يقال مثله في هذه وسواء قيل: إن لفظ الآية شمله وخُصَّ منه، أو قيل: إنه لم يشمله لكونه ليس من المخاطبين: يقال مثله هنا. السابع: أن يقال: هذه الآية لم يُقصد بها بيان من يورث [ومن لا يورث]، ولا بيان صفة الموروث والوارث، وإنما قُصد بها أن المال الموروث يقسم بين الوارثين على هذا التفصيل. فالمقصود هنا بيان مقدار أنصبة هؤلاء المذكورين إذا كانوا ورثة. ولهذا لو كان الميت مسلماً وهؤلاء كفّاراً لم يرثوا باتفاق المسلمين، وكذلك لو كان كافراً وهؤلاء مسلمين لم يرثوا بالسنة وقول جماهير المسلمين، وكذلك لو كان عبداً وهم أحرار، أو كان حرًّا وهم عبيد. وكذلك القاتل عمداً عند عامة المسلمين، وكذلك القاتل خطأ من الدية. وفي غيرها نزاع. وإذا علم أن في الموتى من يرثه أولاده، وفيهم من لا يرثه أولاده، والآية لم تفصِّل: من يرثه ورثته ومن لا يرثه، ولا صفة الوارث والموروث، عُلم أنه لم يُقصد بها بيان ذلك، بل قُصد بها بيان حقوق هؤلاء إذا كانوا ورثة. وحينئذ فالآية إذا لم تبيِّن من يورث ومن يرثه، لم يكن فيها دلالة على كون [غير] النبي صلى الله عليه وآله وسلم يرث أو لا يورث، فلأن لا يكون فيها دلالة على كونه هو يورث بطريق الأَوْلَى والأحرى. وهكذا كما في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «فيما سقت السماء العُشر، فيما سُقِيَ بالدوالي والنواضح فنصف العُشر» فإن قصد به الفرق بين ما يجب فيه العشر وبين ما يجب فيه نصف العشر، ولم يقصد به بيان ما يجب فيه أحدهما وما لا يجب واحد منهما، فلهذا لا يحتج بعمومه على وجوب الصدقة في الخضروات. وقوله تعالى: }وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا{ [سورة البقرة: 275] قصد فيه الفرق بين البيع والربا: في أن أحدهما حلال والآخر حرام، ولم يقصد فيه بيان ما يجوز بيعه وما لا يجوز، فلا يُحتج بعمومه على جواز بيع كل شيء. ومن ظن أن قوله: }وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ{ يعم بيع الميتة والخنزير والخمر والكلب وأم الولد والوقف وملك الغير والثمار قبل بدو صلاحها ونحو ذلك – كان غالطاً. الوجه الثامن: أن يقال: هب أن لفظ الآية عام، فإنه خصَّ منها الولد الكافر والعبد والقاتل بأدلة هي أضعف من الدليل الذي دلّ على خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم منها؛ فإن الصحابة الذين نقلوا عنه أنه لا يورث أكثر وأجل من الذين نقلوا عنه أن المسلم لا يرث الكافر، وأنه ليس لقاتل ميراث، وأن من باع عبداً وله مال فماله للبائع إلا أن يشترطه المبتاع. وفي الجملة فإذا كانت الآية مخصوصة بنص أو إجماع، كان تخصيصها بنص آخر جائزاً باتفاق علماء المسلمين. بل قد ذهب طائفة إلى أن العام المخصوص يبقى مجملاً. وقد تنازع العلماء في تخصيص عموم القرآن إذا لم يكن مخصوصاً [بخبر الواحد]، فأما العام المخصوص فيجوز تخصيصه بخبر الواحد عند عوامهم، لاسيما الخبر المتلقى بالقبول؛ فإنهم متفقون على تخصيص عموم القرآن به. وهذا الخبر تلقته الصحابة بالقبول، وأجمعوا على العمل به، كما سنذكره [إن شاء الله تعالى]. والتخصيص بالنص المستفيض والإجماع متفق عليه. ومن سلك هذا المسلك يقول: ظاهر الآية العموم، لكنه عموم مخصوص. ومن سلك المسلك الأول لم يسلم ظهور العموم إلا فيمن عُلم أن هؤلاء يرثونه، ولا يُقال: إن ظاهرها متروك، بل نقول: لم يُقصد بها إلا بيان نصيب الوارث، لا بيان الحال التي يثبت فيها الإرث، فالآية عامة في الأولاد والموتى، مطلقة في [الموروثين. وأما] شروط الإرث فلم تتعرض له الآية، بل هي مطلقة فيه: لا تدل عليه بنفي ولا إثبات. كما في قوله تعالى:}فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ{ [سورة التوبة: 5] عام في الأشخاص، مطلق في المكان والأحوال. فالخطاب المقيِّد لهذا المطلق يكون خطاباً مبتدأً مبيِّناً لحكم شرعي لم يتقدم ما ينافيه، لا يكون رافعاً لظاهر خطاب شرعي، فلا يكون مخالفاً للأصل. الوجه التاسع: أن يقال: كون النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يُورث ثبت بالسنة المقطوع بها وبإجماع الصحابة، وكل منهما دليل قطعي، فلا يُعارض ذلك بما يُظن أنه عموم، وإن كان عموماً فهو مخصوص، لأن ذلك لو كان دليلاً لما كان إلا ظنياً، فلا يعارض القطعي؛ إذ الظني لا يعارض القطعي. وذلك أن هذا الخبر رواه غير واحد من الصحابة في أوقات ومجالس، وليس فيهم من ينكره، بل كلهم تلقَّاه بالقبول والتصديق. ولهذا لم يُصرّ أحد من أزواجه على طلب الميراث، ولا أصرّ العم على طلب الميراث، بل من طلب من ذلك شيئاً فأُخبر بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم رجع عن طلبه. واستمر الأمر على ذلك على عهد الخلفاء الراشدين إلى عليّ، فلم يغير شيئاً من ذلك ولا قسم له تركة. الوجه العاشر: أن يقال: إن أبا بكر وعمر قد أعطيا عليًّا وأولاده من المال أضعاف، أضعاف ما خلَّفه النبي صلى الله عليه وآله وسلم من المال. والمال الذي خلّفه صلى الله عليه وآله وسلم لم ينتفع واحد [منهما] منه بشيء، بل سلَّمه عمر إلى عليّ والعباس – رضي الله عنهم يليانه ويفعلان فيه ما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يفعله. وهذا مما يوجب انتفاء التهمة عنهما في ذلك. الوجه الحادي عشر: أن يقال: قد جرت العادة بأن الظلمة من الملوك إذا تولوا بعد غيرهم من الملوك الذين أحسنوا إليهم أو ربُّوهم، وقد انتزعوا الملك من بيت ذلك الملك، استعطفوهم وأعطوهم ليكفُّوا عنهم منازعتهم، فلو قُدِّر – والعياذ بالله – أن أبا بكر وعمر – رضي الله عنهما – متغلبان متوثِّبان، لكانت العادة تقضي بأن لا يزاحما الورثة المستحقين للولاية والتركة [في المال]، بل يعطيانهم ذلك وأضعافه ليكفوا عن المنازعة في الولاية. وأما منع الولاية والميراث بالكلية فهذا لا يُعلم أنه فعله أحد من الملوك، وإن كان من أظلم الناس وأفجرهم. فعُلم أن الذي فعلوه مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر خارج عن العادة الطبيعية في الملوك، كما هو خارج عن العادات الشرعية في المؤمنين، وذلك لاختصاصه صلى الله عليه وآله وسلم بما لم يخص الله به غيره من ولاة الأمور وهو النبوة، إذ الأنبياء لا يورثون. الوجه الثاني عشر: أن قوله تعالى: }وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ{ [سورة النمل: 16]، وقوله تعالى [عن زكريا]: }فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ{ [سورة مريم: 5، 6] لا يدل على محل النزاع؛ لأن الإرث اسم جنس تحته أنواع، والدال على ما به الاشتراك لا يدل على ما به الامتياز. فإذا قيل: هذا حيوان، لا يدل على أنه إنسان أو فرس أو بعير. وذلك أن لفظ «الإرث» يُستعمل في إرث العلم والنبوة والملك وغير ذلك من أنواع الانتقال، قال تعالى: }ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا{ [سورة فاطر: 32]. وقال تعالى: }أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ{ [سورة المؤمنون: 10، 11]. وقال تعالى: }وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ{ [الزخرف: 72]. وقال تعالى: }وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَّمْ تَطَؤُوهَا{ [سورة الأحزاب: 27]. وقال تعالى: }إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ{ [سورة الأعراف: 128]. وقال تعالى: }وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا{ [سورة الأعراف: 137]. وقال تعالى: }وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ{ [سورة الأنبياء: 105]. وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهما، وإنما ورّثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر» رواه أبو داود وغيره. وهكذا لفظ «الخلافة» ولهذا يقال: الوارث خليفة الميت، أي خلفه فيما تركه. والخلافة قد تكون في المال، وقد تكون في الملك، وقد تكون في العلم، وغير ذلك. وإذا كان كذلك فقوله تعالى: }وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ{ [سورة النمل: 16]، وقوله: }يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ{ [سورة مريم: 6] إنما يدل على جنس الإرث، لا يدل على إرث المال. فاستدلال المستدل بهذا الكلام على خصوص إرث المال جهل منه بوجه الدلالة، كما لو قيل: هذا خليفة هذا، وقد خلفه – كان دالاً على خلافة مطلقة، لم يكن فيها ما يدل على أنه خلفه في ماله أو امرأته أو ملكه أو غير ذلك من الأمور. الوجه الثالث عشر: أن يقال: المراد بهذا الإرث إرث العلم والنبوة ونحو ذلك لا إرث المال. وذلك لأنه قال: }وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ{ [سورة النمل: 16]، ومعلوم أن داود كان له أولاد كثيرون غير سليمان، فلا يختص سليمان بماله. وأيضاً فليس في كونه ورث ماله صفة مدح، لا لداود ولا لسليمان، فإن اليهودي والنصراني يرث أباه ماله، والآية سيقت في بيان المدح لسليمان، وما خصّه الله به من النعمة. وأيضاً فإرث المال هو من الأمور العادية المشتركة بين الناس، كالأكل، والشرب، ودفن الميت. ومثل هذا لا يُقصُّ عن الأنبياء إذ لا فائدة فيه، وإنما يُقص ما فيه عبرة وفائدة تُستفاد، وإلا فقول القائل: «مات فلان وورث ابنُه ماله» مثل قوله: «ودفنوه» ومثل قوله: «أكلوا وشربوا وناموا» ونحو ذلك مما لا يحسن أن يُجعل من قصص القرآن. وكذلك قوله [عن زكريا]: }يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ{ [سورة مريم: 6] [ليس المراد به إرث المال؛ لأنه لا يرث من آل يعقوب شيئاً من] أموالهم بل إنما يرثهم ذلك أولادهم وسائر ورثتهم لو ورثوا، ولأن النبي لا يطلب ولداً ليرث ماله؛ فإنه لو كان يورث لم يكن بد من أن ينتقل المال إلى غيره: سواء كان ابناً أو غيره، فلو كان مقصوده بالولد أن يرث ماله، كان مقصوده أنه لا يرثه أحد غير الولد. وهذا لا يقصده أعظم الناس بخلاً وشحًّا على من ينتقل إليه المال، فإنه لو كان الولد موجوداً وقصد إعطاء الولد وأما إذا لم يكن له ولد، وليس مراده بالولد إلا أن يحوز المال دون غيره، كان المقصود أن لا يأخذ أولئك المال، وقصد الولد بالقصد الثاني، وهذا يقبح نم أقل الناس عقلاً وديناً. وأيضاً فزكريا - عليه السلام - لم يُعرف له مال، بل كان نجاراً. ويحيى ابنه - عليه السلام – كان من أزهد الناس. وأيضاً فإنه قال: }وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي{ [سورة مريم: 5] ومعلوم أنه لم يخف أن يأخذوا ماله [من بعده] إذا مات، فإن هذا ليس بمخوف. فصل في الباب نفسه. قال الطاعن : «ولما ذكرت فاطمة أن أباها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهبها فدك قال [لها]: هات أسود أو أحمر يشهد لك بذلك، فجاءت بأم أيمن، فشهدت لها بذلك، فقال: امرأة لا يقبل قولها. وقد رووا جميعاً أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: أم أيمن امرأة من أهل الجنة، فجاء أمير المؤمنين فشهد لها بذلك، فقال: هذا بعلك يجرّه إلى نفسه ولا نحكم بشهادته لكِ وقد رووا جميعاً أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: عليٌّ مع الحق، والحق معه يدور [معه] حيث دار لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض، فغضبت فاطمة – عليها السلام – عند ذلك وانصرفت، وحلفت أن لا تكلمه ولا تصاحبه حتى تلقى أباها وتشكو إليه، فلما حضرتها الوفاة أوصت عليًّا أن يدفنها ليلاً ولا يدع أحداً منهم يصلِّي عليها. وقد رووا جميعاً أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: يا فاطمة! إن الله تعالى يغضب لغضبك ويرضى لرضاك. ورووا جميعاً [أنه قال]: فاطمة بضعة مني، من آذاها فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله. ولو كان هذا الخبر صحيحاً حقًّا لما جاز له ترك البغلة التي خلَّفها النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسيفه وعمامته عند أمير المؤمنين عليّ، ولما حكم له بها لما ادّعاها العباس، ولكان أهل البيت الذين طهّرهم الله في كتابه من الرجس مرتكبين ما لا يجوز، لأن الصدقة عليهم محرَّمة. وبعد ذلك جاء إليه مال البحرين وعنده جابر بن عبد الله الأنصاري، فقال له: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لي: «إذا أتى مال البحرين حثوت لك، ثم حثوت لك، [ثلاثاً]، فقال له: تقدم فخذ بعددها، فأخذ [من بيت] مال المسلمين من غير بيِّنة بل بمجرد قوله». والجواب: أن في هذا الكلام من الكذب والبهتان والكلام الفاسد ما لا يكاد يحصى إلا بكلفة، ولكن سنذكر من ذلك وجوهاً [إن شاء الله تعالى]. أحدها: أن ما ذكر من ادّعاء فاطمة – رضي الله عنها – فَدَك فإن هذا يناقض كونها ميراثاً لها، فإن كان طلبها بطريق الإرث امتنع أن يكون بطريق الهبة، وإن كان بطريق الهبة امتنع أن يكون بطريق الإرث، ثم إن كانت هذه هبة في مرض الموت، فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منزّه، إن كان يُورث كما يورث غيره، أن يوصي لوارث أو يخصه في مرض موته بأكثر من حقه، وإن كان في صحته فلا بد أن تكون هذه هبة مقبوضة، وإلا فإذا وهب الواهب بكلامه ولم يقبض الموهوب شيئاً حتى مات الواهب كان ذلك باطلاً عند جماهير العلماء، فكيف يهب النبي صلى الله عليه وآله وسلم فَدَك لفاطمة ولا يكون هذا أمراً معروفاً عند أهل بيته والمسلمين، حتى تختص بمعرفته أم أيمن أو علي رضي الله عنهما؟ الوجه الثاني: أن ادّعاء فاطمة ذلك كذب على فاطمة، [وقد قال الإمام أبو العباس بن سريج في الكتاب الذي صنَّفه في الرد على عيسى بن أبان لما تكلم معه في باب اليمين والشاهد، واحتجّ بما احتجّ، وأجاب عما عارض به عيسى بن أبان، قال: وأما حديث البحتري بن حسَّان عن زيد بن عليّ أن فاطمة ذكرت لأبي بكر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أعطاها فَدَك، وأنها جاءت برجل وامرأة، فقال: رجل مع رجل، وامرأة مع امرأة، فسبحان الله ما أعجب هذا قد سألت فاطمة أبا بكر ميراثها وأخبرها عن رسول الله عليه وسلم أنه قال: لا نُورث، وما حكى في شيء من الأحاديث أن فاطمة ادّعتها بغير الميراث، ولا أن أحداً شهد بذلك. ولقد روى جرير عن مغيرة عن عمر بن عبد العزيز أنه قال في فَدَك: «إن فاطمة سألت النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يجعلها لها فأبى، وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان ينفق منها ويعود على ضَعَفَة بني هاشم ويزوّج منه أَيِّمَهُمْ، وكانت كذلك حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمر صدقة وقبلت فاطمة الحق، وإني أُشهدكم أني رددتها إلى ما كانت في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم». ولم يُسمع أن فاطمة – رضي الله عنها – ادّعت أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أعطاها إياها في حديث ثابت متصل، ولا أن شاهداً شهد لها. ولو كان ذلك لحُكي، لأنها خصومة وأمر ظاهر تنازعت فيه الأمة وتحادثت فيه، فلم يقل أحد من المسلمين: شهدت النبي صلى الله عليه وآله وسلم أعطاها فاطمة ولا سمعت فاطمة تدّعيها حتى جاء البحتري بن حسَّان يحكي عن زيد شيئاً لا ندري ما أصله، ولا من جاء به، وليس من أحاديث أهل العلم: فضل بن مرزوق عن البحتري عن زيد، وقد كان ينبغي لصاحب الكتاب أن يكف عن بعض هذا الذي لا معنى له، وكان الحديث قد حسن بقول زيد: لو كنت أنا لقضيت بما قضى به أبو بكر. وهذا مما لا يثبت على أبي بكر ولا على فاطمة لو لم يخالفه أحد، ولو لم تجر فيه المناظرة ويأتي فيها الرواية، فكيف وقد جاءت؟ وأصل المذهب أن الحديث إذا ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم قال أبو بكر بخلافه، إن هذا من أبي بكر - رحمه الله - كنحو ما كان منه في الجدّة، وأنه متى بلغه الخبر رجع إليه. ولو ثبت هذا الحديث لم يكن فيه حجة، لأن فاطمة لم تقل: إني أحلف مع شاهدي فمنعت. ولم يقل أبو بكر: إني لا أرى اليمين مع الشاهد. قالوا: وهذا الحديث غلط؛ لأن أسامة بن زيد يروي عن الزهري عن مالك بن أوس بن الحَدَثَان، قال: كان مما احتج به عمر أن قال: كانت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثلاث صفايا: بنو النضير، وخيبر، وفدك. فأما بنو النضير فكانت حُبساً لنوائبه. وأما فَدَك فكانت حُبُساً لأبناء السبيل، وأما خيبر فجزَّأها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثة أجزاء: جزئين بين المسلمين، وجزءً نفقة لأهله، فما فَضَلَ عن نفقة أهله جعله بين فقراء المهاجرين جزئين. وروى الليث عن عقيل عن ابن شهاب عن عُروة عن عائشة أنها أخبرته أن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أرسلت إلى أبي بكر الصديق تسأله ميراثها من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مما أفاء الله عليه بالمدينة وفَدَك وما بقي من خُمس خيبر، فقال أبو بكر: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا نُورَث ما تركنا صدقة، وإنما يأكل آل محمد من هذا المال، وإني والله لا أغيّر شيئاَ من صدقة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن حالها التي كانت عليها في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولأعملن فيها بما عمل به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة منها شيئاً. ورواه شعيب بن أبي حمزة عن الزهري قال: حدثني عُروة: أن عائشة أخبرته بهذا الحديث. قال: وفاطمة – رضي الله عنها – حينئذ تطلب صدقة رسول الله التي بالمدينة وفَدَك وما بقي من خًمس خيبر. قالت عائشة: فقال أبو بكر: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا نورث ما تركنا صدقة، وإنما يأكل آل محمد في هذا المال، يعني مال الله - عز وجل -، ليس لهم أن يزيدوا على المال. ورواه صالح عن ابن شهاب عن عروة أن عائشة قالت فيه: فأبى أبو بكر عليها ذلك، وقال: لست تاركاً شيئاً كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعمل به إلا عملت به، إني أخشى إن تركت شيئاَ من أمره أن أزيغ. فأما صدقته بالمدينة فدفعها عمر إلى عليّ وعباس، فغلب عليّ عليها. وأما خيبر وفَدَك فأمسكها عمر، وقال: هما صدقة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كانتا لحقوقه التي تعروه ونوائبه، وأمرها إلى من وَلِيَ الأمر. قال: فهما على ذلك إلى اليوم. فهذه الأحاديث الثابتة المعروفة عند أهل العلم، وفيها ما يبيّن أن فاطمة – رضي الله عنها – طلبت ميراثها من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على ما كانت تعرف من المواريث، فأُخبرت بما كان من رسول الله فسلّمت ورجعت، فكيف تطلبها ميراثاً وهي تدّعيها مِلْكاً بالعطيّة؟ هذا ما لا معنى فيه. وقد كان ينبغي لصاحب الكتاب أن يتدبّر، ولا نحتج بما يوجد في الأحاديث الثابتة لرده وإبانة الغلط فيه، ولكن حبك الشيء يعمي ويصم. وقد روي عن أنس أن أبا بكر قال لفاطمة وقد قرأت عليه إني أقرأ مثل ما قرأت ولا يبلغن علمي أن يكون قاله كله. قالت فاطمة: هو لك ولقرابتك؟ قال: لا وأنت عندي مصدَّقة أمينة، فإن كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عهد إليك في هذا، أو وعدك فيه موعداً أو أوجبه لكم حقًّا صدَّقتك. فقالت: لا غير أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال حين أُنزل عليه: «أبشروا يا آل محمد وقد جاءكم الله عز وجل بالغنى». قال أبو بكر: صدق الله ورسوله وصدقت، فلكم الفيء، ولم يبلغ علمي بتأويل هذه أن استلم هذا السهم كله كاملاً إليكم، ولكن الفيء الذي يسعكم. وهذا يبيّن أن أبا بكر كان يقبل قولها، فكيف يرده ومعه شاهد وامرأة؟ ولكنه يتعلق بكل شيء يجده. الوجه الثالث: أن يقال: إن كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يورث فالخصم في ذلك أزواجه وعمه، ولا تُقبل عليهم شهادة امرأة واحدة ولا رجل واحد بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم واتفاق المسلمين، وإن كان لا يُورث فالخصم في ذلك المسلمون، فكذلك لا يقبل عليهم شهادة امرأة واحدة ولا رجل واحد باتفاق المسلمين، ولا رجل وامرأة. نعم يُحكم في [مثل] ذلك بشهادة ويمين الطالب عند فقهاء الحجاز [وفقهاء أصحاب] الحديث. وشهادة الزوج لزوجته فيها قولان مشهوران للعلماء، هما روايتان عن أحمد: إحداهما: لا تُقبل، وهي مذهب أبي حنيفة ومالك والليث بن سعد والأوزاعي وإسحاق وغيرهم. والثانية: تُقبل، وهي مذهب الشافعي وأبي ثور وابن المنذر وغيرهم. فعلى هذا لو قُدِّر صحة هذه القصة لم يجز للإمام أن يحكم بشهادة رجل واحد ولا امرأة واحدة باتفاق المسلمين، لاسيما وأكثرهم يجيزون شهادة الزوج، ومن هؤلاء من لا يحكم بشاهد ويمين، ومن يحكم بشاهد ويمين لم يُحكم للطالب حتى يحلّفه. الوجه الرابع: قوله: «فجاءت بأم أيمن فشهدت لها بذلك، فقال: امرأة لا يُقبل قولها. وقد رووا جميعاً أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «أم أيمن امرأة من أهل الجنة». الجواب: أن هذا احتجاج جاهل مفرط في الجهل يريد أن يحتج لنفسه فيحتج عليها، فإن هذا القول لو قاله الحجَّاج بن يوسف والمختار بن أبي عبيد وأمثالهما لكان قد قال حقًّا، فإن امرأة واحدة لا يقبل قولها في الحكم بالمال لمدعٍ يريد أن يأخذ ما هو في الظاهر لغيره، فكيف إذا حُكي مثل هذا عن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -؟! وأما الحديث الذي ذكره وزعم أنهم رووه جميعاً، فهذا الخبر لا يعرف في شيء من دواوين الإسلام ولا يُعرف عالم من علماء الحديث رواه. وأم أيمن هي أم أسامة بن زيد، وهي حاضنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهي من المهاجرات، ولها حق وحرمة، لكن الرواية عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا تكون بالكذب عليه وعلى أهل العلم. وقول القائل: «رووا جميعاً» لا يكون إلا في خبر متواتر، فمن ينكر حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه لا يُورث، وقد رواه أكابر الصحابة، ويقول: إنهم جميعاً رووا هذا الحديث، إنما يكون من أجهل الناس وأعظمهم جحداً للحق. وبتقدير أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد أخبر أنها من أهل الجنة، فهو كإخباره عن غيرها أنه من أهل الجنة، وقد أخبر عن كل واحد من العشرة أنه في الجنة، وقد قال: «لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة» وهذا الحديث في الصحيح ثابت عند أهل العلم بالحديث، وحديث الشهادة لهم بالجنة رواه أهل السنن من غير وجه، من حديث عبد الرحمن بن عوف وسعيد بن زيد. فهذه الأحاديث المعروفة عند أهل العلم بالحديث. ثم هؤلاء يكذِّبون من عُلِمَ أن الرسول شهد لهم بالجنة، وينكرون عليهم كونهم لم يقبلوا شهادة امرأة زعموا أنه شهد لها بالجنة، فهل يكون أعظم من جهل هؤلاء وعنادهم؟! ثم يُقال: كون الرجل من أهل الجنة لا يوجب قبول شهادته، لجواز أن يغلط في الشهادة. ولهذا لو شهدت خديجة وفاطمة وعائشة ونحوهن، ممن يُعلم أنهن من أهل الجنة، لكانت شهادة إحداهن نصف شهادة رجل، كما حكم بذلك القرآن. كما أن ميراث إحداهن نصف ميراث رجل، وديَّتها نصف ديّة رجل. وهذا كله باتفاق المسلمين، فكون المرأة من أهل الجنة لا يُوجب قبول شهادتها لجواز الغلط عليها، فكيف وقد يكون الإنسان ممن يكذب ويتوب من الكذب ثم يدخل الجنة؟ الوجه الخامس: قوله: «إن عليًّا شهد لها فردّ شهادته لكونه زوجها» فهذا مع أنه كذب لو صح ليس يقدح، إذ كانت شهادة الزوج مردودة عند أكثر العلماء، ومن قبلها منهم لم يقبلها حتى يتم النصاب إما برجل آخر وإما بامرأة مع امرأة، وأما الحكم بشهادة رجل وامرأة مع عدم يمين المدّعي فهذا لا يسوغ. الوجه السادس: قولهم: إنهم رووا جميعاً أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «عليٌّ مع الحق، والحق معه يدور حيث دار، ولن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض» من أعظم الكلام كذباً وجهلاً، فإن هذا الحديث لم يروه أحد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: لا بإسناد صحيح ولا ضعيف. فكيف يقال: إنهم جميعاً رووا هذا الحديث؟ وهل يكون أكذب ممن يروي عن الصحابة والعلماء أنهم رووا حديثاً، والحديث لا يعرف عن واحد منهم أصلاً؟ بل هذا من أظهر الكذب. ولو قيل: رواه بعضهم، وكان يمكن صحته لكان ممكناً، فكيف وهو كذب قطعاً على ا لنبي صلى الله عليه وآله وسلم؟!. بخلاف إخباره أن أيمن في الجنة، فهذا يمكن أنه قاله، فإن أم أيمن امرأة صالحة من المهاجرات، فإخباره أنها في الجنة لا يُنكر، بخلاف قوله عن رجل من أصحابه أنه مع الحق [وأن الحق] يدور معه حيثما دار لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض؛ فإنه كلام ينزَّه عنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. أما أولاً: فلأن الحوض إنما يَرِدُه عليه أشخاص، كما قال للأنصار: «اصبروا حتى تلقوني على الحوض» وقال: «إن حوضي لأبعد ما بين أيلة إلى عدن، وإن أول الناس وروداً فقراء المهاجرين الشعث رؤوساً الدنس ثياباً الذين لا ينكحون المتنعّمات ولا تفتح لهم أبواب السدد، يموت أحدهم وحاجته في صدره لا يجد لها قضاء» رواه مسلم وغيره. وأما الحق فليس من الأشخاص الذين يردون الحوض. وقد رُوي [نه قال]: «إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، ولن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض». فهو من هذا النمط وفيه كلام يذكر في موضعه [إن شاء الله]. ولو صح هذا لكان المراد به ثواب القرآن. أما الحق الذي يدور مع شخص ويدور الشخص معه فهو صفة لذلك الشخص لا يتعداه ومعنى ذلك أن قوله صِدْقٌ وعمله صالح، ليس المراد به أن غيره لا يكون معه شيء من الحق. وأيضاً فالحق لا يدور مع شخص غير النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولو دار الحق مع عليّ حيثما دار لوجب أن يكون معصوماً كالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهم من جهلهم يدَّعون ذلك، ولكن من عُلم أنه لم يكن بأَوْلى بالعصمة من أبي بكر وعمر وعثمان وغيرهم، وليس فيهم من هو معصوم، عُلم كذبهم، وفتاويه من جنس فتاوى عمر وعثمان ليس هو أَوْلى بالصواب منهم، ولا في أقوالهم من الأقوال المرجوحة أكثر مما في قوله، ولا كان ثناء النبي صلى الله عليه وآله وسلم ورضاه عنه بأعظم من ثنائه عليهم ورضائه عنهم، بل لو قال القائل: إنه لا يعرف من النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه عتب على عثمان في شيء، وقد عتب على عليّ في غير موضع لما أَبْعَدَ، فإنه لما أراد أن يتزوج بنت أبي جهل اشتكته فاطمة لأبيها وقالت: إن الناس يقولون إنك لا تغضب لبناتك، فقام [رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم] خطيباً وقال: «إن بني المغيرة استأذنوني أن يزوِّجوا ابنتهم عليَّ بن أبي طالب، وإني لا آذن ثم لا آذن، ثم لا آذن: إلا أن يريد ابن أبي طالب أن يطلق ابنتي ويتزوج ابنتهم، فإنما فاطمة بضعة مني [يريبني ما رابها] ويؤذيني ما آذاها» ثم ذكر صهراً له من بني عبد شمس فقال: «حدثني فصدَّقني ووعدني فوفى لي» والحديث ثابت صحيح أخرجاه في الصحيحين. وكذلك في الصحيحين لما طرقه وفاطمة ليلاً، فقال: «ألا تصليان؟» فقال له عليّ: إنما أنفسنا بيد الله إن شاء أن يبعثنا بعثنا، فانطلق وهو يضرب فخذه ويقول: «وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً». وأما الفتاوى فقد أفتى بأن المتوفى عنها زوجها وهي حامل تعتد أبعد الأجلين، وهذه الفتيا كان قد أفتى بها أبو السنابل بن بعكك على عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «كذب أبو السنابل» وأمثال ذلك كثير. ثم بكل حال فلا يجوز أن يحكم بشهادته وحده، كما لا يجوز له أن يحكم لنفسه. الوجه السابع: أن ما ذكره عن فاطمة أمر لا يليق بها، ولا يحتج بذلك إلا رجل جاهل يحسب أنه يمدحها وهو يجرحها؛ فإنه ليس فيما ذكره ما يوجب الغضب عليه، إذ لم يحكم – لو كان ذلك صحيحاً – إلا بالحق الذي لا يحل لمسلم أن يحكم بخلافه. ومن طلب أن يُحكم له بغير حكم الله ورسوله فغضب وحلف أن لا يكلم الحاكم ولا صاحب الحاكم، لم يكن هذا مما يُحْمد عليه ولا مما يذم به الحاكم، بل هذا إلى أن يكون جرحاً أقرب منه إلى أن يكون مدحاً. ونحن نعلم أن ما يُحكى عن فاطمة وغيرها من الصحابة من القوادح كثير منها كذب وبعضها كانوا فيه متأولين. وإذا كان بعضها ذنباً فليس القوم معصومين، بل هم مع كونهم أولياء الله ومن أهل الجنة لهم ذنوب يغفرها الله لهم. وكذلك ما ذكره من حلفها أنها لا تكلمه ولا صاحبه حتى تلقى أباها وتشتكي إليه، أمر لا يليق أن يُذكر عن فاطمة – رضي الله عنها -؛ فإن الشكوى إنما تكون إلى الله تعالى، كما قال العبد الصالح: }إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ{ [سورة يوسف: 86]، وفي دعاء موسى - عليه السلام -: اللهم لك الحمد، وإليك المشتكى، وأنت المستعان، وبك المستغاث، وعليك التكلان. وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لابن عباس: «إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله»، ولم يقل: سلني ولا استعن بي. وقد قال تعالى: }فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ{ [سورة الشرح: 7، 8]. ثم من المعلوم لكل عاقل أن المرأة إذا طلبت مالاً من ولي أمر فلم يعطها [إياه] لكونها لا تستحقه عنده، وهو لم يأخذه ولم يعطه لأحد من أهله ولا أصدقائه، بل أعطاه لجميع المسلمين، وقيل: إن الطالب غضب على الحاكم – كان غاية ذلك أنه غضب لكونه لم يعطه مالاً، وقال الحاكم: إنه لغيرك لا لك، فأي مدح للطالب في هذا الغضب؟ لو كان مظلومًا محضًا لم يكن غضبه إلا للدنيا. وكيف والتهمة عن الحاكم الذي لا يأخذ لنفسه أبعد من التهمة عن الطالب الذي يأخذ لنفسه، فكيف تحال التهمة على من لا يطلب لنفسه مالاً، ولا تحال على من يطلب لنفسه المال؟ وذلك الحاكم يقول: إنما أمنع لله؛ لأني لا يحل لي أن آخذ المال من يستحقه فأدفعه إلى غير مستحقه فأدفعه إلى غير مستحقه، والطالب يقول: إنما أغضب لحظي القليل من المال. أليس من يذكر [مثل] هذا عن فاطمة ويجعله من مناقبها جاهلاً؟! أوليس الله قد ذم المنافقين الذين قال فيهم: }وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَا آتَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ سَيُؤْتِينَا اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللّهِ رَاغِبُونَ{ [سورة التوبة: 58، 59] فذكر الله قوماً رضوا إن أُعطوا، وغضبوا إن لم يعطوا، فذمهم بذلك، فمن مدح فاطمة بما فيه شبه من هؤلاء ألا يكون قادحاً فيها؟ وانتصف لأهل البيت منهم؛ فإنهم ألصقوا بهم من العيوب والشين ما لا يخفى على ذي عين. ولو قال قائل: فاطمة لا تطلب حقها، لم يكن هذا بأولى من قول القائل: أبو بكر لا يمنع يهوديًّا ولا نصرانيًّا حقه فكيف يمنع سيدة نساء العالمين حقها؟ فإن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم قد شهدا لأبي بكر أنه ينفق ماله لله، فكيف يمنع الناس أموالهم؟ وفاطمة – رضي الله عنها - قد طلبت من النبي صلى الله عليه وآله وسلم مالاً، فلم يعطها إياه. كما ثبت في الصحيحين عن عليّ – رضي الله عنه – في حديث الخادم لما ذهبت فاطمة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم تسأله خادماً، فلم يعطها خادماً وعلَّمها التسبيح. وإذا جاز أن تطلب من النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما يمنعها [النبي صلى الله عليه وآله وسلم] إياه ولا يجب عليه أن يعطيها إياه، جاز أن تطلب ذلك من أبي بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعُلم أنها ليست معصومة أن تطلب ما لا يجب إعطاؤها إياه. وإذا لم يجب عليه الإعطاء لم يكن مذموماً بتركه ما ليس بواجب وإن كان مباحاً. فأما إذا قدّرنا أن الإعطاء ليس بمباح، فإنه يستحق أن يُحمد على المنع. وأما أبو بكر فلم يُعلم أنه منع أحداً حقه، ولا ظلم أحد حقه: لا في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا بعد موته. وكذلك ما ذكره من إيصائها أن تُدفن ليلاً ولا يُصلِّي عليها أحد منهم، لا يحكيه عن فاطمة ويحتج به إلا رجلٌ جاهل يطرق على فاطمة ما لا يليق بها، وهذا لو صح لكان بالذنب المغفور أَوْلى منه بالسعي المشكور، فإن صلاة المسلم على غيره زيادة خير تصل إليه، ولا يضر أفضل الخلق أن يصلي عليه شر الخلق، وهذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي [ويسلم عليه] الأبرار والفجار بل والمنافقون، وهذا إن لم ينفعه لم يضره، وهو يعلم أن في أمته منافقين، ولم ينه أحداً من أمته عن الصلاة عليه، بل أمر الناس كلهم بالصلاة والسلام عليه، مع أن فيهم المؤمن والمنافق، فكيف يُذكر في معرض الثناء عليها والاحتجاج لها مثل هذا الذي لا يحكيه ولا يحتج به إلا مفرط في الجهل، ولو وصَّى موصٍ بأن المسلمين لا يصلون عليه لم تنفَّذ وصيته، فإن صلاتهم عليه خيرٌ له بكل حال. ومن المعلوم أن إنساناً لو ظلمه ظالم، فأوصى بأن لا يصلِّي عليه ذلك الظالم، لم يكن هذا من الحسنات التي يُحمد عليها، ولا هذا مما أمر الله به ورسوله. فمن يقصد مدح فاطمة وتعظيمها، كيف يذكر مثل هذا الذي مدح فيه، بل المدح في خلافه، كما دلَّ على ذلك الكتاب والسنة والإجماع؟!. وأما قوله: «ورووا جميعاً أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: يا فاطمة! إن الله يغضب لغضبك ويرضى لرضاك» فهذا كذب منه، ما رووا هذا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولا يُعرف هذا في شيء من كتب الحديث المعروفة، ولا له إسناد معروف عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: لا صحيح ولا حسن. ونحن إذا شهدنا لفاطمة بالجنة، وبأن الله يرضى عنها، فنحن لأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعيد وعبد الرحمن [بن عوف] بذلك نشهد، ونشهد بأن الله تعالى أخبر برضاه عنهم في غير موضع، كقوله تعالى: }وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ{ [سورة التوبة: 100]، وقوله تعالى: }لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ{ [سورة الفتح: 18]. وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم توفي وهو عنهم راضٍ، ومن رضي الله عنه ورسوله لا يضره غضب أحد من الخلق عليه كائناً من كان، بل من رضي الله عنه ورضي عن الله، يكون رضاه موافقاً لرضا الله، فإن الله راضٍ عنه، فهو موافق لما يرضي الله، وهو راضٍ عن الله، فحكم الله موافق لرضاه، وإذا رضوا بحكمه غضبوا لغضبه، فإن من رضي بغضب غيره لزم أن يغضب لغضبه، فإن الغضب إذا كان مرضياً لك، فعلت ما هو مرضٍ لك، وكذلك الرب [تعالى – وله المثل الأعلى] – إذا رضي عنهم غضب لغضبهم، إذ هو راضٍ بغضبهم. وأما قوله: «رووا جميعاً أن فاطمة بضعة مني من آذاها آذاني، ومن آذاني آذى الله» فإن هذا الحديث لم يرو بهذا اللفظ، بل [روي] بغيره، كما روي في سياق حديث خطبة عليّ لابنة أبي جهل، لما قام النبي صلى الله عليه وآله وسلم خطيباً فقال: «إن بني هشام بن المغيرة استأذنوني أن يُنكحوا ابنتهم علي بن أبي طالب، وإني لا آذن، ثم لا آذن، ثم لا آذن، إنما فاطمة بضعة مني يريبني ما رابها، ويؤذيني ما آذاها، إلا أن يريد أبي طالب أن يطلق ابنتي وينكح ابنتهم» وفي رواية: «إني أخاف أن تفتن في دينها» ثم ذكر صهراً له من بني عبد شمس فأثنى عليه مصاهرته إياه فقال: «حدَّثني فصدقني، ووعدني فوفى لي. وإني لست أحلّ حراماً، ولا أحرم حلالاً، ولكن والله لا تجتمع بنت رسول الله وبنت عدو الله مكاناً واحداً أبداً» رواه البخاري ومسلم [في الصحيحين] من رواية عليّ بن الحسين والمسور بن مخرمة، فسبب الحديث خِطبة علي – رضي الله عنه – لابنة أبي جهل، والسبب داخل في اللفظ قطعاً، إذ اللفظ الوارد على سبب لا يجوز إخراج سببه منه، بل السبب يجب دخوله بالاتفاق. وقد قال في الحديث: «يريبني ما رابها ويؤذيني ما آذاها» ومعلوم قطعاً أن خطبة ابنة أبي جهل عليها رابها وآذاها، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم رابه ذلك وآذاه، فإن كان هذا وعيداً لاحقاً بفاعله، لزم أن يلحق هذا الوعيد عليَّ بن أبي طالب، وإن لم يكن وعيداً لاحقاً بفاعله، كان أبو بكر أبعد عن الوعيد من عليّ. وإن قيل: إن عليًّا تاب من تلك الخطبة ورجع عنها. قيل: فهذا يقتضي أنه غير معصوم. وإذا جاز أن من راب فاطمة وآذاها، يذهب ذلك بتوبته، جاز أن يذهب بغير ذلك من الحسنات الماحية، فإن ما هو أعظم من هذا الذهب تذهبه الحسنات الماحية والتوبة والمصائب المكفِّرة. وذلك أن هذا الذنب ليس من الكفر الذي لا يغفره الله إلا بالتوبة، ولو كان كذلك لكان عليٌّ – والعياذ بالله – قد ارتد عن [دين] الإسلام في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم. ومعلوم أن الله تعالى نزَّه عليًّا من ذلك والخوارج الذين قالوا: إنه ارتد بعد موت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لم يقولوا: إنه ارتد في حياته، ومن ارتد فلا بد أن يعود على الإسلام أو يقتله النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا لم يقع. وإذا كان هذا الذنب هو مما دون الشرك فقد قال تعالى: }إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء{ [سورة النساء: 48]. وإن قالوا بجهلهم: إن هذا الذنب كفر ليكفِّروا بذلك أبا بكر، لزمهم تكفير عليّ، واللازم باطل فالملزوم مثله. وهم دائماً: يعيبون أبا بكر وعمر وعثمان، بل ويكفِّرونهم بأمور قد صدر من عليّ ما هو مثلها أو أبعد عن العذر منها، فإن كان مأجوراً أو معذوراً فهم أَوْلى بالأجر والعذر، وإن قيل باستلزام الأمر الأخف فسقاً أو كفراً، كان استلزام الأغلظ لذلك أَوْلى. وأيضاً فيقال: إن فاطمة – رضي الله عنها – إنما عظم أذاها لما في ذلك من أذى أبيها، فإذا دار الأمر بين أذى أبيها وأذاها كان الاحتراز عن أذى أبيها أوجب. وهذا حال أبي بكر وعمر، فإنهما احترزا عن أن يؤذيا أباها أو يريباه بشيء، فإنه عهد عهداً وأمر بأمر، فخافا إن غيّرا عهده وأمره أن يغضب لمخالفة أمره وعهده ويتأذى بذلك. وكل عاقل يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا حكم بحكم، وطلب فاطمة أو غيرها ما يخالف ذلك الحكم، كان مراعاة حكم النبي صلى الله عليه وآله وسلم أََوْلى، فإن طاعته واجبة، ومعصيته محرّمة، ومن تأذَّى لطاعته كان مخطئاً في تأذِّيه بذلك، وكان الموافق لطاعته مصيباً في طاعته. وهذا بخلاف من آذاها لغرض نفسه لا لأجل طاعة الله ورسوله. ومن تدبَّر حال أبي بكر في رعايته لأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأنه إنما قصد طاعة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لا أمراً آخر يحكم أن حاله أكمل وأفضل [وأعلى] من حال عليّ – رضي الله عنهما -، وكلاهما سيد كبير من أكابر أولياء الله المتقين، وحزب الله المفلحين، [وعباد الله الصالحين]، ومن السابقين الأوَّلين، ومن أكابر المقربين، الذين يشربون بالتسنيم. ولهذا كان أبو بكر – رضي الله عنه – يقول: «والله لَقَرابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحبّ إليَّ أن أصلْ من قرابتي». وقال: «ارقبوا محمداً صلى الله عليه وآله وسلم في أهل بيته» رواه البخاري عنه. لكن المقصود أنه لو قُدِّر أن أبا بكر آذاها، فلم يؤذها لغرض نفسه بل ليطيع الله ورسوله، ويوصِّل الحق إلى مستحقه. وعليٌّ – رضي الله عنه – كان قصده أن يتزوج عليها، فله في أذاها غرض، بخلاف أبي بكر. فعُلم أن أبا بكرٍ كان أبعد أن يُذمَّ بأذاها من عليّ، وأنه إنما قصد طاعة الله ورسوله بما لاحظ له فيه، بخلاف عليّ؛ فإنه كان له حظ فيما رابها به. وأبو بكر كان من جنس من هاجر إلى الله ورسوله، وهذا لا يشبه من كان مقصوده امرأة يتزوجها. والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يؤذيه ما يؤذي فاطمة إذا لم يعارض ذلك أمر الله تعالى، فإذا أمر الله تعالى بشيء فعله، وإن تأذَّى من تأذَّى من أهله وغيرهم، وهو في حال طاعته لله يؤذيه ما يعارض طاعة الله ورسوله. وهذا الإطلاق كقوله: «من أطاعني فقد أطاع الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن عصى أميري فقد عصاني» ثم قد بيّن ذلك بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «إنما الطاعة في المعروف». فإذا كانت طاعة أمرائه أطلقها ومراده بها الطاعة في المعروف، فقوله: «من آذاها فقد آذاني» يحمل على الأذى في المعروف بطريق الأَوْلى والأحرى، لأن طاعة أمرائه فرض، وضدها معصية كبيرة. وأما فعل ما يؤذي فاطمة فليس هو بمنزلة معصية أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وإلا لزم أن يكون عليّ قد فعل ما هو أعظم من معصية الله ورسوله، فإن معصية أمرائه معصيته، ومعصيته معصية الله. ثم إذا عارض معارض وقال: أبو بكر وعمر وليا الأمر، والله قد أمر بطاعة أولي الأمر، وطاعة ولي الأمر طاعة لله ومعصيته معصية لله، فمن سخط أمره وحكمه فقد سخط أمر الله وحكمه. ثم أخذ يشنِّع على عليّ وفاطمة – رضي الله عنهما – بأنهما ردّا أمر الله، وسخطا حكمه، وكرها ما أرضى الله، لأن الله يرضيه طاعته وطاعة ولي الأمر، فمن كره طاعة ولي الأمر فقد كره رضوان الله، والله يسخط لمعصيته، ومعصية ولي الأمر معصيته، فمن اتّبع معصية ولي الأمر فقد اتبع ما أسخط الله وكره رضوانه. وهذا التشنيع ونحوه على عليّ وفاطمة – رضي الله عنهما – أوجه من تشنيع البعض على أبي بكر وعمر، وذلك لأن النصوص الواردة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في طاعة ولاة الأمور، ولزوم الجماعة، والصبر على ذلك مشهورة كثيرة، بل لو قال قائل: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر بطاعة ولاة الأمور وإن استأثروا، والصبر على جَوْرهم، وقال: «إنكم ستلقون بعدي أَثَرَة، فاصبروا حتى تلقوني على الحوض» وقال: «أدُّوا إليهم حقهم، وسلوا الله حقكم» وأمثال ذلك. فلو قُدِّر أن أبا بكر وعمر – رضي الله عنهما – كانا ظالمين مستأثرين بالمال لأنفسهما، لكان الواجب مع ذلك طاعتهما والصبر على جورهما. ثم لو أخذ هذا القائل يقدح في عليّ وفاطمة – رضي الله عنهما – ونحوهما بأنهم لم يصبروا ولم يلزموا الجماعة، بل جزعوا وفرَّقوا الجماعة، وهذه معصية عظيمة – لكانت هذه الشناعة أوجه من تشنيع البعض على أبي بكر وعمر – رضي الله عنهما -، فإن أبا بكر وعمر لا تقوم حجة بأنهما تركا واجباً، ولا فعلا محرماً أصلاً، بخلاف غيرهما، فإنه قد تقوم الحجة بنوع من الذنوب التي لم يفعل مثلها أبو بكر ولا عمر. وما ينزَّه علي وفاطمة – رضي الله عنهما - عن ترك واجب أو فعل محظور، إلا وتنزيه أبي بكر وعمر أَوْلى بكثير، ولا يمكن أن تقوم شبهة بتركهما واجباً أو تعدّيهما حدًّا، إلا والشبهة التي تقوم في عليّ وفاطمة أقوى وأكبر، فطلب الطالب مدح عليّ وفاطمة – رضي الله عنهما - إما بسلامتهما من الذنوب، وإما بغفران الله لهما، مع القدح في أبي بكر وعمر بإقامة الذنب والمنع من المغفرة، من أعظم الجهل والظلم، وهو أجهل وأظلم ممن يريد مثل ذلك في عليّ ومعاوية – رضي الله عنهما -، إذا أراد مدح معاوية – رضي الله عنه -، والقدح في عليّ – رضي الله عنه -. الوجه الثامن: أن قوله: «لو كان هذا الخبر صحيحاً حقًّا لما جاز له ترك البغلة والسيف والعمامة عند عليّ والحكم له بها لما ادّعاها العباس». فيقال: ومن نقل أن أبا بكر وعمر حكما بذلك لأحد، أو تركا ذلك عند أحد، على أن ذلك ملك له، فهذا من أبْيَن الكذب عليهما، بل غاية ما في هذا أن يُترك عند ما يُترك عنده، كما تركا صدقته عند عليّ والعباس ليصرفاها في مصارفها الشرعية. وأما قوله: «ولكان أهل البيت الذين طهَّرهم الله في كتابه مرتكبين ما لا يجوز». فيقال له: أولاً إن الله لم يخبر أنه طهَّر جميع أهل البيت وأذهب عنهم الرجس، فإن هذا كذب على الله. كيف ونحن نعلم أن في بني هاشم من ليس بمطهّر من الذنوب، ولا أذهب عنهم الرجس، لاسيما عند الإمامية، فإن عندهم كل من كان من بني هاشم يحب أبا بكر وعمر – رضي الله عنهما – فليس بمطهَّر، والآية إنما قال فيها: }إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ{ [سورة الأحزاب: 33]. وقد تقدم أن هذا مثل قوله: }مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ{ [سورة المائدة:6]، وقوله: }يُرِيدُ اللّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ{ [سورة النساء: 26]، ونحو ذلك مما فيه بيان أن الله يحب ذلك لكم، ويرضاه لكم، ويأمركم به، فمن فعله حصل له هذا المراد المحبوب المرضي، ومن لم يفعله لم يحصل له ذلك. وقد بُسط هذا في غير هذا الموضع، وبُيِّن أن هذا ألزم لهؤلاء القدرية؛ فإن عندهم [أن] إرادة الله بمعنى أمره، لا بمعنى أنه يفعل ما أراد، فلا يلزم إذا أراد الله تطهير أحد أن يكون ذلك قد تطهّر، ولا يجوز عندهم أن يطهِّر الله أحداً، [بل من أراد الله تطهيره، فإن شاء طهّر نفسه، وإن شاء لم يطهرها]، ولا يقدر الله عندهم على تطهير أحد. وأما قوله: «لأن الصدقة محرَّمة عليهم». فيقال له: أوّلا المحرّم عليهم صدقة الفرض، وأما صدقات التطوع فقد كانوا يشربون من المياه المسبَّلة بين مكة والمدينة، ويقولون: إنما حُرِّم علينا الفرض، ولم يحرَّم علينا التطوع. وإذا جاز أن ينتفعوا بصدقات الأجانب التي هي تطوع، فانتفاعهم بصدقة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أَوْلى وأحرى؛ فإن هذه الأموال لم تكن زكاة مفروضة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهي أوساخ الناس التي حُرِّمت عليهم، وإنما هي من الفيء الذي أفاءه الله على رسوله، والفيء حلال لهم، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم جعل ما جعله الله له من الفيء صدقة، إذ غايته أن يكون ملكاً للنبي صلى الله عليه وآله وسلم تصدَّق به على المسلمين، وأهل بيته أحق بصدقته؛ فإن الصدقة [على المسلمين صدقة، والصدقة] على القرابة صدقة وصلة. الوجه التاسع: في معارضته بحديث جابر – رضي الله عنه – فيقال: جابر لم يدع حقًّا لغيره يُنتزع من ذلك الغير ويُجعل له، وإنما طلب شيئاً من بيت المال يجوز للإمام أن يعطيه إياه، ولو لم يعده به النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإذا وعده به كان أَوْلى بالجواز، فلهذا لم يفتقر إلى بيِّنة. ومثال هذا أن يجئ شخص إلى عقار بيت المال فيدَّعيه لنفسه خاصة، فليس للإمام أن ينزعه من بيت المال فيدَّعيه لنفسه خاصة، فليس للإمام أن ينزعه من بيت المال ويدفعه إليه بلا حجة شرعية، وآخر طلب شيئاً من المال المنقول الذي يجب قسمه على المسلمين [من مال بيت المال]؛ فهذا يجوز أن يُعطى بلا بيِّنة. ألا ترى أن صدقة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الموقوفة، وصدقة غيره من المسلمين لا يجوز لأحد [من المسلمين] أن يملك أصلها، ويجوز أن يُعطى من ريعها ما ينتفع به، فالمال الذي أُعطى منه جابر هو المال الذي يقسَّم بين المسلمين، بخلاف أصول المال. ولهذا كان أبو بكر وعمر – رضي الله عنهما – يعطيان العباس [وبنيه] وعليًّا والحسن والحسين وغيرهم من بني هاشم أعظم مما أعطوا جابر [بن عبد الله] من المال الذي يقسم بين الناس، وإن لم يكن معهما وعد من النبي صلى الله عليه وآله وسلم. فقول هؤلاء الجهّال: إن جابر [بن عبد الله] أخذ مال المسلمين من غير بيّنة بل بمجرد الدعوى، كلام من لا يعرف حكم الله، لا في هذا ولا في ذاك؛ فإن المال الذي أُعطى [منه] جابر مال يجب قسمته بين المسلمين. وجابر أحد المسلمين، وله حقٌّ فيه، وهو أحد الشركاء، والإمام إذا أعطى أحد المسلمين من مال الفيء ونحوه من مال المسلمين، لا يقال: إنه أعطاه مال المسلمين من غير بيّنة؛ لأن القسم بين المسلمين وإعطاءهم لا يفتقر إلى بيِّنة بخلاف من يدَّعي أن أصل المال له دون المسلمين. نعم الإمام يقسم المال باجتهاده في التقدير، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقسم المال بالحثيات. وكذلك رُوي عن عمر رضي الله عنه، وهو نوع من الكيل باليد. وجابر ذكر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعده بثلاثة حثيات، وهذا أمر معتاد مثله من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلم يذكر إلا ما عُهد من النبي صلى الله عليه وآله وسلم مثله، وما يجوز الإقتداء به فيه، فأعطاه حثية، ثم نظر عددها فأعطاه بقدر مرتين، تحرياً لما ظنه موافقاً لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم في القسم، فإن الواجب موافقته بحسب الإمكان، فإن أمكن العلم وإلا اتبع ما أمكن من التحرّي والاجتهاد. أما قصة فاطمة – رضي الله عنها فما ذكروه من دعواها الهبة والشهادة المذكورة ونحو ذلك، لو كان صحيحاً لكان بالقدح فيمن يحتجون له أشبه منه بالمدح . [33] مقال آخر في الباب... كثيرا ما يثير البعض مسألة اغضاب فاطمة رضوان الله عليها واحراق البيت واسقاط الجنين وهذه قصة مكذوبة بل فيها اهانة للإمام علي نفسه لأنه رجل شهم فكيف ينظر الى امرأته يحدث لها هذا ولا يتحرك؟! أما قصة فدك فقد طرحناها من قبل وبينا أن أبو بكر استشهد بحديث صحيح عند السنة والشيعة ( صححه المجلسي في مرآة العقول وصححه الخميني واستشهد به على ولاية الفقيه). دخل الحسن بن علي على جده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يتعثر بذيله فأسرّ إلى النبي عليه الصلاة والسلام سراً فرأيته وقد تغير لونه ثم قام النبي عليه الصلاة والسلام حتى أتى منزل فاطمة … ثم جاء علي فأخذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بيده ثم هزها إليه هزاً خفيفاً ثم قال: يا أبا الحسن إياك وغضب فاطمة فإنّ الملائكة تغضب لغضبها وترضى لرضاها).[34] وعن أبي عبد الله ( جعفر ) عليه السلام أنه سُئل: هل تشيع الجنازة بنار ويُمشى معها بمجمرة أو قنديل أو غير ذلك مما يُضاد به؟ قال: فتغير لون أبي عبد الله عليه السلام من ذلك واستوى جالساً ثم قال: إنه جاء شقي من الأشقياء إلى فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال لها: أما علمت أنّ علياً قد خطب بنت أبي جهل فقالت: حقاً ما تقول؟ فقال: حقاً ما أقول ثلاث مرات ، فدخلها من الغيرة ما لا تملك نفسها ، وذلك أنّ الله تبارك وتعالى كتب على النساء غيرة وكتب على الرجال جهاداّ وجعل للمحتسبة الصابرة منهن من الأجر ما جعل للمرابط المهاجر في سبيل الله ، قال: فاشتد غم فاطمة من ذلك وبقيت متفكرة هي حتى أمست وجاء الليل حملت الحسن على عاتقها الأيمن والحسين على عاتقها الأيسر وأخذت بيد أم كلثوم اليسرى بيدها اليمنى ، ثم تحولت إلى حجرة أبيها فجاء علي فدخل حجرته فلم ير فاطمة فاشتد لذلك غمه وعظم عليه ولم يعلم القصة ما هي ، فاستحيي أن يدعوها من منزل أبيها فخرج إلى المسجد يصلي فيه ما شاء الله ، ثم جمع شيئاً من كثيب المسجد واتكأ عليه ، فلما رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما بفاطمة من الحزن أفاض عليه الماء ثم لبس ثوبه ودخل المسجد فلم يزل يصلي بين راكع وساجد ، وكلما صلى ركعتين دعا الله أن يُذهب ما بفاطمة من الحزن والغم ، وذلك أن لا يهنيها النوم وليس لها قرار ، قال لها: قومي يا بنية فقامت ، فحمل النبي عليه الصلاة والسلام الحسن وحملت فاطمة الحسين وأخذت بيد أم كلثوم فانتهى إلى علي عليه السلام وهو نائم فوضع النبي صلى الله عليه وآله وسلم رجله على رجل علّي فغمزه وقال: قم يا أبا تراب! فكم ساكن أزعجته، ادع لي أبا بكر من داره ، وعمر من مجلسه ، وطلحة ، فخرج علي فاستخرجهما من منزلهما واجتمعوا عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : يا علي ! أما علمت أنّ فاطمة بضعة مني وأنا منها ، فمن آذاها فقد آذاني ، ومن آذاني فقد آذى الله ، ومن آذاها بعد موتي كان كمن آذاها في حياتي ، ومن آذاها في حياتي كان كمن آذاها بعد موتي.[35] و الغريب هنا أنّ هذه المقولة قيلت بناء على إغضاب علي لفاطمة وهو تحذير نبوي لعلي زوج فاطمة ولباقي الصحابة من إغضاب فاطمة إلا أنّ البعض لا يستدل بهذا الحديث إلا على أبي بكر ، ولو كان إغضاب فاطمة رضوان الله عليها أو رضاها سبباً في إيمان أو كفر لَلَحِقَ الوعيد علي بن أبي طالب قبل أبي بكر وقبل أي رجل أو امرأة اختلفت مع فاطمة. نحن نقول بأنه لا علي بن أبي طالب ولا أبي بكر كفرا أو فسقا بسبب إغضابهما فاطمة ، والنبي عليه الصلاة والسلام إنما قال تلك الكلمات في حق من يغضب فاطمة تعظيماً لأمرها وهي بلا شك أهل لذلك ، وتحذيراً من إغضاب ابنته التي لها من المكانة عنده ما لها ، رضوان الله عليها أن يُقاس من خلال القرآن والسنة فإن كان غضبها لأجلهما كان إغضابها . وغضب فاطمة لا بد إغضاباً لله والرسول أما إذا كان غضبها لخلاف شخصي أو لوجهة نظر لها كالذي يحصل للناس عادة ، فهذا ما لا يقتضي إدانة أحد لأنّ الله عز وجل ودين الإسلام لا يتماشى مع آراء البشر ولو كانوا من صلحاءهم ومصلحيهم. ومن المقالات في الباب نفسه ما رد على هذه الشبهة من وجوه: الوجه الأول : أن الأنبياء لا يُورَثون ، ومَن قال بِخلاف ذلك فعليه الدليل ، ولا دليل . الوجه الثاني : أن آل البيت شهِدوا بصحة حديث : لا نورَث ، ما تركنا صدقة . بل شهد به عليّ بن أبي طالب نفسه . روى الإمام البخاري في صحيحه أن فاطمة عليها السلام أرسلت إلى أبي بكر تسأله ميراثها من النبي صلى الله عليه وآله وسلم مما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم ، تطلب صدقة النبي صلى الله عليه وآله وسلم التي بالمدينة وفَدَك وما بقي من خمس خيبر ، فقال أبو بكر : إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : لا نورث . ما تركنا فهو صدقة . إنما يأكل آل محمد من هذا المال - يعني مال الله - ليس لهم أن يَزيدوا على المأكل . وإني والله لا أغير شيئا من صدقات النبي صلى الله عليه وآله وسلم التي كانت عليها في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ولأعمَلَنّ فيها بما عَمِل فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فتشهد عليّ رضي الله عنه ثم قال : إنا قد عرفنا يا أبا بكر فضيلتك ، وذَكَرَ قرابتهم من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحقهم . فتكلم أبو بكر فقال: والذي نفسي بيده لقرابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحبّ إلي أن أصِلَ من قرابتي . فأين هذا ممن زعم الظلم لبنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟ أكان عليّ رضي الله عنه قال ذلك تقيّـة ؟ أو كان عليّ رضي الله عنه ضعيفاً لا يأخذ حقّـه ؟ وروى الإمام مسلم في صحيحه أن عمر رضي الله عنه كان في مجلسه فاستأذن عليه عباس وعليّ رضي الله عنهما ، فأذن لهما فقال عباس : يا أمير المؤمنين اقض بيني وبين هذا ، فقال القوم : أجل يا أمير المؤمنين ، فاقض بينهم وأرِحهم . فقال عمر : اتئِدا . أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : لا نورث ما تركنا صدقة ؟ قالوا : نعم . ثم أقبل على العباس وعليّ فقال : أنشدكما بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض أتعلمان أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : لا نورث ما تركناه صدقة ؟ قالا : نعم . فقال عمر : إن الله جل وعز كان خصّ رسوله صلى الله عليه وآله وسلم بخاصة لم يخصص بها أحدا غيره . قال : ( مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ ) . وفي رواية للبخاري أن عُمر قال لعلي وعباس : أنشدكما بالله هل تعلمان ذلك ؟ قالا : نعم ، فَتَوَفَّى الله نبيه صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال أبو بكر : أنا وَلِيّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقبضها فَعَمِلَ بما عمل به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ثم تَوفى الله أبا بكر ، فقلت : أنا ولي وليّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقبضتها سنتين أعمل فيها ما عمل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبو بكر ، ثم جئتماني وكلِمتكما واحدة وأمركما جميع ، جئتني تسألني نصيبك من ابن أخيك وأتاني هذا يسألني نصيب امرأته من أبيها . فقلتُ : إن شئتما دفعتها إليكما بذلك . فتلتمسان مني قضاء غير ذلك ؟ فو الله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض لا أقضي فيها قضاء غير ذلك حتى تقوم الساعة ، فإن عجزتما فادفعاها إليّ فأنا أكفيكماها . فهذا عُمر رضي الله عنه يقول للعباس وعليّ رضي الله عنهما : إن شئتما دفعتها إليكما . فلماذا لم يَقبضاها ؟ ثم يَقسمانها على ورثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما يزعم هؤلاء ! بل جاء في رواية لمسلم صريحة في أن عمر رضي الله عنه دَفَع بعض ما تركه النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى عليّ والعباس رضي الله عنهما . ففي صحيح البخاري ومسلم : فأما صدقته بالمدينة فدفعها عمر إلى عليّ وعباس ، فغلبه عليها عليّ ، وأما خيبر وفدك فأمسكهما عمر . فهذه الرواية الصحيحة تُثبت أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم دَفَع صدقة النبي صلى الله عليه وآله وسلم التي كانت بالمدينة إلى عليّ والعباس . فأين هو الدليل أن علياً رضي الله عنه أعطى فاطمة نصيبها من ميراث أبيها ؟ فمن طَعَن في أبي بكر وعُمر بشأن ميراث فاطمة فيَلزمه أن يَطعن في عليّ لأنه عمِل كما عَمِلا ! ومن طريف ما يُروى في هذا المقام ، وإلزام هؤلاء بمثل هذا اللزوم ، ما رواه ثعلب عن ابن الأعرابي قال : أول خطبة خطبها السفاح في قرية يقال لها العباسية ، فلما صار إلى موضع الشهادة من الخطبة قام رجل من آل أبي طالب في عنقه مصحف فقال : أذكّرك الله الذي ذَكَرْتَه ألا أنصفتني من خصمي ، وحكمت بيني وبينه بما في هذا المصحف . فقال له : ومَن ظَلَمَك ؟ قال : أبو بكر الذي مَنَعَ فاطمة فَدَكاً . قال : وهل كان بعده أحد ؟ قال : نعم . قال : مَنْ ؟ قال : عمر . قال : فأقام على ظلمكم ؟ قال : نعم . قال : وهل كان بعده أحد ؟ قال : نعم . قال : مَنْ ؟ قال : عثمان . قال : وأقام على ظلمكم ؟ قال : نعم . قال : وهل كان بعده أحد ؟ قال : نعم . قال : ومَنْ هو ؟ قال : عليّ . قال : وأقام على ظلمكم ؟ قال : فأسكت الرجل ! وجَعَل يلتفت إلى ورائه . فأثبتوا لنا أن عليا رضي الله عنه قَسَم ميراث النبي صلى الله عليه وآله وسلم سواء فيما تولاّه زمن عمر ، أم في زمان خلافته هو رضي الله عنه . وأين إثبات ذلك ؟ فهل أعطى ورثة فاطمة حقّهم من فَدَك وسهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم في خيبر ؟ فإن لم تأتوا به – وهو الحق – فلا أقل من مُعاملة أبي بكر وعمر كمعاملة عليّ رضي الله عنهم أجمعين . ثم إن هؤلاء يزعمون أن أبا بكر وعمر ظلما فاطمة ميراثها . وها هو العباس رضي الله عنه عم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وها هو عليّ رضي الله عنه زوج ابنته يُقرّان بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويتذكّرانه يوم ذكّرهما به عُمر رضي الله عنه ، وهو قوله صلى الله عليه وآله وسلم : " لا نورث ما تركناه صدقة " . فيلزم من تكذيبنا لهذا الخبر لانفراد أبي بكر به – كما يَزعم بعضهم – أن نُكذّب العباس وعليّ رضي الله عنهما ، لأنهما وافقا أبا بكر عليه ، وشهدا بِصحّة قول عمر . وهما يشهدان عليه شهادة بعد أن نشدهما عمر رضي الله عنه فقال : أنشدكما بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض أتعلمان أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : لا نورث ما تركناه صدقة ؟ فهل شهدا على كذب وزور ؟؟ سبحانك هذا بهتان عظيم . وعند أبي داود أن العباس وعلي دخلا على عمر وعنده طلحة والزبير وعبد الرحمن وسعد وهما يختصمان فقال عمر لطلحة والزبير وعبد الرحمن وسعد : ألم تعلموا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : كل مال النبي صلى الله عليه وآله وسلم صدقة إلا ما أطعمه أهله وكساهم إنا لا نورث ؟ قالوا : بلى . يعني كل هؤلاء شهدوا على صدق عمر رضي الله عنه وعلى صدق أبي بكر رضي الله عنه ثم تأتي هؤلاء ليّكّذّبوا الأخيار الأبرار !!! والحديث لم ينفرد به أبو بكر رضي الله عنه بل رواه عمر وعائشة رضي الله عنهم أجمعين . الوجه الثالث : أن الله خصّ نبيّه بشيء لم يخصّ به غيره ، وهو الفـيء ، وهو الغنائم التي أُخِذت من غير قِتال . وخصّ بني هاشم وبني المطّلب بسهم ذوي القربى ، فلا تحلّ لهم الصدقة – كما تقدّم – . الوجه الرابع : هل ردّ عليّ رضي الله عنه هذا الميراث لورثته حينما تولّى الخلافة ؟! الجواب : لا . إذا يُقال في حق عليّ رضي الله عنه ما يُقال في حق أبي بكر وعُمر إذ لم يُعطيا فاطمة حقها من ميراث أبيها. قد يقول قائل : فاطمة قد ماتت آنذاك . والجواب : أن فاطمة رضي الله عنها وإن ماتت ، إلا أنه إذا كان لها حق في ميراث أبيها ، فهو لورثتها من بعدها . فلماذا لم يَقسمه عليّ رضي الله عنه حينما تولّى الخلافة وصار الأمر له ؟! بل لماذا لم يَقسِمه وقد وُكِل إليه ؟ وقد تقدم هذا . الوجه الخامس : إذا كان رسول الله يُؤيِّد بالوحي – وهو كذلك – فلماذا لم يَقسِم أرض فدَك وسهمه في خيبر على ورثته ؟ فإن قيل : النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يعلم ما يكون بعده . فيُقال : فالله يعلم ما كان وما يكون ، ولم يأمر نبيّـه صلى الله عليه وآله وسلم بأن يَقسم ميراثه قبل موته لئلا تُظلَم ابنته . وهل يُتصوّر أن الله أقرّ نبيّه على ظلم ابنته ؟! الوجه السادس : أن فاطمة رضي الله عنها ليست كبقيّة النساء . كيف ؟ سألني مرّة بعضهم : لماذا كل بنت ترِث من أبيها إلا فاطمة ؟ فأجبت : لأن كل بنت ليست بنت نبي غير فاطمة ! ولأن فاطمة هي بنت سيد المرسلين ، وخاتم النبيين ، فليست مثل سائر النساء ، ولا كَبقيّة البنات وثمّة شُبهة يتمسّك بها البعض ، وهي قولهم : إن أبا بكر أنفذ وعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم لِجابر رضي الله عنه ، ولم يُورّث فاطمة من ميراث أبيها . والجواب عنه : أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وَعَد جابر بن عبد الله رضي الله عنهما ، فقال: لو قد جاء مال البحرين قد أعطيتك هكذا وهكذا وهكذا ، فلم يجئ مال البحرين حتى قُبض النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فلما جاء مال البحرين أمر أبو بكر مُنادياً فنادى : من كان له عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم عدة أو دين فليأتنا . قال جابر : فأتيته فقلت : إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لي كذا وكذا ، فحثى لي حثية فعددتها فإذا هي خمسمائة ، فقال : خُذ مثليها . رواه البخاري ومسلم . فهذا من وفاء أبي بكر رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يُنفذ مُجرّد الوعد ، وهذا من حسنات أبي بكر ، وهؤلاء تعدّه من مساوئه ! وهؤلاء يقولون : لماذا صدّق أبو بكر جابر فيما قال ، ولم يُصدق فاطمة رضي الله عنها ؟ والجواب : أن جابر بن عبد الله يُخبر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وَعَدَه ، ومن وفاء أبي بكر رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن أنفذ وعده لجابر رضي الله عنه . وأما فاطمة فإنها لم تقل وعدني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم . بل تُطالب بحقها من ميراث أبيها حيث فهمت أن لها الحق في ميراث أبيها ، فهي رضي الله عنها ما قالت : وعدني أبي صلى الله عليه وآله وسلم . فأبو بكر رضي الله عنه لم يُكذّب الزهراء رضي الله عنها ، وإنما أفهمها أن ما تركه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صَدَقـة بنصّ قولِه عليه الصلاة والسلام . ويدل عليه ما رواه الترمذي عن فاطمة أنها جاءت إلى أبي بكر فقالت : من يرثك ؟ قال : أهلي وولدي . قالت : فما لي لا أرث أبي ؟ فقال أبو بكر : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : لا نُورَث . ولكني أَعُول من كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعوله ، وأنفق على من كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يُنفِق عليه . وثمّـة شُبهة يتشبّث بها هؤلاء في هذا السياق ، وهي : أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فاطمة بَضْعَة مني فمن أغضبها أغضبني . رواه البخاري . يقولون : إن أبا بكر أغضب فاطمة رضي الله عنها ، فهو داخل في هذا الحديث . وليس الأمر كما زعموا ، فإن أبا بكر رضي الله عنه عمِل بوصية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، كما سيأتي ، وعمِل بما اتفق عليه الخلفاء من بعده ووافقوه عليه بما في ذلك عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه . فهل يُقال : إن علياً رضي الله عنه أغضب فاطمة بهذا ؟ والجواب عن ذلك من وُجوه : الأول : سبب وُورد الحديث ، وهو خِطبة عليّ رضي الله عنه ابنة أبي جهل . وذلك أن ن علي بن أبي طالب خطب بنت أبي جهل وعنده فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فلما سمعت بذلك فاطمة أتت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالت له : إن قومك يتحدثون إنك لا تغضب لبناتك ! وهذا عليّ ناكحا ابنة أبي جهل . قال المسور : فقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم فسمعته حين تشهد ثم قال : أما بعد فإني أنكحت أبا العاص بن الربيع فحدّثني فصدقني ، وإن فاطمة بنت محمد مضغة مني ، وإنما أكره أن يفتنوها ، وإنها والله لا تجتمع بنت رسول الله وبنت عدو الله عند رجل واحد أبدا . قال : فَتَرَكَ عليّ الخطبة . رواه البخاري ومسلم . الثاني : أن أبا بكر عمِل بما عمِل به الخلفاء من بعدِه ، وهذا يعني أنه على الحق ، فالغضب الذي يُغضب فاطمة والذي يَغضب له النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما كان في حقّ ، أي ما كانت فيه مُحقّـة . ونحن لا ندّعي العِصمة لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم . وفاطمة سيدة نساء العالمين ، وهي من بنات آدم تغضب كما يَغضبون . بل إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال ذلك عن نفسه ، فقال : اللهم إنما أنا بشر ، فأيّ المسلمين لعنته أو سببته فاجعله له زكاة وأجرا . رواه مسلم . الثالث : أن علياً رضي الله عنه أغضَب فاطمة مرّة ، فهل يُمكن أن يُقال إن علياً رضي الله عنه أغضب فاطمة فغضبت عليه ، أو غاضبها ثم خَرَج من عندها ، أنه بفعله ذلك أغضب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ؟ روى البخاري ومسلم عن سهل بن سعد قال : جاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيت فاطمة فلم يجد علياً في البيت ، فقال : أين ابن عمك ؟ قالت : كان بيني وبينه شيء ، فغاضبني ، فخرج فلم يَقل عندي . فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لإنسان : انظر أين هو . فجاء فقال : يا رسول الله هو في المسجد راقد . فجاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو مضطجع قد سقط رداؤه عن شِقه وأصابه تراب ، فجعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يمسحه عنه ويقول : قُم أبا تراب ، قَم أبا تراب . فلو كان هذا الإغضاب من عليّ سبب في غضب النبي ما مسح عنه التراب ، ولا مازحه بقوله هذا . الرابع : أن أبا بكر رضي الله عنه عَرَف لقرابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حقّهم ، وما كان يسرّه أن تموت فاطمة وهي غضبى عليه . فقد طَلَب رضاها قبيل موتها . فقد حدّث الشعبي قال : لما مرضت فاطمة أتى أبو بكر فاستأذن ، فقال عليٌّ : يا فاطمة هذا أبو بكر يستأذن عليك ، فقالت : أتحبّ أن آذن له ؟ قال : نعم . فأذِنَتْ له ، فدخل عليها يترضّاها ، وقال : والله ما تركت الدار والمال والأهل والعشيرة إلا ابتغاء مرضاة الله ورسوله ومرضاتكم أهل البيت . قال : ثم ترضّاها حتى رَضِيَتْ . رواه البيهقي في الكبرى وفي الاعتقاد . قال الذهبي في سيرة سيدة نساء العالمين رضي الله عنها : ولما توفي أبوها تعلقت آمالها بميراثه ، وجاءت تطلب ذلك من أبي بكر الصديق ، فحدّثها أنه سمع من النبي يقول : لا نورث ما تركنا صدقة ، فَوَجَدَتْ عليه ، ثم تعللت . اهـ . ومما يدلّ على رضاها عنه أنها رضي الله عنها أوصَتْ أن تُغسِّلها أسماء بنت عُميس امرأة أبي بكر رضي الله عنها وعنه . قال ابن كثير : ولما حضرتها الوفاة أوْصَتْ إلى أسماء بنت عميس امرأة الصديق أن تغسلها ، فغسلتها هي وعلي بن أبي طالب وسلمى أم رافع ، قيل : والعباس بن عبد المطلب . وما رُوي من أنها اغتسلت قبل وفاتها وأوصت أن لا تُغَسّل بعد ذلك فضعيف لا يُعوّل عليه ، والله أعلم . فلو كانت تجِد في نفسها على الصدِّيق رضي الله عنه لما أوصَتْ أن تُغسِّلها امرأته ، ولكانت بمنأى عن أهل بيت أغضبوها وغصبوها حقّها. ومن الأقوال في هذا الباب ما جاء في في شرح نهج البلاغة كما يروي ابن الميثم البحراني : " أن أبا بكر قال لها - أي فاطمة - : أن لك ما لأبيك ، كان رسول الله صلى الله عليه وآله يأخذ من فدك قوتكم ، ويقسم الباقي ، ويحمل منه في سبيل الله ، ولك على الله أن أصنع بها كما كان يصنع ، فرضيت بذلك وأخذت العهد عليه " [36] ومثل هذ الكلام ذكره الدنبلي في شرحه.[37] ويقول كبار علماء الشيعة بأن أبو بكر رضي الله عنه كان يطبق ما وعد به فاطمة رضوان الله عليها .. حيث ذكروا: " إن أبا بكر كان يأخذ غلتها ( أي فدك ) فيدفع إليهم ( أي أهل البيت ) منها ما يكفيهم ، ويقسم الباقي ، فكان عمر كذلك ، ثم كان عثمان كذلك ، ثم كان علي كذلك " [38] وقال المرتضى وغيره: " إن الأمر لما وصل إلى علي ابن أبي طالب كُلم في رد فدك ، فقال : إني لأستحي من الله أن أرد شيئاً منع منه أبو بكر وأمضاه عمر " [39] والقول بأن فاطمة رضي الله عنها لم تتكلم مع الصديق حتى ماتت .. نعم ، هذا حق !! فهي لم تتكلم معه في قضية فدك إلى أن ماتت .. فهاهو المجلسي على تعنته يضطر إلى أن يقول : " إن أبا بكر لما رأى غضب فاطمة قال لها : أنا لا أنكر فضلك ولا قرابتك من رسول الله عليه السلام ، ولم أمنعك من فدك إلا امتثالاً بأمر رسول الله ، واشهد الله على أني سمعت رسول الله يقول : نحن معاشر الأنبياء لا نورث ، وما تركنا إلا الكتاب والحكمة والعلم ، وقد عملت هذا باتفاق المسلمين ولست بمتفرد في هذا ، وأما المال فإن تريدينه فخذي من مالي ماشئت لأنك سيدة أبيك وشجرة طيبة لأبنائك ولا يستطيع أحد أن ينكر فضلك " [40] وكما مر معنا قول علي رضي الله عنه لما سئل أن يرد فدك رفض تغيير حكم منعه أبو بكر وأمضاه عمر رضوان الله عليهما .. ولأجل ذلك لما سئل أبو جعفر محمد الباقر رحمه الله عن ذلك وقد سأله كثير النوال بقوله : " جعلني الله فداك أرأيت أبا بكر وعمر ، هل ظلماكم من حقكم شيئاً ، أو قال : ذهبا من حقكم بشيء ؟ فقال : لا ، والذي أنزل القرآن على عبده ليكون للعالمين نذيرا ، ما ظلمانا من حقنا مثقال حبة من خردل ، قلت : جعلت فداك أفأتولاهما ؟ قال : نعم ويحك تولهما في الدنيا والآخرة ، وما أصابك ففي عنقي " [41] وهذا زيد بن علي بن الحسين أخو محمد الباقر رضوان الله عليهما ، قال في قضية فدك ما قاله جده علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، لما سأله البحتري بن حسان وهو يقول : قلت لزيد بن علي عليه السلام وأنا أريد أن أهجن من أمر أبي بكر ، إن أبا بكر انتزع فدك من فاطمة عليها السلام .
فقال : إن أبا بكر كان رجلا رحيماً ، وكان يكره أن يغير شيئاً فعله رسول الله صلى الله عليه وآله ، فأتته فاطمة ، فقالت : إن رسول الله صلى الله عليه وآله أعطاني فدك ، فقال لها : هل لك على هذا بينة ، فجاءت بعلي عليه السلام فشهد لها ، ثم جاءت أم أيمن فقالت : ألستما تشهدان أني من أهل الجنة ، قالا : بلى ، قال زيد : يعني أنها قالت لأبي بكر وعمر ، قالت : فأنا أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وآله أعطاها فدك ، فقال أبو بكر : فرجل آخر أو امرأة أخرى لتستحقي بها القضية ، ثم قال زيد : وأيم الله ! لو رجع الأمر إلي لقضيت فيه بقضاء أبي بكر “ [42] المزيد من الردود روى الشيخان من حديث المسور بن مخرمة قال: (إن علياً خطب بنت أبي جهل فسمعت بذلك فاطمة، فأتت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: يزعم قومك أنك لا تغضب لبناتك، وهذا علي ناكح بنت أبي جهل، فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فسمعته حين تشهد يقول: أما بعد أنكحت أبا العاص ابن الربيع فحدثني وصدقني، وإن فاطمة بضعة مني وإني أكره أن يسوءها، والله لا تجتمع بنت رسول الله وبنت عدو الله عند رجل واحد فترك علي الخطبة).[43] وفي رواية: (إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: فاطمة بضعة مني فمن أغضبها أغضبني).[44] فظهر أن مناسبة الحديث هي خطبة علي –رضي الله عنه- لابنة أبي جهل وغضب فاطمة من ذلك، والنص العام يتناول محل السبب، وهو نص فيه باتفاق العلماء، حتى قالوا لا يجوز إخراج السبب بدليل تخصيص، لأن دلالة العام على سببه قطعية وعلى غيره على وجه الظهور.[45] وعلى هذا فلو كان هذا الحديث متنزلاً على كل من أغضب فاطمة لكان أول الناس دخولاً في ذلك علياً –رضي الله عنه-. قال شيخ الإسلام ابن تيمية في هذه المسألة وبعد أن ذكر الحديث: «فسبب الحديث خطبة علي لابنة أبي جهل والسبب داخل في اللفظ قطعاً، إذ اللفظ الوارد على سبب لا يجوز إخراج سببه منه، بل السبب يجب دخوله بالاتفاق. وقد قال في الحديث: (يريبني ما رابها ويؤذيني ما آذاها) ومعلوم قطعاً أن خطبة ابنة أبي جهل عليها رابها وآذاها، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم رابه ذلك وآذاه، فإن كان هذا وعيد لاحقاً لزم أن يلحق هذا الوعيدعلي بن أبي طالب، وإن لم يكن وعيداً لاحقاً بفاعله، كان أبو بكر أبعد عن الوعيد من علي». وثبت عن فاطمة -رضي الله عنها- أنها رضيت عن أبي بكر بعد ذلك، وماتت وهي راضية عنه، على ماروى البيهقي بسنده عن الشعبي أنه قال: (لما مرضت فاطمة أتاها أبو بكر الصديق فاستأذن عليها، فقال علي: يافاطمة هذا أبو بكر يستأذن عليك؟ فقالت: أتحب أن آذن له؟ قال: نعم، فأذنت له فدخل عليها يترضاها، فقال: والله ما تركت الدار والمال، والأهل والعشيرة، إلا إبتغاء مرضاة الله، ومرضاة رسوله، ومرضاتكم أهل البيت، ثم ترضاها حتى رضيت)[46] قال ابن كثير: «وهذا إسناد جيد قوي والظاهر أن عامر الشعبي سمعه من علي أو ممن سمعه من علي»[47] وقال ابن حجر: «وهو وإن كان مرسلاً فاسناده إلى الشعبي صحيح، وبه يزول الإشكال في جواز تمادي فاطمة عليها السلام على هجر أبي بكر»[48] وقال أيضاً: «فإن ثبت حديث الشعبي أزال الإشكال وأخلق بالأمر أن يكون كذلك، لما علم من وفور عقلها ودينها، عليها السلام»[49] وبهذا تندحض المطاعن في أبي بكر في هذه المسألة ، فلئن كانت غضبت على أبي بكر في بداية الأمر فقد رضيت عنه بعد ذلك وماتت عليه، ولا يسع أحد صادق في محبته لها، إلا أن يرضي عمن رضيت عنه، ولا يعارض هذا ما ثبت في حديث عائشة المتقدم (أنها وجدت على أبي بكر فلم تكلمه حتى توفيت) فإن هذا بحسب علم عائشة -رضي الله عنها- راوية الحديث، وفي حديث الشعبي زيادة علم، وثبوت زيارة أبي بكر لها وكلامها له ورضاها عنه، فعائشة -رضي الله عنها- نفت والشعبي أثبت، ومعلوم لدى العلماء أن قول المثبت مقدم على قول النافي، لأن احتمال الثبوت قد حصل بغير علم النافي، خصوصاً في مثل هذه المسألة فإن عيادة أبي بكر لفاطمة -رضي الله عنها- ليست من الأحداث الكبيرة التي تشيع في الناس، ويطلع عليها الجميع، وإنما هي من الأمور العادية التي تخفى على من لم يشهدها، والتي لا يعبأ بنقلها لعدم الحاجة لذكرها. على أن الذي ذكره العلماء أن فاطمة -رضي الله عنها- لم تتعمد هجر أبي بكر –رضي الله عنه- أصلاً، ومثلها ينزه عن ذلك لنهي النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الهجر فوق ثلاث، وإنما لم تكلمه لعدم الحاجة لذلك. قال القرطبي في سياق شرحه لحديث عائشة المتقدم: «ثم إنها (أي فاطمة) لم تلتق بأبي بكر لشغلها بمصيبتها برسول الله، ولملازمتها بيتها فعبر الراوي عن ذلك بالهجران، وإلا فقد قال رسول الله : ( لايحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث)- وهي أعلم الناس بما يحل من ذلك ويحرم، وأبعد الناس عن مخالفة رسول الله ).[50] كيف لا يكون كذلك وهي بضعة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسيدة نساء أهل الجنة»
وقال النووي: «وأما ما ذكر من هجران فاطمة أبا بكر فمعناه انقباضها عن لقائه، وليس هذا من الهجران المحرم، الذي هو ترك السلام والإعراض عند اللقاء، وقوله في هذا الحديث (فلم تكلمه) يعني في هذا الأمر، أو لانقباضها لم تطلب منه حاجة ولا اضطرت إلى لقائه فتكلمه، ولم ينقل قط أنهما التقيا فلم تسلم عليه ولا كلمته»[51] والدليل ايضاً ان أسماء بنت عميس زوجة ابي بكر هي التى غسلت فاطمة – رضي الله عنها -
وبهذا يظهر الحق في هذه المسألة، وأن ما جرى الصديق وفاطمة لايعدو أن يكون اختلافاً في مسألة فقهية . ومن خلال بحثي في كتب الإمامية عن اصل مسالة العقار والإرث فيه وجدت نصوصاً في أن النساء في مذهب الإمامية لا يرثن العقار ... قال : محمد بن الحسين عن جعفر بن بشير عن الحسين عن ابي مخلد عن عبد الملك قال : دعا ابو جعفر ع بكتاب علي فجاء به جعفر مثل فخذ الرجل مطوى فإذا فيه ان النساء ليس لهن من عقار الرجل إذا هو توفي عنها شيء فقال ابو جعفر ع : هذا والله خط يده وإملاء رسول الله .[52] وعن علي عن ابيه عن جميل عن زراره ومحمد بن مسلم عن ابي جعفر ع قال : لا ترث النساء من عقار الأرض شيئاً .[53] ومن الردود أن موافقة علي رضي الله عنه راي ابوبكر رضي الله عنه بشان أرض فدك. يقول السيد المرتضى الملقب بعلم الهدى إمام الشيعة : إ ن الأمر لما وصل الأمر إلى علي ابن أبي طالب كلّم في رد فدك ، فقال : " إني لأستحيي من الله أن أرد شيئاً منع منه أبو بكر وأمضاه عمر " [54] ولما سئل أبو جعفر محمد الباقر عن ذلك وقد سأله كثير النوال بقوله " جعلني الله فداك أرأيت أبا بكر وعمر هل ظلماكما من حقكم شيئاً ، أو قال ذهبا من حقكم بشيء ؟ فقال : لا ، والذي أنزل القرآن على عبده ليكون للعالمين نذيرا ، ما ظلمانا من حقنا مثقال حبة من خردل ، قلت : جعلت فداك أفأتولاهما ؟ قال : نعم ويحك تولهما في الدنيا والآخرة ، وما أصابك ففي عنقي " [55]
وذكر المجلسي أن أبا بكر لما رأى غضب فاطمة قال لها : أنا لا أنكر فضلك وقرابتك من رسول الله عليه السلام ، ولم أمنعك من فدك إلا إمتثالاَ بأمر رسول الله ، وأشهد الله على أني سمعت رسول الله يقول : نحن معاشر الأنبياء لا نورث ، وما تركنا إلا الكتاب والحكمة والعلم ، وقد فعلت هذا بإتفاق المسلمين ولست بمتفرد في هذا ، وأما المال فإن تريدينه فخذي من مالي ما شئت لأنك سيدة أبيك وشجرة طيبة لأبنائك ، ولا يستطيع أحد إنكار فضلك ..[56] ويروي ابن الميثم الشيعي في شرح نهج البلاغة : " إن أبا بكر قال لها : إن لك ما لأبيك ، كان رسول الله صلى الله عليه وآله يأخذ من فدك قوتكم ، ويقسم الباقي ويحمل منه في سبيل الله ، ولك على الله أن أصنع بها كما كان يصنع ، فرضيت بذلك وأخذت العهد عليه به .[57] ومصداق على ذلك يروي ابن الميثم والدنبلي وابن أبي الحديد والشيعي المعاصر فيض الإسلام علي نقي : أن أبي بكر كان يأخذ غلتها ( أي فدك ) فيدفع إليهم ( أهل البيت ) منها ما يكفيهم ، ويقسم الباقي ، فكان عمر كذلك ، ثم كان عثمان كذلك ، ثم كان علي كذلك .[58] [1] - تفسيره الصافي 3/186 [2] - انظر: الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم للنباطي 2/282، وحق اليقين في معرفة أصول الدين لعبد الله شبّر 1/178. [3] - انظر: الاحتجاج للطبرسي 1/102. [4] - في هذا رد على زعمهم أن أم أيمن وعلياً - رضي الله عنهما- شهدا بمنح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاطمة فدكاً. انظر: الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم للنباطي 2/282. [5] - منهاج السنة 4/228. [6] - أخرجه البخاري في: (كتاب المغازي، باب غزوة خيبر) فتح الباري 7/493، ح4240- 4241، ومسلم: (كتاب الجهاد، باب قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا نورث) 3/1380، ح1759. [7] - فتح الباري 6/202. [8] - يشير إلى الحديث الذي احتج به أبو بكر وهو قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لا نورث، ما تركنا صدقه)، وقد تقدم تخريجه في الصحفة السابقة. [9] - منهاج السنة 4/220 [10] - تلبيس إبليس ص135. [11] - السنن الكبرى 6/302 ، وذكره ابن كثير في البداية والنهاية 5/253. [12] - المفهم للقرطبي 3/564. [13] أخرجه البخاري في: (كتاب الحدود، باب إقامة الحدود) فتح الباري 12/86، ح6786، ومسلم: (كتاب الفضائل، باب مباعدته صلى الله عليه وآله وسلم للآثام) 4/1813، ح2327. [14] انظر: صحيح البخاري: (كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب علي بن أبي طالب) فتح الباري 7/71، ح3705، وصحيح مسلم: (كتاب الذكر والدعاء، باب التسبيح أول النهار وعند النوم) 4/2091، ح2727. [15] - انظر: سنن أبي داود: (كتاب الخراج والإمارة، باب في صفايا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم) 3/378، ح2972. [16] - أخرجه مسلم: (كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل عائشة) 4/1891، ح2442. [17] - انظر: تقرير هذه المسألة في مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية 10/372، 28/500- 501. [18] - رواه البخاري في: (كتاب فضائل الصحابة، باب ذكر أصهار النبي صلى الله عليه وآله وسلم) فتح الباري 7/85، ح3729، ومسلم: (كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم) 4/1903. [19] - رواه البخاري في: (كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب قرابة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم) فتح الباري 7/78، ح3714. [20] - انظر: المسودة في أصول الفقه للأئمة الثلاثة من آل تيمية: شيخ الإسلام وأبيه شهاب الدين وجده أبي البركات ص119، وتخريج الفروع على الأصول للزنجاني ص360. [21] - منهاج السنة 4/251. [22] - شرح صحيح مسلم للنووي 12/73. [23] - المفهم 3/563. [24] - منهاج السنة 4/234. [25] - البداية والنهاية 5/252. [26] - السنن الكبرى للبيهقي 6/301. [27] - البداية والنهاية 5/253. [28] - فتح الباري 6/202. [29] - أخرجه البخاري من حديث أبي أيوب الأنصاري - رضي الله عنه- في: (كتاب الأدب، باب الهجرة) فتح الباري 10/492، ح6077، ومسلم: (كتاب البر والصلة، باب تحريم الهجر فوق ثلاث بلا عذر شرعي) 4/1984، ح2560. [30] - ) المفهم 3/568- 569 [31] - شرح صحيح مسلم 12/73. [32] - شبهات حول عصر الصحابة (6) : ماذا بين أبي بكر الصديق وفاطمة الزهراء رضي الله عنهما!! خالد الغيث [33] - منهاج السنة لشيخ الإسلام ابن تيمية ، 4 / 194- 264). [34] - بحار الأنوار 43/42 [35] - علل الشرائع للقمي ص185- 186 [36] - شرح نهج البلاغة - لابن ميثم البحراني ج 5 ص 107 ط طهران [37] - الدرة النجفية ص 331 ، 332 ط إيران [38] - شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 4 ) ( شرح نهج البلاغة لابن ميثم البحراني ج 5 ص 107 ) ( الدرة النجفية ص 332 ) ( شرح النهج - فارسي لعلي نقي ج 5 ص 960 ط طهران ) [39] - ) الشافي - للمرتضى ص 231 ) ( شرح نهج البلاغة - لابن أبي الحديد ج4 ) [40] - حق اليقين ص 201 ، 202 - ترجمة من الفارسية [41] - )شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج4 ص 82 ) [42] - شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج4 ص 82 [43] - رواه البخاري في: (كتاب فضائل الصحابة، باب ذكر أصهار النبي صلى الله عليه وسلم) فتح الباري 7/85، ح3729، ومسلم: (كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل فاطمة بنت رسول الله 4/1903 [44] - رواه البخاري في: (كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب قرابة الرسول صلى الله عليه وسلم) فتح الباري 7/78، ح3714 [45] - انظر: المسودة في أصول الفقه للأئمة الثلاثة من آل تيمية: شيخ الإسلام وأبيه شهاب الدين وجده أبي البركات ص119، وتخريج الفروع على الأصول للزنجاني ص360. [46] - - السنن الكبرى للبيهقي 6/301 [47] - البداية والنهاية 5/253 [48] - فتح الباري 6/202 [49] - فتح الباري 6/202 [50] - أخرجه البخاري من حديث أبي أيوب الأنصاري –رضي الله عنه- في: (كتاب الأدب، باب الهجرة) فتح الباري 10/492، ح، ومسلم: (كتاب البر والصلة، باب تحريم الهجر فوق ثلاث بلا عذر شرعي) 4/1984 [51] - شرح صحيح مسلم 12/73 [52] - بحار الأنوار للمجلسي ( ج 26 ص 514 رواية 101باب 1 ) و( ج 104 ص 352 رواية 9 باب 7 ) [53] - الكافي للكليني ( ج 7 ص 128 رواية 4 ) [54] - ( الشافي للمرتضي ص 213 ، وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج4 ) [55] - ( شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج4 ص 84 ) [56] - ( حق اليقين ص 201 ، 202 - ترجمة من الفارسية ) [57] - ( شرح نهج البلاغة لابن ميثم البحراني ج5 ص 107 ط طهران ) [58] - ( شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج4 ، وأيضاً شرح نهج البلاغة لابن ميثم البحراني ج 5 ص 107 ، وأيضاً الدرة النجفية ص 332 ، شرح نهج البلاغة - فارسي - لعلي نقي ج 5 ص 960 ط طهران ) |