الرئيسية | الصحيفة | خدمات الإستضافة | مركز الملفات | الحركة الانتقالية | قوانين المنتدى | أعلن لدينا | اتصل بنا |

أفراح بن جدي - 0528861033 voiture d'occasion au Maroc
educpress
للتوصل بجديد الموقع أدخل بريدك الإلكتروني ثم فعل اشتراكك من علبة رسائلك :

فعاليات صيف 2011 على منتديات الأستاذ : مسابقة استوقفتني آية | ورشة : نحو مفهوم أمثل للزواج

العودة   منتديات الأستاذ التعليمية التربوية المغربية : فريق واحد لتعليم رائد > المنتديات العامة والشاملة > المنتدى الإسلامي


إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع
قديم 2010-09-28, 07:48 رقم المشاركة : 6
عمر أبو صهيب
بروفســــــــور
 
الصورة الرمزية عمر أبو صهيب

 

إحصائية العضو








عمر أبو صهيب غير متواجد حالياً


وسام المشارك

وسام منضم مسابقة المقدم

الوسام الذهبي

وسام المشاركة

وسام المشاركة في دورة HTML

وسام المشاركة

وسام حفظ سورة الكهف

وسام المركز الاول في مسابقة التصوير الفوتوغرافي

وسام المركز الثاني في مسابقة استوقفتني آية

وسام مشارك في دورة حفظ سورة البقرة

افتراضي رد: شبهات مهترئة و ردود قاصمة


شبهة أن اختلاف الصحابة هو الذي حرم الأمة العصمة
وأدى إلى تفرقها وتمزقها


ومن هذه الشبهات قولهم أن اختلاف الصحابة هو الذي حرم الأمة العصمة وأدى إلى تفرقها وتمزقها حيث قالوا: والمشكل الأساسي في كل ذلك هو الصحابة، فهم الذين اختلفوا في أن يكتب لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذلك الكتاب، الذي يعصمهم من الضلالة إلى قيام الساعة، واختلافهم هذا هو الذي حرم الأمة الإسلامية من هذه الفضيلة، ورماها في الضلالة، حتى انقسمت وتفرقت وتنازعت وفشلت وذهبت ريحها، وهم الذين اختلفوا في الخلافة، فتوزعوا بين حزب حاكم، وحزب معارض، وسبب ذلك تخلف الأمة، وانقسامها إلى: شيعة علي، وشيعة معاوية، وهم الذين اختلفوا في تفسير كتاب الله، وأحاديث رسوله صلى الله عليه وآله وسلم فكانت المذاهب والفرق والملل والنحل، ونشأت من ذلك المدارس الكلامية والفكرية المختلفة، وبرزت فلسفات متنوعة أملتها دوافع سياسية محضة، تتصل بطموحات الهيمنة على السلطة والحكم.

فالمسلمون لم ينقسموا ولم يختلفوا في شئ لولا الصحابة، وكل خلاف نشأ وينشأ إنما يعود إلى اختلافهم في الصحابة».

قلنا: قوله فهم الذين اختلفوا في أن يكتب لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذلك الكتاب، الذي يعصمهم من الضلالة إلى قيام الساعة، وأن هذا الاختلاف هو الذي حرم الأمة من هذه الفضيلة، يشير بذلك إلى ما رواه الشيخان من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: (لما اشتد بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وجعه، قال: ائتوني بكتاب أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده، قال عمر: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم غلبه الوجع، وعندنا كتاب الله حسبنا، فاختلفوا، وكثر اللغط، قال: قوموا عني ولا ينبغي عندي التنازع).[1]

وقد ذكرنا الرد على هذه الشبهة في هذا الكتاب. أما الزعم أن اختلافهم هذا هو الذي حرم الأمة الإسلامية من العصمة ورماها في الضلالة والتفرق إلى قيام الساعة.

والجواب على هذا: إن هذا القول باطل، وهو يعني أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قد ترك تبليغ أمته ما فيه عصمتها من الضلال، ولم يبلغ شرع ربه لمجرد اختلاف أصحابه عنده حتى مات على ذلك، وأنه بهذا مخالف لأمر ربه في قوله: {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس}.‎‎
وإذا كان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مبرأً من ذلك ومنزهاً بتزكية ربه له في قوله: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عَنِتُّم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم}

فوصفه بالحرص على أمته: أي على هدايتهم، ووصول النفع الدنيوي والأخروي لهم، ذكره ابن كثير في تفسيره[2]:

وإذا كان هذا الأمر معلوماً بالاضطرار من دين الإسلام عند الخاص والعام، لايشك فيه من في قلبه أدنى مثقال ذرة من إيمان، أن هذا الرسول الكريم قد بلغ كل ما أُمر به، وكان أحرص ما يكون على أمته، بما هو متواتر من جهاده وتضحيته، وأخباره الدالة على ذلك، علمنا علماً يقينياً لا يشوبه أدنى شك، أنه لو كان الأمر كما يذكر هذا الطاعن من الوصف لهذا الكتاب من أن به عصمة الأمة من الضلال في دينها، ورفع الفرقة والاختلاف فيما بينها، إلى أن تقوم الساعة، لما ساغ في دين ولا عقل أن يؤخر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كتابته إلى ذلك الوقت الضيق، ولو أخره ما كان ليتركه لمجرد اختلاف أصحابه عنده[3]

وقد ثبت من سيرته أنه لربما راجعوه أحياناً في بعض المسائل مجتهدين، فما كان يترك أمر ربه لقولهم، كمراجعة بعضهم له في فسخ الحج إلى عمرة في حق من لم يسق الهدي، وذلك في حجة الوداع، وكذلك مراجعة بعضهم له يوم الحديبية، وفي تأمير أسامة[4] -رضي الله عنه-، فهل يتصور بعد هذا أن يترك أمر ربه فيما هو أعظم من هذا لخلافهم، ولو قدر أنه تركه في ذلك الوقت لتنازعهم عنده لمصلحة رآها فما الذي يمنعه من أنه يكتبه بعد ذلك، وقد ثبت أنه عاش بعد ذلك عدة أيام فقد كانت وفاته -عليه الصلاة والسلام- يوم الإثنين على ما جاء مصرحاً به في رواية أنس في الصحيحين[5] وحادثة الكتاب يوم الخميس بالاتفاق.

فإن أبى الطاعن إلا جدالاً، وقال: خشي أن لا يقبلوه منه، ويعارضوه فيه، كما تنازعوا عنده أول مرة، قلنا: لا يضره ذلك وإنما عليه البلاغ كما قال تعالى: {من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظاً}.

فإذا ثبت هذا باتفاق المسلمين، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يكتب ذلك الكتاب حتى مات، علمنا أنه ليس من الدين الذي أمر بتبليغه، ولا على ما يصفه هذا الطاعن من المبالغة لاستحالة ذلك على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.

ولِمَا دل عليه القرآن من أن الله قد أكمل له ولأمته الدين، فأنزل عليه قبل ذلك في حجة الوداع: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً}.

وكما أخبر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بذلك في قوله: (إني تركتكم على مثل البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك).[6]

فإذا تقرر بطلان ما يدعي هذا الطاعن من أن الأمة وقعت في الضلالة، وحرمت العصمة بسبب عدم كتابة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لهم ذلك الكتاب لاختلاف الصحابة عنده: فليعلم بعد هذا أن الذي أراده الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من كتابة ذلك الكتاب هو أن يكتب لهم كتاباً يبين فيه فيمن تكون الخلافة من بعده كما ذكر ذلك العلماء.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: «ولم تكن كتابة الكتاب مما أوجبه الله عليه أن يكتبه أو يبلغه في ذلك الوقت، إذ لو كان كذلك لما ترك صلى الله عليه وآله وسلم ما أمره الله به، لكن ذلك مما رآه مصلحة لدفع النزاع في خلافة أبي بكر، ورأى أن الخلاف لابد أن يقع».[7]

وقال في موضع آخر: «وأما قصة الكتاب الذي كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يريد أن يكتبه، فقد جاء مبيناً كما في الصحيحين عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مرضه: (ادعى لي أباك وأخاك حتى أكتب كتاباً، فإني أخاف أن يتمنى متمن، ويقول قائل: أنا أولى، ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر)[8] ... [إلى أن قال بعد ذكر روايات الحديث]: والنبي صلى الله عليه وآله وسلم قد عزم على أن يكتب الكتاب الذي ذكره لعائشة، فلما رأى أن الشك قد وقع، علم أن الكتاب لا يرفع الشك، فلم يبق فيه فائدة، وعلم أن الله يجمعهم على ما عزم عليه كما قال: (ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر)».‎‎‎[9]

وأما قوله صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث: (لن تضلوا بعدي) فيقول الدهلوي في توجيهه: «فإن قيل: لو لم يكن ما يكتب أمراً دينياً فلم قال: (لن تضلوا بعدي؟) قلنا: للضلال معان، والمراد به ههنا عدم الخطأ في تدبير الملك، وهو إخراج المشركين من جزيرة العرب، وإجازة الوفد بنحو ما كان يجيزه، وتجهيز جيش أسامة منه، لا الضلالة والغواية عن الدين».[10]

وأما قوله: «وهم الذين اختلفوا في الخلافة فتوزعوا بين حزب حاكم وحزب معارض، وسبب ذلك تخلف الأمة وانقسامها إلى شيعة علي وشيعة معاوية...»

فالجواب على هذا: أن الخلاف بين الصحابة -رضي الله عنهم - في عهد علي -رضي الله عنه- لم يكن في الخلافة، فإن الذين اختلفوا مع علي -رضي الله عنه- هم: طلحة، والزبير، وعائشة، ومعاوية -رضي الله عنهم-، ولم يكن هؤلاء ينازعونه في الخلافة بل لم يَدَّعِ أحد لامن هؤلاء ولا من غيرهم، أنه أولى بالخلافة بعد مقتل عثمان -رضي الله عنه- من علي؛ لأنه أفضل من بقي، وقد كانوا يقرون له بالفضل، وإنما أصل الخلاف بين هؤلاء الصحابة المذكورين وعلي هو في المطالبة بدم عثمان وقتل قتلته، فقد كانوا يرون تعجيل ذلك والمبادرة بالاقتصاص منهم، وقد كان علي -رضي الله عنه- لا ينازعهم في أن عثمان -رضي الله عنه- قُتل مظلوماً، وعلى وجوب الاقتصاص من قتلته، وإنما كان يرى تأجيل ذلك حتى تهدأ الأوضاع ويستتب له الأمر، لأن قتلة عثمان كثير وقد تفرقوا في الأمصار كما كانت طائفة كبيرة منهم في المدينة بين الصحابة.

ومع هذا كله فإن اختلافهم -رضي الله عنهم- لم يصل بهم إلى الطعن في الدين، واتهام بعض لبعض، وإنما كان كل فريق يرى لمخالفه مكانته في الفضل والصحبة ويرى أنه مجتهد في رأيه، وإن كان يخطئه فيه.

فههنا ثلاث مسائل مقررة عند أهل العلم والتحقيق من أهل السنة، يندفع بها ما يثيره هؤلاء المغرضون من شبه، حول الفتنة التي حصلت في زمن الصحابة -رضي الله عنهم- في خلافة علي وهي:

المسألة الأولى: أن الخلاف الذي حصل بينهم لم يكن حول الخلافة، ولم ينازع علياً -رضي الله عنه- أحد من مخالفيه فيها، ولم يَدَّعِ أحد منهم على الإطلاق أنه أولى بالخلافة من علي.

المسألة الثانية: أن الخلاف بينهم إنما هو في تعجيل قتل قتلة عثمان أو تأخيره، مع اتفاقهم على وجوب تنفيذ ذلك.

المسألة الثالثة: أنهم مع اختلافهم لم يتهم بعضهم بعضاً في الدين، وإنما يرى كل فريق منهم أن مخالفه مجتهد متأول، يعترف له بالفضل في الإسلام، والصحبة لرسول صلى الله عليه وآله وسلم.

وهذه مسائل عظيمة، دلت عليها الأخبار الصحيحة. وفيها توضيح لحقيقة الخلاف بين الصحابة وتبرئة لساحتهم من كل مايرميهم به الطاعنون والزنادقة، وهي أصل كبير في الرد على هؤلاء ينبغي لطالب العلم أن يتعلمها بأدلتها، وإليك أيها القارئ بسط الأدلة على تقريرها:

المسألة الأولى: أن الخلاف الذي حصل بينهم لم يكن في الخلافة، ولم ينازع علياً أحد من مخالفيه فيها، ولم يدع أحد منهم أنه أولى بها من علي -رضي الله عنه-.
ومن أقوى الأدلة، وأكبر الشواهد على هذا: اجتماع الصحابة -رضي الله عنهم- على مبايعته بالخلافة بعد مقتل عثمان -رضي الله عنه- بما فيهم طلحة والزبير -رضي الله عنهما-، وقد دلت على ذلك الروايات الصحيحة المنقولة عنهم في ذلك.

منها مارواه الطبري في تاريخه بسنده إلى محمد بن الحنفية، قال: «كنت مع أبي حين قتل عثمان -رضي الله عنه- فقام فدخل منزله، فأتاه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقالوا: إن هذا الرجل قد قتل ولابد للناس من إمام، ولا نجد اليوم أحداً أحق بهذا الأمر منك، لا أقدم سابقة، ولا أقرب من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: لا تفعلوا، فإني أكون وزيراً، خيرٌ من أن أكون أميراً، فقالوا: لا والله ما نحن بفاعلين حتى نبايعك، قال: ففي المسجد فإن بيعتي لا تكون خَفِيّاً ولا تكون إلا عن رضا المسلمين.

قال سالم بن الجعد، فقال عبدالله بن عباس: فلقد كرهت أن يأتي المسجد مخافة أن يُشْغَب عليه، وأبى هو إلا المسجد، فلما دخل دخل المهاجرون والأنصار فبايعوه ثم بايعه الناس».[11]

وعن أبي بشير العابدي قال: «كنت بالمدينة حين قتل عثمان -رضي الله عنه- واجتمع المهاجرون والأنصار فيهم طلحة والزبير فأتوا علياً، فقالوا: يا أبا الحسن هلم نبايعك، فقال: لا حاجة لي في أمركم أنا معكم، فمن اخترتم فقد رضيت به، فاختاروا والله، فقالوا: ما نختار غيرك....»[12] الخ الرواية، وفيها تمام البيعة لعلي-رضي الله عنه-.

والروايات في هذا كثيرة ذكر بعضها ابن جرير في تأريخه[13] وهي دالة على مبايعة الصحابة -رضي الله عنهم- لعلي -رضي الله عنه- واتفاقهم على بيعته بما فيهم طلحة والزبير، كما جاء مصرحاً به في الرواية السابقة.

وأما ما جاء في بعض الروايات من أن طلحة، والزبير بايعا مكرهين فهذا لا يثبت بنقل صحيح، والروايات الصحيحة على خلافه.

فقد روى الطبري عن عوف بن أبي جميلة قال: «أما أنا فأشهد أني سمعت محمد بن سيرين، يقول: إن علياً جاء فقال لطلحة: ابسط يدك ياطلحة لأبايعك. فقال طلحة: أنت أحق، وأنت أمير المؤمنين، فابسط يدك، فبسط علي يده فبايعه».‎‎[14]

وعن عبد خير الخَيْوانيّ أنه قام إلى أبي موسى فقال: «يا أبا موسى، هل كان هذان الرجلان -يعني طلحة والزبير- ممن بايع علياً قال: نعم...».‎‎‎[15]

كما نص على بطلان ما يُدَّعَى من أنهما بايعا مكرهين، الإمام المحقق ابن العربي وذكر أن هذا مما لا يليق بهما، ولا بعلي قال-رحمه الله-: «فإن قيل بايعا مكرهين [أي طلحة والزبير]، قلنا: حاشا لله أن يكرها، لهما ولمن بايعهما، ولو كانا مكرهين ما أثر ذلك، لأن واحداً أو اثنين تنعقد البيعة بهما وتتم، ومن بايع بعد ذلك فهو لازم له، وهو مكره على ذلك شرعاً، ولو لم يبايعا ما أثر ذلك فيهما، ولا في بيعة الإمام.

وأما من قال يد شلاء وأمر لا يتم[16]، فذلك ظن من القائل أن طلحة أول من بايع ولم يكن كذلك.

فإن قيل فقد قال طلحة: (بايعت واللُّجّ علي قَفَيّ) قلنا: اخترع هذا الحديث من أراد أن يجعل في (القفا) لغة (قفى)، كما يجعل في (الهوى) (هوي)، وتلك لغة هذيل لا قريش[17]، فكانت كذبة لم تدبر.

وأما قولهم: (يد شلاء) لو صح فلا متعلق لهم فيه، فإن يداً شُلّت في وقاية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتم لها كل أمر، ويتوقى بها من كل مكروه، وقد تم الأمر على وجهه، ونفذ القدر بعد ذلك على حكمه».‏[18]

وكذلك معاوية -رضي الله عنه- فقد ثبت بالروايات الصحيحة أن خلافه مع علي -رضي الله عنه- كان في قتل قتلة عثمان -رضي الله عنه- ولم ينازعه في الخلافة بل كان يقر له بذلك.

فعن أبي مسلم الخولاني أنه جاء وأناس معه إلى معاوية وقالوا: «أنت تنازع علياً أم أنت مثله؟ فقال: لا والله إني لأعلم أنه أفضل مني وأحق بالأمر مني، ولكن ألستم تعلمون أن عثمان قُتل مظلوماً، وأنا ابن عمه والطالب بدمه فأتوه، فقولوا له فليدفع إليّ قتلة عثمان وأسلم له، فأتوا علياً فكلموه فلم يدفعهم إليه[19]».[20]

ويروى ابن كثير من طرق ابن ديزيل بسنده إلى أبي الدرداء وأبي أمامة -رضي الله عنهما- «أنهما دخلا على معاوية فقالا له: يا معاوية علام تقاتل هذا الرجل؟ فو الله إنه أقدم منك ومن أبيك إسلاماً، وأقرب منك إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأحق بهذا الأمر منك، فقال: أقاتله على دم عثمان، وإنه آوى قتلته، فاذهبا إليه فقولا له: فليقدنا من قتلة عثمان ثم أنا أول من أبايعه من أهل الشام».[21]

والروايات في هذا كثيرة مشهورة بين العلماء[22] وهي دالة على عدم منازعة معاوية لعلي -رضي الله عنهما- في الخلافة ولهذا نص المحققون من أهل العلم على هذه المسألة وقرروها.

يقول إمام الحرمين الجويني: «إن معاوية وإن قاتل علياً فإنه لا ينكر إمامته، ولا يدعيها لنفسه، وإنما كان يطلب قتلة عثمان ظاناً منه أنه مصيب وكان مخطئاً».[23]

ويقول ابن حجر الهيتمي: «ومن اعتقاد أهل السنة والجماعة أن ما جرى بين علي ومعاوية -رضي الله عنهما- من الحروب فلم يكن لمنازعة معاوية لعلي في الخلافة للإجماع على أحقيتها لعلي كما مر فلم تهج الفتنة بسببها، وإنما هاجت بسبب أن معاوية ومن معه طلبوا من علي تسليم قتلة عثمان إليهم، لكون معاوية ابن عمه فامتنع علي».[24]

ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: «ومعاوية لم يدَّعِ الخلافة، ولم يبايع له بها حين قاتل علياً، ولم يقاتل على أنه خليفة، ولا أنه يستحق الخلافة ويقرون له بذلك، وقد كان معاوية يقر
بذلك لمن سأله عنه... وكل فرقة من المتشيعين[25]
مقرة مع ذلك بأنه ليس معاوية كفأ لعلي بالخلافة، ولا يجوز أن يكون خليفة مع إمكان استخلاف علي -رضي الله عنه- فإن فضل علي وسابقيته وعلمه ودينه وشجاعته وسائر فضائله: كانت عندهم ظاهرة معروفة».‏[26]


فثبت بهذا أنه لم ينازع علياً -رضي الله عنه- أحدٌ في الخلافة لامن الذين خالفوه ولا من غيرهم، وبهذا يبطل ما ادعا هذا الطاعن من أن الصحابة تنازعوا في الخلافة، وترتب على ذلك تفرق الأمة وانقسامها.

المسألة الثانية: أن الخلاف بين علي ومخالفيه -رضي الله عنهم- إنما هو في تقديم الاقتصاص من قتلة عثمان أو تأخيره مع اتفاقهم على وجوب تنفيذه.

وهذه المسألة مقررة أيضاً عند أهل العلم من أهل السنة بما ثبت في ذلك من الأخبار، والآثار الدالة على أن علياً -رضي الله عنه- لا ينازع مخالفيه في وجوب الاقتصاص من قتلة عثمان، وإنما كان يرى تأجيل ذلك حتى يستتب له الأمر. وذلك أن قتلة عثمان -رضي الله عنه- كانوا قد تمكنوا من المدينة، ثم قام في أمرهم من الأعراب وبعض أصحاب الأغراض الخبيثة ما أصبح به قتلهم في أول عهد علي -رضي الله عنه- متعذراً.

يشهد لهذا ما ذكره الطبري حيث يقول: «واجتمع إلى علي بعدما دخل طلحة والزبير في عدة من الصحابة، فقالوا: يا علي إنا قد اشترطنا إقامة الحدود، وإن هؤلاء القوم قد اشتركوا في دم هذا الرجل وأحلّوا بأنفسهم، فقال لهم: يا إخوتاه، إني لست أجهل ما تعلمون، ولكني كيف أصنع بقوم يملكوننا ولا نملكهم! هاهم هؤلاء قد ثارت معهم عبدانكم، وثابت إليهم أعرابكم، وهم خلالكم يسومونكم ما شاءوا، فهل ترون موضعاً لقدرة على شيء مما تريدون؟ قالوا: لا، قال: فلا والله لا أرى إلا رأياً ترونه إن شاء الله».[27]
ويقول ابن كثير: «ولما استقر أمر بيعة علي دخل عليه طلحة والزبير ورؤوس الصحابة -رضي الله عنهم- وطلبوا منه إقامة الحدود، والأخذ بدم عثمان، فاعتذر إليهم: بأن هؤلاء لهم مدد وأعوان، وأنه لا يمكنه ذلك يومه هذا».[28]

فكان هذا هو عذر علي -رضي الله عنه- في بداية الأمر، أما بعد ذلك فإن الأمور أصبحت أكثر تعقيداً، وأشدّ اشتباهاً، خصوصاً بعدما اقتتل الصحابة -رضي الله عنهم- في معركة الجمل بغير اختيار منهم، وإنما بسبب المكيدة التي دبرها قتلة عثمان للوقيعة بينهم، كما تقدم بيان ذلك، فلم يكن أمر الاقتصاص مقدوراً عليه بعد هذه الأحداث لا لعلي، ولا لغيره من مخالفيه، وذلك لتفرق الأمة وانشغالها بما هو أولى منه من تسكين الفتنة ورأب الصدع.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: «لم يكن علي مع تفرق الناس عليه متمكناً من قتل قتلة عثمان، إلا بفتنة تزيد الأمر شرّاً وبلاءً. ودفع أفسد الفاسدين بالتزام أدناهما أولى من العكس، لأنهم كانوا عسكراً، وكان لهم قبائل تغضب لهم، والمباشر منهم للقتل -وإن كان قليلاً- فكان ردؤهم أهل الشوكة، ولولا ذلك لم يتمكنوا، ولما سار طلحة والزبير إلى البصرة ليقتلوا قتلة عثمان، قام بسبب ذلك حرب قتل فيها خلق.

ومما يبين ذلك أن معاوية قد أجمع الناس عليه بعد موت علي، وصار أميراً على جميع المسلمين، ومع هذا فلم يقتل قتلة عثمان الذين كانوا قد بقوا».[29]
وعلى كل حال فأياً كان عذر علي -رضي الله عنه- فالمقصود هنا أنه لا يخالف بقية الصحابة المطالبين بدم عثمان -رضي الله عنه- في وجوب الاقتصاص من قتلة عثمان -رضي الله عنه- على ما تقدم تصريحه بذلك في إجابته لطلحة والزبير لما طالباه بقتل قتلة عثمان حيث قال (يا إخوتاه، إني لست أجهل ما تعلمون، ولكن كيف أصنع بقوم يملكوننا ولا نملكهم)، ثم أقسم بعد ذلك وهو الصادق البار: أنه لا يرى إلا ما يرون في هذا الأمر، وهذا مما يدل على إجماع الصحابة -رضي الله عنهم- على هذه المسألة، والله تعالى أعلم.
المسألة الثالثة: أن الصحابة -رضي الله عنهم- الذين اختلفوا في الفتنة لم يتهم بعضهم بعضاً في الدين، وإنما كان يرى كل فريق منهم أن مخالفه وإن كان مخطئاً، فهو مجتهد متأول، يعترف له بالفضل في الإسلام وحسن الصحبة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

وهذه مسألة مقررة عند أهل العلم أيضاً بما ثبت من ثناء الصحابة بعضهم على بعض -رضي الله عنهم- أجمعين، فمن ذلك ما جاء عن علي -رضي الله عنه- بعد معركة الجمل أنه كان يتفقد القتلى فرأى طلحة بن عبيد الله مقتولاً فجعل يمسح التراب عن وجهه ويقول: (رحمة الله عليك أبا محمد يعزّ عليّ أن أراك مجدولاً[30] تحت نجوم السماء، ثم قال: إلى الله أشكو عُجَري وبُجَري[31]).[32]

ولما جاءه (ابن جرموز) قاتل الزبير ومعه سيفه لعله يجد عنده حظوة فاستأذن عليه فقال علي -رضي الله عنه-: (لا تأذنوا له وبشروه بالنار)، وفي رواية أن علياً قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: بشر قاتل ابن صفية بالنار).

وقال لما رأى سيف الزبير: (طال ما فرج الكرب عن وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم).[33]

وبعد انتهاء معركة الجمل ذهب علي إلى عائشة -رضي الله عنهما- فقال: (كيف أنت يا أُمّه ؟ قالت: بخير، قال: يغفر الله لكِ، قالت: ولك).[34]
وذكر الطبري أن علياً -رضي الله عنه- بلغه أن رجلين شتما عائشة -رضي الله عنها- فبعث القعقاع بن عمرو فأتى بهما، فقال: اضرب أعناقهما، ثم قال: لأنهكنهما عقوبة، فضربهما مائة مائة وأخرجهما من ثيابهما.‎‎[35]

وروى الطبري من طريق محمد بن عبدالله بن سواد وطلحة بن الأعلم في تجهيز علي لعائشة -رضي الله عنهما- لما أرادت أن ترتحل من البصرة قالا: «جهز على عائشة بكل شيء ينبغي لها من مركب، أوزاد أو متاع، وأخرج معها كل من نجا ممن خرج معها إلا من أحب المقام، واختار لها أربعين امرأة من نساء أهل البصرة المعروفات، وقال: تجهز يا محمد فبلَّغها.
فلما كان اليوم الذي ترتحل فيه، جاءها حتى وقف لها، وحضر الناس، فخرجت على الناس وودعوها، وقالت: يابَنيّ تعتب بعضنا على بعض استبطاءً واستزادة فلا يعتدّن أحد منكم على أحد بشيء بلغه من ذلك، إنه والله ما كان بيني وبين عليّ في القديم إلا ما يكون بين المرأة وأحمائها، وإنه عندي على معتبتي من الأخيار. وقال علي: يا أيها الناس، صدقت والله وبرت ما كان بيني وبينها إلا ذلك وإنها لزوجة نبيكم صلى الله عليه وآله وسلم في الدنيا والآخرة».[36]

ومما ثبت من ذلك عن عمار -رضي الله عنه- وكان في جيش علي يوم الجمل ما رواه الطبري من رواية مالك بن دينار قال:«حمل عمار على الزبير يوم الجمل فجعل يحوزه[37] بالرمح فقال: أتريد أن تقتلني؟ قال: لا انصرف».[38]

وروى الطبري أيضاً عن عامر بن حفص قال: «أقبل عمار حتى حاز الزبير يوم الجمل بالرمح فقال: أتقتلني يا أبا اليقظان! قال: لا ياأبا عبدالله».[39]

وهذا كله فيما دار بين الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين في معركة الجمل، أما في موقعة صفين التي دارت بين علي ومعاوية -رضي الله عنهما-.

فقد ثبت عن علي -رضي الله عنه- على ما نقله شيخ الإسلام ابن تيمية عن إسحاق بن راهويه بسنده إلى جعفر بن محمد عن أبيه قال: (سمع علي يوم الجمل أو يوم صفين رجلاً يغلو في القول فقال: لا تقولوا إلا خيراً إنما هم قوم زعموا إنا بغينا عليهم، وزعمنا أنهم بغوا علينا فقاتلناهم).[40]

وعن محمد بن نصر بسنده عن مكحول: (أن أصحاب علي سألوه عمن قُتِل من أصحاب معاوية ماهم؟ قال: هم مؤمنون).‏[41]

وعن عبد الواحد بن أبي عون قال: (مر علي -وهو متوكئ على الأشتر- على قتلى صفين، فإذا حابس اليماني مقتول: فقال الأشتر: إنا لله وإنا إليه راجعون هذا حابس اليماني معهم يا أمير المؤمنين عليه علامة معاوية، أما والله لقد عهدته مؤمناً، قال علي: والآن هو مؤمن).‎‎[42]

وأما معاوية -رضي الله عنه- فقد تقدم ثناؤه على علي -رضي الله عنه- واعترافه بفضله كما جاء في حواره مع أبي مسلم الخولاني لما قال له أنت تنازع علياً أم أنت مثله؟ فقال: (لا والله إني لأعلم أنه أفضل مني وأحق بالأمر مني...).[43] الخ كلامه.

وقد روى أبو نعيم في حلية الأولياء أن ضرارة بن ضمرة الصُّدَائي دخل على معاوية فقال له: صف لي علياً، فقال: أو تعفيني يا أمير المؤمنين، قال: لا أعفيك، قال: (أما إذ لابد فإنه كان والله بعيد المدى، شديد القوى، يقول فضلاً، ويحكم عدلاً...). وذكر كلاماً طويلاً في وصف علمه وشجاعته وزهده. إلى أن قال: (فوكفت دموع معاوية على لحيته ما يملكها، وجعل ينشفها بكمه، وقد اختنق القوم بالبكاء، فقال: كذا كان أبو الحسن رحمه الله).[44]

فهذه بعض الآثار المنقولة عن الصحابة -رضي الله عنهم- ممن وقع بينهم الخلاف، في ثناء بعضهم على بعض وتعظيم بعضهم لبعض وتحابهم في الله، رغم ما حصل بينهم من اختلاف وحروب نشأت عن اجتهاد كل منهم فيما يرى أنه فيه مصلحة الأمة، وإقامة دين الله وشرعه، ومع هذا فقد كان كل منهم ينصف صاحبه، ولا يحمله خلافه له في الاجتهاد على الطعن عليه في الدين، والاعتداء والظلم، بل كان يشهد كل منهم لأخيه بما هو عليه من الفضل والسبق إلى الإسلام. وهذا لعمر الله هو الفضل، فإن الإنصاف عند الخصومة عزيز، وهو في الناس قليل، إلا لمن علت درجاتهم في الإيمان، وزكى الله نفوسهم وطهرها من الشهوات، أمثال أصحاب رسول اللهصلى الله عليه وآله وسلم الذين اصطفاهم الله بعلمه لصحبة نبيه، فنسأل الله أن يرزقنا محبتهم جميعاً، وحسن الأدب معهم، وأن يجعلنا ممن قال فيهم: {والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولأخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم}.‏[45]

وأما قول المؤلف في حق الصحابة: «وهم الذين اختلفوا في تفسير كتاب الله، وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فكانت المذاهب والفرق، والملل والنحل، ونشأت من ذلك المدارس الكلامية والفكرية المختلفة وبرزت فلسفات متنوعة....

إلى أن قال: فالمسلمون لم ينقسموا، ولم يختلفوا في شيء لولا الصحابة، وكل خلاف نشأ وينشأ إنما يعود إلى اختلافهم في الصحابة».

فجوابه: أن هذا من أكبر التلبيس والتمويه، والطعن على أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم بما هم منه برآء، فما ينقل عن الصحابة من اختلاف في التفسير، وفي فهم بعض الأحاديث، لم يترتب عليه ما ذكر من نشأة الفرق والمدارس الكلامية والفلسفات المتنوعة. وذلك أن الاختلاف ينقسم إلى قسمين: اختلاف تنوع، واختلاف تضاد[46]، وغالب ما ينقل عن الصحابة في تفسير بعض الآيات، من باب اختلاف التنوع لا اختلاف التضاد كما بين ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-.

قال: «الخلاف بين السلف في التفسير قليل، وخلافهم في الأحكام أكثر من خلافهم في التفسير، وغالب مايصح عنهم من الخلاف يرجع إلى اختلاف تنوع، لا اختلاف تضاد».[47]

ثم ذكر -رحمه الله- أن اختلاف التنوع يرجع إلى أمرين:

الأول: أن يعبر كل واحد من السلف بعبارة غير عبارة صاحبه، تدل على المعنى في المسمى غير المعنى الآخر، مع اتحاد المسمى مثال ذلك تفسيرهم للصراط المستقيم فيقول بعضهم: بأنه هو القرآن أو اتباع القرآن، ويقول آخر: هو الإسلام، أو دين الإسلام، ويقول آخر: هو السنة والجماعة، ويقول آخر: طريق العبودية، أو طريق الخوف والرجاء والحب، أو امتثال المأمور واجتناب المحظور، أو متابعة الكتاب والسنة أو العمل بطاعة الله أو نحو هذه الأسماء والعبارات.

الثاني: أن يذكر كل واحد من السلف الاسم العام ببعض أنواعه على سبيل التمثيل، وتنبيه المستمع على النوع، لا على سبيل الحد المطابق للمحدود في عمومه وخصوصه، مثل سائل أعجمي سأل عن مسمى لفظ (الخبز) فأُري رغيفاً وقيل له: هذا فالإشارة إلى نوع هذا، لا إلى هذا الرغيف وحده.[48]

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «وعامة الاختلاف الثابت عن مفسري السلف من الصحابة والتابعين هو من هذا الباب».[49]

ومن هنا يظهر أن هذا النوع من الاختلاف -وهو الغالب على ما ينقل عن الصحابة من اختلاف في التفسير- لا أثر له في الاختلاف في استنباط الأحكام من الآيات، وتنازع الأمة من بعدهم في ذلك، فضلاً أن يكون سبباً لنشأة الفرق والنحل، والمدارس الفلسفية والكلامية كما يدعي الطاعن.

أما اختلاف الصحابة الراجع إلى القسم الثاني وهو اختلاف التضاد فما يثبت عنهم من ذلك سواء في التفسير، أو في الأحكام، فقليل وهو ليس في الأصول العامة المشهورة في الدين، وإنما في بعض المسائل الدقيقة التي هي محل اجتهاد ونظر.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- بعد أن ذكر أن عامة ماينقل عن الصحابة والسلف من الخلاف في التفسير من باب اختلاف التنوع: «ومع هذا فلابد من اختلاف مخفف بينهم، كما يوجد مثل ذلك في الأحكام، ونحن نعلم أن عامة ما يضطر إليه عموم الناس من اختلاف،معلوم بل متواترعند العامة أو الخاصة، كما في عدد الصلوات ومقادير ركوعها ومواقيتها، وفرائض الزكاة ونصبها، وتعيين شهررمضان، والطواف، والوقوف، ورمي الجمار، والمواقيت وغير ذلك. ثم اختلاف الصحابة في الجد والإخوة، وفي المشركة ونحو ذلك لايوجب ريباً في جمهور مسائل الفرائض...».[50]

وهذا النوع من الاختلاف بين الصحابة -رضي الله عنهم- لم يكن سبباً في تفرقة الأمة، ونشأة البدع كما زعم هذا الطاعن، ذلك أنه لم يكن في الأصول العامة لهذا الدين، التي حصل الخلاف فيها بين أهل السنة وأهل البدع، وإنما كان في مسائل جزئية ودقيقة، الاجتهاد فيها سائغ والخطأ فيها مغفور، لأنه ناشئ عن اجتهاد من غير تعمد للمخالفة، وقد ثبت في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن أفراداً منهم أخطأوا في بعض المسائل مجتهدين، كما في قصة عدي بن حاتم -رضي الله عنه- لما اتخذ عقالين أحدهما أسود، والآخر أبيض، فجعل ينظر إليهما ظناً[51] منه أن هذا هوالمقصود من قوله تعالى:{حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر}‎‎، واختلف الصحابة إلى فريقين في فهم قصد النبي صلى الله عليه وآله وسلم من قوله: (لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة)[52]، فصلى فريق منهم في الطريق، وفريق آخر لم يصل إلا في بني قريظة. كما حصل لبعضهم -رضي الله عنهم- بعض المخالفات متأولين، كما في قصة حاطب ابن أبي بلتعة-رضي الله عنه-[53]، وقصة خالد -رضي الله عنه- مع بني جذيمة[54] في حوادث كثيرة يطول ذكرها، ومع هذا لم يؤثمهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم أغير الأمة على دين الله، لأن أخطاءهم نشأت عن اجتهاد أو تأويل، قد رفع الحرج فيه عن الأمة.

ولهذا لم يكن اختلاف الصحابة -رضي الله عنهم- في مسائل الاجتهاد سبباً في تفرقهم، وتنازعهم، وتحزبهم.

قال الامام قوام السنة: «إنا وجدنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ورضي عنهم اختلفوا في أحكام الدين، فلم يفترقوا، ولم يصيروا شيعاً، لأنهم لم يفارقوا الدين، ونظروا فيما أذن لهم».‎‎[55]

فإذا كان التنازع منتفياً في حقهم، بل الثابت عنهم هو التآلف والاتفاق، والمحبة والتواد، كما وصفهم ربهم بقوله: {أشداء على الكفار رحماء بينهم}.

فكيف لهذا الطاعن أن يدعي: أن اختلافهم في الاجهتاد سبب في تنازع الأمة وتفرقها.

بل إن الأمة استفادت بسبب اختلاف الصحابة في الاجتهاد، مع عدم التفرق والتمزق، من الدروس والعبر، ما كان سبباً في اجتماع الأمة لا تفرقها، ووحدتها لا تمزقها، لكن إنما حصل هذا لأهل المتابعة لطريقهم الذين اهتدوا بهديهم، واقتفوا أثرهم في ذلك، فلم يتفرقوا لاختلاف الآراء في الاجتهاد. ألا وهم أهل السنة، الذين هم أهل الاجتماع والائتلاف، وفارقهم وخالفهم في هذا سائر أهل البدع، الذين هم أهل التفرق والاختلاف.

ولذا لما رأى خيار السلف من بعدالصحابة هذه الثمار الطيبة المباركة لاجتهادات الصحابة، وأثرها في الأمة، وما حصل بسببها من الرحمة للأمة والتوسعة في الاجتهاد والترجيح بين أقوالهم، ما كرهوا اختلاف الصحابة بل أظهروا الفرح والرضا به.

قال عمر بن عبد العزيز -رحمه الله-: (ما يسرني أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يختلفوا).‎‎[56]

وفي رواية أخرى عنه: (ما يسرني أن لي باختلافهم حمر النعم).[57]

وقال القاسم بن محمد -رحمه الله-: (لقد نفع الله باختلاف أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أعمالهم، لا يعمل العامل بعمل رجل منهم، إلا رأى أنه في سعة ورأى خيراً منه قد عمله).[58]

وقال أيضاً: (لقد أعجبني قول عمر بن عبد العزيز: ما أحب أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يختلفوا، لأنه لو كان قولاً واحداً، كان الناس في ضيق، وإنهم أئمة يقتدى بهم، فلو أخذ بقوله رجل منهم كان في سعة).[59]

قال الشاطبي-رحمه الله-:«وبمثل ذلك قال جماعةمن العلماء».[60]

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: «ولهذا كان بعض العلماء يقول إجماعهم حجة قاطعة، واختلافهم رحمة واسعة، وكان عمر بن عبدالعزيز يقول: مايسرني أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يختلفوا، لأنهم إذا اجتمعوا على قول فخالفهم رجل كان ضالاً، وإذا اختلفوا فأخذ رجل بقول هذا، ورجل بقول هذا كان الأمر في سعة».[61]
فأقوال هؤلاء الأئمة تدل دلالة ظاهرة على أن اختلاف الصحابة -رضي الله عنهم- في الاجتهاد، لم يفض إلى مفسدة في الدين، ولم يكن سبباً في تفرق المسلمين، ونشأة الفرق المبتدعة في الإسلام، على ما ادعى هذا الطاعن، إذ لو أدى اختلافهم إلى هذا أو أقل منه بكثير، فكيف يفرح بخلافهم ولا يحزن له هؤلاء الأئمة الكبار، وهم أهل الغيرة على الدين والنصح للمسلمين.

وإذا ثبت هذا فاعلم أيها القارئ أن هذه الفرق المبتدعة على كثرتها واختلاف مشاربها لا ترجع بحمد الله في أصل نشأتها لأحد من الصحابة، ولا تستند في بدعها لقول واحد منهم وإن كان بعض هذه الفرق تدعى الانتساب لبعضهم، كانتساب الشيعة لعلي -رضي الله عنه- وأبنائه إلا أن هذا غير صحيح فعلي وأبناؤه -رضي الله عنهم- بريئون منهم ومن عقيدتهم كما تقدم نقل أقوالهم في ذلك.

وفي الحقيقة إن عامة هذه الفرق المبتدعة، إنما أحدثها أول من أحدثها، إما كفار أصليون أو منافقون ظاهروا النفاق في الأمة.

فالخوارج يرجعون في أصل عقيدتهم ونسبهم إلى ذي الخويصرة الذي اعترض على النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قسم الغنائم يوم حنين فقال: (يارسول الله اعدل، قال: رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويلك ومن يعدل إن لم أعدل؟ قد خبت وخسرت، فقال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: يارسول الله أئذن لي فيه أضرب عنقه، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: دعه فإن له أصحاباً يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه من صيامهم، يقرأون القرآن لايجاوز تراقيهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم منالرّمية..).[62]
وأما القدرية: فأول من أظهر مقالتهم وتكلم في القدر: رجل نصراني يسمى: (سوسن) روى الآجري واللالكائي عن الأوزاعي قال: «أول من نطق في القدر: رجل من أهل العراق يقال له: سوسن كان نصرانياً فأسلم ثم تنصر، فأخذ عنه معبد الجهني وأخذ غيلان عن معبد».‎‎[63]

وأما الجهمية: فمنسوبة للجهم بن صفوان، أول من أشهر القول بتعطيل الصفات، والجهم أخذ مقالته عن الجعد بن درهم، وأخذها الجعد عن طالوت ابن أخت لبيد بن الأعصم، وأخذها طالوت من لبيد بن الأعصم اليهودي الساحر، الذي سحر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذكر هذا شيخ الإسلام ابن تيمية وابن كثير -رحمهما الله-.[64]

وأما الفلاسفة: فأخذوا الفلسفة عن فلاسفة اليونان، بل عن شرهم وهو أرسطو.

قال ابن القيم: «الفلاسفة لا تختص بأمة من الأمم، بل هم موجودون في سائر الأمم، وإن كان المعروف عند الناس، الذي اعتنوا بحكاية مقالاتهم: هم فلاسفة اليونان».[65]
ويقول في التعريف بمصطلح الفلسفة: «وقد صار هذا الاسم في عرف كثير من الناس مختصاً بمن خرج عن ديانات الأنبياء، ولم يذهب إلا إلى ما يقتضيه العقل في زعمه، وأخص من ذلك أنه في عرف المتأخرين اسم لأتباع أرسطو، وهم المشاؤن خاصة، وهم الذين هذب ابن سينا طريقتهم وبسطها وقررها، وهي التي يعرفها بل لا يعرف سواها، المتأخرون من المتكلمين، وهؤلاء فرقة شاذة من فرق الفلاسفة، ومقالتهم واحدة من مقالات القوم حتى قيل: إنه ليس فيهم من يقول بقدم الأفلاك غير أرسطو وشيعته».[66]

وأما الباطنية: فبذرة يهودية بذرها عبدالله بن ميمون القداح اليهودي.

يقول محمد بن مالك بن أبي الفضائل عن الباطنية: «وأصل هذه الدعوة الملعونة، التي استهوى بها الشيطان أهل الكفر والشقوة، ظهور عبد الله بن ميمون القداح في الكوفة، وما كان له من الأخبار المعروفة... وكان ظهوره في سنة ست وسبعين ومائتين من التاريخ للهجرة النبوية، فنصب للمسلمين الحبائل، وبغي لهم في الغوائل، ولبس الحق بالباطل: {ومكر أولئك هو يبور} وجعل لكل آية من كتاب الله تفسيراً، ولكل حديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تأويلاً... وكان هذا الملعون يعتقد اليهودية، ويظهر الإسلام، وهو من اليهود من ولد الشلعلع من مدينة بالشام يقال لها سلمية».[67]

وهكذا الحال مع بقية الفرق الضالة.

فهذه أصول الفرق المبتدعة في الإسلام، وأول من دعا لها وبثها في الأمة من أولئك الكفرة، والزنادقة الحاقدين على هذا الدين.

فانظر أيها المسلم كيف أن هذا الطاعن الخبيث يبرئ هؤلاء الكفرة والملحدين مما أحدثوه من البدع العظيمة، وما نتج عنها من شر عظيم، وتفريق لوحدة المسلمين، ويلصق هذه التهم بصحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم زاعماً أن هذه الفرق، إنما نشأت بسبب اختلافهم، وأنها ترجع إليهم.
[1] - أخرجه البخاري في: (كتاب العلم، باب كتابة العلم) فتح الباري 1/208، ح114. ومسلم: (كتاب الوصية، باب ترك الوصية لمن ليس له شئ يوصي فيه) 3/1259.
[2] - انظر تفسير ابن كثير 2/404.
[3] - ذكر هذا الوجه من الردّ الدهلوي. انظر: مختصر التحفة الاثني عشريةص251.
[4] - انظر: الأحاديث في ذلك من صحيح البخاري مع الفتح 3/606، ح1785، 8/587، ح4844، 8/152، ح4468،4469.
[5] - انظر: صحيح البخاري مع الفتح 8/143، ح4448، وصحيح مسلم 1/315، ح419.
[6] - أخرجه أحمد في المسند 4/126، ضمن حديث العرباض بن سارية في موعظة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكذا ابن ماجه في سننه 1/16، وقد صحح الحديث الألباني بمجموع طرقه في ظلال الجنة. انظر: ظلال الجنة مع كتاب السنة لابن أبي عاصم ص26.
[7] - منهاج السنة 6/316.
[8] - أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل أبي بكر) 4/1857، ح2387.
[9] - منهاج السنة 6/23،25.
[10] - مختصر التحفة الاثني عشرية ص251.
[11] - تاريخ الطبري 4/427.
[12] - تاريخ الطبري 4/427- 428.
[13] - انظر: تاريخ الطبري 4/427- 429، وقد قام بجمع هذه الروايات ودرسها الدكتور محمد أمحزون في كتابه القيم: (تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة 20/59- 75.
[14] - تاريخ الطبري 4/434.
[15] - المصدر نفسه 4/486.
[16] - إشارة إلى ما جاء في بعض الروايات: أن أول من بايع علياً طلحة - رضي الله عنهما- وكان بيده اليمنى شلل، لما وقى بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد،فقال رجل في القوم: أول يد بايعت أمير المؤمنين شلاء لا يتم هذا الأمر. انظر: تاريخ الطبري 4/435، والبداية والنهاية لابن كثير 7/237.
[17] - قيل هي: لغة طيّ. ذكره ابن الأثير في النهاية 4/94 وكذلك: اللُّجّ ليس من لغة قريش بل من لغة طيّ، قال ابن الأثير: «هو بالضّم: السيف بلغة طيّ» النهاية 4/234، وقيل هو السيف أيضاً بلغة هذيل وطوائف من اليمن. انظر لسان العرب 2/354.
[18] - العواصم من القواصم ص148- 149.
[19] - سبب ذلك أن علياً - رضي الله عنه- طلب من معاوية أن يدخل في البيعة ويحاكمهمإليه فأبى معاوية - رضي الله عنهما- جميعاً. انظر: البداية والنهاية 7/265، وتحقيق مواقف الصحابة في الفتنة لمحمد أمحزون 2/147.
[20] - أخرجه ابن عساكر في تاريخ مدينة دمشق 16/356ب، وأورده الذهبي في سير أعلام النبلاء 3/140، وقال محققوا الكتاب: رجاله ثقات.
[21] - البداية والنهاية 7/270.
[22] - انظر: البداية والنهاية لابن كثير 7/268- 270، وقد جمع هذه الروايات الدكتور محمد أمحزون في كتابه: (تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة)2/146- 150.
[23] - لمعة الأدلة في عقائد أهل السنة والجماعة ص115.
[24] - الصواعق المحرقة ص 216.
[25] - أي من المتشيعين لعثمان أو علي - رضي الله عنهما- ، وقد كان المطالبون بدم عثمان - رضي الله عنه- قد انضموا إلى معاوية ومع هذا ما كانوا يفضلونه على علي - رضي الله عنهم- أجمعين.
[26] ) مجموع الفتاوى 35/72- 73.
[27] - تاريخ الطبري 4/437.
[28] - البداية والنهاية لابن كثير 7/239.
[29] - منهاج السنة 4/407- 408
[30] - أي: مرمياً ملقيً على الأرض قتيلاً: النهاية لابن الاثير 1/248.
[31] - أي: همومي وأحزاني، النهاية لابن الأثير 3/185.
[32] - البداية والنهاية لابن كثير 7/258.
[33] - ذكر هذه الروايات ابن كثير في البداية والنهاية 7/260.
[34] - أورده الطبري في تأريخه 4/534.
[35] - انظر: تاريخ الطبري 4/540.
[36] - تاريخ الطبري 4/544.
[37] - الحيز والحوز هو السوق اللين، ومنه حاز الأبل يحوزها سارها في رفق. انظر: لسان العرب 5/343.
[38] - تاريخ الطبري 4/512
[39] - تاريخ الطبري 4/512.
[40] - منهاج السنة 5/244- 245.
[41] - منهاج السنة 5/245.
[42] - المصدر نفسه 5/245.
[43] - انظر ص238 من هذا الكتاب.
[44] - حلية الأولياء 1/84- 85.
[45] - سورة الحشر 10.
[46] - انظر: مجموع الفتاوى 6/58.
[47] - مقدمة في أصول التفسير ص10.
[48] - انظر: مقدمة في أصول التفسير لشيخ الاسلام ابن تيمية ص10- 12، ومجموع الفتاوى 13/381- 382.
[49] - مجموع الفتاوى 13/381.
[50] - مقدمة التفسير ص17.
[51] - انظر الحديث في صحيح البخاري: (كتاب الصوم، باب قول الله تعالى: {وكلوا واشربوا} الآية)، فتح الباري 4/133، ح1916، وصحيح مسلم: (كتاب الصوم، باب أن الدخول في الصوم يحصل بطلوع الفجر) 2/766.
[52] - الحديث أخرجه البخاري من حديث ابن عمر: (كتاب المغازي، باب مرجع النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الأحزاب) فتح الباري 7/408، ح4119.
[53] - انظر: الحديث في هذا في صحيح البخاري: (كتاب استتابة المرتدين، بابما جاء في المتأولين) فتح الباري 12/304، ح 939، صحيح مسلمكتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل أهل بدر...) 4/1941،ح2494.
[54] - انظر: الحديث في هذا في صحيح البخاري: (كتاب المغازي، باب بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم خالد إلى بني جذيمة)، فتح الباري 8/56، ح4339.
[55] - الحجة في بيان المحجة 2/227- 228.
[56] - نقله شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى 3/80، والشاطبي في الموافقات4/125.
[57] - ذكره الشاطبي في الموفقات 4/125.
[58] - المصدر نفسه 4/125.
[59] - المصدر نفسه 4/125.
[60] - المصدر نفسه 4/125.
[61] - مجموع الفتاوى 30/80.
[62] - رواه البخاري من حديث أبي سعيد الخدري في: (كتاب استتابة المرتدين، باب ترك قتل الخوارج للتألف) فتح البارى 12/390. ومسلم: (كتاب الزكاة، باب ذكر الخوارج وصفتهم) 2/744.
[63] - الشريعة للآجري ص243، وشرح أصول اعتقاد أهل السنة للالكائي 4/750.
[64] - انظر: مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية 5/20، والبداية والنهاية لابن كثير 9/364.
[65] - إغاثة اللهفان 2/260.
[66] - المصدر نفسه 2/524.
[67] - كشف أسرار الباطنية لمحمد بن مالك بن أبي الفضائل ص31- 33





التوقيع






آخر تعديل عمر أبو صهيب يوم 2010-09-28 في 07:55.
    رد مع اقتباس
قديم 2010-09-28, 08:02 رقم المشاركة : 7
عمر أبو صهيب
بروفســــــــور
 
الصورة الرمزية عمر أبو صهيب

 

إحصائية العضو








عمر أبو صهيب غير متواجد حالياً


وسام المشارك

وسام منضم مسابقة المقدم

الوسام الذهبي

وسام المشاركة

وسام المشاركة في دورة HTML

وسام المشاركة

وسام حفظ سورة الكهف

وسام المركز الاول في مسابقة التصوير الفوتوغرافي

وسام المركز الثاني في مسابقة استوقفتني آية

وسام مشارك في دورة حفظ سورة البقرة

افتراضي رد: شبهات مهترئة و ردود قاصمة


الكلام في الشبهات حول الصديق رضي الله عنه

من هذه الشبهات آية الغار.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية قد زعم البعض أن قوله تعالى إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا سورة التوبة 40 لا يدل على إيمان أبي بكر فإن الصحبة قد تكون من المؤمن والكافر كما قال تعالى واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعا كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئا وفجرنا خلالهما نهرا وكان له ثمر فقال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا سورة الكهف 32 35 إلى قوله قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة سورة الكهف 37 الآية.
فيقال معلوم أن لفظ الصاحب في اللغة يتناول من صحب غيره ليس فيه دلالة بمجرد هذا اللفظ على أنه وليه أو عدوه أو مؤمن أو كافر إلا لما يقترن به وقد قال تعالى والصاحب بالجنب وابن السبيل سورة النساء 36 وهو يتناول الرفيق في السفر والزوجة وليس فيه دلالة على إيمان أو كفر.
وكذلك قوله تعالى والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم وما غوى سورة النجم 1 2 وقوله وما صاحبكم بمجنون سورة التكوير 22 المراد به محمد صلى الله عليه وآله وسلم لكونه صحب البشر فإنه إذا كان قد صحبهم كان بينه وبينهم من المشاركة ما يمكنهم أن ينقلوا عنه ما جاءه من الوحي وما يسمعون به كلامه ويفقهون معانيه بخلاف الملك الذي لم يصحبهم فإنه لا يمكنهم الأخذ عنه وأيضا قد تضمن ذلك أنه بشر من جنسهم وأخص من ذلك أنه عربي بلسانهم كما قال تعالى لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه سورة التوبة 128 وقال وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه سورة إبراهيم 4 فإنه إذا كان قد صحبهم كان قد تعلم لسانهم وأمكنه أن يخاطبهم بلسانهم فيرسل رسولا بلسانهم ليتفقهوا عنه.
فكان ذكر صحبته لهم هنا على اللطف بهم والإحسان إليهم وهذا بخلاف إضافة الصحبة إليه كقوله تعالى لا تحزن إن الله معنا وقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه وقوله هل أنتم تاركي لي صاحبي وأمثال ذلك.
فإن إضافة الصحبة إليه في خطابه وخطاب المسلمين تتضمن صحبة موالاة له وذلك لا يكون إلا بالإيمان به فلا يطلق لفظ صاحبه على من صحبه في سفره وهو كافر به.
والقرآن يقول فيه إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا سورة التوبة 40 فأخبر الرسول أن الله معه ومع صاحبه وهذا المعية تتضمن النصر والتأييد وهو إنما ينصره على عدوه وكل كافر عدوه فيمتنع أن يكون الله مؤيدا له ولعدوه معا ولو كان مع عدوه لكان ذلك مما يوجب الحزن ويزيل السكينة فعلم أن لفظ صاحبه تضمن صحبة ولاية ومحبة وتستلزم الإيمان له وبه وأيضا فقوله لا تحزن دليل على أنه وليه وإنه حزن خوفا من عدوهما فقال له لا تحزن إن الله معنا ولو كان عدوه لكان لم يحزن إلا حيث يتمكن من قهره فلا يقال له لا تحزن إن الله معنا لأن كون الله مع نبيه مما يسر النبي وكونه مع عدوه مما يسوءه فيمتنع أن يجمع بينهما لا سيما مع قوله لا تحزن ثم قوله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار سورة التوبة 40 ونصره لا يكون بأن يقترن به عدوه وحده وإنما يكون باقتران وليه ونجاته من عدوه فكيف لا ينصر على الذين كفروا من يكونون قد لزموه ولم يفارقوه ليلا ولا نهارا وهم معه في سفره.
وقوله ثاني اثنين حال من الضمير في أخرجه أي أخرجوه في حال كونه نبيا ثاني اثنين فهو موصوف بأنه أحد الاثنين فيكون الاثنان مخرجين جميعا فإنه يمتنع أن يخرج ثاني اثنين إلا مع الآخر فإنه لو أخرج دونه لم يكن قد أخرج ثاني اثنين فدل على أن الكفار أخرجوه ثاني اثنين فأخرجوه مصاحبا لقرينه في حال كونه معه فلزم أن يكونوا أخرجوهما وذلك هو الواقع فإن الكفار أخرجوا المهاجرين كلهم كما قال تعالى للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا سورة الحشر 8 وقال تعالى أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله سورة الحج 39 40 وقال إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم سورة الممتحنة 9 وذلك أنهم منعوهم أن يقيموا بمكة مع الإيمان وهم لا يمكنهم ترك الإيمان فقد أخرجوهم إذا كانوا مؤمنين وهذا يدل على أن الكفار أخرجوا صاحبه كما أخرجوه والكفار إنما أخرجوا أعداءهم لا من كان كافرا منهم.
فهذا يدل على أن صحبته صحبة موالاة وموافقة على الإيمان لا صحبة مع الكفر

وإذا قيل هذا يدل على أنه كان مظهرا للموافقة وقد كان يظهر الموافقة له من كان في الباطن منافقا وقد يدخلون في لفظ الأصحاب في مثل قوله لما استؤذن في قتل بعض المنافقين قال
لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه فدل على أن هذا اللفظ قد كان الناس يدخلون فيه من هو منافق قيل قد ذكرنا فيما تقدم أن المهاجرين لم يكن فيهم منافق وينبغي أن يعرف أن المنافقين كانوا قليلين بالنسبة إلى المؤمنين وأكثرهم انكشف حاله لما نزل فيهم القرآن وغير ذلك وإن كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يعرف كلا منهم بعينه فالذين باشروا ذلك كانوا يعرفونه


والعلم يكون الرجل مؤمنا في الباطن أو يهوديا أو نصرانيا أو مشركا أمر لا يخفى مع طول المباشرة فإنه ما أسر أحد سريرة إلا أظهرها الله على صفحات وجهه وفلتات لسانه.

وقال تعالى ولو نشا لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم سورة محمد 30 وقال ولتعرفنهم في لحن القول سورة محمد 30 فالضمر للكفر لا بد أن يعرف في لحن القول وأما بالسيما فقد يعرف وقد لا يعرف

وقد قال تعالى يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنونهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار سورة الممتحنة 10 .

والصحابة المذكورون في الرواية عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والذين يعظمهم المسلمون على الدين كلهم كانوا مؤمنين به ولم يعظم المسلمون ولله الحمد على الدين منافقا والإيمان يعلم من الرجل كما يعلم سائر أحوال قلبه من موالاته ومعاداته وفرحه وغضبه وجوعه وعطشه وغير ذلك فإن هذه الأمور لها لوازم ظاهرة والأمور الظاهرة تستلزم أمورا باطنة وهذا أمر يعرفه الناس فيمن جربوه وامتحنوه ونحن نعلم بالاضطرار أن ابن عمر وابن عباس وأنس بن مالك وأبا سعيد الخدري وجابر أو نحوهم كانوا مؤمنين بالرسول محبين له معظمين له ليسوا منافقين فكيف لا يعلم ذلك في مثل الخلفاء الراشدين الذين أخبارهم وإيمانهم ومحبتهم ونصرهم لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد طبقت البلاد مشارقها ومغاربها.
فهذا مما ينبغي أن يعرف ولا يجعل وجود قوم منافقين موجبا للشك في إيمان هؤلاء الذين لهم في الأمة لسان صدق بل نحن نعلم بالضرورة إيمان سعيد بن المسيب والحسن وعلقمة والأسود ومالك والشافعي وأحمد والفضيل والجنيد ومن هو دون هؤلاء فكيف لا يعلم إيمان الصحابة ونحن نعلم إيمان كثير ممن باشرناه من الأصحاب.
وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع وبين أن العلم بصدق الصادق في أخباره إذا كان دعوى نبوة أو غير ذلك وكذب الكاذب مما يعلم بالاضطرار في مواضع كثيرة بأسباب كثيرة وإظهار الإسلام من هذا الباب فإن الإنسان إما صادق وإما كاذب.
فهذا يقال أولا ويقال ثانيا وهو ما ذكره أحمد وغيره ولا أعلم بين العلماء فيه نزاعا أن المهاجرين لم يكن فيهم منافق أصلا وذلك لأن المهاجرين إنما هاجروا باختيارهم لما آذاهم الكفار على الإيمان وهم بمكة لم يكن يؤمن أحدهم إلا باختياره بل مع احتمال الأذى فلم يكن أحد يحتاج أن يظهر الإيمان ويبطن الكفر لا سيما إذا هاجر إلى دار يكون فيها سلطان الرسول عليه ولكن لما ظهر الإسلام في قبائل الأنصار صار بعض من لم يؤمن بقلبه يحتاج إلى أن يظهر موافقة قومه لأن المؤمنين صار لهم سلطان وعز ومنعة وصار معهم السيف يقتلون من كفر ويقال ثالثا عامة عقلاء بني آدم إذا عاشر أحدهم الآخر مدة يتبين له صداقته من عداوته فالرسول يصحب أبا بكر بمكة بضع عشرة سنة ولا يتبين له هل هو صديقه أو عدوه وهو يجتمع معه في دار الخوف وهل هذا إلا قدح في الرسول.
ثم يقال جميع الناس كانوا يعرفون أنه أعظم أوليائه من حين المبعث إلى الموت فإنه أول من آمن به من الرجال الأحرار ودعا غيره إلى الإيمان به حتى آمنوا وبذل أمواله في تخليص من كان آمن به من المستضعفين مثل بلال وغيره وكان يخرج معه إلى الموسم فيدعو القبائل إلى الإيمان به ويأتي النبي صلى الله عليه وآله وسلم كل يوم إلى بيته إما غدوة وإما عشية وقد آذاه الكفار على إيمانه حتى خرج من مكة فلقيه ابن الدغنة أمير من أمراء العرب سيد القارة وقال إلى أين وقد تقدم حديثه فهل يشك من له أدنى مسكة من عقل أن مثل هذا لا يفعله إلا من هو في غاية الموالاة والمحبة للرسول ولما جاء به وأن موالاته ومحبته بلغت به إلى أن يعادي قومه ويصبر على أذاهم وينفق أمواله على من يحتاج إليه من إخوانه المؤمنين وكثير من الناس يكون مواليا لغيره لكن لا يدخل معه في المحن والشدائد ومعاداة الناس وإظهار موافقته على ما يعاديه الناس عليه فأما إذا أظهر اتباعه وموافقته على ما يعاديه عليه جمهور الناس وقد صبر على أذى المعادين وبذل الأموال في موافقته من غير أن يكون هناك داع يدعو إلى ذلك من الدنيا لأنه لم يحصل له بموافقته في مكة شيء من الدنيا لا مال ولا رياسة ولا غير ذلك بل لم يحصل له من الدنيا إلا ما هو أذى ومحنة وبلاء والإنسان قد يظهر موافقته للغير إما لغرض يناله منه أو لغرض آخر يناله بذلك مثل أن يقصد قتله أو الأحتيال عليه وهذا كله كان منتفيا بمكة فإن الذين كانوا يقصدون أذى النبي صلى الله عليه وآله وسلم كانوا من أعظم الناس عداوة لأبي بكر لما آمن بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم يكن بهم اتصال يدعو إلى ذلك ألبتة ولم يكونوا يحتاجون في مثل ذلك إلى أبي بكر بل كانوا أقدر على ذلك ولم يكن يحصل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أذى قط من أبى بكر مع خلوته به واجتماعه به ليلا ونهارا وتمكنه مما يريد المخادع من إطعام سم أو قتل أو غير ذلك وأيضا فكان حفظ الله لرسوله وحمايته له يوجب أن يطلعه على ضميره السوء لو كان مضمرا له سوءا وهو قد أطلعه الله على ما في نفس أبي عزة لما جاء مظهرا للإيمان بنية الفتك به وكان ذلك في قعدة واحدة وكذلك أطلعه على ما في نفس الحجبي يوم حنين لما انهزم المسلمون وهم بالسوأة وأطلعه على ما في نفس عمير بن وهب لما جاء من مكة مظهرا للإسلام يريد الفتك به وأطلعه الله على المنافقين في غزوة تبوك لما أرادوا أن يحلوا حزام ناقته وأبو بكر معه دائما ليلا ونهارا حضرا وسفرا في خلوته وظهوره ويوم بدر يكون معه وحده في العريش ويكون في قلبه ضمير سوء والنبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يعلم ضمير ذلك قط وأدنى من له نوع فطنة يعلم ذلك في أقل من هذا الاجتماع فهل يظن ذلك بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وصديقه إلا من هو مع فرط جهله وكمال نقص عقله من أعظم الناس تنقصا للرسول وطعنا فيه وقدحا في معرفته فإن كان هذا الجاهل مع ذلك محبا للرسول فهو كما قيل عدو عاقل خير من صديق جاهل.
ومن الردود أيضاً أن القول: ما علاقة قوله تعالى : (( لا تحزن ان الله معنا )) ، فلا دليل فيها على مدعى القائل ! إذ كيف يثبت ان حزنه كان لله أم لنفسه أم لخوف على حياته أم على مصلحة معينة
فإن الرد أن فهو أن قولك لنفسه أم لخوف على حياته فأقول لك لو كان هو يحزن على حياته ومصلحته أكثر من حزنه للدين لما هاجر مع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أصلا ولما عادى قومه حتى أخرجوه من قبل من مكة وأرجعة أمير ولو كان حزنه على ماله أكثر من الدين لما أشتري من أسلم من العبيد وأعتقهم كبلال.ولو لم يكن حزن أبي بكر على الدبن لما كان الله معه ومع رسوله معية تأييد ونصر لأن هذا لا يكون إلا لمن صلح قلبه وهذه شهادة الله لصلاح قلب الصديق لأن الله قال لموسى وهارون لما خافا من فرعون وجنوده (إنا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى قال لا تخافا إني معكما أسمع وأرى) والله لا يكون مع أعدائه وإنما مع أوليائة. فالرسول صلى الله عليه وآله وسلم لم يقل لأبي بكر لا تحزن إن الله معي وإنما قال إن الله معنا. هل أنتم أعلم من الله بقلوب عباده؟!
أما القول إذا كان هذا الصاحب الذي تدعي صحبته الإيمان والمحبة والحزن على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم ) لماذا لم ينزل الله السكينة عليه وخص السكينة برسوله دون صاحبه ، إذ قال تعالى ( فأنزل الله سكينته عليه )) ولم يقل عليهما ، فلو كان له فضل فضيلة لكانت هذه .
فاقول يا سبحان الله!!! ومن قال لك أن ((عليه)) تعود على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ؟! هي تعود على الصديق بقرينة واضحة لمن له قلب سليم. فالرسول صلى الله عليه وآله وسلم لم تزل السكينة معة والسكينة كانت عليه. فعلمنا أنها نزلت على الذي يحتاج إليها وهو أبوبكر صديق هذه الأمة.
أما القول نحن لا ننكر أنه كان من المؤمنين بدعوته ،ولكن نقول أن هذه الآية ليس فيها فضيلة له، فأقول الله يشهد أنه معه ومع رسوله وذكره الله في هذه الآية بمعية الله لهما وسماه الله صاحبه وفي هذه الحالة معنى الصاحب أى الذي على الدين المناصر وليس فقط يسليه في الدرب وإنتهى. آية يمدحة الله فيها يقرأها المسلمون ليل نهار ولا تعتبرها فضيلة؟!
أما قول القائل انا اعتقد ان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عندما صحب ابا بكر معه كان بدافع الخوف على الدين والنفس لان الرسول يعلم ان ابا بكر سوف يبيح بالسر ويدل كفار قريش ويعرفهم بطريق النبي فلذا اصطحبه معه حفاظا للدين والرسالة الاسلامية
فأقول أبوبكر لم يأته الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بسلاسل يسحبه معه وإنما طواعية من قلبه. فأبوبكر كان يستطيع أن يعتذر عن الهجرة بأي حجة من الحجج. وليس من المعقول أن يعادي أبو بكر قومه بسبب أن آمن بالرسول ثم هو يدل الكفار عليه. وليس من المعقول أن يشتري أبى بكر العبيد الذين أسلموا ويعتقهم ليقوي هذا الدين ثم بعد ذلك يخون الذي أتي الدين من طريقه. أين العقول؟
والرد على القول أن الحزن هنا أما طاعة أولا فإذا كان طاعة لم يكن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم ) يمنعه وإن كان معصية تستحق النهي فلا فضيله له فيها، ولا قرينة على كونه طاعة ، ولا يقاس حزن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم ) بحزن أبي بكر ليقال أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم ) كان يقول لا تحزن لإيناسه كما قال الله لنبيه ( ولا يحزنك قولهم ) وغيرها لأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم ) إنما كان يحزن من أجل ما يراه من العوائق أمام دعوته والموانع التي تعترض طريق انتشار الدين .
فأقول والله هذا من أعجب ما سمعت لتفريقك بين الأمرين لأنه إن كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يحزن من أجل ما يراه من العوائق أمام دعوته فكذلك أبو بكر هذا الذي أحزنه فكونك تقسم وتتكلم كأنك تبصر ما في قلب أبي بكر وترى فيه أمرا لم يستطع الرسول أن يقدر على ملاحظته وهو معه وأنت لم تره أصلا فمن أين لك بتلك القدرة؟!؟ ثم إن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لو كان أبو بكر يحزن لأجل معصية لنصحة لأنه لا يسكت عن تغيير المنكر أو عن أمر الدعوة ولما قال له إن الله معنا ولقال إن الله معي لأن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لا يقول بأن الله مع أعدائه أبدا قال تعالى ( إني معكما أسمع وأرى) ولو يدخل فرعون في معية الله لأنه من أعدائه. ولذلك عاتب الله جميع الخلق في نبية إلى أبي بكر فقال ( إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجة الذين كفروا ثاني إثنين إذ هما في الغار) فالخطاب والعتاب في قوله ( إلا تنصروه) لا يخل فيه أبو بكر لأنه قال بعدها ( ثاني إثنين) وكذلك لا يدخل أبو بكر في قوله ( أخرجه الذين كفروا) لأنه معه وليس مع الكفار في مكه بل هل الذين طردوأ أبو بكر أيظا. فعلم من هذا أن الصديق نصير مؤمن بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم وكذلك له فضيله أن الله إستثناه من العتاب.
أما قولك واما السكينة فنزلت على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وإذا كان لا يحتاج إلى السكنية في كل الأحوال فكلامك يعني أن لاتنزل له سكينة أصلا إذ هو غير محتاجها ؟ فما هو ردك على وجود آيات بإنزال السكينة على الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم ) كقوله تعالى : ( فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنينن ) ، فهذه السكينة نزلت على الأسم دون الضمير ، فهل كان محتاج إلى سكينة لينزلها الله عليه .
أما القول ان الذي نزلت عليه السكينة هو الذي ايده الله بالجنود .قال تعالى(فأنزل الله سكينته عليه وايده بجنود لم تروها )فإن كان ابو بكر هو صاحب السكينة فهو صاحب الجنود وفي هذا الادعاء اخراج للنبي صلى الله عليه وآله من النبوة. على ان الله تعالى انزل السكينة على النبي صلى الله عليه وآله في موضعين كان معه قوم مؤمنون فشركهم فيها فقال تعالى (فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وألزمهم كلمة التقوى ) وقال (انزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنوداً لم تروها)ولما كان الله تعالى خص نبيه في هذا الموضع بالسكينة فلو كان معه مؤمن لشركه معه في السكينة كما شرك من ذكرنا قبل هذا من المؤمنين فدل اخراجه من السكينة على خروجه من الايمان.
فأقول لك بما أنك تشترط إنزال السكينة فقط على الرسول والمؤمنين في إجتماعهم فقلي ماذا ستفعل بقوله تعالى (إنا فتحنا لك فتحا مبينا.... هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين) فهنا لماذا لم يذكر إنزال السكينة على الرسول؟! وقال تعالى (لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم) فهنا لماذا لم يذكر إنزال السكينة على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم؟! هل بقولك هنا ستخرج الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من الإيمان لأن الله لم ينزل عليه السكينة؟!
فأقول لك عند البلاغيين النهي من أنواع الإنشاء الطلبي وهو طلب الكف عن الفعل على وجه الإستعلاء وله صيغة واحدة وهي لا الناهية ( ولا تمشي في الأرض مرحا) وهو كالأمر في الإستعلاء. وتستعمل صيغة النهى أيضا في غير ما وضعت له كالدعاء وهذا يستعمل مع الرب سبحانه لأنه يكون من الأدني إلى الأعلى. وهذا لم يكن من أبي بكر مع الرسول لأن أبي بكر أقل من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بلا شك الإلتماس وهو قول المتساويين في الرتبة والمنزلة مجازا : لا تتدخل فيما لا يعنيك وهذا غير داخل جزئيا أيضا وله رابط لأن الرسول يلتمس عدم حزن أبي بكر بلا شك التهديد كقولك لعبد لا يمتثل لأمرك: لا تمتثل أمري!!! وهذ غير داخل لأن أبي بكر ليس عبدا مملوكا ولو كان الرسول يهدد عدوا له لصرخ أبي بكر قائلا عند إقتراب الكفار من الغار يا قريس إن محمدا هنا.
وفي هذا دليل على كذب الطاعن في أن الرسول أخذ أبي بكر لكي لا يدل عليه الكفار لأن أبي بكر كان يستطيع أن يدلهم عليه في أنسب مكان في الغار عند إقتراب قريش. والتمني كقول الشاعر : ألا أيها الليل الطويل ألا انجل....بصبح وما الإصباح منك بأمثل. إذ ليس الغرض طلب الإنجلاء من الليل فليس ذلك في وسعه لكنه يتمنى ذلك تخلصا مما نابه من الليل. وهذ داخل لأن الحزن منه ما هو مقدور على دفعه ومنه ما هو غير مقدور على دفعه ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها والمسلم يحزن على الدعوة وأمرها والله هو وحده الذي يسكن قلوب عباده بإنزال السكينة عليهم.
وأما قولك عدم تأثير ذلك الحزن على قلب النبي (صلى الله عليه واله )....بقاء أبي بكر على حاله حيث لم يشرك في السكينة مع النبي....أن ذكر السكينة تكرر في القرآن الكريم ولكن بذكر المؤمنين غير هذه المرة فلم يشرك مع رسوله أحداً ؟!!!
فأقول لك وهل تزعم بكلامك هذا أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لا طاعة له لأن الله لم يقول يرضوهما ولم يشركه في الإرضاء وأنما قال يرضوه كما في قوله تعالى (والله ورسوله أحق أن يرضوه )؟!
ألا تعلم أن الصاحب مشارك للمصحوب بالتبعية لا بالمرتبة؟!؟!؟ أنقله لك مرة أخرى وها هو:
(((( وهذا كما في قوله والله ورسوله أحق أن يرضوه سورة التوبة 62 فإن الضمير في قوله أحق أن يرضوه إن عاد إلى الله فإرضاؤه لا يكون إلا بإرضاء الرسول وإن عاد إلى الرسول فإنه لا يكون إرضاؤه إلا بإرضاء الله فلما كان ارضاؤهما لا يحصل أحدهما إلا مع الآخر وهما يحصلان بشئ واحد والمقصود بالقصد الأول إرضاء الله وإرضاء الرسول تابع وحد الضمير في قوله أحق أن يرضوه وكذلك وحد الضمير في قوله فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها لأن نزول ذلك على أحدهما يستلزم مشاركة الآخر له إذ محال أن ينزل ذلك على الصاحب دون المصحوب أو على المصحوب دون الصاحب الملازم فلما كان لا يحصل ذلك إلا مع الآخر وحد الضمير وأعاده إلى الرسول فإنه هو المقصود والصاحب تابع له ولو قيل فأنزل السكينة عليهما وأيدهما لأوهم أبا بكر شريك في النبوة كهارون مع موسى حيث قال سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانا الآية سورة القصص 35 وقال ولقد مننا على موسى وهارون ونجيناهما وقومهما من الكرب العظيم ونصرناهم فكانوا هم الغالبين وآتيناهما الكتاب المستبين وهديناهما الصراط المستقيم سورة الصافات فذكرهما أولا وقومهما فيما يشركونهما فيه كما قال فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين سورة الفتح 26 إذا ليس في الكلام ما يقتضي حصول النجاة والنصر لقومهما إذا نصرا ونجيا ثم فيما يختص بهما ذكرهما بلفظ التثنية إذا كانا شريكين في النبوة لم يفرد موسى كما أفرد الرب نفسه بقوله والله ورسوله أحق أن يرضوه سورة التوبة 62 وقوله أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله سورة التوبة 24 فلو قيل أنزل الله سكينته عليهما وأيدهما لأوهم الشركة بل عاد الضمير إلى الرسول المتبوع وتأييده تأييد لصاحبه التابع له الملازم بطريق الضرورة ولهذا لم ينصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم قط في موطن إلا كان أبو بكر رضي الله عنه أعظم المنصورين بعده ولم يكن أحد من الصحابة أعظم يقينا وثباتا في المخاوف منه))

وأما قولك مع أن في كلمة (إن الله معنا) تذكير بالله تعالى وقد قال تعالى مخبراً عن فطرة وركيزة خلقية عند المؤمنين( (ألآبذكر الله تطمئن القلوب ) ).
فأقول لك نعم هو كذلك لأن الله قال لرسوله ( لا تحزن) فكما أن الرسول حزنه لم يكن لمعصية فكذلك حزن الصديق لم يكن لمعصية والتذكير كان من الله للرسول صلى الله عليه وآله وسلم فكيف لا يكون بالأقل منزله كأبي بكر مثلا؟!؟
ولا يوجد في مقولة من الله ورسله قط لأعداء دينه ( إن الله معنا) لأن الله ليس مع أعدائه وإنما مع أوليائه فقط قال الله عزوجل لأوليائة ورسله (لا تخافا إني معكما أسمع وأرى) فلم يدخل فرعون في المعيه الإلهية لأنه عدو الله ولكن الصديق أبو بكر دخل مع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في قوله ( إن الله معنا) ولم يقل إن الله معي وسبحان الله حتى لو قال صلى الله عليه وآله وسلم إن الله معي لدخل معه الصديق في المعية لأنه تابع له والمتابع له أمر إشتمال حال المتبوع والدليل على ذلك أنه لما كان موسى ومعه هارون مع بني اسرائيل عند البحر قبل أن يفلق الله البحر لهم خاف بنوا اسرائيل لما إقترب عسكر الكفر الفرعوني وقال بنوا إسرائيل لموسى عليه السلام وهم في خوف شديد ( فلما ترائا الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون قال كلا إن معي ربي سيهدين) ولم يقل إن الله معنا فهل أنت ستخرج بني إسرائيل وعلى رأسهم نبي الله هارون من دائرة الإيمان لأن موسى عليه السلام لم يقل أن الله معنا وإنما قال إن الله معي؟! سبحان هادي القلوب.
ومن الردود الأخرى على تفنن البعض في صرف هذه الفضيلة عن الصديق رضي الله عنه قولهم (( اما قولك : إن الله تعالى ذكر النبي صلّى الله عليه وآله وجعل ابا بكر معه ثانيه ، فهو إخبار عن العدد ، ولعمري لقد كانا اثنين ، فما في ذلك من الفضل ؟! فنحن نعلم ضرورة أن مؤمنا ومؤمنا ، أو مؤمنا وكافراً ، اثنان فما أرى لك في ذلك العد طائلاً تعتمده)) قد علمنا ان الله سبحانه وصف الكثرة ونسبها الى الكفر او اتباع الهوى وقد علمنا انه وصف القلة ونسبها الى الايمان والشواهد كثيره ولكن قوله تعالى " ثاني اثنين " ليس اخبار عن العدد كما يقول هذا بل لبيان انفصال الكفر والايمان لقوله تعالى (( إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ )) ثم (( ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ)) الكفر في كفة والايمان في كفه اخرى وقول رسول الله (( حدثنا عفان قال حدثنا همام قال أخبرنا ثابت عن أنس أن أبا بكر حدثه قال: قلت للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ونحن في الغار: لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه، فقال: (يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما)) فان كان الله سبحانه ثلاثهما ( الله ثم رسول الله وابو بكر الصديق ) ولم يكن هذا فضل فلعمرى ما عساه يكون ؟
ويقول هذا الطاعن (( إنه وصفهما بالاجتماع في المكان ، فإنه كالاول لان المكان يجمع الكافر والمؤمن كما يجمع العدد المؤمنين والكفار ، وأيضاً : فإن مسجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم أشرف من الغار ، وقد جمع المؤمنين والمنافقين والكفار ، وفي ذلك يقول الله عز وجل : ( فما للذين كفروا قبلك مهطعين عن اليمين وعن الشمال عزين ) ، وأيضا : فإن سفينة نوح عليه السلام قد جمعت النبي ، والشيطان ، والبهيمة ، والكلب ، والمكان لا يدل على ما أوجبت من الفضيلة ، فبطل فضلان.))
فليخبرني هذا بعد ان علمنا معاني الاجتماع .. هل اجتمع رسول الله مع ابو بكر الصديق في الغار بصفة مؤمن مع كافر ام مؤمن مع مؤمن ام مؤمن مع منافق ام رسول مع بهيمة ؟ وهل يطبق كلامه هذا في اجتماع رسول الله مع علي او مع فاطمة او مع الحسن او الحسين ؟
قال تعالى (( يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم؟ قالوا لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب )) فهل تقوى على القول ان اجتماع الله سبحانه برسله لا فضل فيه ؟ وهل اجتماع رسول الله مع ابو بكر الصديق في الغار في الهجرة اجتماع للدنيا ام للآخرة؟ ان قلت للدنيا خرجت بعارها وشنارها .. وان قلت للآخرة فكيف لا يكون اجتماعا مرحوما ؟ ويقول (( وأما قولك : إنه أضافه إليه بذكر الصحبة ، فإنه أضعف من الفضلين الاولين لان اسم الصحبة تجمع المؤمن والكافر ، والدليل على ذلك قوله تعالى :قال له صاحبه وهو يحاوره اكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلاً ) وأيضا : فإن اسم الصحبة يطلق على العاقل والبهيمة ، والدليل على ذلك من كلام العرب الذي نزل بلسانهم ، فقال الله عز وجل : ( وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ) أنه قد سموا الحمار صاحبا فقال الشاعر :
إن الحمار مع الحمير مطية * فإذا خلوت به فبئس الصاحب
وأيضا : قد سمّوا الجماد مع الحي صاحبا ، فقالوا ذلك في السيف وقالوا شعرا :
زرت هنداً وكان غير اختيان * ‌ومعي صاحب كتوم اللسان
يعني : السيف ، فإذا كان اسم الصحبة يقع بين المؤمن والكافر ، وبين العاقل والبهيمة ، وبين الحيوان والجماد ، فأي حجة لصاحبك فيه ؟!))
وهذه مثل السابقة ... فأي معاني الصحبة يصدق على صحبة رسول الله وابو بكر؟ صحبة مؤمن لكافر ام مؤمن لمنافق ام مؤمن لمؤمن ام مؤمن مع بهيمة؟
وهل تطبق ما قاله هذا في نزع فضيلة الصحبة على اصحاب الحسين يوم عاشوراء ؟ الا تقولون في زيارتكم للحسين " السلام على الحسين وعلى علي بن الحسين وعلى اولاد الحسين وعلى اصحاب الحسين " فما فضل صحبة الحسين ؟؟ وهل صحب الحسين معه بهائم ام منافقين ام كفار ؟؟
وماذا عن صحبة موسى والخضر عليهما السلام في قوله تعالى ((قَالَ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْراً )) هل تنكر فضيلة الصحبة هنا !! وماذا عن قوله تعالى (( وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً )) المودة والرحمة التي جعلت من الزوجة تستحق أسم (( صاحبة )) هل هي فضيلة أم منقصة ؟؟
ويقول المفيد (( ( لا تحزن )) فإنه وبال عليه ومنقصة له ، ودليل على خطئه لان قوله : ( لا تحزن ) ، نهي وصورة النهي قول القائل : لا تفعل فلا يخلو أن يكون الحزن قد وقع من أبي بكر طاعة أو معصية ، فإن كان طاعة فالنبي صلّى الله عليه وآله لا ينهى عن الطاعات بل يأمر بها ويدعو إليها ، وإن كانت معصية فقد نهاه النبي عنها ، وقد شهدت الاية بعصيانه بدليل أنه نهاه.))

احمل هذا على قوله تعالى (( وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ ))

وقوله تعالى (( اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللّهُ لَهُم )) وهذا نهي وقد وقع استغفار رسول الله للمنافقين (( قال ابن عمر: لما توفي عبدالله بن أبي بن سلول جاء ابنه عبدالله إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فسأله أن يعطيه قميصه يكفن فيه أباه فأعطاه ثم سأله أن يصلي عليه، فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليصلي عليه، فقام عمر وأخذ بثوب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله، أتصلي عليه وقد نهاك الله أن تصلي عليه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إنما خيرني الله تعالى فقال: "استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة" وسأزيد على سبعين) قال: إنه منافق. فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأنزل الله عز وجل "ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره" فترك الصلاة عليهم))
والآيات في الباب كثيرة. منها:
قال تعالى مخاطباً موسى وهارون عليهما السلام: ((قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى)) [طه:46].
وقال تعالى مخاطباً النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)) [يونس:65].
وقال مخاطباً نبيه صلى الله عليه وآله وسلم: ((وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ)) [الحجر:88]
وقال تعالى: ((وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ)) [النحل:127].
وكرر ذلك فقال تعالى: ((وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ)) [النمل:70]
وقال تعالى: ((وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقَالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ)) [العنكبوت:33].
وقال تعالى: ((قَالَ خُذْهَا وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأُولَى)) [طه:21].
وقال تعالى: ((قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى)) [طه:68].
وقال تعالى: ((وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ)) [النمل:10].
وقال تعالى: ((وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنْ الآمِنِينَ)) [القصص:31].
فاسأل هؤلاء أن قولـه: [لا تخافا - لا يحزنك - لا تحزن - لا تخف] وبال على الأنبياء عليهم السلام ومنقصة لهم، ودليل على خطئهم، لأن قولـه: [لا تخافا - لا يحزنك - لا تحزن - لا تخف] نهي، وصورة النهي قول القائل: لا تفعل، فلا يخلو أن يكون الحزن والخوف وقع من هؤلاء الأنبياء عليهم السلام طاعة أو معصية، فإن كان طاعة فإن الله عز وجل لا ينهى عن الطاعات بل يأمر بها ويدعو إليها، وإن كان معصية فقد نهاهم عز وجل عنها، وقد شهدت الآيات بعصيانهم بدليل أن الله عز وجل نهاهم؟!
وبحسب هذا الزعم تكون هذه الاية شاهد على معصية رسول الله ...
ويقول (( واما قولك : إنه قال : ( ان الله معنا ) فإن النبي صلّى الله عليه وآله قد أخبر أن الله معه ، وعبر عن نفسه بلفظ الجمع ، كقوله تعالى : ( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ).
قوله معنا يدل على معية الله سبحانه لرسوله وابو بكر الصديق والا كان قوله ثاني اثنين غثاء ولا معنى له ولقول الرسول (( ما ظنك بأثنين الله ثالثهما ))
ويقول هذا الطاعن (( وأما قولك : إن السكينة نزلت على أبي بكر ، فإنه ترك للظاهر ، لان الذي نزلت عليه السكينة هو الذي أيّده الله بالجنود ، وكذا يشهد ظاهر القرآن في قوله : ( فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها ) . فإن كان أبو بكر هو صاحب السكينة فهو صاحب الجنود ، وفي هذا اخراج للنبي صلى الله عليه وآله من النبوة على أن هذا الموضع لو كتمته عن صاحبك كان خيراً ، لان الله تعالى انزل السكينة على النبي في موضعين كان معه قوم مؤمنون فشركهم فيها ، فقال في أحد الموضعين فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وألزمهم كلمة التقوى ) وقال في الموضع الاخر : ( ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها ) ولما كان في هذا الموضع خصه وحده بالسكينة ، فقال : ( فانزل الله سكينته عليه ) فلو كان معه مؤمن لشركه معه في السكينة كما شرك من ذكرنا قبل هذا من المؤمنين ، فدل إخراجه من السكينة على خروجه من الايمان ")) وهذا بيت القصيد "
ان قلنا ان الله انزل سكينته على رسوله كان في هذا اقوى دليل على ان ابو بكر الصديق في مقام النفس عند رسول الله قال تعالى (( قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو )) اهبطا للمثنى والمراد ثلاثه فكانت حواء وآدم نفسا واحده لمعيتها مع آدم وتخصيص رسول الله بالسكينة لا يلزم منها خروج ابو بكر الصديق والا اخرجنا جميع المؤمنين مستدلين بهذه الاية بعدم وجود مؤمن واحد في حادثة الهجرة ولا حتى علي بن ابي طالب نفسه ... لان كلمة السكينة جاءت وفيها اقران بين رسول الله والمؤمنين بستثناء هذه الاية .. وبحسب كلام هذا الطاعن نستنتج انه لا يوجد مؤمن واحد سوى رسول الله .
شبهة أن الصديق رضي الله عنه لم يكن صاحب الغار وإنما رجل آخر
ومن الشبهات قول بعض المتأخرين إن الذي كان في الغار مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن أبوبكر الصديق رضي الله عنه وإنما رجل آخر.
والجواب:
هذه بعض الروايات في طرق الإمامية في إثبات كون الصديق رضي الله عنه هو صاحب الغار، ففي إيرادها غنىً عن تفنيد هذه الشيهة.
قال ابن الكواء لأمير المؤمنين : أين كنت حيث ذكر الله تعالى نبيه وأبا بكر فقال : ( ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا ) ؟ فقال أمير المؤمنين عليه السلام : ويلك يا ابن الكواء كنت على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم.[1]
أما خروج أبي بكر مع النبي صلى الله عليه وآله فغير مدفوع ، وكونه في الغار معه غير مجحود ، واستحقاق اسم الصحبة معروف.[2]
قوله تعالى : " إلا تنصروه فقد نصره الله " : أي إن لم تنصروا النبي صلى الله عليه وآله على قتال العدو فقد فعل الله به النصر " إذ أخرجه الذين كفروا " من مكة فخرج يريد المدينة " ثاني اثنين إذ هما في الغار " يعني أنه كان هو وأبو بكر في الغار ليس معهما ثالث ، وأراد به هنا غار ثور ، وهو جبل بمكة " إذ يقول لصاحبه " أي إذ يقول الرسول صلى الله عليه وآله لأبي بكر : " لا تحزن " أي لا تخف " إن الله معنا " يريد أنه مطلع علينا ، عالم بحالنا ، فهو يحفظنا وينصرنا.[3]
( إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم ( 40 ) ) أي : إن تركتم نصرته فإن الله قد أوجب له النصرة ، وجعله منصورا حين لم يكن معه إلا رجل واحد ، فلن يخذله من بعد * ( إذ أخرجه الذين كفروا ) * أسند الإخراج إلى الكفار كما في قوله : ( من قريتك التي أخرجتك ) * ، لأنهم حين هموا بإخراجه أذن الله له في الخروج عنهم ، فكأنهم أخرجوه * ( ثاني اثنين ) * أحد اثنين كقوله : * ( ثالث ثلاثة ) ، وهما رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وأبو بكر.[4]
( ثاني اثنين ) يعني أنه كان هو وأبو بكر ( إذ هما في الغار ) ليس معهما ثالث أي : وهو أحد اثنين ، ومعناه فقد نصره الله منفردا من كل شئ ، إلا من أبي بكر ، والغار : الثقب العظيم في الجبل ، وأراد به هنا ( غار ثور ) وهو جبل بمكة ( إذ يقول لصاحبه ) أي : إذ يقول الرسول لأبي بكر ( لا تحزن ) أي : لا تخف ( إن الله معنا ) يريد أنه مطلع علينا ، عالم بحالنا ، فهو يحفظنا وينصرنا .[5]
( إذ يقول لصاحبه ) وهو أبو بكر.[6]
قوله تعالى : ( إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار ) ..... والمراد بصاحبه هو أبو بكر للنقل القطعي.[7]
ثم تقول : كان ذلك في حال هو ثاني اثنين . وهذا التعبير إشارة إلى أنه لم يكن معه في هذا السفر الشاق إلا رجل واحد ، وهو أبو بكر.[8]
عن بريدة الأسلمي قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول : إن الجنة تشتاق إلى ثلاثة قال فجاء أبو بكر ، فقيل له : يا أبا بكر أنت الصديق وأنت ثاني اثنين إذ هما في الغار ، فلو سألت رسول الله صلى الله عليه وآله من هؤلاء الثلاثة ؟ قال إني أخاف أن أساله فلا أكون منهم فتعيرني بذلك بنو تيم ، قال ، ثم جاء عمر ، فقيل له : يا أبا حفص ان رسول الله صلى الله عليه وآله قال : إن الجنة تشتاق إلى ثلاثة وأنت الفاروق الذي ينطق الملك على لسانك فلو سألت رسول الله من هؤلاء الثلاثة ؟ فقال اني أخاف أن أساله فلا أكون منهم فتعيرني بذلك بنو عدي ثم جاء علي عليه السلام فقيل له : يا أبا الحسن ان رسول الله صلى الله عليه وآله قال : إن الجنة مشتاق إلى ثلاثة فلو سألته من هؤلاء الثلاثة ؟ فقال أسأله ان كنت منهم حمدت الله وان لم أكن منهم حمدت الله.[9]
[1] - خصائص الأئمة - الشريف الرضي - ص 58 ، الخرائج والجرائح - قطب الدين الراوندي - ج 1 - ص 215 ، حلية الأبرار - السيد هاشم البحراني - ج 1 - ص 161 ، مدينة المعاجز - السيد هاشم البحراني - ج 1 - ص 461 ، بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج 19 - ص 76 ، 33 - ص 430 ، غاية المرام - السيد هاشم البحراني - ج 4 - ص 23
[2] - الإفصاح - الشيخ المفيد - ص 185 - 186
[3] - بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج 19 - ص 33
[4] - تفسير جوامع الجامع - الشيخ الطبرسي - ج 2 - ص 65 – 66
[5] - تفسير مجمع البيان - الشيخ الطبرسي - ج 5 - ص 56 - 58
[6] - التفسير الأصفى - الفيض الكاشاني - ج 1 - ص 466 - 467
[7] - تفسير الميزان - السيد الطباطبائي - ج 9 - ص 279
[8] - الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - الشيخ ناصر مكارم الشيرازي - ج 6 - ص 57 - 58
[9] - اختيار معرفة الرجال - الشيخ الطوسي - ج 1 - ص 129 – 137 ، معجم رجال الحديث - السيد الخوئي - ج 13 - ص 284 - 285





التوقيع






    رد مع اقتباس
قديم 2010-09-28, 08:07 رقم المشاركة : 8
عمر أبو صهيب
بروفســــــــور
 
الصورة الرمزية عمر أبو صهيب

 

إحصائية العضو








عمر أبو صهيب غير متواجد حالياً


وسام المشارك

وسام منضم مسابقة المقدم

الوسام الذهبي

وسام المشاركة

وسام المشاركة في دورة HTML

وسام المشاركة

وسام حفظ سورة الكهف

وسام المركز الاول في مسابقة التصوير الفوتوغرافي

وسام المركز الثاني في مسابقة استوقفتني آية

وسام مشارك في دورة حفظ سورة البقرة

افتراضي رد: شبهات مهترئة و ردود قاصمة


مسألة فدك

أرض فدك ، قرية في الحجاز كان يسكنها طائفة من اليهود، ولمّا فرغ الرسول عليه الصلاة والسلام من خيبر، قذف الله عز وجل في قلوبهم الرعب ، فصالحوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على فدك ، فكانت ملكاً لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأنها مما لم يُوجف عليها بخيل ولا ركاب.
ورغم أنّّ خلاف الخليفة أبو بكر مع السيدة فاطمة رضوان الله عليهما كان خلافاً سائغاً بين طرفين يملك كل منهما أدلة على رأيه إلا أنّ حساسية البعض من شخصية أبو بكر تجعله ينظر إلى الأمور بغير منظارها فتنقلب الحبة إلى قبة.
ولو أننا استبدلنا شخصيات القصة ( أبو بكر وفاطمة ) بفقيهين من الشيعة مثلاً أو مرجعين من مراجعهم لكان لكل طرف منهما مكانته وقدره دون التشنيع عليه وإتهام نيته ، ولكانت النظرة إلى رأي الطرفين نظرة احترام وتقدير على اعتبار وجود نصوص وأدلة يستند إليها الطرفين في دعواهما وإن كان الأرجح قول أحدهما. لكن أمام ( ابو بكر ) و( فاطمة ) الأمر يختلف ، فأبو بكر عدو عند البعض وما دام عدواً فكل الشر فيه وكل الخطأ في رأيه ، هكذا توزن الأمور!!! توزن بميزان العاطفة التي لا تصلح للقضاء بين متنازعين فكيف بدراسة أحداث تاريخية ودراسة تأصيلها الشرعي!!!
لكن المنصف الذي لا ينقاد إلى عاطفته بل إلى الحق حيث كان ، يقف وقفة تأمل لذاك الخلاف ليضع النقاط على الحروف فأرض فدك هذه لا تخلو من أمرين: إما أنها إرث من النبي صلى الله عليه وآله وسلم لفاطمة رضوان الله عليها أو هي هبة وهبها رسول الله لها يوم خيبر.
فأما كونها إرثاً فبيان ذلك ما رواه البخاري ومسلم وغيرهما من أنه بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم جاءت فاطمة رضوان الله عليها لأبي بكر الصدّيق تطلب منه إرثها من النبي عليه الصلاة والسلام في فدك وسهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم من خيبر وغيرهما. فقال أبو بكر الصدّيق: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ( إنّا لا نورّث ، ما تركناه صدقة ) وفي رواية عند أحمد ( إنّا معاشر الأنبياء لا نورّث )، فوجدت فاطمة على أبي بكر بينما استدلت رضوان الله عليها بعموم قوله تعالى {يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين}.
ولنكن حياديين ها هنا ولننسى أنّ المطالب بالإرث امرأة نحبها ونجلها لأنها بنت نبينا وأنّ لها من المكانة في نفوسنا وعند الله عز وجل ما لها ، لنقول : كلام محمد عليه الصلاة والسلام فوق كلام كل أحد ، فإذ صح حديث كهذا عن رسول الله فلا بد ان نقبله ونرفض ما سواه ، فإذا كان الأمر كذلك فلماذا نلوم أبو بكر على التزامه بحديث رسول الله وتطبيقه إياه بحذافيره ؟!!
لقد صح حديث ( إنّا معاشر الأنبياء لا نورّث ) عند الفريقين السنة والشيعة ، فلماذا يُستنكر على أبي بكر استشهاده بحديث صحيح ويُتهم بالمقابل باختلاقه الحديث لكي يغصب فاطمة حقها في فدك؟!! أما صحته عند أهل السنة فهو أظهر من أن تحتاج إلى بيان ، وأما صحته عند الشيعة فإليك بيانه: روى الكليني في الكافي عن أبي عبد الله عليه السلام قوله: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ( … وإنّ العلماء ورثة الأنبياء ، إنّ الأنبياء لم يورّثوا ديناراً ولا درهماً ولكن ورّثوا العلم فمن أخذ منه أخذ بحظ وافر ).
قال عنه المجلسي في مرآة العقول 1/111 ( الحديث الأول ( أي الذي بين يدينا ) له سندان الأول مجهول والثاني حسن أو موثق لا يقصران عن الصحيح ) فالحديث إذاً موثق في أحد أسانيده ويُحتج به ، فلماذا يتغاضى عنه علماء الشيعة رغم شهرته عندهم!!
والعجيب أن يبلغ الحديث مقدار الصحة عند الإمامية حتى يستشهد به الخميني في كتابه الحكومة الإسلامية على جواز ولاية الفقيه فيقول تحت عنوان (صحيحة القداح ) : ( روى علي بن إبراهيم عن أبيه عن حماد بن عيسى عن القداح ( عبد الله بن ميمون ) عن أبي عبد الله عليه السلام قال: ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : (من سلك طريقاً يطلب فيه علماً ، سلك الله به طريقاً إلى الجنة … وإنّ العلماء ورثة الأنبياء ، إنّ الأنبياء لم يورّثوا ديناراً ولا درهماً ، ولكن ورّثوا العلم ، فمن أخذ منه أخذ بحظ وافر) ويعلق على الحديث بقوله ( رجال الحديث كلهم ثقات ، حتى أنّ والد علي بن إبراهيم ( إبراهيم بن هاشم ) من كبار الثقات ( المعتمدين في نقل الحديث ) فضلاً عن كونه ثقة).
إنّ الاستدلال بقول الله تبارك وتعالى عن زكريا عليه السلام { فهب لي من لدنك ولياً يرثني ويرث من آل يعقوب } على جواز توريث الأنبياء لأبنائهم استدلال غريب يفتقد إلى المنطق في جميع حيثياته ، وذلك لعدة أمور هي:
أولاً: لا يليق برجل صالح أن يسأل الله تبارك وتعالى ولداّ لكي يرث ماله فكيف نرضى أن ننسب ذلك لنبي كريم كزكريا عليه السلام في أن يسأل الله ولداً لكي يرث ماله ، إنما أراد زكريا عليه السلام من الله عز وجل أن يهب له ولداً يحمل راية النبوة من بعده ، ويرث مجد آل يعقوب العريق في النبوة.
ثانياً: المشهور أنّ زكريا عليه السلام كان فقيراً يعمل نجاراً ، فأي مال كان عنده حتى يطلب من الله تبارك وتعالى أن يرزقه وارثاً ، بل الأصل في أنبياء الله تبارك وتعالى أنهم لا يدخرون من المال فوق حاجتهم بل يتصدقون به في وجوه الخير.
ثالثاً: إنّ لفظ ( الإرث ) ليس محصور الاستخدام في المال فحسب بل يستخدم في العلم والنبوة والملك وغير ذلك كما يقول الله تعالى { ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا } وقوله تعالى { أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون } فلا دلالة في الآية السابقة على وراثة المال.

رابعاً: حديث (إنّ الأنبياء لم يورّثوا ديناراً ولا درهماً ولكن ورّثوا العلم) الذي ذكرناه آنفاً يتضمن نفي صريح لجواز وراثة أموال الأنبياء ، وهذا كاف بحد ذاته.

وكذلك الحال في قوله تعالى { وورث سليمان داود } فإنّ سليمان عليه السلام لم يرث من داود عليه السلام المال وإنما ورث النبوة والحكمة والعلم لأمرين إثنين:
الأول: أنّ داود عليه السلام قد اشتُهر أنّ له مائة زوجة وله ثلاثمائة سريّة أي أمة ، وله كثير من الأولاد فكيف لا يرثه إلا سليمان عليه السلام؟!! فتخصيص سليمان عليه السلام حينئذ بالذكر وحده ليس بسديد.
الثاني: لو كان الأمر إرثاً مالياً لما كان لذكره فائدة في كتاب الله تبارك وتعالى، إذ أنّه من الطبيعي أنّ يرث الولد والده ، والوراثة المالية ليست صفة مدح أصلاً لا لداود ولا لسليمان عليهما السلام فإنّ اليهودي أو النصراني يرث ابنه ماله فأي اختصاص لسليمان عليه السلام في وراثة مال أبيه!! ، والآية سيقت في بيان المدح لسليمان عليه السلام وما خصه الله به من الفضل ، وإرث المال هو من الأمور العادية المشتركة بين الناس كالأكل والشرب ودفن الميت ، ومثل هذا لا يُقص عن الأنبياء ، إذ لا فائدة فيه ، وإنما يُقص ما فيه عبرة وفائدة تُستفاد وإلا فقول القائل ( مات فلان وورث فلان ابنه ماله ) مثل قوله عن الميت ( ودفنوه ) ومثل قوله ( أكلوا وشربوا وناموا ) ونحو ذلك مما لا يحسن أن يُجعل من قصص القرآن.
وأعجب من هذا كله حقيقة تخفى على الكثيرين وهي أنّ المرأة لا ترث في مذهب الإمامية من العقار والأرض شيئاً ، فكيف يستجيز الشيعة الإمامية وراثة السيدة فاطمة رضوان الله عليها لفدك وهم لا يُورّثون المرأة العقار ولا الأرض في مذهبهم؟!!
فقد بوّب الكليني باباً مستقلاً في الكافي بعنوان ( إنّ النساء لا يرثن من العقار شيئاً ) روى فيه عن أبي جعفر قوله: ( النساء لا يرثن من الأرض ولا من العقار شيئاً )
ورووا عن ميسر قوله (سألت أبا عبد الله عليه السلام عن النساء ما لهن من الميراث ، فقال: لهن قيمة الطوب والبناء والخشب والقصب فأما الأرض والعقار فلا ميراث لهن فيهما)
وعن محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام قال: (النساء لا يرثن من الأرض ولا من العقار شيئاً) وعن عبد الملك بن أعين عن أحدهما عليهما السلام قال: (ليس للنساء من الدور والعقار شيئاً).
كما أنّ فدك لو كانت إرثاً من النبي صلى الله عليه وآله وسلم لكان لنساء النبي ومنهن عائشة بنت أبي بكر وزينب وأم كلثوم بنات النبي حصة منها ، لكن أبا بكر لم يعط ابنته عائشة ولا أحد من نساء النبي ولا بناته شيئاً استناداً للحديث ، فلماذا لا يُذكر هؤلاء كطرف في قضية فدك بينما يتم التركيز على السيدة فاطمة وحدها؟!!
هذا على فرض أنّ فدك كانت إرثاً من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أما إذا كانت فدك هبة وهدية من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لفاطمة رضوان الله عليها كما يروي ذلك الكاشاني في تفسيره[1] فالأمر يحتاج إلى وقفة أخرى أيضاً.
فعلى فرض صحة الرواية والتي تناقضها مع روايات السنة والشيعة حول مطالبة السيدة فاطمة رضوان الله عليها لفدك كأرث لا كهبة من أبيها ، فإننا لا يمكن أن نقبلها لاعتبار آخر وهو نظرية العدل بين الأبناء التي نص عليها الإسلام. إنّ بشير بن سعد لمّا جاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله ، إني قد وهبت ابني حديقة واريد أن أُشهدك ، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أكُلّ أولادك أعطيت؟ قال: لا ، فقال النبي صلوات الله وسلامه عليه ( اذهب فإني لا أشهد على جور )
فسمّى النبي صلى الله ليه وآله وسلم تفضيل الرجل بعض أولاده على بعض بشيء من العطاء جوراً ، فكيف يُظن برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كنبي معصوم لا يشهد على جور أن يفعل الجور (عياذاً بالله )؟!! هل يُظن به وهو أمين من في السماء أو يجور في أمانة أرضية دنيوية بأن يهب السيدة فاطمة فدك دون غيرها من بناته؟!! فكلنا يعرف أنّ خيبر كانت في السنة السابعة من الهجرة بينما توفيت زينب بنت رسول الله في الثامنة من الهجرة ، وتوفيت أم كلثوم في التاسعة من الهجرة ، فكيف يُتصور أن يُعطي رسول الله فاطمة رضوان الله عليها ويدع أم كلثوم وزينباً؟!! والثابت من الروايات أنّ فاطمة رضوان الله عليها لمّا طالبت أبو بكر بفدك كان طلبها ذاك على اعتبار وراثتها لفدك لا على أنها هبة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ولذا فإنّ فدك لم تكن لا إرثاً ولا هبة ، وهذا ما كان يراه الإمام علي نفسه إذ أنه لمّا استُخلف على المسلمين لم يعط فدك لأولاده بعد وفاة أمهم فاطمة بحيث يكون له الربع لوجود الفرع الوارث ، وللحسن والحسين وزينب وأم كلثوم الباقي { للذكر مثل حظ الأنثيين } وهذا معلوم في التاريخ ، فلماذا يُشنع على أبي بكر في شيء فعله علي بن أبي طالب نفسه ؟!!
بل يروي السيد مرتضى ( الملقب بعلم الهدى ) في كتابه الشافي في الإمامة عن الإمام علي ما نصه ( إنّ الأمر لمّا وصل إلى علي بن أبي طالب عليه السلام كُلّم في رد فدك ، فقال: إني لأستحيي من الله أن أرد شيئاً منع منه أبو بكر وأمضاه عمر )
ومن الردود على الإستدلال بقول الله عزوجل { يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظِّ الأنثيين } أنه ليس في عموم لفظ الآية ما يقتضي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يورث فإن الله تعالى قال { يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الانثيين، فإن كُنَّ نساءً فوق اثنتين فلهنَّ ثُلُثا ماترك وإن كانت واحدةً فلها النّصفُ لكل واحدٍ منهما السُدس مما ترك إن كان له ولد، فإن لم يكن لهُ ولدٌ وورثه أبواه فلأُمِّه الثُلُث فإن كان له إخوةٌ فلأمِّه السُدس } وفي الآية الاخرى { ولكم نِصفُ ما ترك أزواجُكُم إن لم يكُنْ لهُنَّ ولد فإنْ كان لهُنَّ ولد فلكم الرُّبُع مما تركْنَ إلى قوله من بعد وصيَّةٍ يُوصي بها أو دين غير مُضارّ } وهذا الخطاب شامل للمقصودين بالخطاب وليس فيه ما يوجب أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مخاطب بها، وكاف الخطاب يتناول من قصده المخاطب، فإن لم يعلم أن المعيّن مقصود بالخطاب لم يشمله اللفظ، حتى ذهبت طائفة من الناس إلى أن الضمائر مطلقاً لا تقبل التخصيص فكيف بضمير المخاطب؟ فإنه لا يتناول إلا من قُصد بالخطاب دون من لم يُقصد، ولو قدّر أنه عام يقبل التخصيص، فإنه عام للمقصودين بالخطاب، وليس فيها ما يقتضي كون النبي صلى الله عليه وآله وسلم من المخاطبين بهذا. ولأنّ كاف الجماعة تأتي بالقرآن وتشمل بالخطاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين وتأتي دونه كقوله تعالى { أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم } محمد 33 وقوله تعالى { إن كنتم تحبُّون الله فاتّبعوني يُحببكم الله ويغْفر لكُم ذُنُوبكم } آل عمران 31 فإن كاف الخطاب لم تشمل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بل تناولت المخاطبين بالسياق وهذه كقوله تعالى { يوصيكم الله في أولادكم } فهي مثل الآيات السابقة، وكذلك كقوله تعالى { إنْ خفتُم إلا تُقسِطوا في اليتامَى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مَثْنى وثُلاث ورُباع فإن خِفتم ألا تعْدلوا فواحِدةً أو ما ملكت أيمانُكم ذلك أدنى ألا تعُولوا، وآتُوا النساء صدُقاتِهنَّ نِحلَة فإن طِبنَ لكم عن شيء منهُ نفساً فكُلوه هنيئاً مريئاً } النساء 3 4 فإن هذه الآية تشمل المخاطبين أيضاً دون النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي يحل له أن يتزوج أكثر من أربعة وبدون مهر، كما ثبت بالنصوص الصحيحة والتي لا تخفى على أحد1.
اما بالنسبة الاستدلال بقوله تعالى { وورث سليمان داود } وقوله كلاهما نبي فأقول:
أ مجرّد ذكر كلمة الإرث لا يدل على أن المقصود به المال لأن هذه الكلمة تأتي بمعاني كثيرة كقوله تعالى { ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا } فاطر 23 وكقوله تعالى { وأورثَكم أرضَهُم وديارهُم وأموالَهم وأرضاً لم تطؤوها } الأحزاب 27 وكقوله تعالى { ولقد كتبْنا في الزبُورِ من بعد الذكْر أنّ الأرضَ يرثُها عبادِيَ الصالحون } الأنبياء 5 فليست الوراثة تعني إرث المال وفقط بل تشتمل على معاني أخرى.
ب وقوله تعالى { وورث سليمان داود } فإن الإرث المقصود في هذه الآية هو إرث العلم والنبوّة لا إرث المال لأن داود كان له من الأولاد الكثير غير سليمان فلا يخصّه بالمال وأيضاً ليس في كونه ورث ماله صفة مدح، لا لداود ولا لسليمان فإن اليهودي والنصراني يرث أباه ماله، والآية سيقت في بيان المدح لسليمان، وما خصّه الله به من النعمة . وأيضاً فإرث المال هو من الأمور العادية المشتركة بين الناس، كالأكل والشرب، ودفن الميت، ومثل هذا لا يُقصُّ عن الأنبياء إذ لا فائدة فيه، وإنما يُقص ما فيه عبرة وفائدة تستفاد، وإلا قول القائل مات فلان وورث أبنه ماله مثل قوله ودفنوه ومثل قوله أكلوا وشربوا وناموا ونحو ذلك مما لا يحسن أن يجعل من قصص القرآن.
ت أما وقوله تعالى { فهب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب } ومن المسلّم به أن هذا هو كلام زكريا وهو لا يرث من آل يعقوب مالاً بل يرثهم أولادهم وورثتهم، فلا يدل الارث هنا على أنه إرث المال بالتأكيد، هذا بالإضافة إلى أنّ زكريا كان نجّاراً وليس ذو مالٍ وفير حتى يوّرثه ليحي، إضافةً إلى أننا لو راجعنا بداية هذه الآية والتي أخفاها هذا الطاعن وهي قوله تعالى { وإني خفت المَوالي من ورائي } مريم 5 لتبيّن لنا أنه لم يخف أن يأخذوا ماله من بعده إذا مات، فإن هذا ليس بمخوف 4 ومن هنا تبين لنا انه أراد بالوراثة وراثة العلم والنبوة.
ج وقد اعترف بهذا المعنى مفسرو الشيعة الاثني عشرية فصاحب التفسير المبين محمد جواد مغنية من كبار علمائهم المعاصرين يقول عند تفسير قوله تعالى { وورث سليمان داود } قال في الملك والنبوة.
ويقول عند تفسير قوله تعالى { وإني خفت الموالي من ورائي } الموالي: العمومة وبنو العم، ومن ورائي، خاف زكريا إذا ورثوه أن يسيئوا إلى الناس، ويفسدوا عليهم دينهم ودنياهم.... { فهب لي من لدنك وليا } وارثاً، { يرثني ويرث من آل يعقوب} قال: العلم والنبوة!؟
بالإضافة لتأكيد الكليني لهذه القضية عندما ساق الحديث الصحيح باعتراف الإمامهم الخميني والذي يثبت أنّ الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهما، وإنما ورثوا العلم؟!
فهل يوجد حق بهذا الوضوح والبيان ؟!
ومن الردود أيضاً:
الوجه الأول: أن كتب الطاعنون متناقضة في نقل هذه الحادثة فبعضها تذكر أن فاطمة طالبت لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منحها إياها،[2] وبعضها تذكر أن فاطمة -رضي الله عنها- طالبت بإرثها[3] وهذا تناقض واضح يدل على الإضطراب والجهل بأصل هذه المسألة، وبالتالي سقوط ما بنوا عليها من أحكام.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: «إن ما ذكر من ادعاء فاطمة -رضي الله عنها- فدك فإن هذا يناقض كونها ميراثاً لها، فإن كان طلبها بطريق الإرث امتنع أن يكون بطريق الهبة، وإن كان بطريق الهبة امتنع أن يكون بطريق الإرث، ثم إن كانت هذه هبة في مرض الموت فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منزه إن كان يُورث كما يُورث غيره أن يوصي لوارث، أو يخصه في مرض موته بأكثر من حقه، وإن كان في صحته فلابد أن تكون هذه هبة مقبوضة، وإلا فإذا وهب الواهب بكلامه، ولم يقبض الموهوب شيئاً حتى مات الواهب كان ذلك باطلاً عند جماهير العلماء، فكيف يهب النبي صلى الله عليه وآله وسلم فدكاً لفاطمة ولا يكون هذا أمراً معروفاً عند أهل بيته والمسلمين، حتى تختص بمعرفته أم أيمن أو علي -رضي الله عنهما-[4]».[5]
الوجه الثاني: أن الصحيح الثابت في هذه الحادثة أن فاطمة -رضي الله عنها- طالبت أبا بكر بميراثها من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاعتذر إليها من ذلك محتجاً بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لا نورث، ما تركنا صدقة) على ما أخرج ذلك الشيخان من حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: (إن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أرسلت إلى أبي بكر الصديق تسأله ميراثها من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مما أفاء الله عليه بالمدينة وفدك، وما بقي من خمس خيبر، فقال أبو بكر: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: (لا نورث، ما تركنا صدقه، إنما يأكل آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم في هذا المال، وإني والله لا أغير شيئاً من صدقة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن حالها التي كانت عليها في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولأعملن فيها بما عمل به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأبى أبو بكر أن يدفع لفاطمة منها شيئاً، فوجدت فاطمة على أبي بكر في ذلك فهجرته فلم تكلمه حتى توفيت).‎‎[6]
فقد كانت فاطمة -رضي الله عنها- مجتهدة في ذلك، اعتقدت أن الحق معها، ثم لما رأت من عزم الخليفة على رأيه أمسكت عن الكلام في المسألة، وما كان يسعها غير ذلك.
قال ابن حجر في توجيه اجتهادها: «وأما سبب غضبها [أي فاطمة] مع احتجاج أبي بكر بالحديث المذكور فلاعتقادها تأويل الحديث على خلاف ما تمسك به أبو بكر، وكأنها اعتقدت تخصيص العموم في قوله: (لا نورث) ورأت أن منافع ما خلفه من أرض وعقار لا يمتنع أن تورث عنه،وتمسك أبو بكر بالعموم، واختلفا في أمر محتمل للتأويل، فلما صمم على ذلك انقطعت عن الاجتماع به لذلك».‎[7]
الوجه الثالث: أن السنة والإجماع قد دلا على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يورث فيكون الحق في هذه المسألة مع أبي بكر -رضي الله عنه-.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: «كون النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يورث ثبت بالسنة المقطوع بها، وبإجماع الصحابة، وكل منهما دليل قطعي، فلا يعارض ذلك بما يظن أنه عموم، وإن كان عموماً فهو مخصوص، لأن ذلك لو كان دليلاً لما كان إلا ظنياً فلا يعارض القطعي، إذ الظني لا يعارض القطعي، وذلك أن هذا الخبر[8] رواه غير واحد من الصحابة في أوقات ومجالس، وليس فيهم من ينكره بل كلهم تلقاه بالقبول والتصديق، ولهذا لم يصرّ أحد من أزواجه على طلب الميراث ولا أصرّ العم على طلب الميراث، بل من طلب من ذلك شيئاً فأخبر بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم رجع عن طلبه، واستمر الأمر على ذلك على عهد الخلفاء الراشدين إلى علي، فلم يغير من ذلك شيئاً، ولاقسم له تركة».[9]
وبإجماع الخلفاء الراشدين على ذلك احتج الخليفة العباسي أبو العباس السفاح على بعض مناظريه في هذه المسألة على ما نقل ابن الجوزي في تلبيس إبليس قال: «وقد روينا عن السفاح أنه خطب يوماً فقام رجل من آل علي -رضي الله عنه- قال: أنا من أولاد علي -رضي الله عنه-، فقال: يا أمير المؤمنين أعدني على من ظلمني قال: ومن ظلمك؟ قال: أنا من أولاد علي -رضي الله عنه- والذي ظلمني أبو بكر -رضي الله عنه- حين أخذ فدك من فاطمة، قال: ودام على ظلمكم؟ قال: نعم، قال: ومن قام بعده؟ قال: عمر -رضي الله عنه-، قال: ودام على ظلمكم؟ قال: نعم، قال: ومن قام بعده؟ قال عثمان -رضي الله عنه-، قال: ودام على ظلمكم؟ قال: نعم، قال: ومن قام بعده؟ فجعل يلتفت كذا وكذا ينظر مكاناً يهرب منه...».‎[10]
وبتصويب أبي بكر -رضي الله عنه- في اجتهاده صرح بعض أولاد علي من فاطمة -رضي الله عنهما- على ماروى البيهقي بسنده عن فضيل بن مرزوق قال: قال زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب: (أما لو كنت مكان أبي بكر، لحكمت بما حكم به أبو بكر في فدك).‎[11]
كما نقل القرطبي اتفاق أئمة أهل البيت بدأً بعلي -رضي الله عنه- ومن جاء بعده من أولاده، ثم أولاد العباس الذين كانت بأيديهم صدقة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أنهم ما كانوا يرون تملكها، وإنما كانوا ينفقونها في سبيل الله قال -رحمه الله-: «إن علياً لما ولي الخلافة لم يغيرها عما عمل فيها في عهد أبي بكر، وعمر، وعثمان، ولم يتعرض لتملكها، ولا لقسمة شيء منها، بل كان يصرفها في الوجوه التي كان من قبله يصرفها فيها، ثم كانت بيد حسن بن علي، ثم بيد حسين بن علي، ثم بيد علي بن الحسين، ثم بيد الحسين بن الحسن، ثم بيد زيد بن الحسين، ثم بيد عبدالله بن الحسين، ثم تولاها بنو العباس على ما ذكره أبو بكر البرقاني في صحيحه، وهؤلاء كبراء أهل البيت -رضي الله عنهم- وهم معتمد الشيعة وأئمتهم، لم يُرو عن واحد منهم أنه تملكها ولا ورثها ولا ورثت عنه، فلو كان ما يقوله الشيعة حقاً لأخذها علي أو أحد من أهل بيته لما ظفروا بها ولم فلا».‎[12]
فظهر بهذا إجماع الخلفاء الراشدين، وسائر الصحابة، وأئمة أهل البيت –رضي الله عنهم- أجمعين، على أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يورث، وأن ما تركه صدقة، وعلى ذلك جرى عمل الخلفاء الراشدين وأئمة أهل البيت الذين كانت بأيديهم صدقة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
الوجه الرابع: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما أراد بغضب فاطمة الذي يغضب له هو:أن تغضب بحق، وإلا فالرسول صلى الله عليه وآله وسلم لا يغضب لنفسه، ولأحد من أهل بيته بغير حق، بل ما كان ينتصر لنفسه ولو بحق مالم تنتهك محارم الله، كما جاء في الصحيحين من حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: (ما خير النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما مالم يأثم، فإذا كان الإثم كان أبعدهما منه، والله ما انتقم لنفسه في شيء يؤتى إليه قط، حتى تنتهك حرمات الله فينتقم لله).‎[13]
وفاطمة -رضي الله عنها- على جلالتها، وكمال دينها، وفضلها، هي مع ذلك ليست معصومة، بل قد كانت تصدر منها بعض الأمور التي ماكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقرها عليها، وقد تطلب من النبي صلى الله عليه وآله وسلم الشيء فلا يجيبها له: كسؤالها النبي صلى الله عليه وآله وسلم خادماً فلم يعطها وأرشدها وعلياً للتسبيح كما ثبت في حديث علي -رضي الله عنه- في الصحيحين.‎[14]
وفي سنن أبي داود عن عمر بن عبدالعزيز: إن فاطمة سألت الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أن يجعل لها فدكاً فأبى.‎[15]
وثبت في صحيح مسلم من حديث عائشة -رضي الله عنها- أن فاطمة جاءت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقالت له: إن أزواجك أرسلنني إليك يسألنك العدل في ابنة أبي قحافة، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أي بنية ألست تحبين ما أحب؟ فقالت: بلى، قال: فأحبي هذه...).‎[16]
فلم يجبها النبي صلى الله عليه وآله وسلم لشيء من ذلك، فدل على عدم موافقته لها في كل شيء، بل قد تفعل الأمر مجتهدة فتخطئ فلا يقرها عليه، وبالتالي فأن لا يغضب لغضبها من باب أولى.
وطلبها ميراث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أبي بكر من جنس ذلك، فقد كانت -رضي الله عنها- مجتهدة وكان الحق في ذلك مع أبي بكر للنص الصريح في ذلك، ولموافقة الصحابة له في رأيه، فكان إجماعاً معتضداً بالنص كما تقدم، فأبو بكر في ذلك قائم بالحق متبع للنص مستمسك بعهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في هذه المسألة، فكيف يتصور أن يسخط بفعله هذا رسول الله، وهو إنما يعمل بشرعه، ويهتدي بهديه.
الوجه الخامس: أن قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (فاطمة بضعة مني فمن أغضبها فقد أغضبني)، من نصوص الوعيد المطلق التي لا يستلزم ثبوت موجبها في حق المعنيين، إلا بعد وجود الشروط، وانتفاء الموانع.[17]
هذا مع أن ما في هذا الحديث من الوعيد لو كان لازماً لكل من أغضبها مطلقاً، لكان لازماً لعلي قبل أبي بكر، ولكان لحوقه بعلي أولى من لحوقه بأبي بكر، إذ أن مناسبة هذا الحديث هو خطبة علي -رضي الله عنه- لابنة أبي جهل وشكوى فاطمة له على النبي صلى الله عليه وآله وسلم على ما روى الشيخان من حديث المسور بن مخرمة قال: (إن علياً خطب بنت أبي جهل فسمعت بذلك فاطمة، فأتت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: يزعم قومك أنك لا تغضب لبناتك، وهذا علي ناكح بنت أبي جهل، فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فسمعته حين تشهد يقول: أما بعد أنكحت أبا العاص ابن الربيع فحدثني وصدقني، وإن فاطمة بضعة مني وإني أكره أن يسوءها، والله لا تجتمع بنت رسول الله وبنت عدو الله عند رجل واحد فترك علي الخطبة).‎[18]
وفي رواية: (إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: فاطمة بضعة مني فمن أغضبها أغضبني).‎[19]
فظهر أن مناسبة الحديث هي خطبة علي -رضي الله عنه- لابنة أبي جهل وغضب فاطمة من ذلك، والنص العام يتناول محل السبب، وهو نص فيه باتفاق العلماء، حتى قالوا لا يجوز إخراج السبب بدليل تخصيص، لأن دلالة العام على سببه قطعية وعلى غيره على وجه الظهور[20] وعلى هذا فلو كان هذا الحديث متنزلاً على كل من أغضب فاطمة لكان أول الناس دخولاً في ذلك علياً -رضي الله عنه-.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ضمن رده على في هذه المسألة وبعد أن ذكر الحديث: «فسبب الحديث خطبة علي -رضي الله عنه- لابنة أبي جهل والسبب داخل في اللفظ قطعاً، إذ اللفظ الوارد على سبب لا يجوز إخراج سببه منه، بل السبب يجب دخوله بالاتفاق.
وقد قال في الحديث: (يريبني ما رابها ويؤذيني ما آذاها) ومعلوم قطعاً أن خطبة ابنة أبي جهل عليها رابها وآذاها، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم رابه ذلك وآذاه، فإن كان هذا وعيد لاحقاً لزم أن يلحق هذا الوعيد علي بن أبي طالب، وإن لم يكن وعيداً لاحقاً بفاعله، كان أبو بكر أبعد عن الوعيد من علي».‎[21]
الوجه السادس: أن فاطمة -رضي الله عنها- كانت قد رجعت عن قولها في المطالبة بإرث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كما نص على ذلك غير واحد من الأئمة في الحديث والسير.
قال القاضي عياض: «وفي ترك فاطمة منازعة أبي بكر بعد احتجاجه عليها بالحديث: التسليم للإجماع على قضية، وأنها لما بلغها الحديث وبين لها التأويل، تركت رأيها ثم لم يكن منها ولا من ذريتها بعد ذلك طلب ميراث، ثم ولي علي الخلافة فلم يعدل بها عما فعله أبو بكر، وعمر -رضي الله عنهما-».‎[22]
وقال القرطبي: «فأما طلب فاطمة ميراثها من أبيها من أبي بكر فكان ذلك قبل أن تسمع الحديث الذي دل على خصوصية النبي صلى الله عليه وآله وسلم بذلك، وكانت متمسكة بما في كتاب الله من ذلك، فلما أخبرها أبو بكر بالحديث توقفت عن ذلك ولم تعد إليه».‎[23]
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: «فهذه الأحاديث الثابتة المعروفة عند أهل العلم، وفيها ما يبين أن فاطمة -رضي الله عنها- طلبت ميراثها من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على ما كانت تعرف من المواريث، فأخبرت بما كان من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فسلمت ورجعت».‎[24]
وقال ابن كثير -رحمه الله-: «وقد روينا أن فاطمة -رضي الله عنها- احتجت أولاً بالقياس، وبالعموم في الآية الكريمة، فأجابها الصديق بالنص على الخصوص بالمنع في حق النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأنها سلمت له ما قال، وهذا هو المظنون بها -رضي الله عنها-».‎[25]
فظهر بهذا رجوع فاطمة -رضي الله عنها- إلى قول أبي بكر وما كان عليه عامة الصحابة، وأئمة أهل البيت من القول بعدم إرث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا هو اللائق بمقامها في الدين والعلم -فرضي الله عنها وأرضاها-.
الوجه السابع: أنه ثبت عن فاطمة -رضي الله عنها- أنها رضيت عن أبي بكر بعد ذلك، وماتت وهي راضية عنه، على ماروى البيهقي بسنده عن الشعبي أنه قال: (لما مرضت فاطمة أتاها أبو بكر الصديق فاستأذن عليها، فقال علي: يافاطمة هذا أبو بكر يستأذن عليك؟ فقالت: أتحب أن آذن له؟ قال: نعم، فأذنت له فدخل عليها يترضاها، فقال: والله ما تركت الدار والمال، والأهل والعشيرة، إلا إبتغاء مرضاة الله، ومرضاة رسوله، ومرضاتكم أهل البيت، ثم ترضاها حتى رضيت).‎[26]
قال ابن كثير: «وهذا إسناد جيد قوي والظاهر أن عامر الشعبي سمعه من علي أو ممن سمعه من علي».‎[27]
وقال ابن حجر: «وهو وإن كان مرسلاً فاسناده إلى الشعبي صحيح، وبه يزول الإشكال في جواز تمادي فاطمة عليها السلام على هجر أبي بكر».‎[28]
وقال أيضاً: «فإن ثبت حديث الشعبي أزال الإشكال وأخلق بالأمر أن يكون كذلك، لما علم من وفور عقلها ودينها، عليها السلام».‎
وبهذا تندحض هذه المطاعن على أبي بكر التي يعلقونها على غضب فاطمة عليه، فلئن كانت غضبت على أبي بكر في بداية الأمر فقد رضيت عنه بعد ذلك وماتت عليه، ولا يسع أحد صادق في محبته لها، إلا أن يرضي عمن رضيت عنه، ولا يعارض هذا ما ثبت في حديث عائشة المتقدم (أنها وجدت على أبي بكر فلم تكلمه حتى توفيت) فإن هذا بحسب علم عائشة -رضي الله عنها- راوية الحديث، وفي حديث الشعبي زيادة علم، وثبوت زيارة أبي بكر لها وكلامها له ورضاها عنه، فعائشة -رضي الله عنها- نفت والشعبي أثبت، ومعلوم لدى العلماء أن قول المثبت مقدم على قول النافي، لأن احتمال الثبوت قد حصل بغير علم النافي، خصوصاً في مثل هذه المسألة فإن عيادة أبي بكر لفاطمة -رضي الله عنها- ليست من الأحداث الكبيرة التي تشيع في الناس، ويطلع عليها الجميع، وإنما هي من الأمور العادية التي تخفى على من لم يشهدها، والتي لا يعبأ بنقلها لعدم الحاجة لذكرها.
على أن الذي ذكره العلماء أن فاطمة -رضي الله عنها- لم تتعمد هجر أبي بكر -رضي الله عنه- أصلاً، ومثلها ينزه عن ذلك لنهي النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الهجر فوق ثلاث، وإنما لم تكلمه لعدم الحاجة لذلك.
قال القرطبي في سياق شرحه لحديث عائشة المتقدم: «ثم إنها (أي فاطمة) لم تلتق بأبي بكر لشغلها بمصيبتها برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولملازمتها بيتها فعبر الراوي عن ذلك بالهجران، وإلا فقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ( لايحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث)[29] وهي أعلم الناس بما يحل من ذلك ويحرم، وأبعد الناس عن مخالفة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم) كيف لا يكون كذلك وهي بضعة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسيدة نساء أهل الجنة».[30]
وقال النووي: «وأما ما ذكر من هجران فاطمة أبا بكر -رضي الله عنه- فمعناه انقباضها عن لقائه، وليس هذا من الهجران المحرم، الذي هو ترك السلام والإعراض عند اللقاء، وقوله في هذا الحديث (فلم تكلمه) يعني في هذا الأمر، أو لانقباضها لم تطلب منه حاجة ولا اضطرت
إلى لقائه فتكلمه، ولم ينقل قط أنهما التقيا فلم تسلم عليه ولا كلمته».‎[31]

وبهذا يظهر الحق في هذه المسألة، وتبطل دعوى الطاعن وتندحض شبهته بما تم تقريره من خلال النصوص والأخبار الصحيحة الدالة على براءة الصديق من هذه المطاعن ، وأن ما جرى بين الصديق وفاطمة لايعدو أن يكون اختلافاً في مسألة فقهية ظهر لفاطمة -رضي الله عنها- الحق فيها فرجعت له، وعرف لها الصديق فضلها، فعادها قبل وفاتها واسترضاها فماماتت إلا وهي راضية عنه فرضي الله عنهما جميعاً.
ومن الردود القول أن إرث النبي صلى الله عليه وآله وسلم لو كان له إرث من الذي يرث النبي صلى الله عليه وآله وسلم ؟
يرثه ثلاثة : ترثه فاطمة ويرثه أزواجه ويرثه عمه العباس .
أما فاطمة فلها نصف ما ترك لإنها فرع وارث .. أنثى ..
وأزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم يشتركن في الثُمُن لوجود الفرع الوارث وهي فاطمة ..
والعباس عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم يأخذ الباقي تعصيباً ..
هذا هو إرث النبي صلى الله عليه وآله وسلم , إذا ليست القضية خاصة بفاطمة ولذلك أين العباس لماذا لم يأت ويطالب بإرثه من النبي صلى الله عليه وآله وسلم , أين أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يأتين ويطالبن بإرثهن من النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
فلم يعطها الإرث , قد يقول قائل كيف تحرمونها من الإرث ؟ والله سبحانه وتعالى يقول : { وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ } ويقول عن زكريا عليه الصلاة والسلام أنه قال عن يحى لما طلب الولد قال: { يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ } , وأنتم تقولون ( نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه فهو صدقة ) هذا الحديث يقوله أبو بكر وتلك آية والآية إذا عارضت الحديث فالآية مقدمة على الحديث.
فنقول ليس الأمر كما قلتم لماذا . ولكن نقول إقرأوا الآيات وتدبروها قليلاً لا نريد أكثر من ذلك , الله جل وعلا ماذا يقول عن زكريا ؟ قال { يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ } ما الآيات التي قبلها , يقول الله تبارك وتعالى عن زكريا { كهيعص 1 ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا 2 إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيًّا 3 قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا 4 وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا 5 يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا 6} ..
سياق الآيات هل هي وراثة مال ؟ إقرأوا كتب السيرة ماذا كان حال زكريا .. فقير .. زكريا كان نجاراً كان فقيراً ما هو المال الذي عند زكريا حتى يطلب وارثاً له , ثم هل يعقل أن رجلاً صالحاً يسأل الله الولد ليرث ماله !! أين الصدقة في سبيل الله .. أين البذل ؟ يطلب ولداً ليرث ماله !! لا نقبل هذا لرجل صالح فكيف تقبلونه لنبي كريم !! أن يسأل الله الولد لأي شيء قال : حتى يرث أموالي !! هذا لا يمكن أن نقبله في نبي كريم مثل زكريا عليه الصلاة والسلام , ثم ماذا يقول : { يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ } كم بين يعقوب وزكريا من الآباء والأجداد ؟ مئات السنين عشرات إن لم نقل مئات الآباء بين زكريا ويعقوب , موسى بين زكريا ويعقوب أيوب بين زكريا ويعقوب , داوود وسليمان بين زكريا ويعقوب , يونس بين زكريا ويعقوب , يوسف بين زكريا ويعقوب .. كل أنبياء بني إسرائيل تقريباً بين زكريا ويعقوب زكريا يمثل آخر أنبياء بني إسرائيل زكريا يحى عيسى .. إنتهت النبوة ويعقوب هو إسرائيل , كل أنبياء بني إسرائيل هم بين زكريا ويعقوب ونحن لانتكلم عن جميع الأنبياء نتكلم عن بني إسرائيل أمة كاملة ..
كم سيكون نصيب هذا الولد { يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ } وكم وكم من الذين سيحجبونه عن الميراث , الأولاد الأقرب ..
هذا كلام لا يُعقل .. إذاً ماذا أراد زكريا .. أراد ميراث النبوة هذا الميراث الحقيقي ميراث النبوة .. يرث النبوة .. يرث الدعوة إلى الله تبارك وتعالى يرث العلم , ولذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول ( إن الأنبياء لم يورثوا درهماً ولا ديناراً وإنما ورثوا العلم ) هذا الذي أراده زكريا صلوات الله وسلامه عليه , ومنه ميراث سليمان صلوات الله وسلامه عليه لما قال الله تبارك وتعالى { وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ } ورث ماذا ؟ .. ورث العلم ورث النبوة ورث الحكمة , لم يرث المال لو كان مالاً ما فائدة ذكره .. طبيعي جداً الولد يرث أباه , هذا أمر طبيعي فلماذا يذكر في القرآن ؟ إذاً الذي ذكر في القرآن أمر ذا أهمية عندما يقول الله تبارك وتعالى { وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ } أراد أن ينبه إلى شيء مهم ليس مجرد وراثة مال , ثم كم لداوود من الأبناء إرجعوا إلى سيرة داوود , داوود على المشهور كانت له ثلاثمئة زوجة وسبع مئة سُرّية – يعني أمة - ذكروا لداوود أولاد كثر ألا يرثه إلا سليمان ! صلوات الله وسلامه عليه .. هذا لا يمكن أن يكون أبداً .
ولنفرض أنه ورث طيب ما شأن أبي بكر وعمر وعثمان هل أخذوا هذا المال لهم ؟ , كانوا يعطونه لآل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما كان يفعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما ذنبهم .. ما الخطيئة التي أرتكبوها .. هل أبو بكر إستدخل فدك له , هل إستدخلها عمر .. هل إستدخلها عثمان أبداً لم يستدخلوها , إذاً لماذا يُلامون ؟ ‍‍!
لماذا نزرع الكراهية في قلوب الناس لأبي بكر وعمر وعثمان ؟! ماذا صنعوا بفدك ؟!
خاصة إذا قلنا إن عمر وعثمان عاشا بعد فاطمة زمن الخلافة , فاطمة ماتت بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ورضي عنها بعده بستة أشهر على المشهور .. ما شأن عمر وعثمان بفدك ؟! ..
دعونا نسلم بأن فدك إرث لفاطمة رضي الله عنها .. نصيبها الذي هو النصف إذا ماتت فاطمة من يرث فاطمة ؟ يرثها أولادها وزوجها من أولاد فاطمة ؟ .. اربعة : الحسن والحسين وزينب وأم كلثوم وزوجها علي , أبوها توفي صلى الله عليه وآله وسلم وأمها توفيت وهي خديجة رضي الله عنها , مابقي من الورثة إلا الأولاد والزوج .. الزوج يأخذ الربع لوجود الفرع الوارث فربع الميراث لعلي , وبقية الميراث - ميراث فاطمة – لأولاد فاطمة للذكر مثل حظ الأنثيين ..
طيب علي في خلافته لم يعط فدك لفاطمة ولم يعطها لأولاد فاطمة ..
فإن كان أبو بكر ظالماً وعمر كان ظالماً وعثمان كان ظالماً لفدك فعلي كان ظالماً كذلك , فكلهم لم يعطوا فدك لأهلها .. أبو بكر لم يعطها لأهلها , عمر لم يعطها لأهلها , عثمان لم يعطها لأهلها , علي لم يعطها لأهلها , وإسألوا علمائكم في هذا الأمر هل أعطى علي فدك لأولاد فاطمة ؟ لم يعطهم فدك .
الحسن إستخلف بعد علي هل أعطى فدك لأخيه الحسين ولأخته زينب لم يعطهم , لأن أم كلثوم كانت قد توفيت ..
إذاً لماذا يُلام أبو بكر وعمر وعثمان ولا يُلام علي رضي الله عنه ؟! إما أن يُلام الجميع وإما أن لايُلام أحد ..
ننظر موقف أهل السنة وموقف الشيعة , أهل السنة لا يلومون أحداً , لماذا لا تلومون أحداً .. قالوا لأنها أصلاً ليست ميراثاً لفاطمة ولذلك لا نلوم أحداً .
أما الشيعة فيلومون أبو بكر ويلومون عمر ويلومون عثمان ويلزمهم أن يلوموا علي ولذلك خرجت طائفة من الشيعة يُقال لها الكاملية هذه الطائفة تطعن في علي مع أنها شيعية .. قالوا أبو بكر وعمر وعثمان ظلمة أخذوا الخلافة من علي , وعلي لم يستجب لأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأنه أمره بالخلافة وبايعهم وترك أمر الخلافة فعلي أيضاً مذنب ..
وهذا يلزمهم لأنهم لو فكروا بعقولهم بناءً على الأدلة الباطلة التي إستدلوا بها , إذاً فدك ليست إرثاً لفاطمة رضي الله عنها وأبو بكر خيراً صنع لأنه إتبع النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأنه سمعه يقول : ( نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه فهو صدقة ) .
هناك قول آخر وهو أن فدك هبة وهبها النبي صلى الله عليه وآله وسلم لفاطمة كيف وهبها النبي صلى الله عليه وآله وسلم لفاطمة .. قالوا لما فتح الله تبارك وتعالى فدك على النبي صلى الله عليه وآله وسلم نادى فاطمة وأعطاها إياها .. هل هذا صحيح ؟
قالوا نعم لما نزل { وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ } بعد فتح خيبر ناداها قال هذا حقك خذي حقك وأعطاها النبي صلى الله عليه وآله وسلم لفاطمة رضي الله عنها وأرضاها .. هل هذا الكلام صحيح .. هل يُقبل أصلاً هذا الكلام ..
للنبي صلى الله عليه وآله وسلم سبعة من الولد ثلاثة ذكور وأربعة إناث .. الذكور عبد الله والقاسم وإبراهيم كلهم ماتوا في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهم صغار لا دخل لهم هنا إذاً , بقي للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أربع من البنات أصغرهن فاطمة رضي الله عنها , ثم تأتي بعد فاطمة رقية ثم أم كلثوم ثم زينب وهي الكبيرة هؤلاء هن بنات النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
يقولون النبي صلى الله عليه وآله وسلم أعطى فاطمة فدك ولم يعطي باقي البنات , بنات النبي صلى الله عليه وآله وسلم توفيت رقية بنت النبي صلى الله عليه وآله وسلم في السنة الثانية من الهجرة لما خرج إلى بدر صلى الله عليه وآله وسلم , لكن أم كلثوم وزينب توفيتا بعد ذلك , أم كلثوم توفيت في السنة التاسعة من الهجرة , وزينب توفيت في السنة الثامنة من الهجرة .. خيبر في أول السنة السابعة من الهجرة .. أنظروا كيف يتلاعب الشيطان بالناس , فيكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم فتح الله عليه خيبر له ثلاث بنات أحياء فاطمة وزينب وأم كلثوم .. تصوروا كيف ينسبون إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم كأن النبي يأتي إلى بناته الثلاث ويقول تعالي يا فاطمة هذه فدك لك وأنتما يا أم كلثوم ويا زينب مالكما شيء .. أيجوز أن يُقال هذا في النبي صلى الله عليه وآله وسلم ؟ , إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما جاءه بشير بن سعد والد النعمان بن بشير وقال : يا رسول الله إني أريد أن أنحل إبني هذا حديقة وأريدك أن تشهد على ذلك , والنبي يعلم أن له أولاد آخرون غير هذا الولد , فقال له صلوات الله وسلامه عليه : ( أكل أولادك أعطيت ؟ ) يعني أعطيت بقية أولادك أو أعطيت هذا فقط , قال : لا , فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ( إذهب فإني لا أشهد على جور ) .
والنبي يقول : ( إتقوا الله وأعدلوا بين أولادكم ) ويقول : ( لا أشهد على جور ) الله أكبر ! أنرضى أن هذا النبي الكريم صلى الله عليه وآله وسلم الذي لا يشهد على الجور والذي قول لنا : ( إتقوا الله وأعدلوا بين أولادكم ) أرضى أن يكون هو بذاته صلى الله عليه وآله وسلم الذي يفرق بين أولاده !! الذي لا يشهد على الجور هل يفعل الجور ؟! صلى الله عليه وآله وسلم .. لا يمكن هذا أبداً , إذاً لن يعط النبي صلى الله عليه وآله وسلم فدك لفاطمة دون بناته .
ثم يا عقلاء إن كان النبي أعطاها لفاطمة فجاءت تطالب بماذا إذاً في عهد أبي بكر , إذا أخذتها وأستلمتها تطالب بماذا ؟ هي ملكك تطالبيني بماذا ؟ ! تقول أعطاها النبي في السنة السابعة من الهجرة وتوفي بعد أن أعطاها بأربعة سنوات .. وتأتي في عهد أبي بكر تقول أعطني الذي أعطاني النبي قبل أربع سنين !! أيعقل هذا الكلام .. لا يُعقل هذا أبداً ولا يُقبل مثل هذا الكلام .
بقي شيء واحد يقولون لما غضبت فاطمة إذاً رضي الله عنها وأرضاها .. فاطمة إستدلت بعموم قول الله تبارك وتعالى { يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ } فعلى هذا الأساس جاءت تطالب بإرثها رضي الله عنها فلما قال لها أبو بكر رضي الله عنه ( لا نورث ما تركناه صدقة ) إنتهى الأمر ورجعت , عائشة رضي الله عنها التي تروي هذه القصة وتروي هذا الحديث تقول : فوجدت على أبي بكر أي غضبت أنه لم يعطيها فدك , لكن ليس في الحديث شيء أن فاطمة تكلمت على أبي بكر بشيء وإنما هذا فهم عائشة فهمت أن فاطمة وجدت وتضايقت وأنها لم تكلم أبا بكر , طبيعي جداً أنها لم تكلم أبا بكر لأنها كانت مريضة وما كان أبا بكر يخالطها أصلاَ , ليست إبنته وليست قريبة له , هي إبنة النبي وزوجة علي رضي الله عنه ما شأن أبي بكر بها ؟ ولذلك زارها قبل موتها رضي الله عنها , بل وعلى المشهور أن التي غسلتها والتي كانت تمرضها هي أسماء بنت عميس زوجة أبي بكر الصديق هي التي غسلت فاطمة رضي الله عنها .. فقضية أن فاطمة وجدت على أبي بكر الله أعلم بذلك . هذا فهم عائشة تقول أنها وجدت لكن ليس الحديث نص أن فاطمة تكلمت في أبي بكر أو طعنت فيه أبداً .. سكتت رجعت إلى بيتها بعد أن قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول ( لا نورث ما تركناه فهو صدقة ) .
ردود أخرى...
زعموا أن أبوبكر رضي الله عنه ظالم لفاطمة رضي الله عنها لمنعه إياها مخلف أبيها ، وأنه لا دليل له في الخبر الذي رواه : نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة ؛ لأن فيه احتجاجا بخبر الواحد مع معارضته لآية المواريث ، وفيه ما هو مشهور عند الأصوليين . وزعموا أيضا أن فاطمة معصومة بنص " إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت " . وخبر : " فاطمة بضعة منى " وهو معصوم ، فتكون معصومة ، وحينئذ فيلزم صدق دعواها الإرث .
وجوابها : أما عن الأول ، فهو لم يحكم بخبر الواحد الذي هو محل الخلاف، وإنما حكم بما سمعه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو عنده قطعى فساوى آية المواريث في قطعية المتن ، وأما حمله على ما فهمه منه فلانتفاء الاحتمالات التي يمكن تطرقها إليه عنه بقرينة الحال ، فصار عنده دليلا قطعيا مخصصا لعموم تلك الآيات . وأما عن الثانى ، فمن أهل البيت أزواجه على ما يأتي في فضائل أهل البيت ، ولسن بمعصومات اتفاقا ، فكذلك بقية أهل البيت . وأما بضعة منى : فمجاز قطعا فلم يستلزم عصمتها وأيضا فلا يلزم مساواة البعض للجملة في جميع الأحكام بل الظاهر أن المراد أنها كبضعة منى : فيما يرجع للخير والشفقة ، ودعواها أنه صلى الله عليه وآله وسلم نحلها فدك لم تأت عليها إلا بعلى وأم أيمن ، فلم يكمل نصاب البينة ، على أن في قبول شهادة الزوج لزوجته خلافا بين العلماء ، وعدم حكمه بشاهد ويمين ، إما لعلة كونه ممن لا يراه ككثيرين من العلماء ، أو أنها لم تطلب الحلف مع من شهد لها ، وزعمهم أن الحسن والحسين وأم كلثوم شهدوا لها باطل ، على أن شهادة الفرع والصغير غير مقبولة ، وقد صوب الإمام زيد بن الحسن بن على بن الحسين رضي الله عنهم ما فعله أبو بكر ، وقال : لو كنت مكانه لحكمت بمثل ما حكم به .
وفى رواية تأتى في الباب الثانى أن أبا بكر كان رحيما وكان يكره أن يغير شيئا تركه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ولما قالت : أعطانى فدك ، فقال : هل لك بينة ، فشهد لها على وأم أيمن ، فقال لها : فبرجل وأمرأة تستحقينها . ثم قال زيد : والله ، لو رفع الأمر فيها إلى لقضيت بقضاء أبى بكر رضي الله عنه . وعن أخيه الباقر أنه قيل له : أظلمكم الشيخان من حقكم شيئا ؟ فقال : لا ومنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا ، ما ظلمنا من حقنا ما يزن حبة خردلة .
وأخرج الدارقطنى ، أنه سئل ما كان يعمل على في سهم ذوى القربى ؟ قال: عمل فيه بما عمل أبو بكر وعمر ، وكان يكره أن يخالفهما .
وأما عذر فاطمة في طلبها روايته لها الحديث ، فيحتمل أنه لكونها رأت أن خبر الواحد لا يخصص القرآن كما قيل به . فاتضح عذره في المنع وعذرها في الطلب ، فلا يشكل عليك ذلك ، وتأمله فإنه مهم . ويوضح ما قررناه في هذا المحل حديث البخاري ، فإنه مشتمل على نفائس تزيل ما في نفوس القاصرين من شبه وهو : عن الزهرى ، قال : أخبرني مالك بن أوس بن الحدثان النضرى ، أن عمر بن الخطاب دعاه إذ جاءه حاجبه يرفا فقال : هل لك في عثمان وعبد الرحمن والزبير وسعد يستأذنون ؟ قال : نعم ، فأدخلهم فلبث قليلا ، ثم جاء فقال : هل لك في عباس وعلى يستأذنان ؟ قال : نعم ، فلما دخلا قال عباس : يا أمير المؤمنين ، اقض بينى وبين هذا ، وهما يختصمان في الذي أفاء الله على رسوله من بنى النضير ، فاستب على وعباس ، فقال الرهط : يا أمير المؤمنين اقض بينهما وأرح أحدهما من الآخر . فقال عمر : اتئدوا أنشدكم بالله الذي بإذنه تكون السماء والأرض هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لا نورث ما تركناه صدقة ، يريد بذلك نفسه ، قالوا : قد قال ذلك . فأقبل عمر على على وعباس ، فقال : أنشدكما بالله هل تعلمان أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد قال ذلك ؟ قالا : نعم . قال : فإنى أحدثكم عن هذا الأمر ، إن الله كان خص رسوله في هذا الفيء بشيء لم يعطه أحدا غيره فقال : " وَمَا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ" إلى قوله "قَدِيرٌ"، فكانت هذه خالصة برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم والله ما اختارها دونكم ولا استأثر بها عليكم لقد أعطاكموها ، وقسمها فيكم حتى بقى هذا المال منها ، فكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ينفق على أهله نفقة سنتهم من هذا المال، ثم يأخذ ما بقى فيجعله مجعل مال الله فعمل بذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حياته ، ثم توفى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال أبو بكر رضي الله عنه : فأنا ولى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فقبضه أبو بكر يعمل فيه بما عمل فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنتم حينئذ ، وأقبل على على والعباس وقال: تذكرانى أن أبا بكر كان فيه كما تقولان ، والله يعلم أنه لصادق بار راشد تابع للحق، ثم توفى الله أبا بكر ، فقلت : أنا ولى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبى بكر ، فقبضته سنتين من إمارتى أعمل فيه بما عمل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبو بكر ، والله يعلم أنى فيه لصادق بار راشد تابع للحق ، ثم جئتمانى كلاكما وكلمتكما واحدة وأمركما جميع ، فجئتنى يعنى عباسا ، فقلت لكما إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : لا نورث ما تركناه صدقة، فلما بدا لي أن أدفعه إليكما قلت إن شئتما دفعته إليكما على أن عليكما عهد الله وميثاقه لتعملان فيه بما عمل فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبو بكر وما عملت فيه منذ وليت ، وألا فلا تكلمانى ، فقلتما ادفعه إلينا بذلك ، فدفعته إليكما ، أفتلتمسان منى قضاء غير ذلك ، فوالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض لا أقضى فيه بقضاء غير ذلك حتى تقوم الساعة ، فإن عجزتما عنه فادفعاه إلى فأنا أكفيكماه . قال ، فحدثت هذا الحديث عروة بن الزبير ، فقال : صدق مالك بن أوس أنا سمعت عائشة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم تقول أرسل أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم عثمان إلى أبى بكر يسألنه مما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم فكنت أنا أردهن ، فقلت لهن : ألا تتقين الله ، ألم تعلمن أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول : لا نورث ما تركناه صدقة ، يريد بذلك نفسه ؛ إنما يأكل آل محمد في هذا المال ، فانتهى أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى ما أخبرتهن . قال ، فكانت هذه الصدقة بيد على منعها على عباسا ، فغلبه عليها ، ثم كانت بيد الحسن بن على رضي الله عنهما ، ثم بيد الحسين بن على ، ثم بيد على بن الحسين ، وحسن بن حسن كلاهما كانا يتداولانها ، ثم بيد زيد بن حسن رضي الله عنهم ، وهى صدقة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حقا .
ثم ذكر البخاري بسنده أن فاطمة والعباس أتيا أبا بكر يلتمسان ميراثهما أرضه من فدك وسهمه من خيبر ، فقال أبو بكر : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : لا نورث ما تركناه صدقة إنما يأكل آل محمد في هذا المال ، والله لقرابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحب إلى أن أصل من قرابتى.
فتأمل ما في حديث عائشة والذى قبله تعلم حقيقة ما عليه أبو بكر رضي الله عنه ، وذلك أن استباب على والعباس صريح في أنهما متفقان على أنه غير إرث ، وإلا لكان للعباس سهمه ولعلى سهم زوجته ، ولم يكن للخصام بينهما وجه، فخصامهما إنما هو لكونه صدقة وكل منهما يريد أن يتولاها ، فأصلح بينهما عمر رضي الله عنهم وأعطاه لهما بعد أن بين لهما وللحاضرين السابقين ، وهم من أكابر العشرة المبشرين بالجنة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : لا نورث ما تركناه صدقة ، وكلهم حتى على والعباس أخبر بأنه يعلم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال ذلك ، فحين إذن أثبت عمر أنه غير إرث ثم دفعه إليهما ليعملا فيه بسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبسنة أبى بكر ، فأخذاه على ذلك وبين لهما أن ما فعله أبو بكر فيه كان فيه صادقا باراً راشداً تابعاً للحق ، فصدقاه على ذلك . فهل بقى لمعاند بعد ذلك من شبهة ؟! فإن زعم بقاء شبهة قلنا يلزمك أن تغلب على الجميع وأخذه من العباس ظلم لأنه يلزم على قولكم بالإرث ، أن للعباس فيه حصة ، فكيف مع ذلك ساغ لعلى أن يتغلب على الجميع ويأخذه من العباس ، ثم كان في يد بنيه وبنيهم من بعده ولم يكن منه شئ في يد بنى العباس ، فهل هذا من على وذريته إلا صريح الاعتراف بأنه صدقة ، وليس بإرث ، وإلا لزم عليه عصيان على وبنيه وظلمهم وفسقهم وحاشاهم الله من ذلك بل هم معصومون عند الإمامية ، ونحوهم ، فلا يتصور بهم ذنب ، فإذا استبدوا بذلك جميعه دون العباس وبنيه علمنا أنهم قائلون بأنه صدقة وليس بإرث ، وهذا عين مدعانا ، وتأمل أيضا أن أبا بكر منع أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم من ثمنهن أيضا ، فلم يخص المنع بفاطمة والعباس ولو كان مداره على محاباة لكان أولى محاباة ولده ، فلما لم يحاب عائشة ولم يعطها شيئا علمنا أنه على الحق المر الذي لا يخشى فيه لومة لائم .
وتأمل أيضا تقرير عمر للحاضرين ولعلى وللعباس بحديث لا نورث وتقرير عائشة لأمهات المؤمنين به أيضا وقول كل منهما ألم تعلموا ! يظهر لك من ذلك أن أبا بكر لم ينفرد برواية هذا الحديث ، وأن أمهات المؤمنين وعلياً والعباس وعثمان وعبد الرحمن بن عوف والزبير وسعد كلهم كانوا يعلمون أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال ذلك ، وأن أبا بكر إنما انفرد باستحضاره أولاً ، ثم استحضره الباقون ، وعلموا أنهم سمعوه منه صلى الله عليه وآله وسلم: فالصحابة رضوان الله عليهم لم يعلموا برواية أبى بكر وحدها.
ومن الردود...
إن الحديث عن موقف فاطمة رضي الله عنها من ميراث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يكتنفه شيء من الغموض الناتج عن الاختصار الذي سارت عليه معظم الروايات التي تحدثت عن هذه القضية ، لذا فإن الجمع بين الروايات المتعددة والمتفرقة في بطون الكتب كفيل بتجلية هذا الغموض.

وخلاصة هذا الأمر ما أخرجه البخاري في صحيحه ، أن فاطمة رضي الله عنها (أرسلت إلى أبي بكر تسأله ميراثها من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ... فقال أبو بكر: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : (لا نورث ، ما تركنا صدقة) وإني والله لا أغير شيئاً من صدقة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم التي كانت عليها في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ولأعملن فيها بما عمل فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ... فوجدت فاطمة على أبي بكر في ذلك فهجرته ، فلم تكلمه حتى توفيت).

قلت : وقد يظن بعض القراء أن الزهراء رضي الله عنها لم ترض بحكم الله سبحانه وتعالى في ميراث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ولكن حاشا لفاطمة رضي الله عنها أن تقف هذا الموقف ، وهي من هي ديناً وتقى وورعاً ، غير أن الرواية تحتاج إلى شيء من التفسير حتى تزول هذه الشبهة.

وخلاصة الأمر أن فاطمة رضي الله عنها عتبت على الصديق رضي الله عنه في أمر آخر مختلف تماماً ، إلا وهو أنها رضي الله عنها كانت ترغب أن يكون زوجها علياً رضي الله عنه قيًّماً على صدقة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، كما هو موضح في رواية البيهقي.

ولكن الصديق رضي الله عنه كان يرى أن خليفة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو القيًّم على ميراث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
أما جملة ( فهجرته فلم تكلمه) الواردة في الرواية ، فقد بين الترمذي في سننه ، وعمر بن شبة في تاريخ المدينة ، أن المقصود هو أن فاطمة رضي الله عنها تركت تكليم الصديق رضي الله عنه في أمر الميراث.
أي أنها تركت تكليمه في أن يكون زوجها علياً رضي الله عنه قيًّماً على صدقة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وحرصاً من الصديق رضي الله عنه على تطييب خاطر فاطمة رضي الله عنها فقد عادها في مرضها، وترضاها حتى رضيت رضوان الله عليها ، وهو ما أخرجه البيهقي ( أن أبا بكر عاد فاطمة ، فقال لها علي : هذا أبو بكر يستأذن عليك .
قالت: أتحب أن آذن له ؟
قال : نعم .
فأذنت له ، فدخل عليها فترضاها حتى رضيت).
وهذا الفعل من أبي بكر رضي الله عنه يدل على محبته العظيمة لآل البيت ، كيف لا ، وهو القائل في الرواية التي أخرجها البخاري في صحيحه : ( والذي نفسي بيده ، لقرابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحب إليّ أن أصل من قرابتي).
ولما توفيت فاطمة رضي الله عنه تولت أسماء بنت عميس زوج أبي بكر الصديق رضي الله عنهما تغسيل الزهراء ، كما أن الصديق كان ممن صلى عليها عند وفاتها رضوان الله عليهم أجمعين.[32]
ومن الردود على
ادعاؤهم منع أبي بكر فاطمة ميراثها وقولهم (( ومنع أبو بكر فاطمة إرثها فقالت يا ابن أبي قحافة أترث أباك ولا أرث أبي ؟ والتجأ في ذلك إلى رواية انفرد بها – وكان هو الغريم لها ، لأن الصدقة تحل ّله – لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (( نحن معاشر الأنبياء لا نُورث ، ما تركناه صدقة )) على أن ما رووه عنه فالقرآن يخالف ذلك ، لأن الله تعالى قال:] ُيوصيكمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُم لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَينْ [.ولم يجعل الله ذلك خاصا بالأمة دونه صلى الله عليه وآله وسلم، وكذّب روايتهم فقال تعالى : ] وَوَرِثَ سُلَيْمَانَ دَاوُد [ ، وقال تعالى عن زكريا : ] وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَّدُنْكَ وَلِيًّا . يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوب [.

والجواب من وجوه:
أحدها: أن ما ذكر من قول فاطمة – رضي الله عنها -: أترث أباك ولا أرث أبي؟ لا يُعلم صحته عنها، وإن صحّ فليس فيه حجة، لأن أباها صلوات الله عليه وسلامه لا يُقاس بأحد من البشر، وليس أبو بكر أَوْلى بالمؤمنين من أنفسهم [كأبيها]، ولا هو ممن حرَّم الله عليه صدقة الفرض والتطوع كأبيها، ولا هو أيضاً ممن جعل الله محبته مقدمة على محبة الأهل والمال، كما جعل أباها كذلك.
والفرق بين الأنبياء وغيرهم أن الله تعالى صان الأنبياء عن أن يورِّثوا دنيا، لئلا يكون ذلك شبهة لمن يقدح في نبوتهم بأنهم طلبوا الدنيا وخلَّفوها لورثتهم. وأما أبو الصديق وأمثاله فلا نبوة لهم يُقدح فيها بمثل ذلك، كما صان الله تعالى نبينا عن الخط والشعر صيانة لنبوّته عن الشبهة، وإن كان غيره لم يحتج إلى هذه الصيانة.
الثاني: أن قوله: «والتجأ في ذلك إلى رواية انفرد بها» كذب؛ فإن قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «لا نُورَثُ ما تركنا فهو صدقة» رواه عنه أبو بكر وعمر وعثمان وعليّ وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن بن عوف والعباس بن عبد المطلب وأزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأبو هريرة، والرواية عن هؤلاء ثابتة في الصحاح والمسانيد، مشهورة يعلمها أهل العلم بالحديث، فقول القائل: إن أبا بكر انفرد بالرواية، يدل على فرط جهله أو تعمده الكذب.
الثالث: قوله «وكان هو الغريم [لها]» كذب، فإن أبا بكر – رضي الله عنه – لم يدع هذا المال لنفسه ولا لأهل بيته، وإنما هو صدقة لمستحقها، كما أن المسجد حق للمسلمين. [والعدل] لو شهد على رجل أنه وصَّى بجعل بيته مسجداً، أو بجعل بئره مسبلة، أو أرضه مقبرة، ونحو ذلك، جازت شهادته باتفاق المسلمين، وإن كان هو ممن يجوز له أن يصلي في المسجد، ويشرب من تلك البئر، ويدفن في تلك المقبرة. فإن هذا شهادة لجهة عامة غير محصورة، والشاهد دخل فيها بحكم العموم لا بحكم التعيين، ومثل هذا لا يكون خصماً.
ومثل هذا شهادة المسلم بحق لبيت المال مثل كون هذا الشخص لبيت المال عنده حق، وشهادته بأن هذا ليس له وارث إلا بيت المال، وشهادته على الذميّ بما يوجب نقض عهده وكون ماله فيئاً لبيت المال، ونحو ذلك.
ولو شهد عدل بأن فلاناً وقّف ماله على الفقراء والمساكين قُبلت شهادته، وإن كان [الشاهد] فقيراً.
الرابع: أن الصديق – رضي الله عنه – لم يكن من أهل هذه الصدقة، بل كان مستغنياً عنها، ولا انتفع هو ولا أحد من أهله بهذه الصدقة؛ فهو كما لو شهد قوم من الأغنياء على رجل أنه وصَّى بصدقة للفقراء؛ فإن هذه شهادة مقبولة بالاتفاق.
الخامس: أن هذا لو كان فيه ما يعود نفعه على الراوي له من الصحابة لقُبلت روايته لأنه من باب الرواية لا من باب الشهادة، والمحدِّث إذا حدَّث بحديث في حكومة بينه وبين خصمه قُبلت روايته للحديث، لأن الرواية تتضمن حكماً عاماً يدخل فيه الراوي وغيره. وهذا من باب الخير، كالشهادة برؤية الهلال؛ فإن ما أمر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتناول الراوي وغيره، وكذلك ما نهى عنه، وكذلك ما أباحه.
وهذا الحديث تضمَّن رواية بحكم شرعي، ولهذا تضمن تحريم الميراث على ابنة أبي بكر عائشة – رضي الله عنها -، وتضمن تحريم شرائه لهذا الميراث من الورثة واتِّهابه لذلك منهم، وتضمن وجوب صرف هذا المال في مصارف الصدقة.
السادس: أن قوله: «علي أن ما رووه فالقرآن يخالف ذلك، لأن الله تعالى قال: }يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ{ [سورة النساء: 11] ولم يجعل الله ذلك خاصًّا بالأُمَّة دونه صلى الله عليه وآله وسلم.
فيقال: أولاً : ليس في عموم لفظ الآية [ما يقتضي] أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يورث، فإن الله تعالى قال: }يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ{ [سورة النساء: 11]، وفي الآية الأخرى: }وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّهُنَّ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ{ إلى قوله: }مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَآ أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَآرٍّ{ [سورة النساء: 12]، وهذا الخطاب شامل للمقصودين بالخطاب وليس فيه ما يوجب أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مخاطب بها.
و«كاف» الخطاب يتناول من قصده المخاطب، فإن لم يعلم أن المعين مقصود بالخطاب لم يشمله اللفظ، حتى ذهبت طائفة من الناس إلى أن الضمائر مطلقاً لا تقبل التخصيص [فكيف بضمير المخاطب؟] فإنه لا يتناول إلا من قُصد بالخطاب دون من لم يُقصد. ولو قُدِّر أنه عام يقبل التخصيص، فإنه عام للمقصودين بالخطاب، وليس فيها ما يقتضي كون النبي صلى الله عليه وآله وسلم من المخاطبين بهذا.
فإن قيل: هب أن [الضمائر] ضمائر التكلم والخطاب والغيبة لا تدل بنفسها على شيء بعينه، لكن بحسب ما يقترن بها؛ فضمائر الخطاب موضوعة لمن يقصده المخاطِب بالخطاب، وضمائر التكلم لمن يتكلم كائناً من كان. لكن قد عرف أن الخطاب بالقرآن هو للرسول صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين جميعاً، كقوله تعالى: }كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ{ [سورة البقرة: 183] وقوله: }إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ{ [سورة المائدة: 6] ونحو ذلك. وكذلك قوله تعالى: }يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ{ [سورة النساء: 11].
قيل: بل «كاف» الجماعة في القرآن تارة تكون للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين، وتارة تكون لهم دونه. كقوله تعالى: }وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ{ [سورة الحجرات: 7]؛ فإن هذه «الكاف» للأمة دون النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وكذلك قوله تعالى: }لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ{ [سورة التوبة: 128].
وكذلك قوله تعالى: }أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ{ [سورة محمد:33]
وقوله تعالى: }كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ{ [سورة آل عمران: 31]
ونحو ذلك؛ فإن كان الخطاب في هذه المواضع لم يدخل فيها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، بل تناولت من أُرسل إليهم. فلم لا يجوز أن تكون الكاف في قوله تعالى: }يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ{ [سورة النساء: 11] مثل هذه الكافات، فلا يكون في السنة ما يخالف ظاهر القرآن.
ومثل هذه الآية قوله تعالى: }وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ * وَآتُواْ النَّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيئًا{ [سورة النساء: 3 – 4]، فإن الضمير هنا في «خفتم» و«تقسطوا» و«انكحوا» و«طاب لكم» و«ما ملكت أيمانكم» إنما يتناول الأمة دون نبيها صلى الله عليه وآله وسلم، فإن [النبي صلى الله عليه وآله وسلم] له أن يتزوج أكثر من أربع، وله أن يتزوج بلا مهر، كما ثبت ذلك بالنص والإجماع.
فإن قيل: ما ذكرتموه من الأمثلة فيها ما يقتضي اختصاص الأمة، فإنه لما ذكر ما يجب من طاعة الرسول وخاطبهم بطاعته ومحبته، وذكر بعثه إليهم، عُلم أنه ليس داخلاً في ذلك.
قيل: وكذلك آية الفرائض لما قال: }آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً{ [سورة النساء: 11]، وقال: }مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ{ [سورة النساء: 11]، ثم قال: }تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ{ [سورة النساء: 13- 14]، فلما خاطبهم بعدم الدراية التي لا تناسب حال الرسول، وذكر بعد هذا ما يجب عليهم من طاعته فيما ذكره من مقادير الفرائض، وأنهم إن أطاعوا الله ورسوله في هذه الحدود استحقوا الثواب، وإن خالفوا الله والرسول استحقُّوا العقاب، وذلك بأن يعطوا الوارث أكثر من حقه، أو يمنعوا الوارث ما يستحقه – دلّ ذلك على أن المخاطبين المسلوبين الدراية [لما ذكر]، الموعودين على طاعة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، المتوعدين على معصية الله ورسوله وتعدّى حدوده فيما قدره من المواريث وغير ذلك، لم يدخل فيهم الرسول صلوات الله وسلامه عليه، كما لم يدخل في نظائرها.
ولما كان ما ذكره من تحريم تعدّى الحدود عقب ذكر الفرائض المحدودة، دلّ على أنه لا يجوز أن يزاد أحد من أهل الفرائض على ما قُدِّر له، ودلّ على أنه لا تجوز الوصية لهم، وكان هذا ناسخاً لما أُمر به أولاً من الوصية للوالدين والأقربين.
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم عام حجة الوداع: «إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث» رواه أهل السنن كأبي داود وغيره، [ورواه أهل السير]، واتفقت الأمة عليه، حتى ظن بعض الناس أن آية الوصية إنما نُسخت بهذا الخبر، لأنه لم ير بين استحقاق الإرث وبين استحقاق الوصية منافاة، والنسخ لا يكون إلا مع تنافي الناسخ والمنسوخ.
وأما السلف والجمهور فقالوا: الناسخ هو آية الفرائض، لأن الله تعالى قدَّر فرائض محدودة، ومنع من تعدّي حدوده، فإذا أعطى الميت لوارثه أكثر مما حدَّه الله له، فقد تعدّى حدّ الله، فكان ذلك محرّماً، فإن ما زاد على المحدود يستحقه غيره من الورثة أو العصبة، فإذا أخذ حق العاصب فأعطاه لهذا كان ظالماً له.
ولهذا تنازع العلماء فيمن ليس له عاصب: هل يردّ عليه أم لا؟ فمن منع الردّ قال: الميراث حق لبيت المال، فلا يجوز أن يعطاه غيره. ومن جوَّز الرد قال: إنما يوضع المال في بيت المال، لكونه ليس له مستحق خاص، وهؤلاء لهم رحم عام ورحم خاص، كما قال ابن مسعود – رضي الله عنه -: «ذو السهم أَوْلى ممن لا سهم له».
والمقصود هنا أنه لا يمكنهم إقامة دليل على شمول الآية للرسول صلى الله عليه وآله وسلم أصلاً.
فإن قيل: فلو مات أحد من أولاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ورثه، كما ماتت بناته الثلاث في حياته، ومات ابنه إبراهيم؟
قيل: الخطاب في الآية للموروث دون الوارث، فلا يلزم إذا دخل أولاده في كاف الخطاب لكونهم موروثين أن يدخلوا إذا كانوا وارثين.
يوضح ذلك أنه قال: }وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ{ [سورة النساء: 11]، فذكره بضمير الغَيْبة لا بضمير الخطاب، وهو عائد على المخاطب بكاف الخطاب وهو الموروث، فكل من سوى النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أولاده وغيرهم موروثون شملهم النص وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم وراثاً لمن خوطب، ولم يخاطب هو بأن يورث أحداً شيئاً، وأولاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ممن شملهم كاف الخطاب فوصَّاهم بأولادهم للذكر مثل حظ الأنثيين، ففاطمة – رضي الله عنها - وصَّاها الله في أولادها للذكر مثل حظ الأنثيين، ولأبويها لو ماتت في حياتهما لكل واحد منهما السدس.
فإن قيل: ففي آية الزوجين قال: (ولكم)، (ولهن).
قيل: أولاً: هؤلاء يقولون: إن زوجاته لم يرثنه ولا عمه العباس، وإنما ورثته البنت وحدها.
الثاني: أنه بعد نزول الآية لم يُعلم أنه ماتت واحدة من أزواجه ولها مال حتى يكون وارثاً لها. وأما خديجة – رضي الله عنها – فماتت بمكة، وأما زينب بنت خزيمة الهلالية فماتت بالمدينة، لكن من أين نعلم أنها خلَّفت مالاً، وأن آية الفرائض كانت قد نزلت. فإن قوله تعالى: }وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ{ [سورة النساء: 12] إنما تناول من ماتت له زوجة ولها تركة، فمن لم تمت زوجته أو ماتت ولا مال لها لم يخاطب بهذه الكاف.
وبتقدير ذلك فلا يلزم من شمول إحدى الكافين له شمول الأخرى، بل ذلك موقوف على الدليل.
فإن قيل: فأنتم تقولون: إن ما ثبت في حقه من الأحكام ثبت في حق أمته وبالعكس. فإن الله إذا أمره بأمر تناول الأمة، وإن ذلك قد عرف بعادة الشرع. ولهذا قال تعالى: }فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا{ [سورة الأحزاب: 37]، فذكر أنه أحل ذلك له، ليكون حلالاً لأمته. ولما خصّه بالتحليل قال: }وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ{ [سورة الأحزاب: 50] فكيف يقال إن هذه الكاف لم تتناوله؟
قيل: من المعلوم أن من قال ذلك قاله لما عرف من عادة الشارع في خطابه، كما يعرف من عادة الملوك إذا خاطبوا أميراً بأمر أن نظيره مخاطَب بمثل ذلك، فهذا يُعلم بالعادة والعرف المستقر في خطاب المخاطب، كما يُعلم معاني الألفاظ بالعادة المستقرة لأهل تلك اللغة: أنهم يريدون ذلك المعنى.
وإذا كان كذلك فالخطاب بصيغة الجمع قد تنوعت عادة القرآن فيها: تارة تتناول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وتارة لا تتناوله، فلا يجب أن يكون هذا الموضع مما تناوله، وغاية ما يدّعي المدّعي أن يقال: الأصل شمول الكاف له، كما يقول: الأصل مساواة أمته له في الأحكام، ومساواته لأمته في الأحكام، حتى يقوم دليل التخصيص. ومعلوم أن له خصائص كثيرة خُصَّ بها عن أمته. وأهل السنة يقولون: من خصائصه أنه لا يورث، فلا يجوز أن يُنكر اختصاصه بهذا الحكم إلا كما ينكر اختصاصه بسائر الخصائص، لكن للإنسان أن يطالب بدليل الاختصاص. ومعلوم أن الأحاديث الصحيحة المستفيضة، بل المتواترة [عنه] في أنه لا يورث، أعظم من الأحاديث المروية في كثير من خصائصه، مثل اختصاصه بالفيء وغيره.
وقد تنازع السلف والخلف في كثير من الأحكام: هل هو من خصائصه؟ كتنازعهم في الفيء والخمس، هل كان ملكاً له أم لا؟ وهل أُبيح له من حُرِّم عليه من النساء أم لا؟
ولم يتنازع السلف في أنه لا يُورث، لظهور ذلك عنه واستفاضته في أصحابه. وذلك أن الله تعالى قال في كتابه: }يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ{ [سورة الأنفال: 1]، وقال في [كتابه]: }وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ{ [سورة الأنفال: 41]، وقال في كتابه: }مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ{ [سورة الحشر: 7]. ولفظ آية الفيء كلفظ آية الخمس، وسورة الأنفال نزلت بسبب بدر، فدخلت الغنائم في ذلك بلا ريب، وقد يدخل في ذلك سائر ما نفله الله للمسلمين من مال الكفار. كما أن لفظ «الفيء» قد يُراد به كل ما أفاء الله على المسلمين، فيدخل فيه الغنائم، وقد يختص ذلك بما أفاء الله عليهم مما لم يُوجف عليه المسلمون بخيل ولا ركاب.
ومن الأول قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «ليس لي مما أفاء الله عليكم إلا الخُمُس، والخمس مردود عليكم». فلما أضاف هذه الأموال إلى الله والرسول رأى طائفة من العلماء أن [هذه] الإضافة تقتضي أن ذلك ملك للرسول صلى الله عليه وآله وسلم كسائر أملاك الناس، ثم جعلت الغنائم بعد ذلك للغانمين، وخُمُسها لمن سمى، وبقي الفيء، أو أربعة أخماسه، ملكاً للرسول صلى الله عليه وآله وسلم، كما يقول ذلك الشافعي، وطائفة من أصحاب أحمد، وإنما ترددوا في الفيء، فإن عامة العلماء لا يخمِّسون الفيء، وإنما قال بتخميسه الشافعي وطائفة من أصحاب أحمد كالخرقي. وأما مالك وأبو حنيفة وأحمد وجمهور أصحابه وسائر أئمة المسلمين فلا يرون تخميس الفيء، وهو ما أُخذ من المشركين بغير قتال، كالجزية والخراج.
وقالت طائفة ثانية من العلماء: بل هذه الإضافة لا تقتضي أن تكون الأموال ملكاً للرسول، بل تقتضي أن يكون أمرها إلى الله والرسول، فالرسول ينفقها فيما أمره الله [به].
كما ثبت في صحيح البخاري عن أبي هريرة – رضي الله عنه – عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «إني والله لا أُعطي أحداً ولا أمنع أحداً، وإنما أنا قاسم أضع حيث أمرت».
وقال أيضاً في الحديث الصحيح: «تسُّموا باسمي، ولا تكنوا بكنيتي، فإنما أنا قاسم أُقسم بينكم».
فالرسول مبلِّغ عن الله أمره ونهيه، فالمال المضاف إلى الله ورسوله، هو المال الذي يُصرف فيما أمر الله به ورسوله من واجب ومستحب، بخلاف الأموال التي ملَّكها الله لعباده، فإن لهم صرفها في المباحات.
ولهذا لما قال الله في المكاتبين:}وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ{ [سورة النور:33] ذهب أكثر العلماء، كمالك وأبي حنيفة وغيرهما، إلى أن المراد: آتاكم [الله] من الأموال التي ملَّكها الله لعباده، فإنه لم يضفها إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، بخلاف ما أضافه إلى الله والرسول، فإنه لا يُعطي إلا فيما أمر الله به ورسوله.
فالأنفال لله والرسول، لأن قسمتها إلى الله والرسول ليست كالمواريث التي قسمها الله بين المستحقين. وكذلك مال الخُمس ومال الفيء.
وقد تنازع العلماء في الخمس والفيء، فقال مالك [وغيره من العلماء]: مصرفهما واحد، وهو فيما أمر الله به ورسوله، وعيَّن ما عيَّنه من اليتامى والمساكين وابن السبيل تخصيصاً لهم بالذكر. وقد رُوي عن أحمد بن حنبل ما يوافق ذلك، وأنه جعل مصرف الخُمس من الركاز مصرف الفيء، وهو تبع لخمس الغنائم. وقال الشافعي، وأحمد في الرواية المشهورة: الخمس يقسم على خمسة أقسام. وقال أبو حنيفة: على ثلاثة، فأسقط سهم الرسول وذوي القربى بموته صلى الله عليه وآله وسلم. وقال داود بن على: بل مال الفيء [أيضاً] يُقسَّم [على خمسة أقسام]. والقول الأول أصح [الأقوال] كما قد بُسطت أدلته في غير هذا الموضع، وعلى ذلك تدل سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وسنة خلفائه الراشدين.
فقوله: (لله وللرسول) في الخمس والفيء، كقوله في الأنفال: (لله والرسول) فالإضافة للرسول لأنه هو الذي يقسِّم هذه الأموال بأمر الله، ليست ملكاً لأحد. وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «إني والله لا أعطي أحداً ولا أمنع أحداً، وإنما أنا قاسم أضع حيث أُمرت» يدل على أنه ليس بمالك للأموال، وإنما هو منفذ لأمر الله عز وجل فيها، وذلك لأن الله خيَّره بين أن يكون ملكاً نبيًّا وبين أن يكون عبداً رسولاً، فاختار أن يكون عبداً رسولاً، وهذا أعلى المنزلتين، فالملك يصرف المال فيما أحب ولا إثم عليه، والعبد الرسول لا يصرف المال إلا فيما أُمر به، فيكون فيما يفعله عبادة لله وطاعة له، ليس في قسمه ما هو من المباح الذي لا يُثاب عليه، بل يُثاب عليه كله.
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «ليس لي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس، والخمس مردود عليكم» يؤيد ذلك، فإن قوله: «لي» أي أمره إليّ، ولهذا قال: «والخمس مردود عليكم». وعلى هذا الأصل فما كان بيده من أموال بني النضير وفَدَك وخُمس خيبر وغير ذلك، هي كلها من مال الفيء الذي لم يكن يملكه فلا يورث عنه، وإنما يورث عنه ما يملكه.
بل تلك الأموال يجب أن تُصرف فيما يحبه الله ورسوله من الأعمال. وكذلك قال [أبو بكر] الصديق – رضي الله عنه -. وأما ما قد يظن أن مَلَكَه، كمال أوصى له به [مخيريق] وسهمه من خيبر، فهذا إما أن يُقال: حُكمه حكم المال الأول، وإما أن يُقال: هو ملكه، ولكن حكم الله في حقه أن يأخذ من المال حاجته، وما زاد على ذلك يكون صدقة ولا يُورث.
كما في الحديث الصحيح عن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لا يقتسم ورثتي ديناراً ولا درهماً، ما تركت بعد نفقة نسائي ومؤنة عاملي فهو صدقة». وفي الصحيحين عن أبي هريرة – رضي الله عنه – عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لا نورث، ما تركناه فهو صدقة» أخرجه البخاري عن جماعة منهم أبو هريرة – رضي الله عنه-، ورواه مسلم عنه وعن غيره.
يبيِّن ذلك أن هذا مذكور في سياق قوله تعالى: }وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ * وَآتُواْ النَّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيئًا{ [ سورة النساء: 3، 4] إلى قوله: }يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ{ [ سورة النساء: 11].
ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يخاطب بهذا، فإنه ليس مخصوصاً بمثنى ولا ثلاث ولا رباع، بل له أن يتزوج أكثر من ذلك، ولا مأموراً بأن يوفِّي كل امرأة صداقها، بل له أن يتزوج من تهب نفسها له بغير صداق. كما قال تعالى: }يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَيْكَ{ [سورة الأحزاب: 50] إلى قوله: }وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلاَ يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا{ [سورة الأحزاب: 50].
وإذا كان سياق الكلام إنما هو خطاب للأمة دونه لم يدخل هو في عموم هذه الآية.
فإن قيل: بل الخطاب متناول له وللأمة في عموم هذه الآية، لكن خُصَّ هو من آية النكاح والصداق.
قيل: وكذلك خص من آية الميراث، فما قيل في تلك يقال مثله في هذه وسواء قيل: إن لفظ الآية شمله وخُصَّ منه، أو قيل: إنه لم يشمله لكونه ليس من المخاطبين: يقال مثله هنا.
السابع: أن يقال: هذه الآية لم يُقصد بها بيان من يورث [ومن لا يورث]، ولا بيان صفة الموروث والوارث، وإنما قُصد بها أن المال الموروث يقسم بين الوارثين على هذا التفصيل. فالمقصود هنا بيان مقدار أنصبة هؤلاء المذكورين إذا كانوا ورثة. ولهذا لو كان الميت مسلماً وهؤلاء كفّاراً لم يرثوا باتفاق المسلمين، وكذلك لو كان كافراً وهؤلاء مسلمين لم يرثوا بالسنة وقول جماهير المسلمين، وكذلك لو كان عبداً وهم أحرار، أو كان حرًّا وهم عبيد. وكذلك القاتل عمداً عند عامة المسلمين، وكذلك القاتل خطأ من الدية. وفي غيرها نزاع.
وإذا علم أن في الموتى من يرثه أولاده، وفيهم من لا يرثه أولاده، والآية لم تفصِّل: من يرثه ورثته ومن لا يرثه، ولا صفة الوارث والموروث، عُلم أنه لم يُقصد بها بيان ذلك، بل قُصد بها بيان حقوق هؤلاء إذا كانوا ورثة.
وحينئذ فالآية إذا لم تبيِّن من يورث ومن يرثه، لم يكن فيها دلالة على كون [غير] النبي صلى الله عليه وآله وسلم يرث أو لا يورث، فلأن لا يكون فيها دلالة على كونه هو يورث بطريق الأَوْلَى والأحرى.
وهكذا كما في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «فيما سقت السماء العُشر، فيما سُقِيَ بالدوالي والنواضح فنصف العُشر» فإن قصد به الفرق بين ما يجب فيه العشر وبين ما يجب فيه نصف العشر، ولم يقصد به بيان ما يجب فيه أحدهما وما لا يجب واحد منهما، فلهذا لا يحتج بعمومه على وجوب الصدقة في الخضروات.
وقوله تعالى: }وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا{ [سورة البقرة: 275] قصد فيه الفرق بين البيع والربا: في أن أحدهما حلال والآخر حرام، ولم يقصد فيه بيان ما يجوز بيعه وما لا يجوز، فلا يُحتج بعمومه على جواز بيع كل شيء. ومن ظن أن قوله: }وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ{ يعم بيع الميتة والخنزير والخمر والكلب وأم الولد والوقف وملك الغير والثمار قبل بدو صلاحها ونحو ذلك – كان غالطاً.
الوجه الثامن: أن يقال: هب أن لفظ الآية عام، فإنه خصَّ منها الولد الكافر والعبد والقاتل بأدلة هي أضعف من الدليل الذي دلّ على خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم منها؛ فإن الصحابة الذين نقلوا عنه أنه لا يورث أكثر وأجل من الذين نقلوا عنه أن المسلم لا يرث الكافر، وأنه ليس لقاتل ميراث، وأن من باع عبداً وله مال فماله للبائع إلا أن يشترطه المبتاع.
وفي الجملة فإذا كانت الآية مخصوصة بنص أو إجماع، كان تخصيصها بنص آخر جائزاً باتفاق علماء المسلمين. بل قد ذهب طائفة إلى أن العام المخصوص يبقى مجملاً. وقد تنازع العلماء في تخصيص عموم القرآن إذا لم يكن مخصوصاً [بخبر الواحد]، فأما العام المخصوص فيجوز تخصيصه بخبر الواحد عند عوامهم، لاسيما الخبر المتلقى بالقبول؛ فإنهم متفقون على تخصيص عموم القرآن به.
وهذا الخبر تلقته الصحابة بالقبول، وأجمعوا على العمل به، كما سنذكره [إن شاء الله تعالى].
والتخصيص بالنص المستفيض والإجماع متفق عليه. ومن سلك هذا المسلك يقول: ظاهر الآية العموم، لكنه عموم مخصوص. ومن سلك المسلك الأول لم يسلم ظهور العموم إلا فيمن عُلم أن هؤلاء يرثونه، ولا يُقال: إن ظاهرها متروك، بل نقول: لم يُقصد بها إلا بيان نصيب الوارث، لا بيان الحال التي يثبت فيها الإرث، فالآية عامة في الأولاد والموتى، مطلقة في [الموروثين. وأما] شروط الإرث فلم تتعرض له الآية، بل هي مطلقة فيه: لا تدل عليه بنفي ولا إثبات.
كما في قوله تعالى:}فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ{ [سورة التوبة: 5] عام في الأشخاص، مطلق في المكان والأحوال. فالخطاب المقيِّد لهذا المطلق يكون خطاباً مبتدأً مبيِّناً لحكم شرعي لم يتقدم ما ينافيه، لا يكون رافعاً لظاهر خطاب شرعي، فلا يكون مخالفاً للأصل.
الوجه التاسع: أن يقال: كون النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يُورث ثبت بالسنة المقطوع بها وبإجماع الصحابة، وكل منهما دليل قطعي، فلا يُعارض ذلك بما يُظن أنه عموم، وإن كان عموماً فهو مخصوص، لأن ذلك لو كان دليلاً لما كان إلا ظنياً، فلا يعارض القطعي؛ إذ الظني لا يعارض القطعي.
وذلك أن هذا الخبر رواه غير واحد من الصحابة في أوقات ومجالس، وليس فيهم من ينكره، بل كلهم تلقَّاه بالقبول والتصديق. ولهذا لم يُصرّ أحد من أزواجه على طلب الميراث، ولا أصرّ العم على طلب الميراث، بل من طلب من ذلك شيئاً فأُخبر بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم رجع عن طلبه. واستمر الأمر على ذلك على عهد الخلفاء الراشدين إلى عليّ، فلم يغير شيئاً من ذلك ولا قسم له تركة.
الوجه العاشر: أن يقال: إن أبا بكر وعمر قد أعطيا عليًّا وأولاده من المال أضعاف، أضعاف ما خلَّفه النبي صلى الله عليه وآله وسلم من المال. والمال الذي خلّفه صلى الله عليه وآله وسلم لم ينتفع واحد [منهما] منه بشيء، بل سلَّمه عمر إلى عليّ والعباس – رضي الله عنهم يليانه ويفعلان فيه ما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يفعله. وهذا مما يوجب انتفاء التهمة عنهما في ذلك.
الوجه الحادي عشر: أن يقال: قد جرت العادة بأن الظلمة من الملوك إذا تولوا بعد غيرهم من الملوك الذين أحسنوا إليهم أو ربُّوهم، وقد انتزعوا الملك من بيت ذلك الملك، استعطفوهم وأعطوهم ليكفُّوا عنهم منازعتهم، فلو قُدِّر – والعياذ بالله – أن أبا بكر وعمر – رضي الله عنهما – متغلبان متوثِّبان، لكانت العادة تقضي بأن لا يزاحما الورثة المستحقين للولاية والتركة [في المال]، بل يعطيانهم ذلك وأضعافه ليكفوا عن المنازعة في الولاية. وأما منع الولاية والميراث بالكلية فهذا لا يُعلم أنه فعله أحد من الملوك، وإن كان من أظلم الناس وأفجرهم. فعُلم أن الذي فعلوه مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر خارج عن العادة الطبيعية في الملوك، كما هو خارج عن العادات الشرعية في المؤمنين، وذلك لاختصاصه صلى الله عليه وآله وسلم بما لم يخص الله به غيره من ولاة الأمور وهو النبوة، إذ الأنبياء لا يورثون.
الوجه الثاني عشر: أن قوله تعالى: }وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ{ [سورة النمل: 16]، وقوله تعالى [عن زكريا]: }فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ{ [سورة مريم: 5، 6] لا يدل على محل النزاع؛ لأن الإرث اسم جنس تحته أنواع، والدال على ما به الاشتراك لا يدل على ما به الامتياز. فإذا قيل: هذا حيوان، لا يدل على أنه إنسان أو فرس أو بعير.
وذلك أن لفظ «الإرث» يُستعمل في إرث العلم والنبوة والملك وغير ذلك من أنواع الانتقال، قال تعالى: }ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا{ [سورة فاطر: 32].
وقال تعالى: }أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ{ [سورة المؤمنون: 10، 11].
وقال تعالى: }وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ{ [الزخرف: 72].
وقال تعالى: }وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَّمْ تَطَؤُوهَا{ [سورة الأحزاب: 27].
وقال تعالى: }إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ{ [سورة الأعراف: 128].
وقال تعالى: }وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا{ [سورة الأعراف: 137].
وقال تعالى: }وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ{ [سورة الأنبياء: 105].
وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهما، وإنما ورّثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر» رواه أبو داود وغيره.
وهكذا لفظ «الخلافة» ولهذا يقال: الوارث خليفة الميت، أي خلفه فيما تركه. والخلافة قد تكون في المال، وقد تكون في الملك، وقد تكون في العلم، وغير ذلك.
وإذا كان كذلك فقوله تعالى: }وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ{ [سورة النمل: 16]، وقوله: }يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ{ [سورة مريم: 6] إنما يدل على جنس الإرث، لا يدل على إرث المال. فاستدلال المستدل بهذا الكلام على خصوص إرث المال جهل منه بوجه الدلالة، كما لو قيل: هذا خليفة هذا، وقد خلفه – كان دالاً على خلافة مطلقة، لم يكن فيها ما يدل على أنه خلفه في ماله أو امرأته أو ملكه أو غير ذلك من الأمور.
الوجه الثالث عشر: أن يقال: المراد بهذا الإرث إرث العلم والنبوة ونحو ذلك لا إرث المال. وذلك لأنه قال: }وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ{ [سورة النمل: 16]، ومعلوم أن داود كان له أولاد كثيرون غير سليمان، فلا يختص سليمان بماله.
وأيضاً فليس في كونه ورث ماله صفة مدح، لا لداود ولا لسليمان، فإن اليهودي والنصراني يرث أباه ماله، والآية سيقت في بيان المدح لسليمان، وما خصّه الله به من النعمة.
وأيضاً فإرث المال هو من الأمور العادية المشتركة بين الناس، كالأكل، والشرب، ودفن الميت. ومثل هذا لا يُقصُّ عن الأنبياء إذ لا فائدة فيه، وإنما يُقص ما فيه عبرة وفائدة تُستفاد، وإلا فقول القائل: «مات فلان وورث ابنُه ماله» مثل قوله: «ودفنوه» ومثل قوله: «أكلوا وشربوا وناموا» ونحو ذلك مما لا يحسن أن يُجعل من قصص القرآن.
وكذلك قوله [عن زكريا]: }يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ{ [سورة مريم: 6] [ليس المراد به إرث المال؛ لأنه لا يرث من آل يعقوب شيئاً من] أموالهم بل إنما يرثهم ذلك أولادهم وسائر ورثتهم لو ورثوا، ولأن النبي لا يطلب ولداً ليرث ماله؛ فإنه لو كان يورث لم يكن بد من أن ينتقل المال إلى غيره: سواء كان ابناً أو غيره، فلو كان مقصوده بالولد أن يرث ماله، كان مقصوده أنه لا يرثه أحد غير الولد.
وهذا لا يقصده أعظم الناس بخلاً وشحًّا على من ينتقل إليه المال، فإنه لو كان الولد موجوداً وقصد إعطاء الولد وأما إذا لم يكن له ولد، وليس مراده بالولد إلا أن يحوز المال دون غيره، كان المقصود أن لا يأخذ أولئك المال، وقصد الولد بالقصد الثاني، وهذا يقبح نم أقل الناس عقلاً وديناً.
وأيضاً فزكريا - عليه السلام - لم يُعرف له مال، بل كان نجاراً. ويحيى ابنه - عليه السلام – كان من أزهد الناس.
وأيضاً فإنه قال: }وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي{ [سورة مريم: 5] ومعلوم أنه لم يخف أن يأخذوا ماله [من بعده] إذا مات، فإن هذا ليس بمخوف.
فصل في الباب نفسه.
قال الطاعن : «ولما ذكرت فاطمة أن أباها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهبها فدك قال [لها]: هات أسود أو أحمر يشهد لك بذلك، فجاءت بأم أيمن، فشهدت لها بذلك، فقال: امرأة لا يقبل قولها.
وقد رووا جميعاً أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: أم أيمن امرأة من أهل الجنة، فجاء أمير المؤمنين فشهد لها بذلك، فقال: هذا بعلك يجرّه إلى نفسه ولا نحكم بشهادته لكِ وقد رووا جميعاً أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: عليٌّ مع الحق، والحق معه يدور [معه] حيث دار لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض، فغضبت فاطمة – عليها السلام – عند ذلك وانصرفت، وحلفت أن لا تكلمه ولا تصاحبه حتى تلقى أباها وتشكو إليه، فلما حضرتها الوفاة أوصت عليًّا أن يدفنها ليلاً ولا يدع أحداً منهم يصلِّي عليها.
وقد رووا جميعاً أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: يا فاطمة! إن الله تعالى يغضب لغضبك ويرضى لرضاك. ورووا جميعاً [أنه قال]: فاطمة بضعة مني، من آذاها فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله.
ولو كان هذا الخبر صحيحاً حقًّا لما جاز له ترك البغلة التي خلَّفها النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسيفه وعمامته عند أمير المؤمنين عليّ، ولما حكم له بها لما ادّعاها العباس، ولكان أهل البيت الذين طهّرهم الله في كتابه من الرجس مرتكبين ما لا يجوز، لأن الصدقة عليهم محرَّمة.
وبعد ذلك جاء إليه مال البحرين وعنده جابر بن عبد الله الأنصاري، فقال له: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لي: «إذا أتى مال البحرين حثوت لك، ثم حثوت لك، [ثلاثاً]، فقال له: تقدم فخذ بعددها، فأخذ [من بيت] مال المسلمين من غير بيِّنة بل بمجرد قوله».
والجواب: أن في هذا الكلام من الكذب والبهتان والكلام الفاسد ما لا يكاد يحصى إلا بكلفة، ولكن سنذكر من ذلك وجوهاً [إن شاء الله تعالى].
أحدها: أن ما ذكر من ادّعاء فاطمة – رضي الله عنها – فَدَك فإن هذا يناقض كونها ميراثاً لها، فإن كان طلبها بطريق الإرث امتنع أن يكون بطريق الهبة، وإن كان بطريق الهبة امتنع أن يكون بطريق الإرث، ثم إن كانت هذه هبة في مرض الموت، فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منزّه، إن كان يُورث كما يورث غيره، أن يوصي لوارث أو يخصه في مرض موته بأكثر من حقه، وإن كان في صحته فلا بد أن تكون هذه هبة مقبوضة، وإلا فإذا وهب الواهب بكلامه ولم يقبض الموهوب شيئاً حتى مات الواهب كان ذلك باطلاً عند جماهير العلماء، فكيف يهب النبي صلى الله عليه وآله وسلم فَدَك لفاطمة ولا يكون هذا أمراً معروفاً عند أهل بيته والمسلمين، حتى تختص بمعرفته أم أيمن أو علي رضي الله عنهما؟
الوجه الثاني: أن ادّعاء فاطمة ذلك كذب على فاطمة، [وقد قال الإمام أبو العباس بن سريج في الكتاب الذي صنَّفه في الرد على عيسى بن أبان لما تكلم معه في باب اليمين والشاهد، واحتجّ بما احتجّ، وأجاب عما عارض به عيسى بن أبان، قال: وأما حديث البحتري بن حسَّان عن زيد بن عليّ أن فاطمة ذكرت لأبي بكر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أعطاها فَدَك، وأنها جاءت برجل وامرأة، فقال: رجل مع رجل، وامرأة مع امرأة، فسبحان الله ما أعجب هذا‍ قد سألت فاطمة أبا بكر ميراثها وأخبرها عن رسول الله عليه وسلم أنه قال: لا نُورث، وما حكى في شيء من الأحاديث أن فاطمة ادّعتها بغير الميراث، ولا أن أحداً شهد بذلك.
ولقد روى جرير عن مغيرة عن عمر بن عبد العزيز أنه قال في فَدَك: «إن فاطمة سألت النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يجعلها لها فأبى، وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان ينفق منها ويعود على ضَعَفَة بني هاشم ويزوّج منه أَيِّمَهُمْ، وكانت كذلك حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمر صدقة وقبلت فاطمة الحق، وإني أُشهدكم أني رددتها إلى ما كانت في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم».
ولم يُسمع أن فاطمة – رضي الله عنها – ادّعت أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أعطاها إياها في حديث ثابت متصل، ولا أن شاهداً شهد لها. ولو كان ذلك لحُكي، لأنها خصومة وأمر ظاهر تنازعت فيه الأمة وتحادثت فيه، فلم يقل أحد من المسلمين: شهدت النبي صلى الله عليه وآله وسلم أعطاها فاطمة ولا سمعت فاطمة تدّعيها حتى جاء البحتري بن حسَّان يحكي عن زيد شيئاً لا ندري ما أصله، ولا من جاء به، وليس من أحاديث أهل العلم: فضل بن مرزوق عن البحتري عن زيد، وقد كان ينبغي لصاحب الكتاب أن يكف عن بعض هذا الذي لا معنى له، وكان الحديث قد حسن بقول زيد: لو كنت أنا لقضيت بما قضى به أبو بكر. وهذا مما لا يثبت على أبي بكر ولا على فاطمة لو لم يخالفه أحد، ولو لم تجر فيه المناظرة ويأتي فيها الرواية، فكيف وقد جاءت؟ وأصل المذهب أن الحديث إذا ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم قال أبو بكر بخلافه، إن هذا من أبي بكر - رحمه الله - كنحو ما كان منه في الجدّة، وأنه متى بلغه الخبر رجع إليه.
ولو ثبت هذا الحديث لم يكن فيه حجة، لأن فاطمة لم تقل: إني أحلف مع شاهدي فمنعت. ولم يقل أبو بكر: إني لا أرى اليمين مع الشاهد.
قالوا: وهذا الحديث غلط؛ لأن أسامة بن زيد يروي عن الزهري عن مالك بن أوس بن الحَدَثَان، قال: كان مما احتج به عمر أن قال: كانت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثلاث صفايا: بنو النضير، وخيبر، وفدك. فأما بنو النضير فكانت حُبساً لنوائبه. وأما فَدَك فكانت حُبُساً لأبناء السبيل، وأما خيبر فجزَّأها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثة أجزاء: جزئين بين المسلمين، وجزءً نفقة لأهله، فما فَضَلَ عن نفقة أهله جعله بين فقراء المهاجرين جزئين.
وروى الليث عن عقيل عن ابن شهاب عن عُروة عن عائشة أنها أخبرته أن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أرسلت إلى أبي بكر الصديق تسأله ميراثها من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مما أفاء الله عليه بالمدينة وفَدَك وما بقي من خُمس خيبر، فقال أبو بكر: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا نُورَث ما تركنا صدقة، وإنما يأكل آل محمد من هذا المال، وإني والله لا أغيّر شيئاَ من صدقة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن حالها التي كانت عليها في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولأعملن فيها بما عمل به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة منها شيئاً.
ورواه شعيب بن أبي حمزة عن الزهري قال: حدثني عُروة: أن عائشة أخبرته بهذا الحديث. قال: وفاطمة – رضي الله عنها – حينئذ تطلب صدقة رسول الله التي بالمدينة وفَدَك وما بقي من خًمس خيبر. قالت عائشة: فقال أبو بكر: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا نورث ما تركنا صدقة، وإنما يأكل آل محمد في هذا المال، يعني مال الله - عز وجل -، ليس لهم أن يزيدوا على المال.
ورواه صالح عن ابن شهاب عن عروة أن عائشة قالت فيه: فأبى أبو بكر عليها ذلك، وقال: لست تاركاً شيئاً كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعمل به إلا عملت به، إني أخشى إن تركت شيئاَ من أمره أن أزيغ. فأما صدقته بالمدينة فدفعها عمر إلى عليّ وعباس، فغلب عليّ عليها. وأما خيبر وفَدَك فأمسكها عمر، وقال: هما صدقة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كانتا لحقوقه التي تعروه ونوائبه، وأمرها إلى من وَلِيَ الأمر. قال: فهما على ذلك إلى اليوم.
فهذه الأحاديث الثابتة المعروفة عند أهل العلم، وفيها ما يبيّن أن فاطمة – رضي الله عنها – طلبت ميراثها من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على ما كانت تعرف من المواريث، فأُخبرت بما كان من رسول الله فسلّمت ورجعت، فكيف تطلبها ميراثاً وهي تدّعيها مِلْكاً بالعطيّة؟ هذا ما لا معنى فيه. وقد كان ينبغي لصاحب الكتاب أن يتدبّر، ولا نحتج بما يوجد في الأحاديث الثابتة لرده وإبانة الغلط فيه، ولكن حبك الشيء يعمي ويصم.
وقد روي عن أنس أن أبا بكر قال لفاطمة وقد قرأت عليه إني أقرأ مثل ما قرأت ولا يبلغن علمي أن يكون قاله كله. قالت فاطمة: هو لك ولقرابتك؟ قال: لا وأنت عندي مصدَّقة أمينة، فإن كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عهد إليك في هذا، أو وعدك فيه موعداً أو أوجبه لكم حقًّا صدَّقتك. فقالت: لا غير أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال حين أُنزل عليه: «أبشروا يا آل محمد وقد جاءكم الله عز وجل بالغنى». قال أبو بكر: صدق الله ورسوله وصدقت، فلكم الفيء، ولم يبلغ علمي بتأويل هذه أن استلم هذا السهم كله كاملاً إليكم، ولكن الفيء الذي يسعكم. وهذا يبيّن أن أبا بكر كان يقبل قولها، فكيف يرده ومعه شاهد وامرأة؟ ولكنه يتعلق بكل شيء يجده.
الوجه الثالث: أن يقال: إن كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يورث فالخصم في ذلك أزواجه وعمه، ولا تُقبل عليهم شهادة امرأة واحدة ولا رجل واحد بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم واتفاق المسلمين، وإن كان لا يُورث فالخصم في ذلك المسلمون، فكذلك لا يقبل عليهم شهادة امرأة واحدة ولا رجل واحد باتفاق المسلمين، ولا رجل وامرأة. نعم يُحكم في [مثل] ذلك بشهادة ويمين الطالب عند فقهاء الحجاز [وفقهاء أصحاب] الحديث. وشهادة الزوج لزوجته فيها قولان مشهوران للعلماء، هما روايتان عن أحمد: إحداهما: لا تُقبل، وهي مذهب أبي حنيفة ومالك والليث بن سعد والأوزاعي وإسحاق وغيرهم.
والثانية: تُقبل، وهي مذهب الشافعي وأبي ثور وابن المنذر وغيرهم. فعلى هذا لو قُدِّر صحة هذه القصة لم يجز للإمام أن يحكم بشهادة رجل واحد ولا امرأة واحدة باتفاق المسلمين، لاسيما وأكثرهم يجيزون شهادة الزوج، ومن هؤلاء من لا يحكم بشاهد ويمين، ومن يحكم بشاهد ويمين لم يُحكم للطالب حتى يحلّفه.
الوجه الرابع: قوله: «فجاءت بأم أيمن فشهدت لها بذلك، فقال: امرأة لا يُقبل قولها. وقد رووا جميعاً أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «أم أيمن امرأة من أهل الجنة».
الجواب: أن هذا احتجاج جاهل مفرط في الجهل يريد أن يحتج لنفسه فيحتج عليها، فإن هذا القول لو قاله الحجَّاج بن يوسف والمختار بن أبي عبيد وأمثالهما لكان قد قال حقًّا، فإن امرأة واحدة لا يقبل قولها في الحكم بالمال لمدعٍ يريد أن يأخذ ما هو في الظاهر لغيره، فكيف إذا حُكي مثل هذا عن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -؟!
وأما الحديث الذي ذكره وزعم أنهم رووه جميعاً، فهذا الخبر لا يعرف في شيء من دواوين الإسلام ولا يُعرف عالم من علماء الحديث رواه. وأم أيمن هي أم أسامة بن زيد، وهي حاضنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهي من المهاجرات، ولها حق وحرمة، لكن الرواية عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا تكون بالكذب عليه وعلى أهل العلم. وقول القائل: «رووا جميعاً» لا يكون إلا في خبر متواتر، فمن ينكر حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه لا يُورث، وقد رواه أكابر الصحابة، ويقول: إنهم جميعاً رووا هذا الحديث، إنما يكون من أجهل الناس وأعظمهم جحداً للحق.
وبتقدير أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد أخبر أنها من أهل الجنة، فهو كإخباره عن غيرها أنه من أهل الجنة، وقد أخبر عن كل واحد من العشرة أنه في الجنة، وقد قال: «لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة» وهذا الحديث في الصحيح ثابت عند أهل العلم بالحديث، وحديث الشهادة لهم بالجنة رواه أهل السنن من غير وجه، من حديث عبد الرحمن بن عوف وسعيد بن زيد. فهذه الأحاديث المعروفة عند أهل العلم بالحديث. ثم هؤلاء يكذِّبون من عُلِمَ أن الرسول شهد لهم بالجنة، وينكرون عليهم كونهم لم يقبلوا شهادة امرأة زعموا أنه شهد لها بالجنة، فهل يكون أعظم من جهل هؤلاء وعنادهم؟!
ثم يُقال: كون الرجل من أهل الجنة لا يوجب قبول شهادته، لجواز أن يغلط في الشهادة. ولهذا لو شهدت خديجة وفاطمة وعائشة ونحوهن، ممن يُعلم أنهن من أهل الجنة، لكانت شهادة إحداهن نصف شهادة رجل، كما حكم بذلك القرآن. كما أن ميراث إحداهن نصف ميراث رجل، وديَّتها نصف ديّة رجل. وهذا كله باتفاق المسلمين، فكون المرأة من أهل الجنة لا يُوجب قبول شهادتها لجواز الغلط عليها، فكيف وقد يكون الإنسان ممن يكذب ويتوب من الكذب ثم يدخل الجنة؟
الوجه الخامس: قوله: «إن عليًّا شهد لها فردّ شهادته لكونه زوجها» فهذا مع أنه كذب لو صح ليس يقدح، إذ كانت شهادة الزوج مردودة عند أكثر العلماء، ومن قبلها منهم لم يقبلها حتى يتم النصاب إما برجل آخر وإما بامرأة مع امرأة، وأما الحكم بشهادة رجل وامرأة مع عدم يمين المدّعي فهذا لا يسوغ.
الوجه السادس: قولهم: إنهم رووا جميعاً أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «عليٌّ مع الحق، والحق معه يدور حيث دار، ولن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض» من أعظم الكلام كذباً وجهلاً، فإن هذا الحديث لم يروه أحد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: لا بإسناد صحيح ولا ضعيف. فكيف يقال: إنهم جميعاً رووا هذا الحديث؟ وهل يكون أكذب ممن يروي عن الصحابة والعلماء أنهم رووا حديثاً، والحديث لا يعرف عن واحد منهم أصلاً؟ بل هذا من أظهر الكذب. ولو قيل: رواه بعضهم، وكان يمكن صحته لكان ممكناً، فكيف وهو كذب قطعاً على ا لنبي صلى الله عليه وآله وسلم؟!.
بخلاف إخباره أن أيمن في الجنة، فهذا يمكن أنه قاله، فإن أم أيمن امرأة صالحة من المهاجرات، فإخباره أنها في الجنة لا يُنكر، بخلاف قوله عن رجل من أصحابه أنه مع الحق [وأن الحق] يدور معه حيثما دار لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض؛ فإنه كلام ينزَّه عنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
أما أولاً: فلأن الحوض إنما يَرِدُه عليه أشخاص، كما قال للأنصار: «اصبروا حتى تلقوني على الحوض» وقال: «إن حوضي لأبعد ما بين أيلة إلى عدن، وإن أول الناس وروداً فقراء المهاجرين الشعث رؤوساً الدنس ثياباً الذين لا ينكحون المتنعّمات ولا تفتح لهم أبواب السدد، يموت أحدهم وحاجته في صدره لا يجد لها قضاء» رواه مسلم وغيره.
وأما الحق فليس من الأشخاص الذين يردون الحوض. وقد رُوي [نه قال]: «إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، ولن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض». فهو من هذا النمط وفيه كلام يذكر في موضعه [إن شاء الله].
ولو صح هذا لكان المراد به ثواب القرآن. أما الحق الذي يدور مع شخص ويدور الشخص معه فهو صفة لذلك الشخص لا يتعداه ومعنى ذلك أن قوله صِدْقٌ وعمله صالح، ليس المراد به أن غيره لا يكون معه شيء من الحق.
وأيضاً فالحق لا يدور مع شخص غير النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولو دار الحق مع عليّ حيثما دار لوجب أن يكون معصوماً كالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهم من جهلهم يدَّعون ذلك، ولكن من عُلم أنه لم يكن بأَوْلى بالعصمة من أبي بكر وعمر وعثمان وغيرهم، وليس فيهم من هو معصوم، عُلم كذبهم، وفتاويه من جنس فتاوى عمر وعثمان ليس هو أَوْلى بالصواب منهم، ولا في أقوالهم من الأقوال المرجوحة أكثر مما في قوله، ولا كان ثناء النبي صلى الله عليه وآله وسلم ورضاه عنه بأعظم من ثنائه عليهم ورضائه عنهم، بل لو قال القائل: إنه لا يعرف من النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه عتب على عثمان في شيء، وقد عتب على عليّ في غير موضع لما أَبْعَدَ، فإنه لما أراد أن يتزوج بنت أبي جهل اشتكته فاطمة لأبيها وقالت: إن الناس يقولون إنك لا تغضب لبناتك، فقام [رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم] خطيباً وقال: «إن بني المغيرة استأذنوني أن يزوِّجوا ابنتهم عليَّ بن أبي طالب، وإني لا آذن ثم لا آذن، ثم لا آذن: إلا أن يريد ابن أبي طالب أن يطلق ابنتي ويتزوج ابنتهم، فإنما فاطمة بضعة مني [يريبني ما رابها] ويؤذيني ما آذاها» ثم ذكر صهراً له من بني عبد شمس فقال: «حدثني فصدَّقني ووعدني فوفى لي» والحديث ثابت صحيح أخرجاه في الصحيحين.
وكذلك في الصحيحين لما طرقه وفاطمة ليلاً، فقال: «ألا تصليان؟» فقال له عليّ: إنما أنفسنا بيد الله إن شاء أن يبعثنا بعثنا، فانطلق وهو يضرب فخذه ويقول: «وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً».
وأما الفتاوى فقد أفتى بأن المتوفى عنها زوجها وهي حامل تعتد أبعد الأجلين، وهذه الفتيا كان قد أفتى بها أبو السنابل بن بعكك على عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «كذب أبو السنابل» وأمثال ذلك كثير. ثم بكل حال فلا يجوز أن يحكم بشهادته وحده، كما لا يجوز له أن يحكم لنفسه.
الوجه السابع: أن ما ذكره عن فاطمة أمر لا يليق بها، ولا يحتج بذلك إلا رجل جاهل يحسب أنه يمدحها وهو يجرحها؛ فإنه ليس فيما ذكره ما يوجب الغضب عليه، إذ لم يحكم – لو كان ذلك صحيحاً – إلا بالحق الذي لا يحل لمسلم أن يحكم بخلافه. ومن طلب أن يُحكم له بغير حكم الله ورسوله فغضب وحلف أن لا يكلم الحاكم ولا صاحب الحاكم، لم يكن هذا مما يُحْمد عليه ولا مما يذم به الحاكم، بل هذا إلى أن يكون جرحاً أقرب منه إلى أن يكون مدحاً. ونحن نعلم أن ما يُحكى عن فاطمة وغيرها من الصحابة من القوادح كثير منها كذب وبعضها كانوا فيه متأولين. وإذا كان بعضها ذنباً فليس القوم معصومين، بل هم مع كونهم أولياء الله ومن أهل الجنة لهم ذنوب يغفرها الله لهم. وكذلك ما ذكره من حلفها أنها لا تكلمه ولا صاحبه حتى تلقى أباها وتشتكي إليه، أمر لا يليق أن يُذكر عن فاطمة – رضي الله عنها -؛ فإن الشكوى إنما تكون إلى الله تعالى، كما قال العبد الصالح: }إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ{ [سورة يوسف: 86]، وفي دعاء موسى - عليه السلام -: اللهم لك الحمد، وإليك المشتكى، وأنت المستعان، وبك المستغاث، وعليك التكلان. وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لابن عباس: «إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله»، ولم يقل: سلني ولا استعن بي.
وقد قال تعالى: }فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ{ [سورة الشرح: 7، 8].
ثم من المعلوم لكل عاقل أن المرأة إذا طلبت مالاً من ولي أمر فلم يعطها [إياه] لكونها لا تستحقه عنده، وهو لم يأخذه ولم يعطه لأحد من أهله ولا أصدقائه، بل أعطاه لجميع المسلمين، وقيل: إن الطالب غضب على الحاكم – كان غاية ذلك أنه غضب لكونه لم يعطه مالاً، وقال الحاكم: إنه لغيرك لا لك، فأي مدح للطالب في هذا الغضب؟ لو كان مظلومًا محضًا لم يكن غضبه إلا للدنيا. وكيف والتهمة عن الحاكم الذي لا يأخذ لنفسه أبعد من التهمة عن الطالب الذي يأخذ لنفسه، فكيف تحال التهمة على من لا يطلب لنفسه مالاً، ولا تحال على من يطلب لنفسه المال؟
وذلك الحاكم يقول: إنما أمنع لله؛ لأني لا يحل لي أن آخذ المال من يستحقه فأدفعه إلى غير مستحقه فأدفعه إلى غير مستحقه، والطالب يقول: إنما أغضب لحظي القليل من المال. أليس من يذكر [مثل] هذا عن فاطمة ويجعله من مناقبها جاهلاً؟!
أوليس الله قد ذم المنافقين الذين قال فيهم: }وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَا آتَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ سَيُؤْتِينَا اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللّهِ رَاغِبُونَ{ [سورة التوبة: 58، 59] فذكر الله قوماً رضوا إن أُعطوا، وغضبوا إن لم يعطوا، فذمهم بذلك، فمن مدح فاطمة بما فيه شبه من هؤلاء ألا يكون قادحاً فيها؟ وانتصف لأهل البيت منهم؛ فإنهم ألصقوا بهم من العيوب والشين ما لا يخفى على ذي عين.
ولو قال قائل: فاطمة لا تطلب حقها، لم يكن هذا بأولى من قول القائل: أبو بكر لا يمنع يهوديًّا ولا نصرانيًّا حقه فكيف يمنع سيدة نساء العالمين حقها؟ فإن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم قد شهدا لأبي بكر أنه ينفق ماله لله، فكيف يمنع الناس أموالهم؟ وفاطمة – رضي الله عنها - قد طلبت من النبي صلى الله عليه وآله وسلم مالاً، فلم يعطها إياه. كما ثبت في الصحيحين عن عليّ – رضي الله عنه – في حديث الخادم لما ذهبت فاطمة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم تسأله خادماً، فلم يعطها خادماً وعلَّمها التسبيح. وإذا جاز أن تطلب من النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما يمنعها [النبي صلى الله عليه وآله وسلم] إياه ولا يجب عليه أن يعطيها إياه، جاز أن تطلب ذلك من أبي بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعُلم أنها ليست معصومة أن تطلب ما لا يجب إعطاؤها إياه. وإذا لم يجب عليه الإعطاء لم يكن مذموماً بتركه ما ليس بواجب وإن كان مباحاً. فأما إذا قدّرنا أن الإعطاء ليس بمباح، فإنه يستحق أن يُحمد على المنع. وأما أبو بكر فلم يُعلم أنه منع أحداً حقه، ولا ظلم أحد حقه: لا في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا بعد موته.
وكذلك ما ذكره من إيصائها أن تُدفن ليلاً ولا يُصلِّي عليها أحد منهم، لا يحكيه عن فاطمة ويحتج به إلا رجلٌ جاهل يطرق على فاطمة ما لا يليق بها، وهذا لو صح لكان بالذنب المغفور أَوْلى منه بالسعي المشكور، فإن صلاة المسلم على غيره زيادة خير تصل إليه، ولا يضر أفضل الخلق أن يصلي عليه شر الخلق، وهذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي [ويسلم عليه] الأبرار والفجار بل والمنافقون، وهذا إن لم ينفعه لم يضره، وهو يعلم أن في أمته منافقين، ولم ينه أحداً من أمته عن الصلاة عليه، بل أمر الناس كلهم بالصلاة والسلام عليه، مع أن فيهم المؤمن والمنافق، فكيف يُذكر في معرض الثناء عليها والاحتجاج لها مثل هذا الذي لا يحكيه ولا يحتج به إلا مفرط في الجهل، ولو وصَّى موصٍ بأن المسلمين لا يصلون عليه لم تنفَّذ وصيته، فإن صلاتهم عليه خيرٌ له بكل حال.
ومن المعلوم أن إنساناً لو ظلمه ظالم، فأوصى بأن لا يصلِّي عليه ذلك الظالم، لم يكن هذا من الحسنات التي يُحمد عليها، ولا هذا مما أمر الله به ورسوله. فمن يقصد مدح فاطمة وتعظيمها، كيف يذكر مثل هذا الذي مدح فيه، بل المدح في خلافه، كما دلَّ على ذلك الكتاب والسنة والإجماع؟!.
وأما قوله: «ورووا جميعاً أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: يا فاطمة! إن الله يغضب لغضبك ويرضى لرضاك» فهذا كذب منه، ما رووا هذا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولا يُعرف هذا في شيء من كتب الحديث المعروفة، ولا له إسناد معروف عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: لا صحيح ولا حسن. ونحن إذا شهدنا لفاطمة بالجنة، وبأن الله يرضى عنها، فنحن لأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعيد وعبد الرحمن [بن عوف] بذلك نشهد، ونشهد بأن الله تعالى أخبر برضاه عنهم في غير موضع، كقوله تعالى: }وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ{ [سورة التوبة: 100]، وقوله تعالى: }لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ{ [سورة الفتح: 18]. وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم توفي وهو عنهم راضٍ، ومن رضي الله عنه ورسوله لا يضره غضب أحد من الخلق عليه كائناً من كان، بل من رضي الله عنه ورضي عن الله، يكون رضاه موافقاً لرضا الله، فإن الله راضٍ عنه، فهو موافق لما يرضي الله، وهو راضٍ عن الله، فحكم الله موافق لرضاه، وإذا رضوا بحكمه غضبوا لغضبه، فإن من رضي بغضب غيره لزم أن يغضب لغضبه، فإن الغضب إذا كان مرضياً لك، فعلت ما هو مرضٍ لك، وكذلك الرب [تعالى – وله المثل الأعلى] – إذا رضي عنهم غضب لغضبهم، إذ هو راضٍ بغضبهم.
وأما قوله: «رووا جميعاً أن فاطمة بضعة مني من آذاها آذاني، ومن آذاني آذى الله» فإن هذا الحديث لم يرو بهذا اللفظ، بل [روي] بغيره، كما روي في سياق حديث خطبة عليّ لابنة أبي جهل، لما قام النبي صلى الله عليه وآله وسلم خطيباً فقال: «إن بني هشام بن المغيرة استأذنوني أن يُنكحوا ابنتهم علي بن أبي طالب، وإني لا آذن، ثم لا آذن، ثم لا آذن، إنما فاطمة بضعة مني يريبني ما رابها، ويؤذيني ما آذاها، إلا أن يريد أبي طالب أن يطلق ابنتي وينكح ابنتهم» وفي رواية: «إني أخاف أن تفتن في دينها» ثم ذكر صهراً له من بني عبد شمس فأثنى عليه مصاهرته إياه فقال: «حدَّثني فصدقني، ووعدني فوفى لي. وإني لست أحلّ حراماً، ولا أحرم حلالاً، ولكن والله لا تجتمع بنت رسول الله وبنت عدو الله مكاناً واحداً أبداً» رواه البخاري ومسلم [في الصحيحين] من رواية عليّ بن الحسين والمسور بن مخرمة، فسبب الحديث خِطبة علي – رضي الله عنه – لابنة أبي جهل، والسبب داخل في اللفظ قطعاً، إذ اللفظ الوارد على سبب لا يجوز إخراج سببه منه، بل السبب يجب دخوله بالاتفاق.
وقد قال في الحديث: «يريبني ما رابها ويؤذيني ما آذاها» ومعلوم قطعاً أن خطبة ابنة أبي جهل عليها رابها وآذاها، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم رابه ذلك وآذاه، فإن كان هذا وعيداً لاحقاً بفاعله، لزم أن يلحق هذا الوعيد عليَّ بن أبي طالب، وإن لم يكن وعيداً لاحقاً بفاعله، كان أبو بكر أبعد عن الوعيد من عليّ.
وإن قيل: إن عليًّا تاب من تلك الخطبة ورجع عنها.
قيل: فهذا يقتضي أنه غير معصوم. وإذا جاز أن من راب فاطمة وآذاها، يذهب ذلك بتوبته، جاز أن يذهب بغير ذلك من الحسنات الماحية، فإن ما هو أعظم من هذا الذهب تذهبه الحسنات الماحية والتوبة والمصائب المكفِّرة.
وذلك أن هذا الذنب ليس من الكفر الذي لا يغفره الله إلا بالتوبة، ولو كان كذلك لكان عليٌّ – والعياذ بالله – قد ارتد عن [دين] الإسلام في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم. ومعلوم أن الله تعالى نزَّه عليًّا من ذلك والخوارج الذين قالوا: إنه ارتد بعد موت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لم يقولوا: إنه ارتد في حياته، ومن ارتد فلا بد أن يعود على الإسلام أو يقتله النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا لم يقع. وإذا كان هذا الذنب هو مما دون الشرك فقد قال تعالى: }إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء{ [سورة النساء: 48].
وإن قالوا بجهلهم: إن هذا الذنب كفر ليكفِّروا بذلك أبا بكر، لزمهم تكفير عليّ، واللازم باطل فالملزوم مثله. وهم دائماً: يعيبون أبا بكر وعمر وعثمان، بل ويكفِّرونهم بأمور قد صدر من عليّ ما هو مثلها أو أبعد عن العذر منها، فإن كان مأجوراً أو معذوراً فهم أَوْلى بالأجر والعذر، وإن قيل باستلزام الأمر الأخف فسقاً أو كفراً، كان استلزام الأغلظ لذلك أَوْلى.
وأيضاً فيقال: إن فاطمة – رضي الله عنها – إنما عظم أذاها لما في ذلك من أذى أبيها، فإذا دار الأمر بين أذى أبيها وأذاها كان الاحتراز عن أذى أبيها أوجب. وهذا حال أبي بكر وعمر، فإنهما احترزا عن أن يؤذيا أباها أو يريباه بشيء، فإنه عهد عهداً وأمر بأمر، فخافا إن غيّرا عهده وأمره أن يغضب لمخالفة أمره وعهده ويتأذى بذلك. وكل عاقل يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا حكم بحكم، وطلب فاطمة أو غيرها ما يخالف ذلك الحكم، كان مراعاة حكم النبي صلى الله عليه وآله وسلم أََوْلى، فإن طاعته واجبة، ومعصيته محرّمة، ومن تأذَّى لطاعته كان مخطئاً في تأذِّيه بذلك، وكان الموافق لطاعته مصيباً في طاعته. وهذا بخلاف من آذاها لغرض نفسه لا لأجل طاعة الله ورسوله.
ومن تدبَّر حال أبي بكر في رعايته لأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأنه إنما قصد طاعة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لا أمراً آخر يحكم أن حاله أكمل وأفضل [وأعلى] من حال عليّ – رضي الله عنهما -، وكلاهما سيد كبير من أكابر أولياء الله المتقين، وحزب الله المفلحين، [وعباد الله الصالحين]، ومن السابقين الأوَّلين، ومن أكابر المقربين، الذين يشربون بالتسنيم. ولهذا كان أبو بكر – رضي الله عنه – يقول: «والله لَقَرابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحبّ إليَّ أن أصلْ من قرابتي». وقال: «ارقبوا محمداً صلى الله عليه وآله وسلم في أهل بيته» رواه البخاري عنه.
لكن المقصود أنه لو قُدِّر أن أبا بكر آذاها، فلم يؤذها لغرض نفسه بل ليطيع الله ورسوله، ويوصِّل الحق إلى مستحقه. وعليٌّ – رضي الله عنه – كان قصده أن يتزوج عليها، فله في أذاها غرض، بخلاف أبي بكر. فعُلم أن أبا بكرٍ كان أبعد أن يُذمَّ بأذاها من عليّ، وأنه إنما قصد طاعة الله ورسوله بما لاحظ له فيه، بخلاف عليّ؛ فإنه كان له حظ فيما رابها به. وأبو بكر كان من جنس من هاجر إلى الله ورسوله، وهذا لا يشبه من كان مقصوده امرأة يتزوجها. والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يؤذيه ما يؤذي فاطمة إذا لم يعارض ذلك أمر الله تعالى، فإذا أمر الله تعالى بشيء فعله، وإن تأذَّى من تأذَّى من أهله وغيرهم، وهو في حال طاعته لله يؤذيه ما يعارض طاعة الله ورسوله. وهذا الإطلاق كقوله: «من أطاعني فقد أطاع الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن عصى أميري فقد عصاني» ثم قد بيّن ذلك بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «إنما الطاعة في المعروف». فإذا كانت طاعة أمرائه أطلقها ومراده بها الطاعة في المعروف، فقوله: «من آذاها فقد آذاني» يحمل على الأذى في المعروف بطريق الأَوْلى والأحرى، لأن طاعة أمرائه فرض، وضدها معصية كبيرة. وأما فعل ما يؤذي فاطمة فليس هو بمنزلة معصية أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وإلا لزم أن يكون عليّ قد فعل ما هو أعظم من معصية الله ورسوله، فإن معصية أمرائه معصيته، ومعصيته معصية الله. ثم إذا عارض معارض وقال: أبو بكر وعمر وليا الأمر، والله قد أمر بطاعة أولي الأمر، وطاعة ولي الأمر طاعة لله ومعصيته معصية لله، فمن سخط أمره وحكمه فقد سخط أمر الله وحكمه.
ثم أخذ يشنِّع على عليّ وفاطمة – رضي الله عنهما – بأنهما ردّا أمر الله، وسخطا حكمه، وكرها ما أرضى الله، لأن الله يرضيه طاعته وطاعة ولي الأمر، فمن كره طاعة ولي الأمر فقد كره رضوان الله، والله يسخط لمعصيته، ومعصية ولي الأمر معصيته، فمن اتّبع معصية ولي الأمر فقد اتبع ما أسخط الله وكره رضوانه. وهذا التشنيع ونحوه على عليّ وفاطمة – رضي الله عنهما – أوجه من تشنيع البعض على أبي بكر وعمر، وذلك لأن النصوص الواردة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في طاعة ولاة الأمور، ولزوم الجماعة، والصبر على ذلك مشهورة كثيرة، بل لو قال قائل: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر بطاعة ولاة الأمور وإن استأثروا، والصبر على جَوْرهم، وقال: «إنكم ستلقون بعدي أَثَرَة، فاصبروا حتى تلقوني على الحوض» وقال: «أدُّوا إليهم حقهم، وسلوا الله حقكم» وأمثال ذلك. فلو قُدِّر أن أبا بكر وعمر – رضي الله عنهما – كانا ظالمين مستأثرين بالمال لأنفسهما، لكان الواجب مع ذلك طاعتهما والصبر على جورهما.
ثم لو أخذ هذا القائل يقدح في عليّ وفاطمة – رضي الله عنهما – ونحوهما بأنهم لم يصبروا ولم يلزموا الجماعة، بل جزعوا وفرَّقوا الجماعة، وهذه معصية عظيمة – لكانت هذه الشناعة أوجه من تشنيع البعض على أبي بكر وعمر – رضي الله عنهما -، فإن أبا بكر وعمر لا تقوم حجة بأنهما تركا واجباً، ولا فعلا محرماً أصلاً، بخلاف غيرهما، فإنه قد تقوم الحجة بنوع من الذنوب التي لم يفعل مثلها أبو بكر ولا عمر. وما ينزَّه علي وفاطمة – رضي الله عنهما - عن ترك واجب أو فعل محظور، إلا وتنزيه أبي بكر وعمر أَوْلى بكثير، ولا يمكن أن تقوم شبهة بتركهما واجباً أو تعدّيهما حدًّا، إلا والشبهة التي تقوم في عليّ وفاطمة أقوى وأكبر، فطلب الطالب مدح عليّ وفاطمة – رضي الله عنهما - إما بسلامتهما من الذنوب، وإما بغفران الله لهما، مع القدح في أبي بكر وعمر بإقامة الذنب والمنع من المغفرة، من أعظم الجهل والظلم، وهو أجهل وأظلم ممن يريد مثل ذلك في عليّ ومعاوية – رضي الله عنهما -، إذا أراد مدح معاوية – رضي الله عنه -، والقدح في عليّ – رضي الله عنه -.
الوجه الثامن: أن قوله: «لو كان هذا الخبر صحيحاً حقًّا لما جاز له ترك البغلة والسيف والعمامة عند عليّ والحكم له بها لما ادّعاها العباس».
فيقال: ومن نقل أن أبا بكر وعمر حكما بذلك لأحد، أو تركا ذلك عند أحد، على أن ذلك ملك له، فهذا من أبْيَن الكذب عليهما، بل غاية ما في هذا أن يُترك عند ما يُترك عنده، كما تركا صدقته عند عليّ والعباس ليصرفاها في مصارفها الشرعية.
وأما قوله: «ولكان أهل البيت الذين طهَّرهم الله في كتابه مرتكبين ما لا يجوز».
فيقال له: أولاً إن الله لم يخبر أنه طهَّر جميع أهل البيت وأذهب عنهم الرجس، فإن هذا كذب على الله. كيف ونحن نعلم أن في بني هاشم من ليس بمطهّر من الذنوب، ولا أذهب عنهم الرجس، لاسيما عند الإمامية، فإن عندهم كل من كان من بني هاشم يحب أبا بكر وعمر – رضي الله عنهما – فليس بمطهَّر، والآية إنما قال فيها: }إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ{ [سورة الأحزاب: 33]. وقد تقدم أن هذا مثل قوله: }مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ{ [سورة المائدة:6]، وقوله: }يُرِيدُ اللّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ{ [سورة النساء: 26]، ونحو ذلك مما فيه بيان أن الله يحب ذلك لكم، ويرضاه لكم، ويأمركم به، فمن فعله حصل له هذا المراد المحبوب المرضي، ومن لم يفعله لم يحصل له ذلك.
وقد بُسط هذا في غير هذا الموضع، وبُيِّن أن هذا ألزم لهؤلاء القدرية؛ فإن عندهم [أن] إرادة الله بمعنى أمره، لا بمعنى أنه يفعل ما أراد، فلا يلزم إذا أراد الله تطهير أحد أن يكون ذلك قد تطهّر، ولا يجوز عندهم أن يطهِّر الله أحداً، [بل من أراد الله تطهيره، فإن شاء طهّر نفسه، وإن شاء لم يطهرها]، ولا يقدر الله عندهم على تطهير أحد.
وأما قوله: «لأن الصدقة محرَّمة عليهم».
فيقال له: أوّلا المحرّم عليهم صدقة الفرض، وأما صدقات التطوع فقد كانوا يشربون من المياه المسبَّلة بين مكة والمدينة، ويقولون: إنما حُرِّم علينا الفرض، ولم يحرَّم علينا التطوع. وإذا جاز أن ينتفعوا بصدقات الأجانب التي هي تطوع، فانتفاعهم بصدقة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أَوْلى وأحرى؛ فإن هذه الأموال لم تكن زكاة مفروضة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهي أوساخ الناس التي حُرِّمت عليهم، وإنما هي من الفيء الذي أفاءه الله على رسوله، والفيء حلال لهم، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم جعل ما جعله الله له من الفيء صدقة، إذ غايته أن يكون ملكاً للنبي صلى الله عليه وآله وسلم تصدَّق به على المسلمين، وأهل بيته أحق بصدقته؛ فإن الصدقة [على المسلمين صدقة، والصدقة] على القرابة صدقة وصلة.
الوجه التاسع: في معارضته بحديث جابر – رضي الله عنه – فيقال: جابر لم يدع حقًّا لغيره يُنتزع من ذلك الغير ويُجعل له، وإنما طلب شيئاً من بيت المال يجوز للإمام أن يعطيه إياه، ولو لم يعده به النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإذا وعده به كان أَوْلى بالجواز، فلهذا لم يفتقر إلى بيِّنة. ومثال هذا أن يجئ شخص إلى عقار بيت المال فيدَّعيه لنفسه خاصة، فليس للإمام أن ينزعه من بيت المال فيدَّعيه لنفسه خاصة، فليس للإمام أن ينزعه من بيت المال ويدفعه إليه بلا حجة شرعية، وآخر طلب شيئاً من المال المنقول الذي يجب قسمه على المسلمين [من مال بيت المال]؛ فهذا يجوز أن يُعطى بلا بيِّنة. ألا ترى أن صدقة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الموقوفة، وصدقة غيره من المسلمين لا يجوز لأحد [من المسلمين] أن يملك أصلها، ويجوز أن يُعطى من ريعها ما ينتفع به، فالمال الذي أُعطى منه جابر هو المال الذي يقسَّم بين المسلمين، بخلاف أصول المال.
ولهذا كان أبو بكر وعمر – رضي الله عنهما – يعطيان العباس [وبنيه] وعليًّا والحسن والحسين وغيرهم من بني هاشم أعظم مما أعطوا جابر [بن عبد الله] من المال الذي يقسم بين الناس، وإن لم يكن معهما وعد من النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
فقول هؤلاء الجهّال: إن جابر [بن عبد الله] أخذ مال المسلمين من غير بيّنة بل بمجرد الدعوى، كلام من لا يعرف حكم الله، لا في هذا ولا في ذاك؛ فإن المال الذي أُعطى [منه] جابر مال يجب قسمته بين المسلمين. وجابر أحد المسلمين، وله حقٌّ فيه، وهو أحد الشركاء، والإمام إذا أعطى أحد المسلمين من مال الفيء ونحوه من مال المسلمين، لا يقال: إنه أعطاه مال المسلمين من غير بيّنة؛ لأن القسم بين المسلمين وإعطاءهم لا يفتقر إلى بيِّنة بخلاف من يدَّعي أن أصل المال له دون المسلمين.
نعم الإمام يقسم المال باجتهاده في التقدير، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقسم المال بالحثيات. وكذلك رُوي عن عمر رضي الله عنه، وهو نوع من الكيل باليد. وجابر ذكر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعده بثلاثة حثيات، وهذا أمر معتاد مثله من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلم يذكر إلا ما عُهد من النبي صلى الله عليه وآله وسلم مثله، وما يجوز الإقتداء به فيه، فأعطاه حثية، ثم نظر عددها فأعطاه بقدر مرتين، تحرياً لما ظنه موافقاً لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم في القسم، فإن الواجب موافقته بحسب الإمكان، فإن أمكن العلم وإلا اتبع ما أمكن من التحرّي والاجتهاد.
أما قصة فاطمة – رضي الله عنها فما ذكروه من دعواها الهبة والشهادة المذكورة ونحو ذلك، لو كان صحيحاً لكان بالقدح فيمن يحتجون له أشبه منه بالمدح . [33]
مقال آخر في الباب...
كثيرا ما يثير البعض مسألة اغضاب فاطمة رضوان الله عليها واحراق البيت واسقاط الجنين وهذه قصة مكذوبة بل فيها اهانة للإمام علي نفسه لأنه رجل شهم فكيف ينظر الى امرأته يحدث لها هذا ولا يتحرك؟!
أما قصة فدك فقد طرحناها من قبل وبينا أن أبو بكر استشهد بحديث صحيح عند السنة والشيعة ( صححه المجلسي في مرآة العقول وصححه الخميني واستشهد به على ولاية الفقيه).
دخل الحسن بن علي على جده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يتعثر بذيله فأسرّ إلى النبي عليه الصلاة والسلام سراً فرأيته وقد تغير لونه ثم قام النبي عليه الصلاة والسلام حتى أتى منزل فاطمة … ثم جاء علي فأخذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بيده ثم هزها إليه هزاً خفيفاً ثم قال: يا أبا الحسن إياك وغضب فاطمة فإنّ الملائكة تغضب لغضبها وترضى لرضاها).[34]
وعن أبي عبد الله ( جعفر ) عليه السلام أنه سُئل: هل تشيع الجنازة بنار ويُمشى معها بمجمرة أو قنديل أو غير ذلك مما يُضاد به؟ قال: فتغير لون أبي عبد الله عليه السلام من ذلك واستوى جالساً ثم قال: إنه جاء شقي من الأشقياء إلى فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال لها: أما علمت أنّ علياً قد خطب بنت أبي جهل فقالت: حقاً ما تقول؟ فقال: حقاً ما أقول ثلاث مرات ، فدخلها من الغيرة ما لا تملك نفسها ، وذلك أنّ الله تبارك وتعالى كتب على النساء غيرة وكتب على الرجال جهاداّ وجعل للمحتسبة الصابرة منهن من الأجر ما جعل للمرابط المهاجر في سبيل الله ، قال: فاشتد غم فاطمة من ذلك وبقيت متفكرة هي حتى أمست وجاء الليل حملت الحسن على عاتقها الأيمن والحسين على عاتقها الأيسر وأخذت بيد أم كلثوم اليسرى بيدها اليمنى ، ثم تحولت إلى حجرة أبيها فجاء علي فدخل حجرته فلم ير فاطمة فاشتد لذلك غمه وعظم عليه ولم يعلم القصة ما هي ، فاستحيي أن يدعوها من منزل أبيها فخرج إلى المسجد يصلي فيه ما شاء الله ، ثم جمع شيئاً من كثيب المسجد واتكأ عليه ، فلما رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما بفاطمة من الحزن أفاض عليه الماء ثم لبس ثوبه ودخل المسجد فلم يزل يصلي بين راكع وساجد ، وكلما صلى ركعتين دعا الله أن يُذهب ما بفاطمة من الحزن والغم ، وذلك أن لا يهنيها النوم وليس لها قرار ، قال لها: قومي يا بنية فقامت ، فحمل النبي عليه الصلاة والسلام الحسن وحملت فاطمة الحسين وأخذت بيد أم كلثوم فانتهى إلى علي عليه السلام وهو نائم فوضع النبي صلى الله عليه وآله وسلم رجله على رجل علّي فغمزه وقال: قم يا أبا تراب! فكم ساكن أزعجته، ادع لي أبا بكر من داره ، وعمر من مجلسه ، وطلحة ، فخرج علي فاستخرجهما من منزلهما واجتمعوا عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : يا علي ! أما علمت أنّ فاطمة بضعة مني وأنا منها ، فمن آذاها فقد آذاني ، ومن آذاني فقد آذى الله ، ومن آذاها بعد موتي كان كمن آذاها في حياتي ، ومن آذاها في حياتي كان كمن آذاها بعد موتي.[35]
و الغريب هنا أنّ هذه المقولة قيلت بناء على إغضاب علي لفاطمة وهو تحذير نبوي لعلي زوج فاطمة ولباقي الصحابة من إغضاب فاطمة إلا أنّ البعض لا يستدل بهذا الحديث إلا على أبي بكر ، ولو كان إغضاب فاطمة رضوان الله عليها أو رضاها سبباً في إيمان أو كفر لَلَحِقَ الوعيد علي بن أبي طالب قبل أبي بكر وقبل أي رجل أو امرأة اختلفت مع فاطمة.
نحن نقول بأنه لا علي بن أبي طالب ولا أبي بكر كفرا أو فسقا بسبب إغضابهما فاطمة ، والنبي عليه الصلاة والسلام إنما قال تلك الكلمات في حق من يغضب فاطمة تعظيماً لأمرها وهي بلا شك أهل لذلك ، وتحذيراً من إغضاب ابنته التي لها من المكانة عنده ما لها ، رضوان الله عليها أن يُقاس من خلال القرآن والسنة فإن كان غضبها لأجلهما كان إغضابها . وغضب فاطمة لا بد إغضاباً لله والرسول أما إذا كان غضبها لخلاف شخصي أو لوجهة نظر لها كالذي يحصل للناس عادة ، فهذا ما لا يقتضي إدانة أحد لأنّ الله عز وجل ودين الإسلام لا يتماشى مع آراء البشر ولو كانوا من صلحاءهم ومصلحيهم.
ومن المقالات في الباب نفسه ما رد على هذه الشبهة من وجوه:
الوجه الأول : أن الأنبياء لا يُورَثون ، ومَن قال بِخلاف ذلك فعليه الدليل ، ولا دليل .
الوجه الثاني : أن آل البيت شهِدوا بصحة حديث : لا نورَث ، ما تركنا صدقة .
بل شهد به عليّ بن أبي طالب نفسه .
روى الإمام البخاري في صحيحه أن فاطمة عليها السلام أرسلت إلى أبي بكر تسأله ميراثها من النبي صلى الله عليه وآله وسلم مما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم ، تطلب صدقة النبي صلى الله عليه وآله وسلم التي بالمدينة وفَدَك وما بقي من خمس خيبر ، فقال أبو بكر : إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : لا نورث . ما تركنا فهو صدقة . إنما يأكل آل محمد من هذا المال - يعني مال الله - ليس لهم أن يَزيدوا على المأكل . وإني والله لا أغير شيئا من صدقات النبي صلى الله عليه وآله وسلم التي كانت عليها في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ولأعمَلَنّ فيها بما عَمِل فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فتشهد عليّ رضي الله عنه ثم قال : إنا قد عرفنا يا أبا بكر فضيلتك ، وذَكَرَ قرابتهم من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحقهم . فتكلم أبو بكر فقال: والذي نفسي بيده لقرابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحبّ إلي أن أصِلَ من قرابتي .
فأين هذا ممن زعم الظلم لبنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟
أكان عليّ رضي الله عنه قال ذلك تقيّـة ؟
أو كان عليّ رضي الله عنه ضعيفاً لا يأخذ حقّـه ؟
وروى الإمام مسلم في صحيحه أن عمر رضي الله عنه كان في مجلسه فاستأذن عليه عباس وعليّ رضي الله عنهما ، فأذن لهما فقال عباس : يا أمير المؤمنين اقض بيني وبين هذا ، فقال القوم : أجل يا أمير المؤمنين ، فاقض بينهم وأرِحهم .
فقال عمر : اتئِدا . أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : لا نورث ما تركنا صدقة ؟
قالوا : نعم .
ثم أقبل على العباس وعليّ فقال : أنشدكما بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض أتعلمان أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : لا نورث ما تركناه صدقة ؟
قالا : نعم .
فقال عمر : إن الله جل وعز كان خصّ رسوله صلى الله عليه وآله وسلم بخاصة لم يخصص بها أحدا غيره . قال : ( مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ ) .
وفي رواية للبخاري أن عُمر قال لعلي وعباس : أنشدكما بالله هل تعلمان ذلك ؟ قالا : نعم ، فَتَوَفَّى الله نبيه صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال أبو بكر : أنا وَلِيّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقبضها فَعَمِلَ بما عمل به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ثم تَوفى الله أبا بكر ، فقلت : أنا ولي وليّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقبضتها سنتين أعمل فيها ما عمل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبو بكر ، ثم جئتماني وكلِمتكما واحدة وأمركما جميع ، جئتني تسألني نصيبك من ابن أخيك وأتاني هذا يسألني نصيب امرأته من أبيها . فقلتُ : إن شئتما دفعتها إليكما بذلك . فتلتمسان مني قضاء غير ذلك ؟ فو الله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض لا أقضي فيها قضاء غير ذلك حتى تقوم الساعة ، فإن عجزتما فادفعاها إليّ فأنا أكفيكماها .
فهذا عُمر رضي الله عنه يقول للعباس وعليّ رضي الله عنهما : إن شئتما دفعتها إليكما .
فلماذا لم يَقبضاها ؟ ثم يَقسمانها على ورثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما يزعم هؤلاء !
بل جاء في رواية لمسلم صريحة في أن عمر رضي الله عنه دَفَع بعض ما تركه النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى عليّ والعباس رضي الله عنهما .
ففي صحيح البخاري ومسلم : فأما صدقته بالمدينة فدفعها عمر إلى عليّ وعباس ، فغلبه عليها عليّ ، وأما خيبر وفدك فأمسكهما عمر .
فهذه الرواية الصحيحة تُثبت أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم دَفَع صدقة النبي صلى الله عليه وآله وسلم التي كانت بالمدينة إلى عليّ والعباس .
فأين هو الدليل أن علياً رضي الله عنه أعطى فاطمة نصيبها من ميراث أبيها ؟
فمن طَعَن في أبي بكر وعُمر بشأن ميراث فاطمة فيَلزمه أن يَطعن في عليّ لأنه عمِل كما عَمِلا !
ومن طريف ما يُروى في هذا المقام ، وإلزام هؤلاء بمثل هذا اللزوم ، ما رواه ثعلب عن ابن الأعرابي قال : أول خطبة خطبها السفاح في قرية يقال لها العباسية ، فلما صار إلى موضع الشهادة من الخطبة قام رجل من آل أبي طالب في عنقه مصحف فقال : أذكّرك الله الذي ذَكَرْتَه ألا أنصفتني من خصمي ، وحكمت بيني وبينه بما في هذا المصحف .
فقال له : ومَن ظَلَمَك ؟
قال : أبو بكر الذي مَنَعَ فاطمة فَدَكاً .
قال : وهل كان بعده أحد ؟
قال : نعم .
قال : مَنْ ؟
قال : عمر .
قال : فأقام على ظلمكم ؟
قال : نعم .
قال : وهل كان بعده أحد ؟
قال : نعم .
قال : مَنْ ؟
قال : عثمان .
قال : وأقام على ظلمكم ؟
قال : نعم .
قال : وهل كان بعده أحد ؟
قال : نعم .
قال : ومَنْ هو ؟
قال : عليّ .
قال : وأقام على ظلمكم ؟
قال : فأسكت الرجل ! وجَعَل يلتفت إلى ورائه .
فأثبتوا لنا أن عليا رضي الله عنه قَسَم ميراث النبي صلى الله عليه وآله وسلم سواء فيما تولاّه زمن عمر ، أم في زمان خلافته هو رضي الله عنه .
وأين إثبات ذلك ؟
فهل أعطى ورثة فاطمة حقّهم من فَدَك وسهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم في خيبر ؟
فإن لم تأتوا به – وهو الحق – فلا أقل من مُعاملة أبي بكر وعمر كمعاملة عليّ رضي الله عنهم أجمعين .
ثم إن هؤلاء يزعمون أن أبا بكر وعمر ظلما فاطمة ميراثها .
وها هو العباس رضي الله عنه عم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وها هو عليّ رضي الله عنه زوج ابنته يُقرّان بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويتذكّرانه يوم ذكّرهما به عُمر رضي الله عنه ، وهو قوله صلى الله عليه وآله وسلم : " لا نورث ما تركناه صدقة " .
فيلزم من تكذيبنا لهذا الخبر لانفراد أبي بكر به – كما يَزعم بعضهم – أن نُكذّب العباس وعليّ رضي الله عنهما ، لأنهما وافقا أبا بكر عليه ، وشهدا بِصحّة قول عمر .
وهما يشهدان عليه شهادة بعد أن نشدهما عمر رضي الله عنه فقال : أنشدكما بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض أتعلمان أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : لا نورث ما تركناه صدقة ؟
فهل شهدا على كذب وزور ؟؟ سبحانك هذا بهتان عظيم .
وعند أبي داود أن العباس وعلي دخلا على عمر وعنده طلحة والزبير وعبد الرحمن وسعد وهما يختصمان فقال عمر لطلحة والزبير وعبد الرحمن وسعد : ألم تعلموا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : كل مال النبي صلى الله عليه وآله وسلم صدقة إلا ما أطعمه أهله وكساهم إنا لا نورث ؟ قالوا : بلى .
يعني كل هؤلاء شهدوا على صدق عمر رضي الله عنه وعلى صدق أبي بكر رضي الله عنه ثم تأتي هؤلاء ليّكّذّبوا الأخيار الأبرار !!!
والحديث لم ينفرد به أبو بكر رضي الله عنه بل رواه عمر وعائشة رضي الله عنهم أجمعين .
الوجه الثالث : أن الله خصّ نبيّه بشيء لم يخصّ به غيره ، وهو الفـيء ، وهو الغنائم التي أُخِذت من غير قِتال .
وخصّ بني هاشم وبني المطّلب بسهم ذوي القربى ، فلا تحلّ لهم الصدقة – كما تقدّم – .
الوجه الرابع : هل ردّ عليّ رضي الله عنه هذا الميراث لورثته حينما تولّى الخلافة ؟!
الجواب : لا .
إذا يُقال في حق عليّ رضي الله عنه ما يُقال في حق أبي بكر وعُمر إذ لم يُعطيا فاطمة حقها من ميراث أبيها.
قد يقول قائل : فاطمة قد ماتت آنذاك .
والجواب : أن فاطمة رضي الله عنها وإن ماتت ، إلا أنه إذا كان لها حق في ميراث أبيها ، فهو لورثتها من بعدها .
فلماذا لم يَقسمه عليّ رضي الله عنه حينما تولّى الخلافة وصار الأمر له ؟!
بل لماذا لم يَقسِمه وقد وُكِل إليه ؟
وقد تقدم هذا .
الوجه الخامس : إذا كان رسول الله يُؤيِّد بالوحي – وهو كذلك – فلماذا لم يَقسِم أرض فدَك وسهمه في خيبر على ورثته ؟
فإن قيل : النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يعلم ما يكون بعده .
فيُقال : فالله يعلم ما كان وما يكون ، ولم يأمر نبيّـه صلى الله عليه وآله وسلم بأن يَقسم ميراثه قبل موته لئلا تُظلَم ابنته .
وهل يُتصوّر أن الله أقرّ نبيّه على ظلم ابنته ؟!
الوجه السادس : أن فاطمة رضي الله عنها ليست كبقيّة النساء .
كيف ؟
سألني مرّة بعضهم : لماذا كل بنت ترِث من أبيها إلا فاطمة ؟
فأجبت : لأن كل بنت ليست بنت نبي غير فاطمة !
ولأن فاطمة هي بنت سيد المرسلين ، وخاتم النبيين ، فليست مثل سائر النساء ، ولا كَبقيّة البنات
وثمّة شُبهة يتمسّك بها البعض ، وهي قولهم : إن أبا بكر أنفذ وعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم لِجابر رضي الله عنه ، ولم يُورّث فاطمة من ميراث أبيها .
والجواب عنه : أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وَعَد جابر بن عبد الله رضي الله عنهما ، فقال: لو قد جاء مال البحرين قد أعطيتك هكذا وهكذا وهكذا ، فلم يجئ مال البحرين حتى قُبض النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فلما جاء مال البحرين أمر أبو بكر مُنادياً فنادى : من كان له عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم عدة أو دين فليأتنا . قال جابر : فأتيته فقلت : إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لي كذا وكذا ، فحثى لي حثية فعددتها فإذا هي خمسمائة ، فقال : خُذ مثليها . رواه البخاري ومسلم .
فهذا من وفاء أبي بكر رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يُنفذ مُجرّد الوعد ، وهذا من حسنات أبي بكر ، وهؤلاء تعدّه من مساوئه !
وهؤلاء يقولون : لماذا صدّق أبو بكر جابر فيما قال ، ولم يُصدق فاطمة رضي الله عنها ؟
والجواب :
أن جابر بن عبد الله يُخبر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وَعَدَه ، ومن وفاء أبي بكر رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن أنفذ وعده لجابر رضي الله عنه .
وأما فاطمة فإنها لم تقل وعدني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم . بل تُطالب بحقها من ميراث أبيها حيث فهمت أن لها الحق في ميراث أبيها ، فهي رضي الله عنها ما قالت : وعدني أبي صلى الله عليه وآله وسلم .
فأبو بكر رضي الله عنه لم يُكذّب الزهراء رضي الله عنها ، وإنما أفهمها أن ما تركه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صَدَقـة بنصّ قولِه عليه الصلاة والسلام .
ويدل عليه ما رواه الترمذي عن فاطمة أنها جاءت إلى أبي بكر فقالت : من يرثك ؟ قال : أهلي وولدي . قالت : فما لي لا أرث أبي ؟ فقال أبو بكر : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : لا نُورَث . ولكني أَعُول من كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعوله ، وأنفق على من كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يُنفِق عليه .
وثمّـة شُبهة يتشبّث بها هؤلاء في هذا السياق ، وهي :
أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فاطمة بَضْعَة مني فمن أغضبها أغضبني . رواه البخاري .
يقولون : إن أبا بكر أغضب فاطمة رضي الله عنها ، فهو داخل في هذا الحديث .
وليس الأمر كما زعموا ، فإن أبا بكر رضي الله عنه عمِل بوصية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، كما سيأتي ، وعمِل بما اتفق عليه الخلفاء من بعده ووافقوه عليه بما في ذلك عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه .
فهل يُقال : إن علياً رضي الله عنه أغضب فاطمة بهذا ؟
والجواب عن ذلك من وُجوه :
الأول : سبب وُورد الحديث ، وهو خِطبة عليّ رضي الله عنه ابنة أبي جهل .
وذلك أن ن علي بن أبي طالب خطب بنت أبي جهل وعنده فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فلما سمعت بذلك فاطمة أتت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالت له : إن قومك يتحدثون إنك لا تغضب لبناتك ! وهذا عليّ ناكحا ابنة أبي جهل . قال المسور : فقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم فسمعته حين تشهد ثم قال : أما بعد فإني أنكحت أبا العاص بن الربيع فحدّثني فصدقني ، وإن فاطمة بنت محمد مضغة مني ، وإنما أكره أن يفتنوها ، وإنها والله لا تجتمع بنت رسول الله وبنت عدو الله عند رجل واحد أبدا . قال : فَتَرَكَ عليّ الخطبة . رواه البخاري ومسلم .
الثاني : أن أبا بكر عمِل بما عمِل به الخلفاء من بعدِه ، وهذا يعني أنه على الحق ، فالغضب الذي يُغضب فاطمة والذي يَغضب له النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما كان في حقّ ، أي ما كانت فيه مُحقّـة .
ونحن لا ندّعي العِصمة لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
وفاطمة سيدة نساء العالمين ، وهي من بنات آدم تغضب كما يَغضبون .
بل إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال ذلك عن نفسه ، فقال : اللهم إنما أنا بشر ، فأيّ المسلمين لعنته أو سببته فاجعله له زكاة وأجرا . رواه مسلم .
الثالث : أن علياً رضي الله عنه أغضَب فاطمة مرّة ، فهل يُمكن أن يُقال إن علياً رضي الله عنه أغضب فاطمة فغضبت عليه ، أو غاضبها ثم خَرَج من عندها ، أنه بفعله ذلك أغضب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ؟
روى البخاري ومسلم عن سهل بن سعد قال : جاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيت فاطمة فلم يجد علياً في البيت ، فقال : أين ابن عمك ؟ قالت : كان بيني وبينه شيء ، فغاضبني ، فخرج فلم يَقل عندي . فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لإنسان : انظر أين هو . فجاء فقال : يا رسول الله هو في المسجد راقد . فجاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو مضطجع قد سقط رداؤه عن شِقه وأصابه تراب ، فجعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يمسحه عنه ويقول : قُم أبا تراب ، قَم أبا تراب .
فلو كان هذا الإغضاب من عليّ سبب في غضب النبي ما مسح عنه التراب ، ولا مازحه بقوله هذا .
الرابع : أن أبا بكر رضي الله عنه عَرَف لقرابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حقّهم ، وما كان يسرّه أن تموت فاطمة وهي غضبى عليه . فقد طَلَب رضاها قبيل موتها .
فقد حدّث الشعبي قال : لما مرضت فاطمة أتى أبو بكر فاستأذن ، فقال عليٌّ : يا فاطمة هذا أبو بكر يستأذن عليك ، فقالت : أتحبّ أن آذن له ؟ قال : نعم . فأذِنَتْ له ، فدخل عليها يترضّاها ، وقال : والله ما تركت الدار والمال والأهل والعشيرة إلا ابتغاء مرضاة الله ورسوله ومرضاتكم أهل البيت . قال : ثم ترضّاها حتى رَضِيَتْ . رواه البيهقي في الكبرى وفي الاعتقاد .
قال الذهبي في سيرة سيدة نساء العالمين رضي الله عنها :
ولما توفي أبوها تعلقت آمالها بميراثه ، وجاءت تطلب ذلك من أبي بكر الصديق ، فحدّثها أنه سمع من النبي يقول : لا نورث ما تركنا صدقة ، فَوَجَدَتْ عليه ، ثم تعللت . اهـ .
ومما يدلّ على رضاها عنه أنها رضي الله عنها أوصَتْ أن تُغسِّلها أسماء بنت عُميس امرأة أبي بكر رضي الله عنها وعنه .
قال ابن كثير : ولما حضرتها الوفاة أوْصَتْ إلى أسماء بنت عميس امرأة الصديق أن تغسلها ، فغسلتها هي وعلي بن أبي طالب وسلمى أم رافع ، قيل : والعباس بن عبد المطلب . وما رُوي من أنها اغتسلت قبل وفاتها وأوصت أن لا تُغَسّل بعد ذلك فضعيف لا يُعوّل عليه ، والله أعلم .
فلو كانت تجِد في نفسها على الصدِّيق رضي الله عنه لما أوصَتْ أن تُغسِّلها امرأته ، ولكانت بمنأى عن أهل بيت أغضبوها وغصبوها حقّها.
ومن الأقوال في هذا الباب ما جاء في في شرح نهج البلاغة كما يروي ابن الميثم البحراني : " أن أبا بكر قال لها - أي فاطمة - : أن لك ما لأبيك ، كان رسول الله صلى الله عليه وآله يأخذ من فدك قوتكم ، ويقسم الباقي ، ويحمل منه في سبيل الله ، ولك على الله أن أصنع بها كما كان يصنع ، فرضيت بذلك وأخذت العهد عليه " [36]
ومثل هذ الكلام ذكره الدنبلي في شرحه.[37]
ويقول كبار علماء الشيعة بأن أبو بكر رضي الله عنه كان يطبق ما وعد به فاطمة رضوان الله عليها .. حيث ذكروا: " إن أبا بكر كان يأخذ غلتها ( أي فدك ) فيدفع إليهم ( أي أهل البيت ) منها ما يكفيهم ، ويقسم الباقي ، فكان عمر كذلك ، ثم كان عثمان كذلك ، ثم كان علي كذلك " [38]
وقال المرتضى وغيره: " إن الأمر لما وصل إلى علي ابن أبي طالب كُلم في رد فدك ، فقال : إني لأستحي من الله أن أرد شيئاً منع منه أبو بكر وأمضاه عمر " [39]
والقول بأن فاطمة رضي الله عنها لم تتكلم مع الصديق حتى ماتت ..
نعم ، هذا حق !!
فهي لم تتكلم معه في قضية فدك إلى أن ماتت ..
فهاهو المجلسي على تعنته يضطر إلى أن يقول :
" إن أبا بكر لما رأى غضب فاطمة قال لها : أنا لا أنكر فضلك ولا قرابتك من رسول الله عليه السلام ، ولم أمنعك من فدك إلا امتثالاً بأمر رسول الله ، واشهد الله على أني سمعت رسول الله يقول : نحن معاشر الأنبياء لا نورث ، وما تركنا إلا الكتاب والحكمة والعلم ، وقد عملت هذا باتفاق المسلمين ولست بمتفرد في هذا ، وأما المال فإن تريدينه فخذي من مالي ماشئت لأنك سيدة أبيك وشجرة طيبة لأبنائك ولا يستطيع أحد أن ينكر فضلك " [40]
وكما مر معنا قول علي رضي الله عنه لما سئل أن يرد فدك رفض تغيير حكم منعه أبو بكر وأمضاه عمر رضوان الله عليهما ..
ولأجل ذلك لما سئل أبو جعفر محمد الباقر رحمه الله عن ذلك وقد سأله كثير النوال بقوله :
" جعلني الله فداك أرأيت أبا بكر وعمر ، هل ظلماكم من حقكم شيئاً ، أو قال : ذهبا من حقكم بشيء ؟ فقال : لا ، والذي أنزل القرآن على عبده ليكون للعالمين نذيرا ، ما ظلمانا من حقنا مثقال حبة من خردل ، قلت : جعلت فداك أفأتولاهما ؟
قال : نعم ويحك تولهما في الدنيا والآخرة ، وما أصابك ففي عنقي " [41]
وهذا زيد بن علي بن الحسين أخو محمد الباقر رضوان الله عليهما ، قال في قضية فدك ما قاله جده علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، لما سأله البحتري بن حسان وهو يقول : قلت لزيد بن علي عليه السلام وأنا أريد أن أهجن من أمر أبي بكر ، إن أبا بكر انتزع فدك من فاطمة عليها السلام .
فقال : إن أبا بكر كان رجلا رحيماً ، وكان يكره أن يغير شيئاً فعله رسول الله صلى الله عليه وآله ، فأتته فاطمة ، فقالت : إن رسول الله صلى الله عليه وآله أعطاني فدك ، فقال لها : هل لك على هذا بينة ، فجاءت بعلي عليه السلام فشهد لها ، ثم جاءت أم أيمن فقالت : ألستما تشهدان أني من أهل الجنة ، قالا : بلى ، قال زيد : يعني أنها قالت لأبي بكر وعمر ، قالت : فأنا أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وآله أعطاها فدك ، فقال أبو بكر : فرجل آخر أو امرأة أخرى لتستحقي بها القضية ، ثم قال زيد : وأيم الله ! لو رجع الأمر إلي لقضيت فيه بقضاء أبي بكر “ [42]

المزيد من الردود
روى الشيخان من حديث المسور بن مخرمة قال: (إن علياً خطب بنت أبي جهل فسمعت بذلك فاطمة، فأتت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: يزعم قومك أنك لا تغضب لبناتك، وهذا علي ناكح بنت أبي جهل، فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فسمعته حين تشهد يقول: أما بعد أنكحت أبا العاص ابن الربيع فحدثني وصدقني، وإن فاطمة بضعة مني وإني أكره أن يسوءها، والله لا تجتمع بنت رسول الله وبنت عدو الله عند رجل واحد فترك علي الخطبة).[43]
وفي رواية: (إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: فاطمة بضعة مني فمن أغضبها أغضبني).[44]
فظهر أن مناسبة الحديث هي خطبة علي –رضي الله عنه- لابنة أبي جهل وغضب فاطمة من ذلك، والنص العام يتناول محل السبب، وهو نص فيه باتفاق العلماء، حتى قالوا لا يجوز إخراج السبب بدليل تخصيص، لأن دلالة العام على سببه قطعية وعلى غيره على وجه الظهور.[45]
وعلى هذا فلو كان هذا الحديث متنزلاً على كل من أغضب فاطمة لكان أول الناس دخولاً في ذلك علياً –رضي الله عنه-.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في هذه المسألة وبعد أن ذكر الحديث: «فسبب الحديث خطبة علي لابنة أبي جهل والسبب داخل في اللفظ قطعاً، إذ اللفظ الوارد على سبب لا يجوز إخراج سببه منه، بل السبب يجب دخوله بالاتفاق.
وقد قال في الحديث: (يريبني ما رابها ويؤذيني ما آذاها) ومعلوم قطعاً أن خطبة ابنة أبي جهل عليها رابها وآذاها، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم رابه ذلك وآذاه، فإن كان هذا وعيد لاحقاً لزم أن يلحق هذا الوعيدعلي بن أبي طالب، وإن لم يكن وعيداً لاحقاً بفاعله، كان أبو بكر أبعد عن الوعيد من علي».
وثبت عن فاطمة -رضي الله عنها- أنها رضيت عن أبي بكر بعد ذلك، وماتت وهي راضية عنه، على ماروى البيهقي بسنده عن الشعبي أنه قال: (لما مرضت فاطمة أتاها أبو بكر الصديق فاستأذن عليها، فقال علي: يافاطمة هذا أبو بكر يستأذن عليك؟ فقالت: أتحب أن آذن له؟ قال: نعم، فأذنت له فدخل عليها يترضاها، فقال: والله ما تركت الدار والمال، والأهل والعشيرة، إلا إبتغاء مرضاة الله، ومرضاة رسوله، ومرضاتكم أهل البيت، ثم ترضاها حتى رضيت)[46]
قال ابن كثير: «وهذا إسناد جيد قوي والظاهر أن عامر الشعبي سمعه من علي أو ممن سمعه من علي»[47]
وقال ابن حجر: «وهو وإن كان مرسلاً فاسناده إلى الشعبي صحيح، وبه يزول الإشكال في جواز تمادي فاطمة عليها السلام على هجر أبي بكر»[48]
وقال أيضاً: «فإن ثبت حديث الشعبي أزال الإشكال وأخلق بالأمر أن يكون كذلك، لما علم من وفور عقلها ودينها، عليها السلام»[49]
وبهذا تندحض المطاعن في أبي بكر في هذه المسألة ، فلئن كانت غضبت على أبي بكر في بداية الأمر فقد رضيت عنه بعد ذلك وماتت عليه، ولا يسع أحد صادق في محبته لها، إلا أن يرضي عمن رضيت عنه، ولا يعارض هذا ما ثبت في حديث عائشة المتقدم (أنها وجدت على أبي بكر فلم تكلمه حتى توفيت) فإن هذا بحسب علم عائشة -رضي الله عنها- راوية الحديث، وفي حديث الشعبي زيادة علم، وثبوت زيارة أبي بكر لها وكلامها له ورضاها عنه، فعائشة -رضي الله عنها- نفت والشعبي أثبت، ومعلوم لدى العلماء أن قول المثبت مقدم على قول النافي، لأن احتمال الثبوت قد حصل بغير علم النافي، خصوصاً في مثل هذه المسألة فإن عيادة أبي بكر لفاطمة -رضي الله عنها- ليست من الأحداث الكبيرة التي تشيع في الناس، ويطلع عليها الجميع، وإنما هي من الأمور العادية التي تخفى على من لم يشهدها، والتي لا يعبأ بنقلها لعدم الحاجة لذكرها.
على أن الذي ذكره العلماء أن فاطمة -رضي الله عنها- لم تتعمد هجر أبي بكر –رضي الله عنه- أصلاً، ومثلها ينزه عن ذلك لنهي النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الهجر فوق ثلاث، وإنما لم تكلمه لعدم الحاجة لذلك.
قال القرطبي في سياق شرحه لحديث عائشة المتقدم: «ثم إنها (أي فاطمة) لم تلتق بأبي بكر لشغلها بمصيبتها برسول الله، ولملازمتها بيتها فعبر الراوي عن ذلك بالهجران، وإلا فقد قال رسول الله : ( لايحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث)- وهي أعلم الناس بما يحل من ذلك ويحرم، وأبعد الناس عن مخالفة رسول الله ).[50]
كيف لا يكون كذلك وهي بضعة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسيدة نساء أهل الجنة»

وقال النووي: «وأما ما ذكر من هجران فاطمة أبا بكر فمعناه انقباضها عن لقائه، وليس هذا من الهجران المحرم، الذي هو ترك السلام والإعراض عند اللقاء، وقوله في هذا الحديث (فلم تكلمه) يعني في هذا الأمر، أو لانقباضها لم تطلب منه حاجة ولا اضطرت إلى لقائه فتكلمه، ولم ينقل قط أنهما التقيا فلم تسلم عليه ولا كلمته»[51]

والدليل ايضاً ان أسماء بنت عميس زوجة ابي بكر هي التى غسلت فاطمة – رضي الله عنها -

وبهذا يظهر الحق في هذه المسألة، وأن ما جرى الصديق وفاطمة لايعدو أن يكون اختلافاً في مسألة فقهية .

ومن خلال بحثي في كتب الإمامية عن اصل مسالة العقار والإرث فيه وجدت نصوصاً في أن النساء في مذهب الإمامية لا يرثن العقار ...
قال : محمد بن الحسين عن جعفر بن بشير عن الحسين عن ابي مخلد عن عبد الملك قال : دعا ابو جعفر ع بكتاب علي فجاء به جعفر مثل فخذ الرجل مطوى فإذا فيه ان النساء ليس لهن من عقار الرجل إذا هو توفي عنها شيء فقال ابو جعفر ع : هذا والله خط يده وإملاء رسول الله .[52]
وعن علي عن ابيه عن جميل عن زراره ومحمد بن مسلم عن ابي جعفر ع قال : لا ترث النساء من عقار الأرض شيئاً .[53]
ومن الردود أن موافقة علي رضي الله عنه راي ابوبكر رضي الله عنه بشان أرض فدك.
يقول السيد المرتضى الملقب بعلم الهدى إمام الشيعة :
إ ن الأمر لما وصل الأمر إلى علي ابن أبي طالب كلّم في رد فدك ، فقال : " إني لأستحيي من الله أن أرد شيئاً منع منه أبو بكر وأمضاه عمر " [54]
ولما سئل أبو جعفر محمد الباقر عن ذلك وقد سأله كثير النوال بقوله " جعلني الله فداك أرأيت أبا بكر وعمر هل ظلماكما من حقكم شيئاً ، أو قال ذهبا من حقكم بشيء ؟ فقال : لا ، والذي أنزل القرآن على عبده ليكون للعالمين نذيرا ، ما ظلمانا من حقنا مثقال حبة من خردل ، قلت : جعلت فداك أفأتولاهما ؟ قال : نعم ويحك تولهما في الدنيا والآخرة ، وما أصابك ففي عنقي " [55]

وذكر المجلسي أن أبا بكر لما رأى غضب فاطمة قال لها : أنا لا أنكر فضلك وقرابتك من رسول الله عليه السلام ، ولم أمنعك من فدك إلا إمتثالاَ بأمر رسول الله ، وأشهد الله على أني سمعت رسول الله يقول : نحن معاشر الأنبياء لا نورث ، وما تركنا إلا الكتاب والحكمة والعلم ، وقد فعلت هذا بإتفاق المسلمين ولست بمتفرد في هذا ، وأما المال فإن تريدينه فخذي من مالي ما شئت لأنك سيدة أبيك وشجرة طيبة لأبنائك ، ولا يستطيع أحد إنكار فضلك ..[56]

ويروي ابن الميثم الشيعي في شرح نهج البلاغة : " إن أبا بكر قال لها : إن لك ما لأبيك ، كان رسول الله صلى الله عليه وآله يأخذ من فدك قوتكم ، ويقسم الباقي ويحمل منه في سبيل الله ، ولك على الله أن أصنع بها كما كان يصنع ، فرضيت بذلك وأخذت العهد عليه به .[57]
ومصداق على ذلك يروي ابن الميثم والدنبلي وابن أبي الحديد والشيعي المعاصر فيض الإسلام علي نقي : أن أبي بكر كان يأخذ غلتها ( أي فدك ) فيدفع إليهم ( أهل البيت ) منها ما يكفيهم ، ويقسم الباقي ، فكان عمر كذلك ، ثم كان عثمان كذلك ، ثم كان علي كذلك .[58]
[1] - تفسيره الصافي 3/186
[2] - انظر: الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم للنباطي 2/282، وحق اليقين في معرفة أصول الدين لعبد الله شبّر 1/178.
[3] - انظر: الاحتجاج للطبرسي 1/102.
[4] - في هذا رد على زعمهم أن أم أيمن وعلياً - رضي الله عنهما- شهدا بمنح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاطمة فدكاً. انظر: الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم للنباطي 2/282.
[5] - منهاج السنة 4/228.
[6] - أخرجه البخاري في: (كتاب المغازي، باب غزوة خيبر) فتح الباري 7/493، ح4240- 4241، ومسلم: (كتاب الجهاد، باب قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا نورث) 3/1380، ح1759.
[7] - فتح الباري 6/202.
[8] - يشير إلى الحديث الذي احتج به أبو بكر وهو قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لا نورث، ما تركنا صدقه)، وقد تقدم تخريجه في الصحفة السابقة.
[9] - منهاج السنة 4/220
[10] - تلبيس إبليس ص135.
[11] - السنن الكبرى 6/302 ، وذكره ابن كثير في البداية والنهاية 5/253.
[12] - المفهم للقرطبي 3/564.
[13] أخرجه البخاري في: (كتاب الحدود، باب إقامة الحدود) فتح الباري 12/86، ح6786، ومسلم: (كتاب الفضائل، باب مباعدته صلى الله عليه وآله وسلم للآثام) 4/1813، ح2327.
[14] انظر: صحيح البخاري: (كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب علي بن أبي طالب) فتح الباري 7/71، ح3705، وصحيح مسلم: (كتاب الذكر والدعاء، باب التسبيح أول النهار وعند النوم) 4/2091، ح2727.
[15] - انظر: سنن أبي داود: (كتاب الخراج والإمارة، باب في صفايا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم) 3/378، ح2972.
[16] - أخرجه مسلم: (كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل عائشة) 4/1891، ح2442.
[17] - انظر: تقرير هذه المسألة في مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية 10/372، 28/500- 501.
[18] - رواه البخاري في: (كتاب فضائل الصحابة، باب ذكر أصهار النبي صلى الله عليه وآله وسلم) فتح الباري 7/85، ح3729، ومسلم: (كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم) 4/1903.
[19] - رواه البخاري في: (كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب قرابة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم) فتح الباري 7/78، ح3714.
[20] - انظر: المسودة في أصول الفقه للأئمة الثلاثة من آل تيمية: شيخ الإسلام وأبيه شهاب الدين وجده أبي البركات ص119، وتخريج الفروع على الأصول للزنجاني ص360.
[21] - منهاج السنة 4/251.
[22] - شرح صحيح مسلم للنووي 12/73.
[23] - المفهم 3/563.
[24] - منهاج السنة 4/234.
[25] - البداية والنهاية 5/252.
[26] - السنن الكبرى للبيهقي 6/301.
[27] - البداية والنهاية 5/253.
[28] - فتح الباري 6/202.
[29] - أخرجه البخاري من حديث أبي أيوب الأنصاري - رضي الله عنه- في: (كتاب الأدب، باب الهجرة) فتح الباري 10/492، ح6077، ومسلم: (كتاب البر والصلة، باب تحريم الهجر فوق ثلاث بلا عذر شرعي) 4/1984، ح2560.
[30] - ) المفهم 3/568- 569
[31] - شرح صحيح مسلم 12/73.
[32] - شبهات حول عصر الصحابة (6) : ماذا بين أبي بكر الصديق وفاطمة الزهراء رضي الله عنهما!! خالد الغيث
[33] - منهاج السنة لشيخ الإسلام ابن تيمية ، 4 / 194- 264).
[34] - بحار الأنوار 43/42
[35] - علل الشرائع للقمي ص185- 186
[36] - شرح نهج البلاغة - لابن ميثم البحراني ج 5 ص 107 ط طهران
[37] - الدرة النجفية ص 331 ، 332 ط إيران
[38] - شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 4 ) ( شرح نهج البلاغة لابن ميثم البحراني ج 5 ص 107 ) ( الدرة النجفية ص 332 ) ( شرح النهج - فارسي لعلي نقي ج 5 ص 960 ط طهران )
[39] - ) الشافي - للمرتضى ص 231 ) ( شرح نهج البلاغة - لابن أبي الحديد ج4 )
[40] - حق اليقين ص 201 ، 202 - ترجمة من الفارسية
[41] - )شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج4 ص 82 )
[42] - شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج4 ص 82
[43] - رواه البخاري في: (كتاب فضائل الصحابة، باب ذكر أصهار النبي صلى الله عليه وسلم) فتح الباري 7/85، ح3729، ومسلم: (كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل فاطمة بنت رسول الله 4/1903
[44] - رواه البخاري في: (كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب قرابة الرسول صلى الله عليه وسلم) فتح الباري 7/78، ح3714
[45] - انظر: المسودة في أصول الفقه للأئمة الثلاثة من آل تيمية: شيخ الإسلام وأبيه شهاب الدين وجده أبي البركات ص119، وتخريج الفروع على الأصول للزنجاني ص360.
[46] - - السنن الكبرى للبيهقي 6/301
[47] - البداية والنهاية 5/253
[48] - فتح الباري 6/202
[49] - فتح الباري 6/202
[50] - أخرجه البخاري من حديث أبي أيوب الأنصاري –رضي الله عنه- في: (كتاب الأدب، باب الهجرة) فتح الباري 10/492، ح، ومسلم: (كتاب البر والصلة، باب تحريم الهجر فوق ثلاث بلا عذر شرعي) 4/1984
[51] - شرح صحيح مسلم 12/73
[52] - بحار الأنوار للمجلسي ( ج 26 ص 514 رواية 101باب 1 ) و( ج 104 ص 352 رواية 9 باب 7 )
[53] - الكافي للكليني ( ج 7 ص 128 رواية 4 )
[54] - ( الشافي للمرتضي ص 213 ، وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج4 )
[55] - ( شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج4 ص 84 )
[56] - ( حق اليقين ص 201 ، 202 - ترجمة من الفارسية )
[57] - ( شرح نهج البلاغة لابن ميثم البحراني ج5 ص 107 ط طهران )
[58] - ( شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج4 ، وأيضاً شرح نهج البلاغة لابن ميثم البحراني ج 5 ص 107 ، وأيضاً الدرة النجفية ص 332 ، شرح نهج البلاغة - فارسي - لعلي نقي ج 5 ص 960 ط طهران )





التوقيع






آخر تعديل عمر أبو صهيب يوم 2010-09-28 في 08:13.
    رد مع اقتباس
قديم 2010-09-28, 08:17 رقم المشاركة : 9
عمر أبو صهيب
بروفســــــــور
 
الصورة الرمزية عمر أبو صهيب

 

إحصائية العضو








عمر أبو صهيب غير متواجد حالياً


وسام المشارك

وسام منضم مسابقة المقدم

الوسام الذهبي

وسام المشاركة

وسام المشاركة في دورة HTML

وسام المشاركة

وسام حفظ سورة الكهف

وسام المركز الاول في مسابقة التصوير الفوتوغرافي

وسام المركز الثاني في مسابقة استوقفتني آية

وسام مشارك في دورة حفظ سورة البقرة

افتراضي رد: شبهات مهترئة و ردود قاصمة


الخلافة والنص


ومن الشبهات ما ذكره البعض في سياق الأسباب التي دعته لترك مذهبه النص على الخلافة حيث قال: لقد آليت على نفسي عند الدخول في هذا البحث أن لا أعتمد إلاّ ما هو موثوق عند الفريقين وأن أطرح ما انفردت به فرقة دون أخرى، وعلى ذلك أبحث في فكرة التفضيل بين أبي بكر وعلي بن أبي طالب وأنّ الخلافة إنّما كانت بالنص على علي كما يدّعي الشيعة أو بالإنتخاب والشورى كما يدّعي أهل السنة والجماعة.

والباحث في هذا الموضوع إذا تجرّد للحقيقة فإنّه سيجد النص على علي بن أبي طالب واضحاً جلياً كقوله صلى الله عليه وآله وسلم: من كنت مولاه فهذا علي مولاه قال ذلك بعدما انصرف من حجة الوداع فعُقد لعلي موكب للتهنئة حتى أنّ أبا بكر نفسه وعمر كانا من جماعة المهنئين للإمام يقولان :بخ بخ لك يا ابن أبي طالب أصبحت وأمسيت مولى كل مؤمن ومؤمنة . وهذا النص مجمع عليه من الشيعة والسنّة، ولم أخرّج أنا في البحث هذا إلا مصادر السنّة والجماعة ومع ذلك لم أذكر المصادر كلها فهي أكثر بكثير مما ذكرت، وللإطلاع على المزيد من التفصيل ادعو القارئ إلى مطالعة كتاب الغدير للعلاّمة الأميني وقد طبع منه ثلاثة عشر مجلداً يحصي فيها المنصف رواة هذا الحديث من طريق أهل السنة والجماعة .
فأقول:
1 بالنسبة لقوله أن أهل السنة يقولون بأن الخلافة بالانتخاب والشورى فهذا قول ليس صحيحاً، لأن أهل السنة اختلفوا في خلافة أبي بكر، فقالت جماعة ان خلافة أبي بكر ثبتت بالنص الجلي أو الخفي، في حين قالت جماعة أخرى من أهل السنة أن الخلافة كانت بموافقة أهل الحل والعقد، وقد استدل الطرف الأول على وجود النص بالخلافة على أدلة قوية، وعلى العموم يجب أن يُعلم أن ما يقوله هذا الطاعن من أنّ أهل السنة يجعلون الخلافة بالشورى ليس قول الجميع، فإن كان حقاً فهو قول بعضهم، وإن كان الحق هو بالنص الجلي أو الخفي فهو قول البعض الآخر فعلى التقديرين لم يخرج الحق عن أهل السنة.

2 أما قوله أن الشيعة يدعون بأن الخلافة كانت بالنص على علي بن أبي طالب رضي الله عنه مستندين على عدة أحاديث فهذا فيه نظر كما سيأتيً، ومن جانب آخر لو فرضنا أن القول بالنص على الخلافة هو الحق لم يكن لهذا الأمر دليل على ما يدعيه الشيعة الاثني عشرية، فإن الراوندية القائلين بإمامة العباس بن عبد المطلب يدعون النص الثابت عليه كما يدعي الشيعة أن النص الثابت هو في علي، يقول القاضي أبو يعلى: واختلف الراوندية فذهب جماعة منهم إلى أن النبي نصَّ على العباس بعينه واسمه، واعلن ذلك وكشفه وصرَّح به، وأن الأمة جحدت هذا النص وارتدَّت وخالفت أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم عناداً. ومنهم من قال: إن النص على العباس وولده من بعده إلى أن تقوم الساعة وهذا الادعاء مثل إدعاء الإمامية ويناظره، وكلا القولين لا دليل على أي منهما ولم يقل بهما أحد من أهل العلم قاطبة بخلاف النص على أبي بكر الذي يعضِّده أقوال أهل العلم.

3 أما قوله أن الباحث عن الموضوع إذا تجرّد للحقيقة فإنه سيجد النص على عليّ بن أبي طالب واضح جليّ كقوله صلى الله عليه وآله وسلم من كنت مولاة فهذا عليّ مولاه . وللرد على ادعائه أقول:

أ إختلف أهل الحديث في تصحيح وتضعيف هذا الحديث فمنهم من ضعفه ومنهم من حسّنه والذي أراه حقاً أن الحديث صحيح وثابت عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ولا أستطيع أن أضعف هذا الحديث بالهوى كما يضعف هذا الطاعن الأحاديث التي لا يرغب فيها أو يراها تخالف هواه إلا فالمسألة بسيطة لأهل الأهواء، وهذا لمن أنصف وعلم أن أهل السنة يقفون عند النصوص الحديثية ويثبتونها إن كانت صحيحة الإسناد والمتن.

ب وادعاء هذا الطاعن أ الحديث نص واضح وجلي على عليّ فأقول يبدو أن الكلام لا يحتاج إلى كثير عناء، فمن السهل على أي إنسان فضلاً عن هذا الطاعن أن يقول ما يريد، فالكلام لا يشترى بالمال أو يباع، فليس الكلام بحد ذاته يعتبر دليلاً لمن فهم، فهذا الطاعن يدّعي أن هذا الحديث واضح وجلي ولم يتعنَّ ويظهر هذا الوضوح والجلاء، ولا برهان على كلامه وقد وصدق الشاعر:

والدعاوى مالم تقيموا عليها بينات فأصحابها أدعياء

ولكن ومع الأسف البرهان على عدم وجود هذا الوضوح والجلاء هو في نفس النص لأن النص كان بعد رجوع النبي صلى الله عليه وآله وسلم من حجة الوداع باعتراف هذا الطاعن نفسه عند غدير خُم، ومعلوم أنه بعد حجة الوداع لم يرجع المسلمون كلهم مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة بل رجع أهل مكة إلى مكّتهم وأهل الطائف إلى الطائف وأهل اليمن إلى يمنهم فلم يرجع معه إلا أهل المدينة فلو كان ما ذكره في غدير خُم بلاغاً للناس كافّة لذكره في حجة الوداع التي اجتمع فيها المسلمون كافة، ولم يذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم في هذه الحجة الإمامة بشيءٍ ولا ذكر علياً أصلاً، ومن هنا نعلم أن إمامة عليّ لم تكن وحياً منزلاً ولا منصوصاً عليها في دين الله عزوجل، ولا مما أُمر ببلاغها، فهذا الحديث ليس حُجّة على خلافته فضلاً عن وضوحه وجلائه!

ج وبالنسبة لكلمة مولاه فلم يَرد بها الخلافة قطعاً ولا اللفظ يدل على ذلك لتعدّد معاني المولى ففي مختار الصحاح يقول الرازي المولى المُعتِقِ والمُعْتَقُ وابن العَمِّ والناصر والجار والحليف..... والموالاة ضد المعاداة وقال الوِلاية بالكسر السلطان والوَِلايةُ بالفتح والكسر النصرة ، وقال فيروز أبادي الوَلْيُ: القرب والدنو، ... والوَلِيُّ: الاسم منه، والمحب والصديق، والنصير، وولي الشئ، وعليه وِلايَةً وَوَلايَةً أو هي المصدر وبالكسر: الخطة والإمارة والسلطان... والمَوْلَى: المالك، والعبد، والمُعْتِقُ، والمُعتَقُ، والصاحب، والابن، والعم، والنزيل، والشريك، وابن الأخت، والوَلِيُّ، والرب، والناصر، والمُنْعِمُ، والمُنْعَمُ عليه، والمحب والتابع، والصهر ، ومن هنا نعلم أن المولى جاءت بمعنى النصرة وغيرها من التعريفات السابقة فجعلها في معنى السلطان يحتاج إلى دليل واضح لإثبات ذلك، هذا بالاضافة لتعذر حمل المولى على الوالي يقول شيخ الإسلام وليس في الكلام ما يدل دلالة بيّنة على أن المراد به الخلافة. وذلك أن المولى كالولي، والله تعالى قال { إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا } وقال { وإن تظاهرا عليه فإنّ الله هو مولاهُ وجبريلُ وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهيرٌ } فبيّن أن الرسول وليّ المؤمنين، وأنهم مواليه أيضاً، كما بيّن أن الله ولي المؤمنين، وأنهم أولياؤهم، وأن المؤمنين بعضهم أولياء بعض، فالموالاة ضد المعاداة، وهي تثبت من الطرفين، وإن كان أحد المتواليين أعظم قدرا، وولايته إحسان وتفضل، وولاية الآخر طاعة وعبادة، كما أن الله يحب المؤمنين، والمؤمنون يحبونه، فإن الموالاة ضد المعاداة والمحاربة والمخادعة، والكفّار لا يحبون الله ورسوله، ويحادّون الله ورسوله ويعادونه. وقد قال تعالى { لا تتخذوا عدوِّي وعدوَّكم أولياء } وهو يجازيهم على ذلك، كما قال تعالى { فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله } وهو وليّ المؤمنين وهو مولاهم يخرجهم من الظلمات إلى النور، وإذا كان كذلك فمعنى كون الله وليّ المؤمنين ومولاهم، وكون الرسول وليهم ومولاهم، وكون عليّ مولاهم، هي الموالاة التي هي ضد المعاداة، والمؤمنون يتولون الله ورسوله الموالاة المضادة للمعاداة، وهذا حكم ثابت لكل مؤمن، فعليّ رضي الله عنه من المؤمنين الذين يتولون المؤمنين ويتولنه، وفي هذا الحديث إثبات موالاة عليّ في الباطن، والشهادة له بأنه يستحق الموالاة باطناً وظاهراً، وذلك يرد ما يقوله فيه أعداؤه من الخوارج والنواصب، لكن ليس فيه أنه ليس للمؤمنين مولى غيره، فكيف ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم له موالي، وهم صالحو المؤمنين، فعليّ أيضاً له مولى بطريق الأوْلى والأحرى، وهم المؤمنون الذين يتولّنه، وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : إن أسلم وغفار ومُزينة وجهينة وقرشاً والأنصار ليس لهم مولى دون الله ورسوله، وجعلهم موالي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، كما جعل صالح المؤمنين مواليه والله ورسوله مولاهم، وفي الجملة فرق بين الوليّ والمولى ونحو ذلك وبين الوالي. فباب الولاية التي هي ضدّ العداوة شيء، وباب الولاية التي هي الإمارة شيء، والحديث إنما هو في الأولى دون الثانية، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يقل: من كنت واليه فعليّ واليه. وإنما اللفظ من كنت مولاه فعليّ مولاه وأما كون المولى بمعنى الوالي، فهذا باطل، فإن الولاية تثبت من الطرفين، فإن المؤمنين أولياء الله وهو مولاهم، وأما كونه أوْلى بهم من أنفسهم، فلا يثبت إلا من طرفه صلى الله عليه وآله وسلم ، وكونه أوْلى بكل مؤمن من نفسه من خصائص نبوّته،ولو قُدّر أنه نصَّ على خليفة من بعده، لم يكن لم ذلك موجباً أن يكون أوْلى بكل مؤمن من نفسه، كما أنه لايكون أُزواجه أُمهاتهم، لو أريد هذا المعنى لقال: من كنت أولى به من نفسه فعلي أولى به نفسه وهذا لم يقله أحد، ولم ينقله أحد ومعناه باطل قطعاً لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أولى بكل مؤمن من نفسه أمر ثابت في حياته ومماته، وخلافة عليّ لو قدر وجودها لم تكن إلا بعد موته، لم تكن في حياته، فلا يجوز أن يكون عليّ خليفة في زمنه، فلا يكون حينئذ أولى بكل مؤمن من نفسه، بل ولا يكون مولى أحد من المؤمنين إذا أريد به الخلافة، وهذا مما يدل على أنه لم يُرِد الخلافة، فإن كونه وليّ كل مؤمن وصف ثابت له في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يتأخّر حكمه إلى الموت، وأما الخلافة فلا يصير خليف إلا بعد الموت، فعلم أن هذا ليس هذا، وإذا كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو أولى بالمؤمنين من أنفسهم في حياته وبعد مماته إلى يوم القيامة، وإذا استخلف أحداً على بعض الأمور في حياته أو قُدّر أنه استخلف أحداً على بعض الأمور في حياته أو قُدّر أنه استخلف أحداً بعد موته وصار له خليفة بنص أو إجماع، فهو أولى بتلك الخلافة وبكل المؤمنين من أنفسهم، فلا يكون قط غيره أولى بكل مؤمن من نفسه، لا سيما في حياته. وأما كون عليّ مولى كل مؤمن فهو وصف ثابت لعليّ في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبعد مماته، وبعد ممات عليّ، فعليّ اليوم مولى كل مؤمن، وليس اليوم متولّياً على الناس، وكذلك سائر المؤمنين بعضهم أولياء بعض أحياءً وأمواتاً .

4 وأما حجة الإمامي سبط ابن الجوزي في كتابه تذكرة الخواص وهو إحدى المصادر التي عزى إليها الحديث قوله من أن علماء العربية قالوا أن لفظة الولى ترد على وجوه وذكر عشر معانٍ وهذا اعتراف منه بتعدد معنى المولى ثم رجّح المعنى العشر وهو بمعنى الأولى أي أولى المؤمنين بالإمامة، بحجّة أنّ المعاني الأخرى منتفية عن عليّ! وجعله نصاً صريحاً في إثبات إمامة عليّ فهذا الإدعاء حجة عليه لا له، لأنه لم يُظهر دليلاً بيناً واحداً على أن المولى بمعنى الأولى، فتحديدها بالأولى تحتاج لدلالة واضحة ونص ثابت ولا يوجد ما يدل على ذلك فبطل احتجاجه.

وبعد هذا البيان يظهر بكل وضوح أن هذا الحديث الذي يستند عليه هذا الطاعن يدحض ادعاءه أنه دليل على إمامة عليّ، فالأدلة على الخلافة لا تكون بأدلة ممجوجة وحجج مدحوضة، بل بأدلة واضحة الدلالة والبيان بحث تنتفي معها الشبهات والله المستعان وعليه التكلان.

5 وقال هذا الطاعن والباحث في هذا الموضوع إذا تجرّد للحقيقة فإنه سيجد النص على عليّ بن أبي طالب واضح وجلي كقوله صلى الله عليه وآله وسلم من كنت مولاه فهذا علي مولاه قال ذلك بعدما انصرف من حجة الوداع فعقد لعليّ موكب للتهنئة حتى أن أبا بكر نفسه وعمر كانا من جماعة المهنّئين للإمام يقولان: بخ بخ لك يا بن أبي طالب أصبحت وأمسيت مولى كل مؤمن ومؤمنة . أقول:

سبحان الله ما أكذب هؤلاء وما أجرأهم على الكذب فهذا الطاعن يدّعي أن علياً قد عقد له موكب للتهنئة وكان في مقدمة المدعوّيين لهذا الحفل البهيج أبو بكر عمر ثم يعزو هذه الرواية المكذوبة إلى عدة مصادر، فلو رجعنا إلى مسند أحمد في الجزء السادس مسند البراء بن مالك حديث رقم 06 لوجدناه يذكر الحديث وفيه فلقيه عمر بعد ذلك فقال له: هنيئاً يا ابن أبي طالب أصبحت وأمسيت مولى كل مؤمن ومؤمنة ولم يذكر أبا بكر أبداً، وتجده أيضاً في كتاب تذكرة الخواص[1] وليس فيه ذكر لموكب التهنئة ولا لعمر فضلاً عن أبي بكر.

وأورده السيوطي في الحاوي للفتاوي وفيه تهنئة عمر لعلي ولكن لا ذكر لأبي بكر أيضاً!

وفي كتاب كنز العمال تجد الحديث في باب فضائل عليّ بن أبي طالب برقم 36340 والأرقام 36341 ، 36342 ، 36343 ، 36344 وفي جزء برقم 3204 ، 3205 ، 320، 32 ولا يوجد فيها ذكر لعمر ولا لأبي بكر فضلاً عن موكب التهنئة!!

وذكر ابن كثير الحديث في كتابه البداية والنهاية بروايات مختلفة وكثيرة وليس فيها ذكر لموكب التهنئة ولا لأبي بكر؟!

وسأضرب صفحاً عن بقية المراجع المذكورة لأن الذي ذكرته يغني ويكفي ولأن الحديث روي بروايات متقاربة وليس فيها ذكر لموكب التهنئة ولا لأبي بكر الصديق، وأظن أنه قد ظهر الكذب والافتراء على القرّاء بمحاولة تهويل الأمر وتحسينه، وزيادة إضافات له حسب متطلبات هذا الطاعن، إضافة لمحاولة إقحام إسم أبي بكر في الحديث لا لشيء إلا للتدليس على القارئ المسكين الذي لا يستطيع البحث في هذه المراجع الكثيرة فيظن أن أبا بكر يعلم أحقية علي بن أبي طالب بالخلافة ولكنه اغتصب حقّه، ولكن أظن أنه قد ظهر الحق من الباطل، وظهر الكذّاب الأفاك من الصادق الأمين، والمنصف ممن يدعي الإنصاف.

وبالنسبة للرواية التي فيها هذه الزيادة وهي أن عمر قال لعليّ بخ بخ لك يا بن أبي طالب أصبحت وأمسيت مولى كل مؤمن ومؤمنة فهذا الشطر من الحديث لا يصح لتفرّد عليّ بن زيد بن جدعان فهو ضعيف عند أهل الحديث.

ولكن ما الذي استوجب قوله صلى الله عليه وآله سلم لهذا في حق علي رضي الله عنه؟

لا جدال في أن علياً رضي الله عنه كان في اليمن عند خروج الرسول صلى الله عليه وآله سلم إلى حجة الوداع، وأنه رضي الله عنه لحق به وحج معه([2])

وهناك في اليمن حصلت أمور بينه وبين أصحابه توضحها روايات عدة:

منها: ما رواه عمرو بن شاس الأسلمي: أنه كان مع علي بن أبي طالب في اليمن، فجفاه بعض الجفاة فوجد عليه في نفسه، فلما قدم المدينة اشتكاه عند من لقيه، فأقبل يوماً ورسول الله صلى الله عليه وآله سلم جالس في المسجد، فنظر إليه حتى جلس إليه، فقال: يا عمرو بن شاس، لقد آذيتني، فقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون، أعوذ بالله وبالإسلام أن أؤذي رسول الله، فقال: من آذى علياً فقد آذاني([3]).

وعن الباقر قال: بعث النبي صلى الله عليه وآله سلم علياً إلى اليمن، فذكر قضاءه في مسألة فيها أن علياً رضي الله عنه قد أبطل دم رجل مقتول، فجاء أولياؤه من اليمن إلى النبي يشكون علياً فيما حكم عليهم، فقالوا: إن علياً ظلمنا وأبطل دم صاحبنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله سلم: إن علياً ليس بظلام([4]).

وفي رواية: أن النبي صلى الله عليه وآله سلم لما أراد التوجه إلى الحج كاتب علياً رضي الله عنه بالتوجه إلى الحج من اليمن، فخرج بمن معه من العسكر الذي صحبه إلى اليمن ومعه الحلل التي كان أخذها من أهل نجران، فلما قارب مكة خلف على الجيش رجلاً، فأدرك هو رسول الله صلى الله عليه وآله سلم، ثم أمره بالعودة إلى جيشه، فلما لقيهم وجدهم قد لبسوا الحلل التي كانت معهم، فأنكر ذلك عليهم، وانتزعها منهم، فاضطغنوا لذلك عليه، فلما دخلوا مكة كثرت شكايتهم من أمير المؤمنين رضي الله عنه، فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله سلم مناديه فنادى في الناس: ارفعوا ألسنتكم عن علي بن أبي طالب؛ فإنه خشن في ذات الله عز وجل، غير مداهن في دينه([5]).

وعن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وآله سلم جيشاً واستعمل عليهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فمشى في السرية وأصاب جارية، فأنكروا ذلك عليه، وتعاقد أربعة من أصحاب رسول الله، فقالوا: إذا لقينا رسول الله صلى الله عليه وآله سلم أخبرناه بما صنع علي.. فذكر شكوى الأربعة وإعراض رسول الله صلى الله عليه وآله سلم عنهم، وقولـه: (من كنت مولاه فعلي مولاه) ([6]).

وهكذا بدأت تتضح الصورة.

وعن بريدة رضي الله عنه قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وآله سلم في سرية، فلما قدمنا قال: كيف رأيتم صحابة صاحبكم؟ قال: فإما شكوته أو شكاه غيري، قال: فرفعت رأسي وكنت رجلاً مكباباً، قال: فإذا النبي قد احمر وجهه وهو يقول: من كنت وليه فعلي وليه([7]).

وفي رواية عنه أيضاً رضي الله عنه قال: غزوت مع علي اليمن، فرأيت منه جفوة، فلما قدمت على رسول الله صلى الله عليه وآله سلم تنقصته، فرأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وآله سلم يتغير، فقال: يا بريدة، ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قلت: بلى يا رسول الله، قال صلى الله عليه وآله سلم: فمن كنت مولاه فعلي مولاه([8]).

وفي أخرى: أن رجلاً كان باليمن فجفاه علي بن أبي طالب، فقال: لأشكونك إلى رسول الله صلى الله عليه وآله سلم، فقدم على رسول الله صلى الله عليه وآله سلم فسأله عن علي فشنا عليه، فقال: أنشدك بالله الذي أنزل علي الكتاب واختصني بالرسالة عن سخط تقول، ما تقول في علي بن أبي طالب؟ قال: نعم يا رسول الله، قال: ألا تعلم أني أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قال: بلى، قال: فمن كنت مولاه فعلي مولاه([9]).
ف
دلت هذه الروايات على أن سبب قولـه صلى الله عليه وآله سلم لذلك إنما كان بسبب ما ذكرناه من شكوى الناس منه رضي الله عنه، وأنه ليس المراد به الدلالة على الوصاية إليه لجعله على سبب، وبعد تفرق الحجيج وانصراف كل أهل ناحية إلى ناحيتهم.

وكتب الإمامية تذكر أن قولـه صلى الله عليه وآله سلم في حق علي رضي الله عنه: من كنت مولاه فعلي مولاه، قد كان تكرر منه قبل الغدير بسنين عديدة، مما يدل على أنه ليس فيما كان في يوم الغدير خاصية مختلفة لقولـه هذا عن ذي قبل سوى أن قولـه يوم ذاك كان في محضر الكثير من أصحابه الذين خرجوا معه للحج، ومن تكرار شكوى الناس منه في اليمن، فتوهم من توهم أن قولـه ذلك إنما كان لبيان إمامته.

ومن الروايات في ذلك ما كان يوم المؤاخاة الذي ذكرناه، حيث آخى رسول الله صلى الله عليه وآله سلم بين المهاجرين والأنصار وترك علياً فبكى فذهب إلى بيته، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وآله سلم بلالاً رضي الله عنه في طلبه، فقال: يا علي، أجب النبي، فأتى علي النبي، فقال النبي: ما يبكيك يا أبا الحسن؟ فقال: آخيت بين المهاجرين والأنصار يا رسول الله وأنا واقف تراني وتعرف مكاني ولم تؤاخ بيني وبين أحد، قال: إنما ذخرتك لنفسي، ألا يسرك أن تكون أخا نبيك؟ قال: بلى يا رسول الله، أنَّى لي بذلك؟ فأخد بيده فأرقاه المنبر، فقال: اللهم إن هذا مني وأنا منه، ألا إنه مني بمنزلة هارون من موسى، ألا من كنت مولاه فهذا علي مولاه([10]).

والمؤاخاة كانت في بداية الهجرة.

ومنها: ما كان يوم التصدق بالخاتم بزعمهم، فعن زيد بن الحسن، عن جده رضي الله عنه قال: سمعت عمار بن ياسر رضي الله عنه يقول: وقف لعلي بن أبي طالب سائل وهو راكع في صلاة تطوع، فنزع خاتمه فأعطاه السائل، فأتى رسول الله صلى الله عليه وآله سلم فأعلمه ذلك، فنزل على النبي صلى الله عليه وآله سلم هذه الآية: ((إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ)) [المائدة:55]، فقرأها رسول الله صلى الله عليه وآله سلم علينا، ثم قال: من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه([11]).

ومنها: ما جاء في حديث الطير وقول الرسول صلى الله عليه وآله سلم: اللهم ائتني بأحب خلقك إليك، فجاء علي، فقال: اللهم وال من والاه وعاد من عاداه([12]). وغيرها.

فهذه مواطن قال فيها رسول الله صلى الله عليه وآله سلم: من كنت مولاه فهذا علي مولاه، وهي مقولة الغدير تماماً، فما الذي استوجب كل ما ذُكر في حادثة الغدير من قصص وحكايات، وتهديد ونزول آيات، ما داموا يقرون أنه لم يكن منه غير هذه المقولة، وقد وردت عنه صلى الله عليه وآله سلم منذ سنين عدة كما رأيت.

فإن كان في هذا دلالة على الإمامة فقد ذكرها قبل الغدير، وإن لم يكن فقد أسقط في يد من زعم ذلك.

وإن كان ما نحن فيه من استدلال هو دليل النص على الإمامة، فقد بطلت النصوص السابقة منذ بدء العشيرة، مروراً بحادثة ((وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى)) [النجم:1]، والتصدق بالخاتم، وإن كان العكس فأي جديد في الغدير؟!

ويذكرني هذا بقول الصدوق في حديث الغدير: ونظرنا فيما يجمع له النبي صلى الله عليه وآله سلم الناس ويخطب به ويعظم الشأن فيه، فإذا هو شيء لا يجوز أن يكونوا علموه فكرره عليهم، ولا شيء لا يفيدهم بالقول فيه معنى، لأن ذلك صفة العابث، والعبث عن رسول الله صلى الله عليه وآله سلم منفي([13]).

فهذا اعتراف من الصدوق أن كل ما سبق الغدير من إستدلال ليس فيه ما يفيد النص على الإمامة لعلي رضي الله عنه؛ لأنه بزعمه لا يجوز أن يكون شيئاً علموه فكرره عليهم.

وبعيداً عن كل ما ذكرناه، لنتكلم الآن في دلالة ما صح من حديث غدير خم وهو قولـه صلى الله عليه وآله سلم: (من كنت مولاه فهذا علي مولاه)، حيث إن هذا الجزء يكاد يتفق عليه جميع المسلمين، وهو صحيح كما ذكرنا في مقدمة هذا الاستدلال.

فنقول: ورد ذكر الموالاة ومشتقاتها في القرآن الكريم في عشرات المواضع منها: ((إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ)) [المائدة:55].
وقولـه: ((وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ)) [التوبة:71].
وقوله: ((وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ)) [الجاثية:19].
وقوله: ((ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ)) [محمد:11].
وقوله: ((اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمْ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنْ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ)) [البقرة:257].
وقوله: ((وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ * أَمْ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ المَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)) [الشورى:8-9].
وقوله: ((إِنَّ وَلِيِّي اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ)) [الأعراف:196].
وقوله: ((لا يَتَّخِذْ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ)) [آل عمران:28].
وقوله: ((الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ)) [النساء:139].
وقوله: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ)) [النساء:144].
وقوله: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ)) [المائدة:51].
وقوله: ((إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ)) [الأعراف:27].
وقوله: ((إِنَّهُمْ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ)) [الأعراف:30].
وقوله: ((إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجَرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا)) [الأنفال:72].
وقوله: ((وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ)) [الأنفال:73].
وقوله: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنْ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ)) [التوبة:23].
وقوله: ((وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ)) [الجاثية:19].
وقوله: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ)) [الممتحنة:1]
وقوله: ((النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُوْلُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ)) [الأحزاب:6].
وقوله: ((وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ)) [الأنفال:40].
وقوله: ((مَأْوَاكُمْ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)) [الحديد:15].
وقوله: ((إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ)) [التحريم:4].

فهذه الأمثلة من الآيات، وكذلك ما ورد في السنة الشريفة من الأحاديث وكذلك الآثار، تدل على أن معنى الموالاة تحمل على وجوه عدة ومعانٍ مشتركة قد تبلغ الثلاثين، وقد مر بك ذكرها. ولا شك أن الكثير من هذه الألفاظ لا تنطبق على حديثنا، ولكن أقربها إلى مدلوله هي لفظة [الموالاة] التي هي ضد المعاداة والمحاربة والمخادعة، وليست الإمارة والخلافة، لذا لم يقل صلى الله عليه وآله سلم: من كنت واليه فعلي واليه أو قريباً من هذا.

وأما كون المولى بمعنى الوالي فهذا باطل، فإن الولاية تثبت من الطرفين؛ فإن المؤمنين أولياء الله وهو مولاهم، وفي الحديث دليل صريح على اجتماع الولايتين في زمان واحد، إذ لم يقع التقييد بلفظ [بعدي]، بل يدل سياق الكلام على التسوية بين الولايتين في جميع الأوقات من جميع الوجوه كما هو الأظهر، وشركة علي رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وآله سلم في التصرف في عهده ممتنعة، فهذا أدل دليل على أن المراد وجوب محبته، إذ لا محذور في اجتماع محبتين، بل إحداهما مستلزمة للأخرى، سواء في حياتهما أو بعد وفاتهما صلوات الله عليهما، أما اجتماع التصرفين ففيه محذورات كثيرة كما لا يخفى.

وهذا يجرنا إلى القول أن إمامته رضي الله عنه غير مرادة في زمان الخطاب، لأن ذلك عهد النبوة، والإمامة نيابة فلا تتصور إلا بعد انتقال النبي صلى الله عليه وآله سلم، وإذا لم يكن زمان الخطاب مراداً، تعين أن يكون المراد الزمان المتأخر عن زمن الانتقال ولا حد للتأخير، فليكن ذلك بالنسبة إلى علي بعد مضي زمان أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم أجمعين، وبهذا يتحقق الوفاق بين الفريقين.

نعم، لا يخلو تخصيص علي رضي الله عنه بالذكر بهذه الموالاة التي هي ضد المعاداة من علة، وقد بينا أن ذلك بسبب ما ذكرناه من شكوى الناس، ومن علمه صلى الله عليه وآله سلم بالوحي من وقوع الفساد والبغي في زمن خلافته، وإنكار بعض الناس لإمامته بل ومحاربته، حتى احتج هو رضي الله عنه بحديث الغدير لإلزامهم بموالاته ومناصرته.
وهذا موافق تماماً لقول الإمام العسكري رحمه الله ما سأله الحسن بن طريف: ما معنى قول رسول الله صلى الله عليه وآله سلم لأمير المؤمنين: من كنت مولاه فعلي مولاه؟ قال: أراد بذلك أن جعله علماً يعرف به حزب الله عند الفرقة([14]).

وهذا الحسين رضي الله عنه يقول لجيش الشام: أتعلمون أن علياً ولي كل مؤمن ومؤمنة؟ قالوا: نعم([15]).

فهل فهموا من ذلك أنه إما منصوص ، حتى بايعوا غيره، وقاتلوا ابنه رضي الله عنهما؟! وهكذا..

وإلإمامية أوردوا في مصنفاتهم ما يفيد عدم فهم الناس لحديث غدير خم على أنها الخلافة العامة للمؤمنين، ومن هذه الروايات:

عن أبي إسحاق قال: قلت لعلي بن الحسين: ما معنى قول النبي صلى الله عليه وآله سلم: من كنت مولاه فعلي مولاه... الرواية([16])؟

وعن أبان بن تغلب قال: سألت أبا جعفر محمد بن علي عن قول النبي صلى الله عليه وآله سلم: من كنت مولاه فعلي مولاه؟ فقال: يا أبا سعيد، تسأل عن مثل هذا؟([17])

وعن أبي التيهان قال: أنا أشهد على النبي أنه أقام علياً، فقالت الأنصار: ما أقامه إلا للخلافة، وقال بعضهم: ما أقامه إلا ليعلم الناس أنه ولي من كان رسول الله مولاه([18]).

ويؤكد هذا رواية الصادق، أن النبي صلى الله عليه وآله سلم قال: أنا أولى بكل مؤمن من نفسه، وعلي أولى به من بعدي، فقيل لي: ما معنى ذلك؟ قال: قول النبي صلى الله عليه وآله سلم: من ترك ديناً أو ضياعاً فَعَلَيَّ، وَمَن ترك مالاً فلورثته([19]).

فانظر هنا.. فرغم صراحة اللفظ إلا أنه لم يحمل على الخلافة العامة.. فتأمل!

وعن الصادق أيضاً قال: لما أقام رسول الله أمير المؤمنين علي بن أبي طالب يوم غدير خم، أنزل الله تعالى على لسان جبرئيل، فقال له: يا محمد، إني منزل غداً ضحوة نجماً من السماء يغلب ضوؤه على ضوء الشمس، فأعلم أصحابك أنه من سقط ذلك النجم في داره فهو الخليفة من بعدك، فأعلمهم رسول الله، فجلسوا كلهم كل في منزلـه يتوقع أن يسقط النجم في منزلـه، فما لبثوا أن سقط النجم في منزل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وفاطمة([20]).

فكأن واضع هذه الرواية يؤكد ما نحن بصدده من عدم فهم من حضر الغدير وقد عرفت عددهم، وعرفت معنى قول النبي صلى الله عليه وآله سلم: من كنت مولاه فعلي مولاه، من أنها تعني الخلافة بعده ، حتى انتظروا إلى يوم التاسع عشر من ذي الحجة ليروا على دار من سيسقط ذلك النجم، فيكون الخليفة بعد النبي صلى الله عليه وآله سلم.

والروايات في الباب كثيرة، وكلها تدل على خلاف هذا الفهم وإليك المزيد:

عن سالم قال: قيل لعمر: نراك تصنع بعلي شيئاً لا تصنعه بأحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله سلم؟ فقال: إنه مولاي.

وعن الباقر قال: جاء أعرابيان إلى عمر يختصمان، فقال عمر: يا أبا الحسن، اقض بينهما. فقضى على أحدهما، فقال المقضي عليه: يا أمير المؤمنين، هذا يقضي بيننا؟ فوثب إليه عمر فأخذ بتلبيبه ولبّبه، ثم قال: ويحك ما تدري من هذا؟! هذا مولاي ومولى كل مؤمن، ومن لم يكن مولاه فليس بمؤمن([21]).

فاسأل نفسك: هل فهم من وثب إلى الأعرابي أنه وثب على حق من اشتكى منه الأعرابي؟

ولعل أبلغ من هذا كله ذكر ما كان من أهل البيت، وهل أنهم فهموا مما كان من شأن الغدير ما ادعاه القوم لهم؟

ذكر الإمامية أن رسول الله صلى الله عليه وآله سلم قال لعلي رضي الله عنه: أما ترضى أن تكون أخي وأكون أخاك وتكون وليي ووصيي ووارثي([22])؟

فهل يعني الرسول صلى الله عليه وآله سلم أن يقول لعلي رضي الله عنه: وتكون أميراً أو خليفة علي؟

وعن الصادق قال: لما فتح رسول الله مكة قام على الصفا، فقال: يا بني هاشم، يا بني عبدالمطلب، إني رسول الله إليكم، وإني شفيق عليكم، لا تقولوا: إن محمداً منا، فوالله ما أوليائي منكم ولا من غيركم إلا المتقون([23]).

وعن رسول الله صلى الله عليه وآله سلم قال: قال الله ليلة الإسراء: اشهدوا يا ملائكتي وسكان سماواتي وأرضي وحملة عرشي أن علياً وليي ووليُّ رسولي ووليُّ المؤمنين بعد رسولي([24]).

وعن رسول الله صلى الله عليه وآله سلم أنه قال لعلي: إنك وليي، ووليي ولي الله، وعدوك عدوي، وعدوي عدو الله.
وفي رواية: ووليك وليي، ووليي ولي الله([25]).

فماذا تفهم من هذه النصوص غير الموالاة التي هي المحبة.

وعن رسول الله صلى الله عليه وآله سلم قال: هبط عليّ جبرئيل، وقال: يا محمد، الله يقرئك السلام، ويقول لك: قد فرضت الصلاة ووضعتها عن المعتل والمجنون والصبي، وفرضت الصوم ووضعته عن المسافر، وفرضت الحج ووضعته عن المعتل، وفرضت الزكاة ووضعتها عن المعدم، وفرضت حب علي بن أبي طالب وفرضت محبته على أهل السماء والأرض، فلم أعط أحداً رخصة([26]).

وعن رسول الله صلى الله عليه وآله سلم في أهل الكساء: من والاهم فقد والاني، ومن عاداهم فقد عاداني([27]).

وعن رباح بن الحارث قال: جاء رهط إلى أمير المؤمنين، فقالوا: السلام عليك يا مولانا، فقال: كيف أكون مولاكم وأنتم قوم عرب؟ فقالوا: سمعنا رسول الله يقول يوم غدير خم: من كنت مولاه فعلي مولاه، وكان فيهم نفر من الأنصار، منهم: أبو أيوب الأنصاري صاحب رسول الله([28]).

وعن رسول الله صلى الله عليه وآله سلم أنه قال لزيد رضي الله عنه: أنت أخونا ومولانا([29]).

فهذه الروايات التي سردناها سرداً دون تعليق وغيرها كثير، تدل بوضوح على معنى الموالاة.

ولعل في ذكرنا للرواية الآتية كخاتمة لما أسلفناه أبلغ التدليل على مقصودنا، ففيها غنىً عن كل ما مر.
تقول الرواية: إن هارون الرشيد سأل الكاظم: إنكم تقولون: إن جميع المسلمين عبيدنا وجوارينا، وإنكم تقولون: من يكون لنا عليه حق ولا يوصله إلينا فليس بمسلم. فكان مما رد عليه الكاظم: إن الذين زعموا ذلك فقد كذبوا، ولكن ندعي أن ولاء جميع الخلائق لنا -يعني: ولاء الدين- وهؤلاء الجهال يظنونه ولاء الملك، حملوا دعواهم على ذلك، ونحن ندعي ذلك لقول النبي يوم غدير خم: من كنت مولاه فعلي مولاه، وما كان يطلب بذلك إلا ولاء الدين([30]).

وقد ذكر الإمامية أن رسول الله صلى الله عليه وآله سلم قال لعلي: سألت الله عز وجل أن يجعلك ولي كل مؤمن ومؤمنة ففعل([31]).

فتدبر قولـه: [ففعل]. فتحصل لديك من كل ما مر بك الاضطراب الشديد في فهم مقصود الموالاة، مما يتنافى مع القول بأن رسول الله صلى الله عليه وآله سلم قد استخدم كلاماً مبهماً لبس على الناس أمرهم، وهو الذي أوتي جوامع الكلم، والقائل: أنا أفصح العرب.

ثم إن علياً رضي الله عنه لم يفهم من رواية الغدير ولا غير الغدير أن ولايته واجبة وخلافها كفر وبطلان وهو يقول:

أما بعد: فإن الله سبحانه بعث محمداً، فأنقذ به من الضلالة، ونعش به من الهلكة، وجمع به بعد الفرقة، ثم قبضه الله إليه وقد أدى ما عليه، فاستخلف الناس أبا بكر، ثم استخلف أبو بكر عمر، فأحسنا السيرة وعدلا في الأمة، وقد وجدنا عليهما أن توليا الأمر دوننا ونحن آل رسول الله وأحق بالأمر، فغفرنا ذلك لهما([32]).

وفي موطن آخر قال: ثم إن المسلمين من بعده استخلفوا أميرين منهم صالحين أحييا السيرة ولم يعدوا السنة([33]).

وقال فيهما: فتولى أبو بكر تلك الأمور، وسدد وقارب واقتصد، وتولى عمر الأمر، فكان مرضي السيرة، ميمون النقيبة([34]).

لم يفهم الأمير رضي الله عنه من رواية الغدير ولا غير الغدير أن ولاية من سبقوه إحداث في الدين، وهو يتذكر قول الرسول صلى الله عليه وآله سلم وإخباره له بما يلقى بعده، فقال: فعلام أقاتلهم؟ قال: على الإحداث في الدين([35]).

فهل قاتل الأمير أبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم أجمعين، أم التزم التقية خوفاً ، وهو القائل: والله لو تظاهرت العرب على قتالي لما وليت عنها، أم قال عن ولايتهم كما روى القوم: فلم أر بحمد الله إلا خيرا([36])؟

هل فهم رضي الله عنه من رواية الغدير وغير الغدير أنه أمام وهو يقول: اللهم إنك تعلم أنه لم يكن الذي كان منا منافسة في سلطان، ولا التماس شيء من فضول الحطام، ولكن لنرد المعالم من دينك، ونظهر الإصلاح في بلادك، فيأمن المظلومون من عبادك، وتقام المعطلة من حدودك..

إلى أن قال: وقد علمتم أنه لا ينبغي أن يكون الوالي على الفروج والدماء والمغانم والأحكام وإمامة المسلمين البخيل، فتكون في أموالهم نهمته، ولا الجاهل فيضلهم بجهله، ولا الجافي فيقطعهم بجفائه، ولا الحائف للدول فيتخذ قوماً دون قوم، ولا المرتشي في الحكم فيذهب بالحقوق ويقف بها دون المقاطع، ولا المعطل للسنة فيهلك الأمة([37]).

يقول هذا عندما اضطربت الأمور في عهده، ولم يقله في الشيخين أو ذي النورين رضي الله عنهم، إنما قال فيهما ما قال من حسن السيرة، والعدل في الأمة، والخير الذي رآه في ولايتهم.

ويذكرني هذا برواية الإمامية عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه الذي يروي فيه الرضا، عن آبائه، عن علي رضي الله عنهم، عن رسول الله صلى الله عليه وآله سلم أنه قال فيه: أبوذر صديق هذه الأمة([38])، وهو يقول لعثمان رضي الله عنه: اتبع سنة صاحبيك، لا يكن لأحدٍ عليك كلام([39]).

وفي رواية: ويحك يا عثمان! أما رأيت رسول الله ورأيت أبا بكر وعمر، هل هديك كهديهم؟([40]).

وقول ابن عباس رضي الله عنهما: أمرني رسول الله صلى الله عليه وآله سلم أن أبرأ من خمسة: من الناكثين وهم أصحاب الجمل، ومن القاسطين وهم أصحاب الشام، ومن الخوارج وهم أهل النهروان، ومن القدرية وهم الذين ضاهوا النصارى في دينهم، فقالوا: لا قدر، ومن المرجئة الذين ضاهوا اليهود في دينهم، فقالوا: الله أعلم([41]).

فهل أمره النبي صلى الله عليه وآله سلم بالتبري من أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، وهم الذين اغتصبوا حق الأمير وأتوا بأعظم من أفعال هؤلاء الخمسة الذين أمر بالتبري منهم بزعم المخالفين.

أبداً: لم يفهم علي رضي الله عنه أن خلافة الشيخين خلاف هدي النبي صلى الله عليه وآله سلم، أو أن فلاناً دون آخر أحق بالخلافة من غيره.

لم يفهم رضي الله عنه لا من الغدير ولا غير الغدير أنه أحق بالخلافة، وهو لا يزال يردد القول بكراهيته لها، وهو يعلم يقيناً قول الله تعالى: ((وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ)) [الأحزاب:36].
وقوله: ((وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ)) [القصص:68].
وقوله: ((وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنْ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ)) [الزخرف:31].

هل فهم علي رضي الله عنه من الغدير وغيره أنه الإمام وهو يقول لمن جاءه مبايعاً: ألا وإن الله عالم من فوق سمائه وعرشه أني كنت كارهاً للولاية على أمة محمد حتى اجتمع رأيكم على ذلك؛ لأني سمعت رسول الله يقول: أيما والٍ ولي الأمر من بعدي أقيم على حد الصراط ونشرت الملائكة صحيفته، فإن كان عادلاً أنجاه الله بعدله، وإن كان جائراً انتقض به الصراط حتى تتزايل مفاصله، ثم يهوي إلى النار فيكون أول ما يتقيها به أنفه وحر وجهه، ولكن لما اجتمع رأيكم لم يسعني ترككم([42])؟!

هل تفهم -عزيزي القارئ- من هذه الرواية أن هناك نصاً على من يأتي بعده صلى الله عليه وآله سلم، أو أن هناك شروطاً يجب أن تتوفر فيه فحسب؟ وهل من جاء بعده سينجيه بعدله، كما قال رضي الله عنه: (فاستخلف الناس أبا بكر، ثم استخلف أبو بكر عمر، فأحسنا السيرة، وعدلا في الأمة) أم سينتقض بهم الصراط لجورهم، كما يرى من يدعي أنه من شيعته رضي الله عنه؟

ألم يعلم أنه الخليفة الحق والمنصوب من الله عز وجل وغيره غاصب لهذا الحق، وهو يقول لطلحة والزبير: نشدتكما الله هل جئتماني طائعين للبيعة ودعوتماني إليها وأنا كاره لها وفي موضع آخر: فوالله ما كانت لي في الولاية رغبة ولكنكم دعوتموني إليها وحملتموني عليها، فخفت أن أردكم فتختلف الأمة([43])؟!

ألم يعلم كل هذا، وهو يقول للمهاجرين والأنصار وقد جاءوا لبيعته: لا حاجة لي في أمركم أنا بمن اخترتم راض([44])؟!

ويقول لطلحة لما برز الناس للبيعة عند بيت المال: ابسط يدك للبيعة، فقال له طلحة: أنت أحق بذلك مني، وقد استجمع لك الناس ولم يجتمعوا لي([45]).

فهل كان له الاختيار والأمر في أن يبايع هذا أو يتركه لذاك، أو أن ذلك إلى الله وليس للبشر حق الاختيار، وأن طلحة وقبله الشيخين رضي الله عنهم سيكونون بذلك أئمة ليسوا من الله؟!

ألم يعلم رضي الله عنه أنه منصوص من الله ورسوله صلى الله عليه وآله سلم وهو يقول: أتيتموني لتبايعوني، فقلت: لا حاجة في ذلك، ودخلت منزلي فاستخرجتموني، فقبضت يدي فبسطتموها وتداككتم علي حتى ظننت أنكم قاتلي، وأن بعضكم قاتل بعض، فبايعتموني وأنا غير مسرور بذلك ولا جذل، وقد علم الله سبحانه أني كنت كارهاً للحكومة بين أمة محمد([46])؟!

ألم يعلم كل ذلك وهو يقول لما أراده الناس على البيعة بعد قتل عثمان رضي الله عنه: دعوني والتمسوا غيري، فإنا مستقبلون أمراً له وجوه وألوان، لا تقوم له القلوب ولا تثبت عليه العقول، وإن الآفاق قد أغامت والمحجة قد تنكرت، واعلموا أني إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم، ولم أصغ إلى قول القائل وعتب العاتب، وإن تركتموني فأنا كأحدكم، ولعلي أسمعكم وأطوعكم لمن وليتموه أمركم، وأنا لكم وزيراً خير لكم مني أميراً([47])؟!

فهل رأى رضي الله عنه أن اختياره أو اختيار الصحابة خير من اختيار الله عز وجل، وهو يقرأ: ((وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ)) [القصص:68]؟!

وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله سلم كما تروي الإمامية: إن الله خلق آدم من طين كيف يشاء، ثم قال: ويختار، إن الله اختارني وأهل بيتي على جميع الخلق فانتجبنا، فجعلني الرسول وجعل علي بن أبي طالب الوصي، ثم قال: ما كان لهم الخيرة، يعني: ما جعلت للعباد أن يختاروا ولكن أختار من أشاء([48]).

فهل رأى ذلك؟ وهل هذا إلا كمن يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وآله سلم قد قال لهذا أو ذاك: ابسط يدك للنبوة؟!

فهل علم رضي الله عنه هذا وهو يقول: والله ما كانت لي في الخلافة رغبة، ولا في الولاية إربة، ولكنكم دعوتموني إليها وحملتموني عليها فكرهت خلافكم([49])؟!

هل كان يرى مخالفة الله الذي اختاره من دون الناس من فوق سبع سموات، هل كان يرى مخالفته جائزة، وطاعة البشر واجبة؟!

هل علم هذا عندما قال: وبسطتم يدي فكففتها، ومددتموها فقبضتها، ثم تداككتم علي تداكك الإبل الهيم على حياضها يوم وردها، حتى انقطعت النعل، وسقط الرداء، ووطيء الضعيف.. إلى آخر ماقاله رضي الله عنه واصفاً بيعته بالخلافة([50])؟!

هل علم هذا وهو يقول: إني لم أرد الناس حتى أرادوني، ولم أبايعهم حتى أكرهوني([51]).

وقال: فلما رأيت ذلك منكم رويت في أمري وأمركم، وقلت: إن أنا لم أجبهم إلى القيام بأمرهم لم يصيبوا أحداً يقوم فيهم مقامي ويعدل فيهم عدلي([52])؟!

هل وهل.. وهو لا يزال يردد ويقول بكراهته لأمر لولاه لما خلق الله شيئاً، حتى قال لابن عباس رضي الله عنه وقد رآه يخصف نعله: ما قيمة هذه النعل؟ فقال: لا قيمة لها، فقال: والله لهي أحب إلي من إمرتكم([53]).

أبداً لم يكن رضي الله عنه يرى أن مشروعية خلافته مستمدة من تلك النصوص المزعومةً، وأنه لو كان من ذلك شيء حق لقاتل عليها حتى لو تظاهرت العرب كلها عليه.

بل كان يرى أن شرعية خلافته إنما هي مستمدة من مبدأ الشورى الذي أقره القرآن وأكده الرسول صلى الله عليه وآله سلم بهديه وسنته.
كيف لا وهو القائل رضي الله عنه: إن رسول الله صلى الله عليه وآله سلم قال: من جاءكم يريد أن يفرق الجماعة، ويغصب الأمة أمرها، ويتولى من غير مشورة فاقتلوه، فإن الله عز وجل قد أذن ذلك([54]).

ويقول لمعاوية: إن الناس تبع المهاجرين والأنصار وهم شهود للمسلمين في البلاد على ولاتهم وأمراء دينهم، فرضوا بي وبايعوني، ولست أستحل أن أدع ضرب معاوية يحكم على هذه الأمة ويركبهم ويشق عصاهم.

فلما بلغ معاوية ذلك قال: ليس كما يقول، فما بال من هو ههنا من المهاجرين والأنصار لم يدخلوا في هذا الأمر؟ فقال رضي الله عنه: ويْحَكُم! هذا للبدريين دون الصحابة، وليس في الأرض بدري إلا وقد بايعني وهو معي، أو قد أقام ورضي، فلا يغرنكم معاوية من أنفسكم ودينكم([55]).

وقال لمعاوية في موطنٍ آخر: إن بيعتي لزمتك بالمدينة وأنت بالشام؛ لأنه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان على ما بايعوهم عليه، فلم يكن للشاهد أن يختار، ولا للغائب أن يرد، وإنما الشورى للمهاجرين والأنصار؛ فإن اجتمعوا على رجل وسموه إماماً كان ذلك لله رضاً، فإن خرج عن أمرهم خارج بطعن أو بدعة ردوه إلى ما خرج منه، فإن أبى قاتلوه على اتباعه غير سبيل المؤمنين، وولاه الله ما تولى ويصليه جهنم وساءت مصيراً([56]).

فهو يرى إجماع المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم على رجل هو رضاً لله.

بل ولا يرى بيعته دون رضاهم كما قال: إن بيعتي لا تكون إلا عن رضا المسلمين وفي ملأ وجماعة([57]).

وهو القائل رضي الله عنه: وما كان الله ليجعلهم على ضلال ولا يضربهم بعمى([58]).

وقال له في موطن آخر: إن بيعتي بالمدينة لزمتك وأنت بالشام كما لزمتك بيعة عثمان بالمدينة وأنت أمير لعمر على الشام، وكما لزمت يزيد أخاك بيعة عمر بالمدينة وهو أمير لأبي بكر على الشام.

أما قولك: إن بيعتي لم تصح لأن أهل الشام لم يدخلوا فيها، فإنما هي بيعة واحدة تلزم الحاضر والغائب لا يستثنى فيها النظر، ولا يستأنف فيها الخيار، والخارج منها طاعن، والمروي فيها مداهن([59]).

وكان يقول له: واعلم أنك من أبناء الطلقاء الذين لا تحل لهم الخلافة ولا يعرض فيهم الشورى([60]).

وكذلك قال ابنه الحسن لمعاوية في كتاب الصلح الذي استقر بينهما: هذا ما صالح عليه الحسن بن علي بن أبي طالب معاوية بن أبي سفيان: صالحه على أن يسلم إليه ولاية أمر المسلمين، على أن يعمل فيهم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله سلم وسيرة الخلفاء الراشدين، وليس لمعاوية بن أبي سفيان أن يعهد إلى أحد من بعده عهداً، بل يكون الأمر من بعده شورى بين المسلمين([61]).

فهل ترى بعد كل هذا أن الأمير أو ابنه رضي الله عنهما يرون أن الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وآله سلم قد نصا عليهما رضي الله عنهما، أو أنهم يقررون مبدأ الشورى وبه يستمدون شرعية إمامتهم للمؤمنين دون أن يتطرقوا إلى ذكر أي نص من تلك النصوص التي زُعمت لهم، وهم في تلك الحال من الخلاف، وفي موطن هم بأمس الحاجة فيه إلى ذكر نص من تلك النصوص لو وجدت، ليرد به على معاوية الذي احتج عليه بعدم اجتماع أهل الشام عليه؟

فهل قال له علي رضي الله عنه مثلاً: ليس لاختيار أهل الشام أو بيعتهم شأن أو قيمة، ما دام الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وآله سلم قد نصا على إمامتي؟ أو أنه رضي الله عنه دلل على بيعته باجتماع أهل المدينة عليه، حتى لم ير شرعية لخلافته إلا بقياس ذلك على بيعة الصديق، والفاروق، وذي النورين رضي الله عنهم أجمعين، وأن بيعتهم كانت لله رضاً، وأنهم كانوا خلفاء راشدين، يستحقون أن يدعوا من جاء بعدهم بالاقتداء بهم، لا أنهم مغتصبون لحق غيرهم.

وأكد إقراره رضي الله عنه بمنهج القرآن الكريم: ((وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ)) [آل عمران:159].

و: ((وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ)) [الشورى:38].

لذا فلا عجب من أن يردد رضي الله عنه: إنما الشورى للمهاجرين والأنصار، فإن اجتمعوا على رجل وسموه إماماً كان ذلك لله رضاً.

ولا عجب من أن يقول لمعاوية في المهاجرين والأنصار: وما كان الله ليجعلهم -وفي لفظ: ليجمعهم- على ضلالة ولا يضربهم بالعمى([62]).

ويقول للخوارج وقد خطئوه وضللوه: فإن أبيتم إلا أن تزعموا أني أخطأت وضللت فلم تضللون عامة أمة محمد صلى الله عليه وآله سلم بضلالي([63])؟
كيف لا وهو رضي الله عنه قد سمع رسول الله صلى الله عليه وآله سلم يقول: لا تجتمع أمتي على ضلالة([64]).

ثم يقول هذا الطاعن أما الإجماع المدعى على انتخاب أبي بكر يوم السقيفة ثم مبايعته بعد ذلك في المسجد، فإنه دعوى بدون دليل، إذ كيف يكون الإجماع وقد تخلف عن البيعة عليّ والعباس وسائر بني هاشم كما تخلّف أسامة بن زيد والزبير وسلمان الفارسي وأبو ذر الغفاري والمقداد بن الأسود وعمار بن ياسر وحذيقة بن اليمان وخزيمة بن ثابت وأبو بريدة الأسلمي والبراء بن عازب وأُبي بن كعب وسهل بن حنيف وسعد بن عبادة وقيس بن سعد وأبو أيوب الأنصاري وجابر بن عبد الله وخالد بن سعيد وغير هؤلاء كثيرون. فأين الإجماع المزعوم ياعباد الله؟ على أنه لو كان علي بن أبي طالب وحده تخلّف عن البيعة لكان ذلك كافياً للطعن في ذلك الإجماع إذ أنه المرشح الوحيد للخلافة من قبل الرسول على فرض عدم وجود النص المباشر عليه ثم يعزو تخلُّف من ذكرهم عن بيعة أبي بكر إلى المصادر التالية الطبري، تاريخ ابن الأثير، تاريخ الخلفاء، تاريخ الخميس، الاستيعاب، وكل من ذكر بيعة أبي بكر !؟ ولم يشر إلى الجزء أو الصفحة في أي من المصادر السابقة!؟؟
فأقول:
1 والله الذي رفع السماوات ووضع الأرض لو كان الكذب يتكلم لتبرّأ من هذا الكذّاب، فلو راجعنا هذه المصادر لم نجد في أي منها ما ادّعاه من عدم مبايعة المذكورين للخليفة أبي بكر الصديق، فبالنسبة للمصدر الأول وهو تاريخ الطبري المجلد الثاني عنوان حديث السقيفة يسوق الطبري عدة روايات بعضها صحيح والبعض الآخر ضعيف، فذكر حديث ابن عباس الذي أخرجه البخاري وهو حديث طويل وفيه ... أن عمر بن الخطاب قام على المنبر يخطب الناس ليرد على من يقول: لو مات أمير المؤمنين لقد بايعت فلاناً فذكر في جملة الحديث قصة السقيفة قوله وأنه كان من خبرنا حين توفّى الله نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن علياً والزبير ومن معهما تخلفوا عنا في بيت فاطمة، وتخلفت عنا الأنصار بأسرها، واجتمع المهاجرون إلى أبي بكر، فقلت لأبي بكر: انطلق بنا إلى إخواننا هؤلاء من الأنصار، فانطلقنا نؤمهم، فلقينا رجلان صالحان قد شهدا بدراً، فقالا: أين تريدون يا معشر المهاجرين؟ فقلنا: نريد إخواننا هؤلاء من الأنصار.قالا: فارجعوا فاقضوا أمركم بينكم. فقلنا والله لنأتينهم، قال: فأتيناهم وهم مجتمعون في سقفة بني ساعدة. قال: وإذا بين أظهرهم رجل مُزَّمِّل، قال: قلت: من هذا؟ قالوا: سعد بن عبادة، فقلت ما شأنه؟ قالوا: وجع، فقام رجل منهم فحمد الله، وقال: أما بعد فنحن الأنصار وكتيبة الإسلام، وأنتم معشر قريش رهطُ نبينا، وقد دفّت إلينا من قومكم دافة، قال: فلما رأيتهم يريدون أن يختزلونا من أصلنا، ويغصبونا الأمر. وقد كنت زوّرت في نفسي مقالةً أقدمها بين يدي أبي بكر، وقد كنت أداري منه بعض الحدّ، وكان هو أوقر مني وأحلم، فلما أردت أن أتكلم، قال: على رسلك فكرهت أن أعصيه، فقام فحمد الله وأثنى عليه، فما ترك شيئاً كنت زوّرت في نفسي أن أتكلم به لو تكلمت، إلا قد جاء به أو بأحسن منه. وقال: أما بعد يامعشر الأنصار، فإنكم لا تذكُرون منكم فضلاً إلا وأنتم له أهلٌ، وإنّ العرب لا تعرف هذا الأمر إلا لهذا الحيّ من قريش، وهم أوسط العرب داراً ونسباً، ولكن رضيت لكم أحد هذين الرجلين، فبايعوا أيهما شئتم. فأخذ بيدي وبيد أبي عبيدة بن الجراح. وإني والله ما كرهت من كلامه شيئاً غير هذه الكلمة، إن كنت لأقدَّم فتضرب عنقي فيما لا يقرّبني إلى إثم أحبُّ إليَّ من أن أؤمَّر على قوم فيهم أبو بكر. فلما قضى أبو بكر كلامه، قام منهم رجلٌ فقال: أنا جُذيلُها المُحك، وعُذيقُها المُرجَّب، منا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش، قال: فارتفعت الأصواتن وكثر اللغط، فلما أشفقت الاختلاف، قلت لأبي بكر: ابسط يدك أبايعك، فبسط يده فبايعته وبايعه المهاجرون، وبايعه الأنصار... ثم ساق الطبري الأثر عن الوليد بن جميع الزهري قال: قال عمرو بن حريث لسعيد بن زيد أشهدت وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟ قال: نعم، قال: فمتى بويع أبو بكر؟ قال: يوم مات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كرهوا أن يبقوا بعض يوم وليسوا في جماعة . قال: فخالف عليه أحدٌ؟ قال: لا إلا مرتدٌّ أو من قد كاد أن يرتدّ، لولا أن الله عز وجلّ ينقذهم من الأنصار، قال: فهل قعد أحد من المهاجرين؟ قال: لا، تتابع المهاجرون على بيعته، من غير أن يدعوهم ثم ساق رواية حبيب بن أبي ثابت قال: كان عليّ في بيته إذا أتي فقيل له: قد جلس أبو بكر للبيعة، فخرج في قميص ما عليه إزار ولا رداء، عجلاً، كراهية أن بيطئ عنها، حتى بايعه، ثم جلس إليه وبعث إلى ثوبه فأتاه فتجلله، ولزم مجلسه ثم ساق الطبري بعد ذلك الحديث الذي أخرجه البخاري والذي ذكرته في مبحث ميراث فاطمة من مبايعة عليّ لأبي بكر بعد وفاة فاطمة. وأخيراً ساق رواية أنس بن مالك في بيعة أبي بكر بيعة عامة بعد بيعة السقيفة ولم يذكر بعدها أي شيء آخر.

وأما كتاب تاريخ ابن الأثير فلا يوجد فيه ذكر لما ادعاه هذا الطاعن بشأن تخلف المذكورين عن بيعة أبي بكر ففي باب حديث السقيفة وخلافة أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه ! ذكر حديث السقيفة ورواية مبايعة عليّ بن أبي طالب لأبي بكر في أول الأمر عند سماعه بالبيعة ثم قال ابن الأثير والصحيح أن أمير المؤمنين ما بايع إلا بعد ستة أشهر ثم حديث ابن عباس في خلافة عمر بن الخطاب وصعوده المنبر وذكره البيعة الذي سبق ذكره، ثم ذكر رواية أبو عمرة الأنصاري في اجتماع السقيفة الطويلة وخلاصتها اجتماع الناس على بيعة أبي بكر، وأثبت مبايعة عليّ وبني هاشم لأبي بكر بعد وفاة فاطمة، وقد بيّنت ضعف هذه الرواية ومخالفتها للرواية الصحيحة والواقع، فهذا هو ما ذكره ابن الأثير في تاريخه ولم يذكر أبداً ما ادعاه هذا المنصف!

وأما بالنسبة لكتاب تاريخ الخلفاء المنسوب لابن قتيبة فحريّ أن لا نبحث فيه للشك في نسبته على أقل تقدير هذا أولاً والكتب المعتمدة قد نقلنا قولهم ثانياً، وثالثاً لم يحدد هذا الطاعن الصفحة لنرجع إليها.

وأما تاريخ الخميس فلم أجده مع الأسف الشديد.

وأما كتاب الاستيعاب في معرفة الأصحاب لابن عبد البر فقد ساق فيه المؤلف من الأدلة على خلافته أكثر من أي مطبوع آخر، فقد أورد رواية النّزّال بن سبرة عن عليّ قال خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر، ثم عمر.

وروى محمد ابن الحنيفية وعبد خير وابو جحيفة عن عليّ مثله

وكان عليّ رضي الله عنه يقول: سبق رسول لله صلى الله عليه وآله وسلم ، وثنّى أبو بكر، وثلّث عمر، ثم حفتّنا فتنة يعفو الله فيها عمّن يشاء.

وقال عبد خير: سمعتُ علياً يقول: رحم الله أبا بكر، كان أول من جمع بين اللوحين.

وروينا عن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب من وجوه أنه قال: ولينا أبو بكر فخيرُ خليفة، أرحمه بنا وأحناه علينا.

وقال مسروق: حبُّ أبي بكر وعمر ومعرفة فضلهما من السنة ، وساق حديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في طلبه أن يؤم الناس وذكر حديث حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر،واهتدوا بهدي عمار، وتمسكوا بعهد ابن أم عبد ثم قال ابن عبد البر ... وبويع له بالخلافة في اليوم الذي مات فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في سقيفة بني ساعدة، ثم بويع البيعة العامة يوم الثلاثاء من بعد ذلك اليوم، وتخلّف عن بيعته سعد ابن عبادة، وطائفة من الخزرج، وفرقة من قريش، ثم بايعوه بعد غير سعد. وقيل: إنه لم يتخلّف عن بيعته يومئذ أحدٌ من قريش، وقيل: إنه تخلّف عنه من قريش: علي، والزبير، وطلحة، وخالد بن سعيد بن العاص، ثم بايعوه بعد. وقد قيل: إن علياً لم يبايعه إلا بعد موت فاطمة، ثم لم يزل سامعاً مطيعاً له يُثني عليه ويفضّله ، وساق عن عبد الله بن مسعود كان رجوع الأنصار يوم سقيفة بني ساعدة بكلام قاله عمر بن الخطاب: أنشدتكم بالله، هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمر أبا بكر أن يصلي بالناس؟ قالوا: اللهم نعم. قال: فأيكم تطيب نفسه أن يُزيله عن مقام أقامه فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟ فقالوا: كلنا لا تطيب نفسه، ونستغفر الله.

وروى الحسن البصري عن قيس بن عبادة قال قال لي عليّ بن أبي طالب: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مرض ليالي وأياماً ينادي بالصلاة فيقول: مروا أبا بكر يُصلي بالناس، فلما قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نظرت فإذا الصلاة عَلَم الإسلام، وقوام الدين، فرضينا لدنيانا من رضي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لديننا، فبايعنا أبا بكر فهذا الذي ذكره ابن عبد البر في كتابه فأقول لمن يبحث عن الحق الواضح من الكذب الفاضح، ماذا بعد الحق إلا الضلال، فهذه يا طالب الحق المراجع التي ساقها هذا الطاعن ليثبت تخلّف هؤلاء الصحابة عن بيعة أبي بكر والتي تجمع على بيعة المسلمين له بيعة السقيفة والبيعة العامة من جميع الناس

ولا يكتفي هذا الطاعن بذلك فيقول بالهامش بعدما يذكر المراجع ... وكل من ذكر بيعة أبي بكر!؟ بل أقول لا يوجد كتاب يتعرض للبيعة إلا ويثبت صحة بيعته وبيعة الصحابة بالإضافة لعلي وبني هاشم بل وكتب الإمامية الاثني عشرية تثبت ذلك أيضاً.

2 ولو فرضنا جدلاً أن هؤلاء الصحابة المذكورون لم يبايعوا أبا بكر على الخلافة، فهذا أيضاً لا يقدح في البيعة لأنها لا تحتاج إلى إجماع كل الناس، ولكن يكفي موافقة أهل الشوكة والجمهور الذي يقام بهم أمر الخلافة، وهذا ما اتفق عليه أهل العلم، يقول النووي أما البيعة فقد اتفق العلماء على أنه لا يشترط لصحّتها مبايعة كل الناس،ولا كل أهل الحل والعقد، وإنما يشترط مبايعة من تيسر إجماعهم من العلماء والرؤساء ووجوه الناس ، وقال المازري العذر لعلي في تخلّفه مع ما اعتذر هو به أنه يكفي في بيعة الإمام أن يقع من أهل الحل والعقد ولا يجب الاستيعاب، ولا يلزم من كل احد أن يحضر عنده ويضع يده في يده، بل يكفي التزام طاعته والانقياد له بأن لا يخالفه ولا يشقّ العصا عليه، وهذا كان حال عليّ لم يقع منه إلا التأخر عن الحضور عند أبي بكر، وقد ذكرت سبب ذلك . ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية بأنه لا يشترط في الخلافة إلا اتفاق أهل الشوكة والجمهور الذين يقام بهم الأمر، بحيث يمكن أن يقام بهم مقاصد الإمامة.

بل وهذا علي نفسه يقول بما ذكره عنه الشريف الرضى في كتابه الحجة للإمامية نهج البلاغة لعمري لئن كانت الإمامة لا تنعقد حتّى يحضرها عامَّة الناس فما إلى ذلك سبيل !!، ولكن أهلها يحكمون على من غاب عنها، وليس للشاهد أن يرجع ولا للغائب أن يختار! فانظر أيها القارئ للحق الواضح!... والسبب في اتفاق العلماء على ذلك لأنه لو اعتبر تخلّف الواحد أو الاثنين أو الفئة القليلة من الناس قدح في الإجماع فلن نستطيع أن نثبت إجماعاً أبداً لأنه قد يتخلّف الإنسان لهوى في نفسه أو لسبب غير مسوّغ، أو لأي أمر آخر، فإذا كان الأمر كذلك فكيف سنجمع على إمام بعينه؟! ويجب أن يقال أيضاً أن إجماع الأمة على خلافة أبي بكر كا أعظم من إجتماعهم على مبايعة عليّ، فإن ثلث الأمة أو أقل أو أكثر لم يبايعوا علياً بل قاتلوه، والثلث الآخر لم يقاتلوا معه، وفيهم من لم يبايعه أيضاً، والذين لم يبايعوه منهم من قاتلهم، ومنهم من لم يقاتلهم، فإن جاز القدح في الإمامة بتخلف بعض الأمة عن البيعة، كان القدح في إمامة عليّ أولى بكثير.

وإن قيل: جمهور الأمة لم تقاتله أو قيل بايعه أهل الشوكة والجمهور ونحو ذلك كان هذا في حق أبي بكر أوْلى وأحرى وإن ادعى هذا الطاعن بأنّ النص على عليّ بالخلافة ظاهر، فأقول له أدلتك قد أثبتُّ أنها ليست حجة بالإضافة إلى أن الأد لّة على خلافة أبي بكر أصح وأقوى وأعظم من أن تنكر، وعلى ذلك يظهر لدينا تهافت قول هذا الطاعن على أنه لو كان عليّ وحده تخلّف عن البيعة لكان ذلك كافياً للطعن في ذلك الإجماع فرحم الله الإجماع وأهله!؟

ثم يتابع فيقول وإنما كانت بيعة أبي بكر من غير مشورة بل وقعت على حين غفلة من الناس وخصوصا أولي الحل والعقد منهم كما يسميهم علماء المسلمين إذ كانوا مشغولين بتجهيز الرسول ودفنه، وقد فوجئ سكان المدينة المنكوبة بموت نبيهم وحُمل الناس على البيعة بعد ذلك قهراً. كما يشعرنا بذلك تهديدهم بحرق بيت فاطمة إن لم يخرج المتخلّفون عن البيعة فكيف يجوز لنا بعد هذا أن نقول بأن البيعة كانت بالمشورة وبالإجماع ؟ فأقول وبالله التوفيق:

1 إذا كانت بيعة أبي بكر وقعت من غير مشورة وعلى حين غفلة من المسلمين فكيف يوفّق هذا الطاعن بين قوله هذا وقوله قبلاً أن بعضاً من الصحابة قد تخلّفوا عن البيعة؟! فهل كان المسلمون هم الفئة القليلة؟! ثم يقول أن البيعة وقعت من غير مشورة من المسلمين، فكيف حدث ذلك وقد أثبتنا من مصادر هذا الطاعن أنها وقعت عن مشورة من المسلمين، وبويع أبو بكر في السقيفة وفي البيعة العامة من الناس؟!

2 يقول وقد فوجئ سكان المدينة المنكوبة بموت نبيهم وحملوا الناس على البيعة بعد ذلك قهراً ؟!؟
سبحان الله... من حمل سكان المدينة على البيعة قهراً؟ أبو بكر وعمر!؟ فكيف قهروهم؟ فهل قاتلت معهما الملائكة؟ أم ساندتهم قطاعات الحرس الجمهوري أم سرايا الدفاع؟ ... أم حرس الثورة؟؟! يا الله عليّ بن أبي طالب المنصوص عليه بالخلافة بالنص الواضح الجلي، وأهل الحل والعقد والوجهاء، وسكان المدينة لم يستطيعوا إيقاف بيعة أبي بكر بمساندة القلّة القليلة التي معه، ومع ذلك استطاع أن يصبح الخليفة رغم معارضة الأمة له؟ ، فمبايعة الأمة للخليفة أبي بكر أكبر من أن تنكر.

فهل يصح في الأذهان شيء إذا احتاج النهار إلى دليل؟

فهاهم الشيعة الاثني عشرية يؤكدون هذه الحقيقة ، فهذا إمام الشيعة الاثني عشرية الحسن بن موسى النوبختي يؤكد ذلك في كتابه فرق الشيعة فيقول ... فصار مع أبي بكر السواد الأعظم والجمهور الأكثر فلبثوا معه ومع عمر مجتمعين عليهما راضين بهما.

وهذا إبراهيم الثقفي أحد كبار الشيعة الاثني عشرية يورد قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه في جزء من رسالة له لأصحابه ... فما راعني إلا انثيال الناس على أبي بكر وإجفالهم إليه ليبايعوه.. ثم يشرح محقق الكتاب انثيال الناس أي انصبابهم من كل وجه كما ينثال التراب، على أبي بكر! ويقول قال المجلسي: الإجفال: الإسراع ! ثم يأتي هذا الطاعن بعد كل ذلك ليكتشف ما غاب عن السنة والشيعة ، وهو أن أبا بكر وعمر حملوا الناس على البيعة قهراً!؟

3 أما قوله عن حرق بيت فاطمة فسيأتي بيانه إن شاء الله.

4 ثم يقول وقد شهد عمر بن الخطاب نفسه بأن تلك البيعة كانت فلتة وقى الله المسلمين شرّها، وقال فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه، أو قال فمن دعا إلى مثلها فلا بيعة له ولا لمن بايعه 3، فأقول:

لم ترد الرواية عن عمر بهذا السياق لا في البخاري ولا في غيره، بل وردت في حديث طويل رواه ابن عباس من أن عمر قام خطيباً في المدينة ليرد شبهة أثارها فلان من الناس وكان مما قال ... ثم لإنه بلغني أنّ قائلاً منكم يقول والله لو قد مات عمر بايعت فلاناً، فلا يغترن امرؤ أن يقول إنما كانت بيعة أبي بكر فلتة وتمت، ألا وإنها قد كانت كذلك ولكن وقى شَرَّها، وليس فيكم من تُقطعُ الأعناقُ إليه مثل أبي بكر، من بايع رجلاً من غير مشورة من المسلمين فلا يبايع هو ولا الذي بايعهُ تغَّرةً أن يُقتلا ومعنى قول عمر أنها كانت فلته أي فجأة دون استعداد لها، وهكذا وقعت بيعة أبي بكر فجأة من دون أن يستعدوا أو يتهيأوا لها فوقى الله شرها، أي فتنتها، وعلل لذلك بقوله مباشرة وليس فيكم من تُقطعُ الأعناق إليه مثل أبي بكر أي ليس فيكم من يصل إلى منزلة أبي بكر وفضله، فالأدلة عليه واضحة، واجتماع الناس إليه لا يحوزها أحد، يقول الخطابي يريد أن السابق منكم الذي لايلحق في الفضل لا يصل إلى منزلة أبي بكر، فلا يطمع أحد أن يقع له مثل ما وقع لأبي بكر من المبايعة له أولاً في الملأ اليسير ثم اجتماع الناس عليه وعدم اختلافهم عليه لما تحققوا من استحقاقه، فلم يحتاجوا في أمره إلى نظر ولا إلى مشاورة أخرى، وليس غيره في ذلك مثله وبالطبع كان سبب قول عمر هذا لأنه علم أنّ أحدهم قد قال لو مات عمر لبايعت فلاناً أي يريد أن يفعل كما حدث لأبي بكر، ويتعذّر بل يستحيل أن يجتمع الناس على رجل كاجتماعهم على أبي بكر فمن أراد أن ينفرد بالبيعة دون ملأ من المسلمين فسيعرّض نفسه للقتل، وهذا هو معنى قول عمر تغرةً أن يقتلا ، أي من فعل ذلك فقد غرر بنفسه وبصاحبه وعرّضهما للقتل وهنا يظهر معنى ما أراده عمر في هذا القضية، وهذا الطاعن نقل نقلاً مبتوراً عن عمر وذلك لعدم نقله سبب قوله ذاك، فإذا عرف السبب بطلت الحجّة التي يستند عليها هذا الطاعن، بل وانقلبت عليه لأن عمر عندما ذكر ذلك أراد إظهار الفضيلة والسبق لأبي بكر، وهي اجتماع الناس عليه وانثيالهم إليه، وهذا ما حدث والتاريخ يشهد على ذلك، فمن ظنّ أنّ قول عمر منقصة لأبي بكر فليعلم أن هذا بسبب نقصان فهمه ليس إلا!!

ثم يقول أن علياً قال في حق الخلافة أما والله لقد تقمصها ابن أبي قحافة وأنه ليعلم أن محلّي منها محلّ القطب من الرّحى ينحدر عني السيل ولا يرقى إليّ الطير قلت:

1 نحن نجلّ علياً من أن يقول هذا الكلام في حق أبي بكر أو يدعي لنفسه الخلافة، لأنّ أبا بكر لا يتقمص ما ليس من حقه، ولو كان علي محلّه من الخلافة محل القطب من الرحى لما بايعه باتفاق السنة والشيعة.

2 لو فرضنا جدلاً أن علياً قال ذلك فليس فيه أي قدحٍ في أبي بكر، بل القدح في عليّ أظهر منه في أبي بكر، لأننا قد بينا أن الاجماع قد انعقد لأبي بكر دون إكراه لأحد، فالأنصار والمهاجرون وبمن فيهم بنوهاشم بايعوا دون إكراه ولا قهر، فلم يكن هذا تقمصاً من أبي بكر، وأما الإدعاء بأن علياً قال أنه ليعلم أن محلي منها محل القطب من الرحى، فأقول حاشى لأبي بكر أن يتقدم أحداً ثبت بالنص أنه الخليفة، فلو كانت الخلافة من حق عليٍّ لبايعه الناس دون أبي بكر، فإذا علم ذلك علمنا أن الذي محلّه من الخلافة محلّ القطب من الرحى هو أبو بكر وقد كان، واما الأدلة التي يقال أنها تثبت الخلافة لعليّ فهي أوهى من بيت العنكبوت فلا تقف في وجه الأدلة على أحقيّة أبي بكر.

3 ثبت بالدليل الواضح مبايعة عليّ بن أبي طالب لأبي بكر بالخلافة سواءٌ في بداية المبايعة أم بعدها بستة أشهر، فكيف يقال أن علياً قال ما قاله فيما يسمّى بالخطبة الشقشقية، فإن قلنا أنه بايع والكلام مكذوب عليه كان كلامنا حقاً، ولو قالوا بل بايع تقيّةً، قلنا حاشا علي أن يكون الحق معه بالنص الواضح والجلي ثم يتنازل عنه لأي أحد وأن يتظاهر بالموافقة على بيعة أبي بكر فهذا عين النفاق والجبن ونحن نعيذ علياً بالله من ذلك.

4 كتاب نهج البلاغة ليس حجة على أهل السنة، فيعارضه ما أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عائشة الذي يثبت مبايعة عليّ لأبي بكر مع اعترافه بالفضل والأحقية.

5 هل قرأ هذا الطاعن كتاب نهج البلاغة كلّه أم اختار فقرات معيّنة لنقلها في كتابه مثبتاً بها ادعاءه؟ ولو راجعنا رسائل علي لوجدنا بها ما يضاد ما نقله هذا الطاعن ففي إحدى رسائله إلى معاوية التي يحتج بها على أحقيته بالخلافة والبيعة بقوله إنَّهُ بايَعَني القومُ الذين بايعوا أبا بَكر، وعمر، وعثمان، على ما بايعوهُم عليه، فلم يكُن لشاهد أن يَختار، ولا للغائب أن يَرُدَّ، وإنَّما الشورى للمهاجرين والأنصار، فإنِ اجتمعوا على رجُلٍ، وسَمُّوْهُ إماماً، كانَ ذلك لله رِضي، فإن خرج من أمرِهِم خارجٌ بِطَعْنٍ، أو بِدعةٍ، رَدُّوه إلى ما خَرَجَ منه، فإنْ أبَى قاتلوهُ على اتِّباعهِ غير سبيل المؤمنين، وولَّاه الله ما تولَّى .

سبحان ربي... كيف يتوافق قول علي لقد تقمَّصها ابن أبي قحافة مع قوله هنا لقد بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان فكيف يكون أبو بكر متقمِّصاً وبنفس الوقت يحتج بها عليّ على صحة خلافته، وكيف يتفق قوله إنه لا يعلم محلي منها محل القطب من الرحى مع قوله فلم يكن للشاهد أن يختار ولا للغائب أن يرد !! إضافةً لقوله إنما الشورى للمهاجرين والأنصار فإن اجتمعوا على رجل، وسموه إماماً كان ذلك لله رضى، فإن خرج من أمرهم خارج بطعن، أو بدعة، ردوه إلى ما خرج منه، فإن أبى قاتلوه على اتباعه غير سبيل المؤمنين !!! ومن رسالة عليّ لمعاوية السابقة نكتشف أن أبا بكر لم تكن مبايعته قهراً وإنما بمبايعة المهاجرين والأنصار بالشورى، فإذا عرفت ذلك أخي القارئ فاتبع الحق تسلم!

ثم يقول أن سعد بن عبادة هاجم أبا بكر وعمر وحاول منعهما من الخلافة وأنه لولا مرضه لقاومهم وقاتلهم إلى آخر هذا الهراء فأجيب:

1 أن هذه الرواية لو كانت صحيحة لكانت قدحاً في سعد وليست مكرمة له، ولكنَّ هذا الفعل والقول في الرواية أجلّ من أن يصدر عن صحابي كأمثال سعد بن عبادة سيد الأنصار.

2 مجرد النقل من كتاب تاريخ الخلفاء المنسوب لابن قتيبة لا يعده صحيحاً.

3 أنا لن أرد على كذب الرواية بالأدلة والحجج السنِّية، بل سأرد بما ورد في نهج البلاغة، فقد قال عليّ أن أبابكر بايعه المهاجرون والأنصار، والشورى لهم، وقال أيضاً فإن خرج من أمرهم خارج بطعن أو بدعة ردّوه إلى ما خرج منه، وعلى فرض صدور ما ادعاه هذا الطاعن على سعد، فأيُّ مدحٍ أو حجة على مهاجمة سعد لأبي بكر وعمر؟ وقد بايعه المهاجرون والأنصار! فهل عمل سعد هذا يبطل شورى المهاجرين والأنصار؟! وهل إذا خرج عليهم بطعنٍ، يريد قتالهم يكون فعله حقاً؟! أم يجب أن يرد عن ذلك ويقاتل على اتباعه غير سبيل المؤمنين؟!!
[1] - تذكرة الخواص ص 36
([2]) الإرشاد: (89)، إعلام الورى: (137)، الكافي: (2/233)، أمالي الطوسي: (252)، البحار: (21/373، 383، 384، 389، 391، 396).
([3]) إعلام الورى: (137)، البحار: (21/360).
([4]) البحار: (21/362)(38/101) (40/316) (104/389، 400)، أمالي الصدوق: (348)، الكافي: (7/372).
([5]) الإرشاد: (89)، إعلام الورى: (138)، البحار: (21/383)، المناقب: (2/110).
([6]) البحار: (37/320)(38/149).
([7]) البحار: (37/220).
([8]) البحار: (37/187)، الطرائف: (35)، العمدة: (45).
([9]) أمالي الطوسي: (610)، البحار: (33/218)(38/130).
([10]) الروضة: (11)، البحار: (37/186)(38/344).
([11]) العياشي: (1/356)، البرهان: (1/482)، البحار: (35/187).
([12]) بشارة المصطفى: (202)، البحار: (38/354).
([13]) معاني الأخبار: (67)، البحار: (37/225).
([14]) كشف الغمة: (3/303)، البحار: (37/223)(50/290)، إثبات الهداة: (2/139).
([15]) أمالي الصدوق: (135)، البحار: (44/318).
([16]) أمالي الصدوق: (107)، معاني الأخبار: (65)، البحار: (37/223)، إثبات الهداة: (2/34).
([17]) معاني الأخبار: (66)، البحار: (37/223).
([18]) الخصال: (465)، البحار: (28/213).
([19]) الكافي: (1/407)، البحار: (27/248)، نور الثقلين: (4/240، 237).
([20]) فرات: (2/452)، البحار: (35/283).
([21]) البحار: (40/124).
([22]) أمالي الطوسي: (211)، البحار: (37/14).
([23]) صفات الشيعة: (4)، البحار: (21/111).
([24]) البحار: (23/282)، تفسير فرات: (1/342).
([25]) الخصال: (2/50، 15)، أمالي الشيخ: (310)، سليم بن قيس: (153)، البحار: (39/337، 339، 352).
([26]) الروضة: (27)، الفضائل: (155)، المحتضر: (101)، البحار: (27/129)(40/47)(54/387).
([27]) أمالي الصدوق: (283)، البحار: (35/210).
([28]) العمدة: (46)، البحار: (37/148، 177).
([29]) البحار: (20/373)(37/307).
([30]) فرج المهموم: (107)، البحار: (48/147).
([31]) الاحتجاج: (84)، البحار: (40/2).
([32]) البحار: (32/456)، وانظر أيضاً: البحار: (33/568- 569).
([33]) البحار: (33/535).
([34]) البحار: (33/568).
([35]) أمالي الطوسي: (513)، البحار: (28/48)، إثبات الهداة: (1/300)، نور الثقلين: (5/69)، وانظر روايات أخرى في عدم إحداث أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم في الدين: البحار: (32/243، 297، 299، 303، 308).
([36]) المناقب: (1/323)، البحار: (28/67)(41/5).
([37]) نهج البلاغة: (241)، من كلام له يبين سبب طلبه الحكم ويصف الإمام الحق.
([38]) عيون الأخبار: (2/70)، البحار: (22/405).
([39]) البحار: (22/419).
([40]) البحار: (22/418).
([41]) الكشي: (38)، البحار: (42/152).
([42]) أمالي الطوسي: (736)، البحار: (32/17، 26).
([43]) أمالي الطوسي: (736)، البحار: (32/21، 50).
([44]) البحار: (32/31) نقلاً عن الكافية لإبطال توبة الخاطئة، للمفيد.
([45]) البحار: (32/32) نقلاً عن الكافية لإبطال توبة الخاطئة.
([46]) البحار: (32/63).
([47]) نهج البلاغة: (178)، من كلام له لما أراده الناس على البيعة بعد قتل عثمان رضي الله عنه، البحار: (32/8، 23، 35)(41/116)، المناقب: (2/110).
([48]) البحار: (36/167)، الطرائف: (24).
([49]) أمالي الطوسي: (740)، نهج البلاغة: (397)، البحار: (32/30، 50).
([50]) نهج البلاغة: (430)، البحار: (32/51)، وانظرأيضاً: البحار32/34، 78، 98)(33/569) = = المناقب: (2/375)، الإرشاد: (130)، الاحتجاج: (161).
([51]) المناقب: (2/37)، البحار: (32/120، 126، 135)، كشف الغمة: (1/238).
([52]) الإرشاد: (139)، البحار: (32/387).
([53]) البحار: (32/76، 113)، الإرشاد: (132).
([54]) عيون الأخبار: (2/67).
([55]) البحار: (32/450).
([56]) البحار: (32/368)(33/76)، وانظر أيضاً: نهج البلاغة: (446)، نور الثقلين: (1/551).
([57]) البحار: (32/23).
([58]) البحار: (32/380)(33/78)، شرح النهج للبحراني: (4/356)، نهج السعادة: (4/94).
([59]) البحار: (33/81، 82).
([60]) المناقب: (2/349)، البحار: (32/570)(33/78).
([61]) كشف الغمة: (2/145)، البحار: (44/65).
([62]) سبق تخريجه.
([63]) البحار: (33/373).
([64]) الاحتجاج: (450)، إرشاد القلوب: (2/225)، البحار: (2/225) (5/20، 68) (16/350، 399) (44/36).






التوقيع






    رد مع اقتباس
قديم 2010-09-28, 08:21 رقم المشاركة : 10
عمر أبو صهيب
بروفســــــــور
 
الصورة الرمزية عمر أبو صهيب

 

إحصائية العضو








عمر أبو صهيب غير متواجد حالياً


وسام المشارك

وسام منضم مسابقة المقدم

الوسام الذهبي

وسام المشاركة

وسام المشاركة في دورة HTML

وسام المشاركة

وسام حفظ سورة الكهف

وسام المركز الاول في مسابقة التصوير الفوتوغرافي

وسام المركز الثاني في مسابقة استوقفتني آية

وسام مشارك في دورة حفظ سورة البقرة

افتراضي رد: شبهات مهترئة و ردود قاصمة


شبهة قول عمر في خلافة الصديق: ألا إن بيعة أبي بكر كانت فلتة وقي الله المؤمنين شرها
ومنها أنه روى عن عمر بن الخطاب أنه قال ألا إن بيعة أبي بكر كانت فلتة وقي الله المؤمنين شرها ، فمن عاد بمثلها فاقتلوه قالوا : ويؤيد هذه الرواية رواية البخاري في صحيحه فقد دلت صراحة على بيعة أبي بكر قد وقعت بغتة بلا تأمل ولا مشورة ، وإنها غير تمسك بدليل ، فلم يكن إماماً بحق . والجواب أن هذا الكلام صدر من عمر في زجر رجل كان يقول : إن مات عمر أبايع فلاناً وحدي أو مع آخر كما كان في مبايعة أبي بكر ثم أستقر الأمر عليها ، فمعنى كلام الفاروق في ردة لهذا القول أن بيعة رجل أو رجلين شخصياً من غير تأمل سابق ومراجعة أهل الحل والعقد ليست بصحيحة ، وبيعة ابي بكر وإن كانت فجأة بسبب مناقشة الأنصار وعدم وجود فرصة للمشورة فقد حلت محلها وصادفت أهلها للدلائل على ذلك والقرائن على ما هنالك كإمامة الصلاة ونحوها وهذا معنى (( وقي الله المؤمنين شرها )) فلا يقاس غيره به . وفي آخر هذه الرواية التى رواها الشيعة (( وأيكم مثل أبي بكر )) أي في الأفضلية والخبرية وعدم الاحتياج إلى المشورة . على أنه قد يثبت عند أهل السنة وصح أن سعد بن عبادة وأمير المؤمنين علياً والزبير قد بايعوه بعد تلك المناقشة واعتذروا له عن التخلف أول الأمر .

قال شيخ الإسلام إبن تيمية رداً على القول بأن بيعة أبي بكر فَلْتة وقى الله المسلمين شرّها، فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه. ولو كانت إمامته صحيحة لم يستحق فاعلها القتل، فيلزم تطرق الطعن إلى عُمر. وإن كانت باطلة، لزم الطعن عليهما معًا».

والجواب: أن لفظ الحديث سيأتي. قال فيه: «فلا يغترن امرؤ أن يقول: «إنما كانت بيعة أبي بكر فلتة فتمت. ألا وإنّها قد كانت كذلك، ولكن وقى اللهُ شرَّها، وليس فيكم من تقطع إليه الأعناق مثل أبي بكر». ومعناه أن أبي بكر بودر إليها من غير تريث ولا انتظار، لكونه كان متعيّناً لهذا الأمر. كما قال عمر: «ليس فيكم من تُقطع إليه الأعناق مثل أبي بكر».

وكان ظهور فضيلة أبي بكر على من سواه، وتقديم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم له على سائر الصحابة أمراً ظاهراً معلوماً. فكانت دلالة النصوص على تعيينه تُغني عن مشاورة وانتظار وتريث، بخلاف غيره؛ فإنه لا تجوز مبايعته إلا بعد المشاورة والانتظار والتريث، فمن بايع غير أبي بكر عن غير انتظار وتشاور لم يكن له ذلك.

وهذا قد جاء مفسَّراً في حديث عمر هذا في خطبته المشهورة الثابتة في الصحيح، التي خطب بها مرجعه من الحج في آخر عمره. وهذه الخطبة معروفة عند أهل العلم، وقد رواها البخاري في صحيحه عن ابن عباس، قال: «كنت أقرئ رجالاً من المهاجرين: منهم عبد الرحمن بن عوف، فبينما أنا في منزله بمنى، وهو عند عمر بن الخطاب في آخر حجة حجّها، إذ رجع إليَّ عبد الرحمن بن عوف، فقال: لو رأيت رجلاً أتى أمير المؤمنين اليوم، فقال: يا أمير المؤمنين، هل لك في فلان يقول: لو قد مات عمر لقد بايعت فلاناً، فوالله ما كانت بيعة أبي بكر إلا فلتة فتمت؟ فغضب عمر ثم قال: إني إن شاء الله لقائم العشية في الناس فمحذّرهم هؤلاء الذين يريدون أن يغصبوهم أمورهم. فقال عبد الرحمن: فقلت: يا أمير المؤمنين! لا تفعل؛ فإن الموسم يجمع رعاع الناس وغوغاءهم، وإنهم هم الذين يغلبون على قربك حين تقوم في الناس، وأنا أخشى أن تقوم فتقول مقالة يطيرّها عنك كل مطيِّر، وأن لا يعوها، وأن لا يضعوها على مواضعها، فأمهل حتى تقدم المدينة، فإنها دار الهجرة والسنة، فتخلص بأهل الفقه وأشراف الناس، فتقول مقالتك متمكناً، فيعي أهل العلم مقالتك ويضعونها على مواضعها. فقال عمر: أما والله إن شاء الله لأقومن بذلك أول مقام أقومه بالمدينة. قال ابن عباس: فقدمنا المدينة في عقب ذي الحجة، فلما كان يوم الجمعة عجّلت بالرواح حين زاغت الشمس، حتى أجد سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل جالسًا إلى ركن المنبر، فجلست حوله تمس ركبتي ركبته، فلم أنشب أن خرج عمر بن الخطاب، فلما رأيته مقبلاً قلت لسعيد بن زيد [بن عمرو بن نفيل]: ليقولن العشية مقالة لم يقلها منذ استخلف. فأنكر عليَّ، وقال: ما عسيت أن يقول ما لم يقل قبله؟ فجلس عمر على المنبر، فلما سكت المؤذنون قام فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: أمّا بعد، فإني قائل لكم مقالة قد قُدِّر لي أن أقولها، لا أدري لعلها بين يَدَيْ أجلي، فمن عقلها ووعاها فليحدِّث بها حيث انتهت به راحلته، ومن خشي أن لا يعقلها فلا أحلّ لأحد أن يكذب عليّ. إن الله بعث محمّداً صلى الله عليه وآله وسلم بالحق، وأنزل عليه الكتاب، فكان فيما أنزل عليه آية الرجم، فقرأناها وعقلناها ووعيناها. رجم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ورجمنا بعده. فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: [والله] ما ندد آية الرجم في كتاب الله، فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله. والرجم في كتاب الله حق على من زنى [إذا أُحصن] من الرجال والنساء إذا قامت البينة، أو كان الحَبَل أو الاعتراف. ثم إنّا كنا نقرأ فيما نقرأ من كتاب الله: [أن] لا ترغبوا عن آبائكم؛ فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم. ألا إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم، وقولوا: عبد الله ورسوله». ثم إنه بلغني أن قائلاً منكم يقول: والله! لو مات عمر لبايعت فلاناً، فلا يغترن امرؤ أن يقول: إنما كانت بيعة أبي بكر فلتة فتمت، ألا وإنها قد كانت كذلك، ولكن الله وَقَى شرَّها، وليس فيكم من تُقطع الأعناق إليه مثل أبي بكر. من بايع رجلاً من غير مشورة من المسلمين، فلا يبايع هو ولا الذي بايعه تغرَّة أن يقتلا، وإنه قد كان من خبرنا حين توفّى الله نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن الأنصار خالفونا واجتمعوا بأسرهم في سقيفة بني ساعدة، وخالف عنا عليٌّ والزبير ومن معهما، واجتمع المهاجرون إلى أبي بكر. فقلت لأبي بكر: يا أبا بكر انطلق بنا إلى إخواننا هؤلاء من الأنصار. فانطلقنا نريدهم، فلما دنونا منهم لقينا منهم رجلان صالحان، فذكرا ما تمالأ عليه القوم، فقالا: أين تريدون يا معشر المهاجرين؟ فقلنا: نريد إخواننا هؤلاء من الأنصار. فقالا: لا عليكم أن [لا] تقربوهم. اقضوا أمركم. فقلت: والله لنأتينَّهم. فانطلقنا حتى أتيناهم في سقيفة بني ساعدة. فإذا رجل مزَمَّل بين ظهرانيهم. فقلت: من هذا؟ فقالوا: هذا سعد بن عبادة. فقلت: ما له؟ قالوا: يوعك. فلما جلسنا قليلاً تشهّد خطيبهم، فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: أمّا بعد، فنحن أنصار الله وكتيبة الإسلام، وأنتم معشر المهاجرين رهط. وقد دفّت دافّة من قومكم، [فإذا هم] يريدون أن يختزلونا من أصلنا وأن يحضنونا من الأمر، فلما سكت أردت أن أتكلم وكنت زوّرت مقالة أعجبتني أريد أن أقدّمها بين يّدّيْ أبي بكر، وكنت أداري منه بعض الحدّ، فلما أردت أن أتكلم قال أبو بكر: على رِسْلِك، فكرهت أن أغضبه، فتكلم أبو بكر، فكان هو أحلم مني وأوقر. والله ما ترك من كلمة أعجبتني في تزويري إلا قال في بديهته مثلها أو أفضل منها، حتى سَكَت. فقال: ما ذكرتم فيكم من خير فأنتم له أهل، ولن يُعرف هذا الأمر إلا لهذا الحيّ من قريش، هم أوسط العرب نسباً وداراً. وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين، فبايعوا أيهما شئتم. فأخذ بيدي وبيد أبي عبيدة بن الجراح، وهو جالس بيننا. فلم أكره مما قال غيرها، كان والله أن أُقَدَّم فتُضرب عنقي لا يقرِّبني ذلك من إثم أحب إليَّ من أن أتأمَّر على قوم فيهم أبو بكر، اللهم إلاّ أن تسوِّل لي نفسي عند الموت شيئاّ لا أجده الآن. فقال قائل من الأنصار: أنا جُذَيْلها المُحَكَّك وعُذَيْقها المرجَّب. منّا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش. فكثر اللغط، وارتفعت الأصوات حتى فَرِقْتُ من الاختلاف. فقلت: ابسط يدك يا أبا بكر. فبسط يده، فبايعته، وبايعه المهاجرون، ثم بايعته الأنصار، ونزونا على سعد بن عبادة، فقال قائل [منهم]: قتلتم سعد بن عبادة. فقلت: قتل الله سعد بن عبادة. قال عمر: وإنَّا والله ما وجدنا فيما حضرنا من أمر أقوى من مبايعة أبي بكر؛ خشينا إن فارقنا القوم ولم تكن بيعةً، أن يبايعوا رجلاً منهم بعدنا، فإما بايعناهم على ما لا نرضى، وإما أن نخالفهم فيكون فساد، فمن بايع رجلاً على غير مشورة من المسلمين فلا يتابع هو ولا الذي بايعه تغرّه أن يفتلا». قال مالك: وأخبرني ابن شهاب عن عروة بن الزبير أن الرجلين اللذين لقياهما: عويمر بن ساعدة ومعن بن عديّ – وهما ممن شهد بدراً – قال ابن شهاب: وأخبرني سعيد بن المسيب: أن الذي قال: أنا جذيلها المحكك وعُذيقها المرجَّب: الحُبَابُ بن المنذر.

وفي صحيح البخاري عن عائشة – رضي الله عنها – أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مات وأبو بكر بالسُّنْح، فقام عمر يقول: والله ما مات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. قال: وقال عمر: والله ما كان يقع في قلبي إلا ذاك – وليبعثنه الله فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم. فجاء أبو بكر = رضي الله عنه – فكشف عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم [فقبّله]، فقال: بأبي وأمي، طبت حيًّا وميتاً، والذي نفسي بيده: لا يذيقك الله الموتتين أبدًا، ثم خرج فقال: أيها الحالف على رِسْلِك. فلما تكلم أبو بكر جلس عمر، فحمد الله أبو بكر وأثنى عليه، وقال: ألا من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حيّ لا يموت. وقال الله تعالى: }إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ{ [سورة الزمر: 30]، وقال: }وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ{[سورة آل عمران: 144] قال: فنشج الناس يبكون، واجتمعت الأنصار إلى سعد بن عُبادة في سقيفة بني ساعدة. فقالوا: منا أمير ومنكم أمير، فذهب إليهم أبو بكر وعمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجرّاح، فذهب عمر يتكلم فأسكته أبو بكر، وكان عمر يقول: والله ما أردت بذلك إلا أني هيّأت كلاماً قد أعجبني، خشيت أن لا يّبْلُغُه أبو بكر، ثم تكلم أبو بكر، فتكلم أبلغ الناس، فقال في كلامه: نحن الأمراء وأنتم الوزراء. فقال حُباب بن المنذر: لا والله لا نفعل، منا أمير ومنكم أمير. فقال أبو بكر: لا، ولكنّا الأمراء وأنتم الوزراء. هم أوسط العرب داراً، وأعربهم أحساباً، فبايعُوا عمر أو أبا عبيدة بن الجراح. فقال عمر: بل نبايعك أنت، فأنت سيدنا وخيرنا وأحبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأخذ عمر بيده فبايعه، وبايعه الناس. فقال قائل: قتلتم سعد بن عبادة. فقال عمر: قتله الله».

وفي صحيح البخاري عن عائشة في هذه القصة قالت: «ما كان من خطبتهما من خطبة إلاَّ نفع الله بها، لقد خوَّف عمر الناس وإن فيهم لنفاقاً، فردّهم الله بذلك، ثم لقد بصَّر أبو بكر الناس الهُدَى، وعرَّفهم الحق الذي عليهم».

وفي صحيح البخاري عن أنس بن مالك: أنه سمع خطبة عمر الآخرة حين جلس على المنبر، وذلك الغد من يوم توفي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فتشهَّد وأبو بكر صامت لا يتكلم، قال: كنت أرجو أن يعيش رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى يَدْبُرَنَا، يريد بذلك أن يكون أخرهم؛ فإن يكن محمد قد مات فإن الله قد جعل بين أظهركم نوراً تهتدون به، به هدى الله محمداً، وإن أبا بكر صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثاني اثنين، وإنه أَوْلى المسلمين بأموركم، فقوموا فبايِعُوه. وكانت طائفة منهم قد بايعوه قيل ذلك في سقيفة بني ساعدة، وكانت بيعة العامة على المنبر».

وعنه: «قال سمعت عمر يقول لأبي بكر يومئذ: اصعد المنبر، فلم يزل به حتى صعد [المنبر]، فبايعه الناس عامة».

وفي طريق أخرى لهذه الخطبة: «أما بعد فاختار الله لرسوله الذي عنده على الذي عندكم، وهذا الكتاب الذي هدى الله به رسوله، فخذوا به تهتدوا، لما هدى الله به رسوله صلى الله عليه وآله وسلم».

رد آخر ومعنى قول عمر (فلته) أي فجأة دون استعداد لها ومن دون أن يتهيئوا لهـا فوقى الله شـرها، أي فتنتها، وعلل لذلك بقوله مباشرة (وليس فيكم من تُقطعُ الأعناق إليه مثل أبي بكر) أي ليس فيكم من يصل إلى منزلة أبي بكر وفضله، فالأدلة عليه واضحة، واجتماع الناس إليه لا يحوزها أحد، يقول الخطابي « يريد أن السابق منكم الذي لايلحق في الفضل لا يصل إلى منزلة أبي بكر، فلا يطمع أحد أن يقع له مثل ما وقع لأبي بكر من المبايعة له أولاً في الملأ اليسير ثم اجتماع الناس عليه وعدم اختلافهم عليه لما تحققوا من استحقاقه، فلم يحتاجوا في أمره إلى نظر ولا إلى مشاورة أخرى، وليس غيره في ذلك مثله» وكان سبب قول عمر هذا أنه علم أنّ أحدهم قال (لو مات عمر لبايعت فلاناً) أي يريد أن يفعل كما حدث لأبي بكر، ويتعذّر بل يستحيل أن يجتمع الناس على رجل كاجتماعهم على أبي بكر فمن أراد أن ينفرد بالبيعة دون ملأ من المسلمين فسيعرّض نفسه للقتل، وهذا هو معنى قول عمر (تغرةً أن يقتلا) أي من فعل ذلك فقد غرر بنفسه وبصاحبه وعرّضهما للقتل. السبب: قول عمر: وليس فيكم من تُقطعُ الأعناق إليه مثل أبي بكر





التوقيع






    رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
مهترئة , ردود , شبهات , قاسمة


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are معطلة


مــــواقـــع صـــديــقــة مــــواقـــع مـــهــــمــــة خـــدمـــــات مـــهـــمـــة
إديــكـبـريــس تربويات
منتديات نوادي صحيفة الشرق التربوي
منتديات ملتقى الأجيال منتديات كاري كوم
مجلة المدرس شبكة مدارس المغرب
كراسات تربوية منتديات دفاتر حرة
وزارة التربية الوطنية مصلحة الموارد البشرية
المجلس الأعلى للتعليم الأقسام التحضيرية للمدارس العليا
مؤسسة محمد السادس لأسرة التعليم التضامن الجامعي المغربي
الصندوق الوطني لمنظمات الاحتياط الاجتماعي التعاضدية العامة للتربية الوطنية
اطلع على وضعيتك الإدارية
احسب راتبك الشهري
احسب راتبك التقاعدي
وضعية ملفاتك لدى CNOPS
اطلع على نتائج الحركة الإنتقالية

منتديات الأستاذ

الساعة الآن 16:56 لوحة المفاتيح العربية Profvb en Alexa Profvb en Twitter Profvb en FaceBook xhtml validator css validator

RSS RSS 2.0 XML MAP HTML
جميع المواد المنشورة بالموقع تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر بأي شكل من الأشكال عن رأي الموقع ولا يتحمل أي مسؤولية عنها

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd