نورالدين لشهب
Wednesday, May 05, 2010
رحل عنا إلى دار البقاء المفكر العربي الكبير محمد عابد الجابري يرحمه الله، انتقل جسده وتوقف عن الكتابة التي كان مدمنا عليها إلى درجة الهوس، مات الأستاذ الجابري وبقي فكره، لقد كان نبأ الوفاة قاسيا جدا على كل تلامذته الذين يسائلون عن موقفه المتبصر كمثقف عضوي - بتعبير أنطونيو غرامشي- من القضايا التي تشغل الساحة العربية والإسلامية، يسائلون عن موقف المفكر من أجل "الامتاع والمؤانسة" و" البيان والتبيين" بخصوص القضايا التي تهم العقل العربي، لأن الجابري يرحمه الله اجتمع فيه ما تفرق في غيره من الباحثين والمثقفين، يجتمع فيه الكاتب الصحفي الذي يجمع المعطيات والمعلومات والوقائع التاريخية من التاريخ المعاصر والسحيق على حد سواء، ولا غرو في ذلك لأنه كتب المقالة الصحفية في جريدة " العلم" و" المحرر" وغيرهما من الجرائد والمجلات شرقا وغربا من عالمنا العربي والإسلامي، كما أن قراءتنا لهذا المفكر ممتعة وتمنحنا الإشباع الدلالي والمعنى الحقيقي الهارب منا في هذه اللحظات العصيبة، لأنه متمكن من الثقافة العربية ، حيث يعرج، وهو يناقش قضية معينة تشغل العقل العربي، على النحو والبلاغة والشعر والتصوف والفقه وعلم الكلام وأصول الفقه والتفسير مع إقحام المناهج الحديثة دون أن يستسلم لها كما يفعل بعض المقلدين المنبهرين، بل يدعو إلى إعمال ما يسميه بـ "التبئية" للمفاهيم والمناهج الغربية. ولذلك تجده حذرا من تبني بعض المفاهيم التي يتم إقحامها عنوة دون مراعاة لخصوصية المجال التداولي العربي الذي يتميز بخصوصيته المعرفية أو ما يسميه ببنية العقل العربي الذي أثمر في نقده أربعة كتب كما هو مشهور، بالرغم من أن كتاب " نحن والتراث" هو بداية هذا المشروع كما أقر هو نفسه في سلسلة "مواقف" التي بقي وفيا لها وهو يحتضر.
مات الدكتور محمد عابد الجابري بعدما أكمل مشروعه النقدي في نقد العقل العربي باحثا عن تأصيل مفهوم العقلانية من داخل التراث، فقراءته للتراث العربي والإسلامي كانت قراءة محكومة بخلفية سياسية كما أكد في أكثر من مناسبة، بحيث أنه كان يحلم ويطمح لأن يعقلن الواقع العربي عن طريق عقلنة التراث، لأن العرب يفكرون بالتراث الذي يكبل أي انطلاقة نحو المستقبل كما كان يعلن صراحة، هذا المشروع/ الطموح أثار الكثير من الانتقادات لمشروعه، اختلف معه الكثير من المثقفين والمفكرين من داخل المغرب وخارجه، انتقده المفكر المغربي بنسالم حميش، وزير الثقافة الحالي، في كتابه "معهم حيث هم" كما انتقده كمال عبد اللطيف حول ما سماها بالتوفيقية أو عقل التوافق عند الجابري في كتب صدر عن سلسلة " شراع" التي كانت تصدر من طنجة، وهؤلاء المثقفين من حزب الاتحاد الاشتراكي، أما من خارج الحزب فقد انتقده المفكر المغربي طه عبد الرحمن في منهجيته في تقويم التراث حيث اعتبر أن قراءة الجابري للتراث كانت تجزيئية وليست تكاملية وهذا راجع ، حسب طه عبد الرحمن، إلى أن قراءة الجابري وغيره من المثقفين المتحزبين يغلب عليها الاستعجال النضالي، كما صدرت كتابات من المغرب تنتقد مشروع الجابري من تخصص معين ،لأن الجابري كما أسلفنا اجتمع فيه ما تفرق في غيره، لقد اختلف معه المفكر البلاغي أستاذنا محمد العمري وهو من حزب الاتحاد الاشتراكي كما عارضه كثيرا في بعض ما توصل إليه المفكر البلاغي الدكتور محمد مفتاح، ومن يقرأ للدكتور إدريس الكتاني أطال الله في عمره يلفِ نقدا صارما من موقع الضفة الأخرى لا سيما أن الرجلين (الجابري والكتاني) سليلا ما سمي بالحركة الوطنية. أما لدى التيار الإسلامي بالمغرب فقد صدرت مقالات وكتب سجالية وحوارية لمشروع الجابري كما نطالع للدكتور سعيد شبار والدكتور محمد همام والأستاذ محمد يتيم والباحث المغربي إدريس هاني في كتابه " محنة التراث الآخر"..الخ. وهذه القراءة كانت تسر الدكتور محمد عابد الجابري يرحمه الله ، لقد صرح في أكثر من مناسبة أن أغلب قرائه من التيار الإسلامي !!
أما الانتقادات من خارج المغرب وخاصة المشرق العربي، فمفكرنا الراحل قد بدأها في مناظرة مع المفكر المصري الدكتور حسن حنفي في مجلة " اليوم السابع" التي كانت تصدر من فرنسا وكان يديرها المفكر فيصل جلول أمد الله في عمره، وجمعت في كتاب بعنوان" حوار المشرق والمغرب" كتاب جميل حبذا لو نعيد قراءته ( وهو موجود في الانترنيت من أراد تحميله)، كما كتب المفكر جورج طرابيشي كتابا ينتقد فيه الجابري بعنوان " نقد نقد العقل العربي" ، هذا الكتاب لم يوليه الجابري أي اهتمام يذكر كما ذكرت الصحافة الثقافية حينذاك، على عكس بعض الكتابات والأطروحات والرسائل الجامعية التي نوقشت بالمشرق والمغرب بخصوص مشروع الجابري والتي تعكس في عمقها، بصرف النظر عن الاختلاف والاتفاق في هذه النقطة أو تلك، عن الرجة الفكرية وقلق السؤال لدى الباحثين والمثقفين في التفاعل مع قضايا الإصلاح والتغيير والنهضة التي تشغل بال العقل العربي سياسيا وثقافيا وعقديا... فهي كانت مثار إعجاب وتقدير من أستاذنا الجابري يرحمه الله.
لقد كتب الأستاذ الجابري عن مفهوم الكتلة التاريخية، وهو مفهوم مقتبس من المفكر الايطالي انطونيو غرامشي، هذا المفهوم حاول الجابري "تبيئته" في مجالنا العربي ليقيم جسرا قويا بين الإسلاميين والعلمانيين في الوطن العربي، كتب عن الكتلة التاريخية في بداية الثمانينات بعد نجاح ثورة الخميني في إيران، هذه الثورة التي كان من الممكن استثمار بعض ايجابياتها من لدن العالم العربي لالتقاء المصالح لو كان القوم يعلمون، وأعاد الكتابة والتذكير بالمفهوم نفسه في بداية التسعينات بعد الانتصار الكاسح للجبهة الإسلامية للإنقاذ في الجزائر في الجولة الأولى من الانتخابات البلدية، غير أن هذا المفهوم تم الالتفاف حوله في المغرب مع تسلم حزب الاتحاد الاشتراكي زمام "السلطة" إبان حكومة اليوسفي الأولى فكتب الجابري مقالات في جريدة الحزب يزكي ويبارك هذه الخطوة.
ماذا تبقى إذن من الجابري؟
تأسفت كثيرا لما رأيت بعض السياسيين يتحدثون عن وفاة الجابري، وتأسفت حين كنت أسمع لتصريحاتهم وهو يتفجعون على فراقه، أكيد أن الخطابة الاحتفالية تقتضي ذلك كما يقر أرسطو في تقسيمه للخطابة، أما لو حاكمناهم بالخطابة القضائية، لقلنا لهم دون مواربة: لقد كنتم تتمنون وفاته كما توفي الصحافي الكبير محمد باهي.. لقد كان المفكر محمد عابد الجابري يحرجكم كثيرا حين رفض الجوائز والمناصب... لو كنتم تحترمون أنفسكم لجعلتموه مثقفا عضويا يثقف ويعلم الأجيال عوض الاعتماد على " الخاسر" للتعبئة للانتخابات السالفة، لقد كان الجابري يحرجكم حين كان شعاره: خبز وزيتون ورحمة من رب العالمين.
لقد تبقى من محمد عابد الجابري مشروعه النقدي في بنية العقل العربي، مشروع سيبقى عمرانا باذخا، وعلما ينتفع منه، يوم لا ينفع مال ولا بنون، مشروع بينة العقل العربي هو ملكية تم تحفيظها بقراءته في القرآن الكريم الذي صدرت منه ثلاثة أجزاء، ويشاء الله أن يكون القرآن الكريم ،لفقيدنا الجابري ،مؤنسا في وحشته ..قراءة وتأملا وتفكرا وتفسيرا وتأويلا... بصرف النظر عن ما توصل له كما طالعنا في اعتراض المفكر العراقي طه جابر العلواني مدير معهد الفكر الإسلامي في أمريكا وكذا المفكر اللبناني رضوان السيد. مع ذلك لا نعدم للجابري أجر المجتهد الذي هو في أمس الحاجة إليه... اللهم ارحمه رحمة واسعة، لقد كانت نهايته في التفكر والتدبر في القرآن الكريم.. فأنعم بها من خاتمة ثم أنعم..وأكرم !!