الرئيسية | الصحيفة | خدمات الإستضافة | مركز الملفات | الحركة الانتقالية | قوانين المنتدى | أعلن لدينا | اتصل بنا |

أفراح بن جدي - 0528861033 voiture d'occasion au Maroc
educpress
للتوصل بجديد الموقع أدخل بريدك الإلكتروني ثم فعل اشتراكك من علبة رسائلك :

فعاليات صيف 2011 على منتديات الأستاذ : مسابقة استوقفتني آية | ورشة : نحو مفهوم أمثل للزواج

العودة   منتديات الأستاذ التعليمية التربوية المغربية : فريق واحد لتعليم رائد > المنتديات العامة والشاملة > المنتدى الإسلامي > مدرسة القرآن والسنة > تفسير



إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع
قديم 2016-03-24, 20:49 رقم المشاركة : 6
أم سهام
بروفســــــــور
 
الصورة الرمزية أم سهام

 

إحصائية العضو









أم سهام غير متواجد حالياً


وسام المرتبة الثالثة في مسابقة القران الكريم

وسام المرتبة الثانية

وسام المشاركة في مسابقة السيرة النبوية العطرة

وسام المرتبة الثانية مسابقة الأستاذ الرمضانية

وسام المشاركة في دورة HTML

وسام المركز الثالث في مسابقة نتخلق بخلقه لنسعد بقر

وسام المركز الثالث في  المسابقة االرمضانية الكبرى

افتراضي رد: تفسير سورة التوبة


تفسير صفوة التفاسير/ الصابوني (مـ 1930م -) مصنف و مدقق
{ وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ ٱللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلصَّالِحِينَ } * { فَلَمَّآ آتَاهُمْ مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ } * { فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَآ أَخْلَفُواْ ٱللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ } * { أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ ٱللَّهَ عَلاَّمُ ٱلْغُيُوبِ } * { ٱلَّذِينَ يَلْمِزُونَ ٱلْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ ٱللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } * { ٱسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ ٱللَّهُ لَهُمْ ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْفَاسِقِينَ } * { فَرِحَ ٱلْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ ٱللَّهِ وَكَرِهُوۤاْ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي ٱلْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ } * { فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيراً جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } * { فَإِن رَّجَعَكَ ٱللَّهُ إِلَىٰ طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ فَٱسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَداً وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوّاً إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِٱلْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَٱقْعُدُواْ مَعَ ٱلْخَالِفِينَ } * { وَلاَ تُصَلِّ عَلَىٰ أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَىٰ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ } * { وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَٰلُهُمْ وَأَوْلَـٰدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي ٱلدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَٰفِرُونَ } * { وَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُواْ بِٱللَّهِ وَجَاهِدُواْ مَعَ رَسُولِهِ ٱسْتَأْذَنَكَ أُوْلُواْ ٱلطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُواْ ذَرْنَا نَكُنْ مَّعَ ٱلْقَاعِدِينَ } * { رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ ٱلْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ } * { لَـٰكِنِ ٱلرَّسُولُ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ جَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُوْلَـٰئِكَ لَهُمُ ٱلْخَيْرَاتُ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } * { أَعَدَّ ٱللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذٰلِكَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ } * { وَجَآءَ ٱلْمُعَذِّرُونَ مِنَ ٱلأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ ٱلَّذِينَ كَذَبُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } * { لَّيْسَ عَلَى ٱلضُّعَفَآءِ وَلاَ عَلَىٰ ٱلْمَرْضَىٰ وَلاَ عَلَى ٱلَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى ٱلْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } * { وَلاَ عَلَى ٱلَّذِينَ إِذَا مَآ أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَآ أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ ٱلدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنْفِقُونَ } * { إِنَّمَا ٱلسَّبِيلُ عَلَى ٱلَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَآءُ رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ ٱلْخَوَالِفِ وَطَبَعَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ }

المنَاسَبَة:
لا تزال الآيات الكريمة تتحدث عن المنافقين، وتفضح أسرارهم، وتكشف أحوالهم، باعتبار خطرهم الداهم على الإِسلام والمسلمين.

اللغَةَ:
{ أَعْقَبَهُمْ } قال الليث: يقال أعقبت فلاناً ندامة إِذا صارت عاقبة أمره ذلك، ويقال: أكل أكلة أعقبته سقماً أي حصل له بها السقم قال الهذلي:
أودى بني وأعقبوني حسرة *** بعد الرقاد وعبرة لا تقلع
{ سِرَّهُمْ } السر: ما ينطوي عليه الصدر { نَجْوَاهُمْ } النجوى: ما يكون بين شخصين أو أكثر من الحديث مأخوذ من النجوة وهو الكلام الخفي، كأن المتناجيين منعا إِدخال غيرهما معهما { يَلْمِزُونَ } يعيبون واللمز: العيب { ٱلْمُخَلَّفُونَ } المخلف، المتروك الذي تخلف عن الجهاد { ٱلطَّوْلِ } الغنى { ٱلْمُعَذِّرُونَ } جمع معذر كمقصِّر وهو الذي يعتذر بغير عذر قال الجوهري: هو الذي يعتذر بالكذب وأصله من العذر وفي الأمثال " أُعذر من أنذر " أي بالغ في العذر من تقدم إِليك فأنذرك.

سَبَبُ النّزول:
أ - روي " أن رجلاً يسمى ثعلبة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله: ادع الله أن يرزقني مالاً فقال: ويحك يا ثعلبة قليل تؤدي شكره، خير من كثير، لا تطيقه، فقال: والذي بعثك بالحق لئن دعوت الله أن يرزقني مالاً لأعطين كل ذي حق حقه، فلم يزل يراجعه حتى دعا له، فاتخذ غنماً فنمَت كما ينمو الدود، فضاقت عليه المدينة فتنحى عنها فنزل وادياً من أوديتها حتى جعل يصلي الظهر والعصر في جماعة ويترك ما سواهما، ثم نمت وكثرت حتى ترك الجمعة والجماعة، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه فأخبروه يخبره فقال: يا ويح ثعلبة ثلاثاً، فأنزل الله { وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ ٱللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ.. } الآية " فهلك في خلافة عثمان.

ب - عن ابن عمر قال: " لما توفي عبد الله بن أبي جاء ابنه الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله أن يعطيه قميصه يكفن فيه أباه فأعطاه، ثم سأله أن يصلي عليه فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه، فقام عمر فقال يا رسول الله: أعلى عدو الله تصلي؟ فقال: أخر عني يا عمر إِني خُيرت فاخترت فقيل لي { ٱسْتَغْفِرْ لَهُمْ } الآية ولو أعلم أني لو زدت على السبعين غفر له لزدت، ثم صلى عليه ومشى معه وقام على قبره فما كان إِلا يسيراً حتى أنزل الله { وَلاَ تُصَلِّ عَلَىٰ أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً.. } " الآية.

التفسِير:
{ وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ ٱللَّهَ } أي ومن المنافقين من أعطى الله عهده وميثاقه { لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ } أي لئن أعطانا الله من فضله ووسع علينا في الرزق { لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلصَّالِحِينَ } أي لنصدقن على الفقراء والمساكين، ولنعملن فيها بعمل أهل الخير والصلاح { فَلَمَّآ آتَاهُمْ مِّن فَضْلِهِ } أي فلما رزقهم الله وأغناهم من فضله { بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ } أي بخلوا بالإِنفاق ونقضوا العهد وأعرضوا عن طاعة الله ورسوله { فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ } أي جعل الله عاقبتهم رسوخ النفاق في قلوبهم إِلى يوم لقاء الله { بِمَآ أَخْلَفُواْ ٱللَّهَ مَا وَعَدُوهُ } أي بسبب إِخلافهم ما عاهدوا الله عليه من التصدق والصلاح { وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ } أي وبسبب كذبهم في دعوى الإِيمان والإِحسان { أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ } الاستفهام للتوبيخ والتقريع أي ألم يعلم هؤلاء المنافقون أن الله يعلم أسرارهم وأحوالهم, ما يخفونه في صدورهم، وما يتحدثون به بينهم؟ { وَأَنَّ ٱللَّهَ عَلاَّمُ ٱلْغُيُوبِ } أي لا يخفى عليه شيء مما غاب عن الأسماع والأبصار والحواس؟ { ٱلَّذِينَ يَلْمِزُونَ ٱلْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ } أي يعيبون المتطوعين المتبرعين من المؤمنين في صدقاتهم { وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ } أي ويعيبون الذين لا يجدون إِلا طاقتهم فيهزءون منهم روى الطبري عن ابن عباس قال: جاء عبد الرحمن بن عوف بأربعين أوقية من ذهب إِلى النبي صلى الله عليه وسلم، وجاء رجل من الأنصار بصاعٍ من تمر، فقال بعض المنافقين: والله ما جاء عبد الرحمن بما جاء به إِلا رياءٌ، وإِن كان الله ورسوله لغنيين عن هذا الصاع فنزلت { سَخِرَ ٱللَّهُ مِنْهُمْ } أي جازاهم على سخريتهم وهو من باب المشاكلة { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي عذاب موجع، هو عذاب الآخرة المقيم { ٱسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ } أمر ومعناه الخبر أي سواء يا محمد استغفرت لهؤلاء المنافقين أم لم تستغفر لهم فلن يغفر الله لهم { إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ ٱللَّهُ لَهُمْ } قال الزمخشري: والسبعون جارٍ مجرى المثل في كلامهم للتكثير والمعنى مهما أكثرت من الاستغفار لهم وبالغت فيه فلن يغفر الله لهم أبداً { ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ } أي عدم المغفرة لهم بسبب كفرهم بالله ورسوله كفراً شنيعاً حيث أظهروا الإِيمان وأبطنوا الكفر { وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْفَاسِقِينَ } أي لا يوفق للإِيمان الخارجين عن طاعته، ولا يهديهم إِلى سبيل السعادة { فَرِحَ ٱلْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ ٱللَّهِ } أي فرح المنافقون الذين تخلفوا عن رسول الله في غزوة تبوك بقعودهم بعد خروج الرسول صلى الله عليه وسلم مخالفة له حين سار وأقاموا { وَكَرِهُوۤاْ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ } أي وكرهوا الخروج إِلى الجهاد إِيثاراً للراحة وخوف إِتلاف النفس والمال لما في قلوبهم من الكفر والنفاق { وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي ٱلْحَرِّ } أي قال بعضهم لبعض: لا تخرجوا إِلى الجهاد في وقت الحر، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم استنفرهم إِلى هذه الغزوة في حر شديد، قال أبو السعود: وإِنما قال { وَكَرِهُوۤاْ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ } على قوله " وكرهوا أن يخرجوا إِلى الغزو " إِيذاناً بأن الجهاد في سبيل الله مع كونه من أجلِّ الرغائب، وأشرف المطالب، التي يجب ان يتنافس فيها المتنافسون قد كرهوه، كما فرحوا بأقبح القبائح الذي هو القعود خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا لإِخوانهم تواصياً فيما بينهم بالشر والفساد لا تنفروا في الحر، فقد جمعوا ثلاث خصال من الكفر والضلال: الفرح بالقعود، وكراهية الجهاد، ونهي الغير عن ذلك، قال تعالى رداً عليهم { قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً } أي قل لهم يا محمد: نار جهنم التي تصيرون إِليها بتثاقلكم عن الجهاد أشد حراً مما تحذرون من الحر المعهود، فإِن حر الدنيا يزول ولا يبقى، وحر جهنم دائم لا يفتر، فما لكم لا تحذرون نار جهنم؟ قال الزمخشري: وهذا استجهال لهم، لأن من تصوَّن من مشقة ساعة، فوقع بذلك التصون في مشقة الأبد كان أجهل من كل جاهل { لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ } أي لو كانوا يفهمون لنفروا مع الرسول صلى الله عليه وسلم في الحر، ليتقوا به حر جهنم الذي هو أضعاف أضعاف هذا ولكنهم " كالمستجير من الرمضاء بالنار " { فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيراً } أمر يراد به الخبر معناه: فسيضحكون قليلاً، وسيبكون كثيراً، قال ابن عباس: الدنيا قليل فليضحكوا فيها ما شاءوا، فإِذا انقطعت الدنيا وصاروا إِلى الله عز وجل استأنفوا بكاءً لا ينقطع أبداً { جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } أي جزاءً لهم على ما اجترحوا من فنون المعاصي { فَإِن رَّجَعَكَ ٱللَّهُ إِلَىٰ طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ } أي فإِن ردك الله من غزوة تبوك إِلى طائفة من المنافقين الذين تخلفوا بغير عذر { فَٱسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ } أي طلبوا الخروج معك لغزوة أخرى { فَقُلْ لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَداً } أي قل لهم لن تخرجوا معي للجهاد أبداً { وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوّاً } أي لن يكون لكم شرف القتال معي لأعداء الله، وهو خبر معناه النهي للمبالغة، جارٍ مجرى الذم لهم لإِظهار نفاقهم { إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِٱلْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ } أي قعدتم عن الخروج معي أول مرة حين لم تخرجوا إِلى تبوك { فَٱقْعُدُواْ مَعَ ٱلْخَالِفِينَ } أي فاقعدوا مع المتخلفين عن الغزو من النساء والصبيان { وَلاَ تُصَلِّ عَلَىٰ أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً } أي لا تصل يا محمد على أحدٍ من هؤلاء المنافقين إِذا مات، لأن صلاتك رحمة، وهم ليسوا أهلاً للرحمة { وَلاَ تَقُمْ عَلَىٰ قَبْرِهِ } أي لا تقف على قبره للدفن، أو للزيارة والدعاء { إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ } أي لأنهم كانوا في حياتهم منافقين يظهرون الإِيمان ويبطنون الكفر { وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ } أي وماتوا وهم على نفاقهم خارجون من الإِسلام متمردون في العصيان، نزلت في ابن سلول { وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلاَدُهُمْ } أي لا تستحسن ما أنعمنا به عليهم من الأموال والأولاد { إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي ٱلدُّنْيَا } أي لا يريد بهم الخير إِنما يريد أن يعذبهم بها في الدنيا بالمصائب والنكبات { وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ } أي تخرج أرواحهم ويموتوا على الكفر منشغلين بالتمتع بالأموال والأولاد عن النظر والتدبر في العواقب { وَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ } التنكير للتفخيم أي وإِذا أنزلت سورة جليلة الشأن { أَنْ آمِنُواْ بِٱللَّهِ وَجَاهِدُواْ مَعَ رَسُولِهِ } أي بأن آمنوا بالله بصدقٍ ويقين، وجاهدوا مع الرسول لنصرة الحق وإِعزاز الدين { ٱسْتَأْذَنَكَ أُوْلُواْ ٱلطَّوْلِ مِنْهُمْ } أي استأذنك في التخلف أُولوا الغنى والمال الكثير { وَقَالُواْذَرْنَا نَكُنْ مَّعَ ٱلْقَاعِدِينَ } أي دعنا نكن مع الذين لم يخرجوا للغزو وقعدوا لعذر، قال تعالى تقبيحاً لهم وذماً { رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ ٱلْخَوَالِفِ } أي رضوا بأن يكونوا مع النساء والمرضى والعجزة الذين تخلفوا في البيوت { وَطُبِعَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ } أي ختم عليها { فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ } أي فهم لا يفهمون ما في الجهاد وطاعة الرسول من السعادة، وما في التخلف عنه من الشقاوة { لَـٰكِنِ ٱلرَّسُولُ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ جَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ } قال الرازي: لما شرح حال المنافقين، بيّن حال الرسول والمؤمنين بالضد منه، حيث بذلوا المال والنفس في طلب رضوان الله والتقرب إِليه والمعنى: إِن تخلف هؤلاء ولم يجاهدوا، فقد جاهد من هو خير منهم وأخلص نية واعتقاداً { وَأُوْلَـٰئِكَ لَهُمُ ٱلْخَيْرَاتُ } أي لهم منافع الدارين: النصر والغنيمة في الدنيا، والجنة والكرامة في الآخرة { وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } أي الفائزون بالمطلوب { أَعَدَّ ٱللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ } أي أعد الله لهم على إِيمانهم وجهادهم بساتين تجري من تحت قصورها الأنهار { خَالِدِينَ فِيهَا } أي لابثين في الجنة أبداً { ذٰلِكَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ } أي ذلك هو الظفر العظيم الذي لا فوز وراءه { وَجَآءَ ٱلْمُعَذِّرُونَ مِنَ ٱلأَعْرَابِ } أي جاء المعتذرون من الأعراب الذين انتحلوا الأعذار وتخلفوا عن الجهاد { لِيُؤْذَنَ لَهُمْ } أي في ترك الجهاد، وهذا بيان لأحوال المنافقين من الأعراب بعد بيان أحوال المنافقين من أهل المدينة، قال البيضاوي: هم " أسد " و " غطفان " استأذنوا في التخلف معتذرين بالجهد وكثرة العيال { وَقَعَدَ ٱلَّذِينَ كَذَبُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ } أي وقعد عن الجهاد الذين كذبوا الله ورسوله في دعوى الإِيمان، وهم قوم لم يجاهدوا ولم يعتذروا عن تخلفهم { سَيُصِيبُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } وعيد لهم شديد أي سينال هؤلاء المتخلفين الكاذبين في دعوى الإِيمان عذاب أليم بالقتل والأسر في الدنيا، والنار في الآخرة { لَّيْسَ عَلَى ٱلضُّعَفَآءِ وَلاَ عَلَىٰ ٱلْمَرْضَىٰ } أي ليس على الشيوخ المسنين، ولا على المرضى العاجزين الذين لا يستطيعون الجهاد لعجزهم أو مرضهم { وَلاَ عَلَى ٱلَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ } أي الفقراء الذين لا يجدون نفقة للجهاد { حَرَجٌ } أي إِثم في القعود { إِذَا نَصَحُواْ للَّهِ وَرَسُولِهِ } أي أخلصوا الإِيمان والعمل الصالح، فلم يرجفوا بالناس ولم يثبطوهم، ولم يثيروا الفتن، فليس على هؤلاء حرج إِذا تركوا الغزو لأنهم أصحاب أعذار { مَا عَلَى ٱلْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ } أي ليس عليهم جناح ولا إِلى معاتبتهم سبيل قال في التسهيل: وصفهم بالمحسنين لأنهم نصحوا لله ورسوله، ورفع عنهم العقوبة والتعنيف واللوم، وهذا من بليغ الكلام لأن معناه: لا سبيل لعاتب عليهم، وهو جارٍ مجرى المثل { وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } أي عظيم المغفرة والرحمة حيث وسع على أهل الأعذار { وَلاَ عَلَى ٱلَّذِينَ إِذَا مَآ أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ } نزلت في البكائين الذين أرادوا الغزو مع رسول الله ولم يجد الرسول صلى الله عليه وسلم ما يحملهم عليه قال البيضاوي: هم البكاءون سبعة من الأنصار أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: قد نذرنا الخروج فاحملنا نغزو معك، فقال عليه السلام: لا أجد ما أحملكم عليه فتولوا وهم يبكون { قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَآ أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ } أي ليس عندي ما أحملكم عليه من الدواب { تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ ٱلدَّمْعِ حَزَناً } أي انصرفوا وأعينهم تسيل دمعاً من شدة الحزن { أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنْفِقُونَ } أي لأنهم لم يجدوا ما ينفقونه لغزوهم، ولم يكن عند الرسول ما يحملهم عليه { إِنَّمَا ٱلسَّبِيلُ عَلَى ٱلَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَآءُ } أي إِنما الإِثم والحرج على الذين يستأذنونك في التخلف وهم قادرون على الجهاد وعلى الإِنفاق لغناهم { رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ ٱلْخَوَالِفِ } أي رضوا بأن يكونوا مع النساء والمرضى والعجزة { وَطَبَعَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } أي ختم عليها فهم لذلك لا يهتدون.
البَلاَغَة:
1- { يَعْلَمُ.. وعَلاَّمُ ٱلْغُيُوبِ } بين يعلم وعلام جناس الاشتقاق.

2- { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } التنوين في عذابٌ للتهويل والتفخيم.

3- { ٱسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ } بينهما طباق السلب، وقد خرج الأمر عن حقيقته إِلى التسوية.

4- { فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيراً } فيه من المحسنات البديعية ما يسمى بالمقابلة.

5- { رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ ٱلْخَوَالِفِ } الخوالف: النساء المقيمات في دار الحي بعد رحيل الرجال ففيه استعارة، وإِنما سمي النساء خوالف تشبيهاً لهن بالخوالف وهي الأعمدة تكون في أواخر بيوت الحي فشبههن لكثرة لزوم البيوت بالخوالف التي تكون في البيوت.

6- { وَلاَ عَلَى ٱلَّذِينَ إِذَا مَآ أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ } هو من عطف الخاص على العام اعتناءً بشأنهم أفاده الألوسي.

فَائِدَة:
قال الزمخشري عند قوله تعالى { إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً } لفظ السبعين جارٍ مجرى المثل في كلام العرب للتكثير قال علي بن أبي طالب:
لأصبحن العاص وابن العاصي *** سبعين ألفاً عاقدي النواصي
فذكرها ليس لتحديد العدد، وإِنما هو للمبالغة جرياً على أساليب العرب.

تنبيهْ:
إِنما منع صلى الله عليه وسلم من الصلاة على المنافقين، لأن الصلاة على الميت دعاء واستغفار واستشفاع له، والكافر ليس بأهل لذلك.

لطيفَة:
" اشتهر " حذيفة بن اليمان " بأنه صاحب سر الرسول صلى الله عليه وسلم وقد قال له صلى الله عليه وسلم: إِني مسرٌ إليك سراً فلا تذكره لأحد، إني نهيت أن أصلي على فلان وفلان، لرهط ذوي عدد من المنافقين، ولذلك كان عمر رضي الله عنه يأتيه فيقول: أسألك باللهِ هل عدَّني رسول الله من المنافقين؟! ".






التوقيع

    رد مع اقتباس
قديم 2016-03-31, 18:28 رقم المشاركة : 7
أم سهام
بروفســــــــور
 
الصورة الرمزية أم سهام

 

إحصائية العضو









أم سهام غير متواجد حالياً


وسام المرتبة الثالثة في مسابقة القران الكريم

وسام المرتبة الثانية

وسام المشاركة في مسابقة السيرة النبوية العطرة

وسام المرتبة الثانية مسابقة الأستاذ الرمضانية

وسام المشاركة في دورة HTML

وسام المركز الثالث في مسابقة نتخلق بخلقه لنسعد بقر

وسام المركز الثالث في  المسابقة االرمضانية الكبرى

افتراضي رد: تفسير سورة التوبة


* تفسير صفوة التفاسير/ الصابوني (مـ 1930م -) مصنف و مدقق
{ يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا ٱللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } * { سَيَحْلِفُونَ بِٱللَّهِ لَكُمْ إِذَا ٱنْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } * { يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِن تَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَرْضَىٰ عَنِ ٱلْقَوْمِ ٱلْفَاسِقِينَ } * { ٱلأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } * { وَمِنَ ٱلأَعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ ٱلدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ ٱلسَّوْءِ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } * { وَمِنَ ٱلأَعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِندَ ٱللَّهِ وَصَلَوَاتِ ٱلرَّسُولِ أَلاۤ إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ ٱللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } * { وَٱلسَّابِقُونَ ٱلأَوَّلُونَ مِنَ ٱلْمُهَاجِرِينَ وَٱلأَنْصَارِ وَٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ ٱللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً ذٰلِكَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ } * { وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِّنَ ٱلأَعْرَابِ مُنَٰفِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ ٱلْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى ٱلنِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَىٰ عَذَابٍ عَظِيمٍ } * { وَآخَرُونَ ٱعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى ٱللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } * { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَٰوتَك سَكَنٌ لَّهُمْ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } * { أَلَمْ يَعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ ٱلتَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ ٱلصَّدَقَاتِ وَأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ } * { وَقُلِ ٱعْمَلُواْ فَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَٱلْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } * { وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ ٱللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } * { وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَاداً لِّمَنْ حَارَبَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ ٱلْحُسْنَىٰ وَٱللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } * { لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى ٱلتَّقْوَىٰ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلْمُطَّهِّرِينَ } * { أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ تَقْوَىٰ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَٱنْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ } * { لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ ٱلَّذِي بَنَوْاْ رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ }

المنَاسَبَة:
لا تزال الآيات تتحدث عن المنافقين، الذين تخلفوا عن الجهاد وجاءوا يؤكدون تلك الأعذار بالأيمان الكاذبة، وقد ذكر تعالى من مكائد المنافقين " مسجد الضرار " الذي بنوه ليكون وكراً للتآمر على الإِسلام والمسلمين، وحذر نبيه صلى الله عليه وسلم من الصلاة فيه، لأنه لم يشيد على أساس من التقوى، وإِنما بني ليكون مركزاً لأهل الشقاق والنفاق، ولتفريق وحدة المسلمين، وقد اشتهر باسم مسجد الضرار.

اللغَة:
{ ٱنْقَلَبْتُمْ } رجعتم { رِجْسٌ } الرجس: الشيء الخبيث المستقذر، وقد يطلق على النجس { وَمَأْوَاهُمْ } قال الجوهري: المأوى كل مكان يأوي إِليه ليلاً أو نهاراً { ٱلأَعْرَابُ } جمع أعرابي قال أهل اللغة: يقال رجل عربي إِذا كان نسبه في العرب وجمعه العرب، ورجل أعرابي إِذا كان بدوياً يطلب مساقط الغيث والكلأ، سواء كان من العرب أو من مواليهم، فمن استوطن القرى العربية فهم عرب، ومن نزل البادية فهم أعراب { أَجْدَرُ } أولى وأحق { مََغْرَماً } المغرم: الغرم والخسران وأصله من الغرام وهو لزوم الشيء { مَرَدُواْ } ثبتوا واستمروا وأصل الكلمة من اللين والملامسة والتجرد فكأنهم تجردوا للنفاق، ومنه رملة مرداء لا نبت فيها، وغصن أمرد لا ورق عليه، وغلام أمرد لا لحية له { مُرْجَوْنَ } الإِرجاء: التأخير يقال: ارجأته أي أخرته ومنه المرجئة لأنهم أخروا العمل { ضِرَاراً } الضرار: محاولة الضر وفي الحديث " لا ضرر ولا ضرار " { إِرْصَاداً } الإِرصاد: الترقب والانتظار يقال أرصدت له كذا إِذا أعددته مرتقباً له به { شَفَا } الشفا: الحرف والشفير ومنه أشفى على كذا إذا دنا منه { جُرُفٍ }: ما تجرفه السيول من الأودية ويبقى على الأطراف طين مشرف على السقوط وأصله من الجرف وهو اقتلاع الشيء من أصله { هَارٍ } ساقط يقال: تهور البناء إِذا سقط وأصله هائر.

سَبَبُ النّزول:
" روي أن " أبا عامر الراهب " قد تنصر في الجاهلية وترهب، فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عاداه لأنه ذهبت رياسته وقال: لا أجد قوماً يقاتلونك إِلا قاتلتك معهم - وسماه النبي صلى الله عليه وسلم أبا عامر الفاسق - فلما انهزمت هوازن في حنين خرج إِلى الشام، وأرسل إِلى المنافقين أن استعدوا بما استطعتم من قوة وسلاح، وابنو لي مسجداً فإِني ذاهب إِلى قيصر فآتي بجند الروم فأُخرج محمداً وأصحابه، فبنوا مسجداً إِلى جانب مسجد قباء، وأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: إِنا بنينا مسجداً لذي العِلة، والحاجة، والليلة المطيرة، وإِنا نحب أن تأتينا فتصلي لنا فيه، فدعا بثوبه ليلبسه فيأتيهم فنزل عليه القرآن، وأخبر الله رسوله خبر مسجد الضرار وما هموا به، فدعا صلى الله عليه وسلم بعض الصحابة وقال لهم: انطلقوا إِلى هذا المسجد الظالم أهله واحرقوه، فذهبوا إِليه فحرقوه وهدموه وتفرق عنه أهله، وفيه نزلت { وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مَسْجِداً ضِرَاراً.. } " الآية.

التفسِيْر:
{ يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ } أي يعتذر إِليكم هؤلاء المتخلفون عن غزوة تبوك إِذا رجعتم إِليهم من سفركم وجهادكم { قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ } أي قل لهم لا تعتذروا فلن نصدقكم فيما تقولون { قَدْ نَبَّأَنَا ٱللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ } أي قد أخبرنا الله بأحوالكم وما في ضمائركم من الخبث والنفاق { وَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ } أي وسيرى الله ورسوله عملكم فيما بعد، أتتوبون من نفاقكم أم تقيمون عليه؟ { ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ } أي ثم ترجعون بعد مماتكم إِلى الله تعالى الذي يعلم السر والعلانية، ولا تخفى عليه خافية { فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } أي فيخبركم عند وقوفكم بين يديه بأعمالكم كلها، ويجازيكم عليها الجزاء العادل { سَيَحْلِفُونَ بِٱللَّهِ لَكُمْ } أي سيحلف لكم بالله هؤلاء المنافقون { إِذَا ٱنْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ } أي إِذا رجعتم إِليهم من تبوك معتذرين بالأعذار الكاذبة { لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ } أي لتصفحوا عنهم ولتعرضوا عن ذمهم { فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ } أي فأعرضوا عنهم إِعراض مقتٍ واجتناب، وخلُّوهم وما اختاروا لأنفسهم من الكفر والنفاق قال ابن عباس: يريد ترك الكلام والسلام ثم ذكر تعالى العلة فقال: { إِنَّهُمْ رِجْسٌ } أي لأنهم كالقذر لخبث باطنهم { وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ } أي مصيرهم إِلى جهنم هي مسكنهم ومأواهم { جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } أي جزاءً لهم على نفاقهم في الدنيا، وما اكتسبوه من الآثام { يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ } كرره لبيان كذبهم وللتحذير من الاغترار بمعاذيرهم الكاذبة، أي يحلفون لكم بأعظم الأيمان لينالوا رضاكم { فَإِن تَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَرْضَىٰ عَنِ ٱلْقَوْمِ ٱلْفَاسِقِينَ } أي فإِن رضيتم عنهم فإِن رضاكم لا ينفعهم لأن الله ساخط عليهم قال أبو السعود: ووضع الفاسقين موضع الضمير للتسجيل عليهم بالفسق والخروج عن الطاعة { ٱلأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً } الأعراب - أهل البدو - أشد كفراً وأعظم نفاقاً من أهل الحضر، لجفائهم وقسوة قلوبهم، وقلة مشاهدتهم لأهل الخير والصلاح { وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ } أي وهم أولى بألا يعلموا ما أنزل الله على رسوله من الأحكام والشرائع قال في البحر: وإِنما كانوا أشد كفراً ونفاقاً لفخرهم وطيشهم وتربيتهم بلا سائس ولا مؤدب، فقد نشأوا كما شاءوا، ولبعدهم عن مشاهدة العلماء ومعرفة كتاب الله وسنة رسوله، فكانوا أطلق لساناً بالكفر من منافقي المدينة { وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } أي عليم بخلقه حكيم في صنعه { وَمِنَ ٱلأَعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَماً } أي ومن هؤلاء الأعراب الجهلاء من يعدُّ ما يصرفه في سبيل الله ويتصدق به غرامة وخسراناً، لأنه لا ينفقه احتساباً فلا يرجو له ثواباً { وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ ٱلدَّوَائِرَ } أي ينتظر بكم مصائب الدنيا ليتخلص من أعباء النفقة { عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ ٱلسَّوْءِ } جملة اعتراضية للدعاء عليهم أي عليهم يدور العذاب والهلاك { وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } أي سميع لأقوالهم عليم بأفعالهم { وَمِنَ ٱلأَعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ } أي ومن الأعراب من يصدِّق بوحدانية الله وبالبعث بعد الموت على عكس أولئك المنافقين { وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِندَ ٱللَّهِ } أي ويتخذ ما ينفق في سبيل الله ما يقربه من رضا الله ومحبته { وَصَلَوَاتِ ٱلرَّسُولِ } أي دعاء الرسول واستغفاره له { أَلاۤ إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ } { أَلاۤ } أداة استفتاح للتنبيه على الاعتناء بالأمر أي ألا إِن هذا الإِنفاق قربة عظيمة تقربهم لرضا ربهم حيث أنفقوها مخلصين { سَيُدْخِلُهُمُ ٱللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ } أي سيدخلهم الله في جنته التي أعدها للمتقين { إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } أي غفور لأهل طاعته رحيم بهم حيث وفقهم للطاعة { وَٱلسَّابِقُونَ ٱلأَوَّلُونَ مِنَ ٱلْمُهَاجِرِينَ وَٱلأَنْصَارِ } أي والسابقون الأولون في الهجرة والنصرة، الذين سبقوا إِلى الإِيمان من الصحابة { وَٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ } أي سلكوا طريقهم واقتدوا بهم في سيرتهم الحسنة، وهم التابعون ومن سار على نهجهم إِلى يوم القيامة { رَّضِيَ ٱللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ } وعدٌ بالغفران والرضوان أي رضي الله عنهم وأرضاهم، وهذا أرقى المراتب التي يسعى إِليها المؤمنون، ويتنافس فيها المتنافسون أن يرضى الله تعالى عنهم ويرضيهم قال الطبري: رضي الله عنهم لطاعتهم إِياه وإِجابتهم نبيه، ورضوا عنه لما أجزل لهم من الثواب على الطاعة والإِيمان { وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا ٱلأَنْهَارُ } أي وأعد لهم في الآخرة جنات تجري من تحت أشجارها وقصورها الأنهار { خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً } أي مقيمين فيها من غير انتهاء { ذٰلِكَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ } أي ذلك هو الفوز الذي لا فوز وراءه قال في البحر: لما بيّن تعالى فضائل الأعراب المؤمنين، بيّن حال هؤلاء السابقين، ولكن شتان ما بين الثناءين فهناك قال { أَلاۤ إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ } وهنا قال { وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا ٱلأَنْهَارُ } وهناك ختم { إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } وهنا ختم { ذٰلِكَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ } { وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِّنَ ٱلأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ } أي وممن حولكم يا أهل المدينة منافقون من الأعراب منازلهم قريبة من منازلكم { وَمِنْ أَهْلِ ٱلْمَدِينَةِ } أي ومن أهل المدينة منافقون أيضاً { مَرَدُواْ عَلَى ٱلنِّفَاقِ } أي لجوا في النفاق واستمروا عليه قال ابن عباس: مرنوا عليه وثبتوا منهم ابن سلول، والجلاس، وأبو عامر الراهب { لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ } أي لا تعلمهم أنت يا محمد لمهارتهم في النفاق بحيث يخفى أمرهم على كثيرين، ولكن نحن نعلمهم ونخبرك عن أحوالهم { سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ } أي في الدنيا بالقتل والأسر، وعند الموت بعذاب القبر { ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَىٰ عَذَابٍ عَظِيمٍ } أي ثم في الآخرة يردون إِلى عذاب النار، الذي أعده الله للكفار والفجار { وَآخَرُونَ ٱعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ } أي وقوم آخرون أقروا بذنوبهم ولم يعتذروا عن تخلفهم بالمعاذير الكاذبة قال الرازي: هم قوم من المسلمين تخلفوا عن غزوة تبوك لا لنفاقهم بل لكسلهم، ثم ندموا على ما فعلوا وتابوا { خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً } أي خلطوا جهادهم السابق وخروجهم مع الرسول لسائر الغزوات بالعمل السيء وهو تخلفهم عن غزوة تبوك هذه المرة { عَسَى ٱللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } أي لعل الله يتوب عليهم قال الطبري: وعسى من الله واجب ومعناه: سيتوب الله عليهم، ولكنه في كلام العرب بمعنى الترجي على ما وصفت { إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } أي ذو عفوٍ لمن تاب، عظيم الرحمة لمن أناب { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا } أي خذ يا محمد من هؤلاء الذين اعترفوا بذنوبهم صدقة تطهرهم بها من الذنوب والأوضار، وتنمي بتلك الصدقة حسناتهم حتى يرتفعوا بها إِلى مراتب المخلصين الأبرار { وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَٰوتَك سَكَنٌ لَّهُمْ } أي وادع لهم بالمغفرة فإِن دعاءك واستغفارك طمأنينة لهم قال ابن عباس: { سَكَنٌ لَّهُمْ } رحمة لهم { وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } أي سميع لقولهم عليم بنياتهم { أَلَمْ يَعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ ٱلتَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ } الاستفهام للتقرير أي ألم يعلم أولئك التائبون أن الله تعالى هو الذي يقبل توبة من تاب من عباده، { وَيَأْخُذُ ٱلصَّدَقَاتِ } أي يتقبلها ممن أخلص النية { وَأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ } أي وأن الله وحده المستأثر بقبول التوبة والرحمة، لقوله {*غَافِرِ ٱلذَّنبِ وَقَابِلِ ٱلتَّوْبِ*}
[غافر: 3] { وَقُلِ ٱعْمَلُواْ فَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَٱلْمُؤْمِنُونَ } صيغة أمر متضمنة للوعيد أي اعملوا ما شئتم من الأعمال فأعمالكم لا تخفى على الله، وستعرض يوم الحساب على الرسول والمؤمنين { وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ } أي وستردُّون إِلى الله الذي لا تخفى عليه خافية { فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } أي فيجازيكم على أعمالكم إِن خيراً فخير، وإِن شراً فشر { وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ ٱللَّهِ } أي وآخرون من المتخلفين مؤخرون إِلى أن يظهر أمر الله فيهم قال ابن عباس: هم كعب بن مالك، ومرارة بن الربيع، وهلال بن أمية، لم يسارعوا إِلى التوبة والاعتذار، وكانوا من أصحاب بدر، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كلامهم والسلام عليهم، فصاروا مرجئين لأمره تعالى إلى أن يتجاوز عن سيئاتهم، فهو تعالى وحده الذي يقبل التوبة ويتوب على العبد دون غيره { إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ } أي إِما أن يعذبهم إِن لم يتوبوا، وإِما أن يوفقهم للتوبة ويغفر لهم { وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } أي عليم بأحوالهم حكيم فيما يفعله بهم، وهؤلاء الثلاثة المذكورون في قوله تعالى
{*وَعَلَى ٱلثَّلاَثَةِ ٱلَّذِينَ خُلِّفُواْ*}
[التوبة: 118] وقد وقف أمرهم خمسين ليلة وهجرهم الناس حتى نزلت توبتهم بعد { وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مَسْجِداً ضِرَاراً } أي ومن المنافقين جماعة بالغوا في الإِجرام حتى ابتنوا مجمعاً يدبرون فيه الشر، وسموه مسجداً مضارة للمؤمنين، وقد اشتهر باسم " مسجد الضرار " { وَكُفْراً } أي نصرة للكفر الذي يخفونه { وَتَفْرِيقاً بَيْنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } أي يفرقون بواسطته جماعة المؤمنين، ويصرفونهم عن مسجد قباء { وَإِرْصَاداً لِّمَنْ حَارَبَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ } أي ترقباً وانتظاراً لقدوم أبي عامر الفاسق الذي قال لرسول الله: لا أجد قوماً يقاتلونك إِلا قاتلتك معهم، وهو الذي أمرهم ببناء المسجد ليكون معقلاً له قال الطبري في رواية الضحاك: هم ناس من المنافقين بنوا مسجداً بقباء يضارون به نبي الله والمسلمين وكانوا يقولون: إِذا رجع أبو عامر صلى فيه، وإِذا قدم ظهر على محمد وتغلب عليه { وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ ٱلْحُسْنَىٰ } أي وليقسمن ما أردنا ببنائه إِلا الخير والإِحسان، من الرفق بالمسكين، والتوسعة على المصلين { وَٱللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } أي والله يعلم كذبهم في ذلك الحلف، وأتى بإِن واللام لزيادة التأكيد، ثم نهى تعالى رسوله عن الصلاة في مسجد الضرار فقال { لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَداً } أي لا تصل فيه يا محمد أبداً لأنه لم يُبْنَ إِلا ليكون معقلاً لأهل النفاق { لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى ٱلتَّقْوَىٰ } اللام لام القسم أي لمسجد قباء الذي بني على تقوى الله وطاعته { مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ } أي من أول يوم ابتدئ في بنائه { أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ } أي أولى وأجدر بأن تصلي فيه من مسجد الضرار { فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ } أي في هذا المسجد رجال أتقياء - وهم الأنصار - يحبون أن يتطهروا من الذنوب والمعاصي { وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلْمُطَّهِّرِينَ } أي المبالغين في الطهارة الظاهرة والباطنة، ثم أشار تعالى إِلى فضل مسجد التقوى على مسجد الضرار فقال: { أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ تَقْوَىٰ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ } الاستفهام للإِنكار والمعنى: هل من أسس بنيانه على تقوى وخوف من الله تعالى وطلبٍ لمرضاته بالطاعة { خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ } أي هل ذاك خير أم هذا الذي أسس بنيانه على طرف واد متصدع مشرف على السقوط؟ { فَٱنْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ } أي فسقط به البناء في نار جهنم { وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ } أي لا يوفق الظالمين إِلى السداد، ولا يهديهم سبيل الرشاد، والآية الكريمة على سبيل التشبيه والتمثيل لعمل أهل الإِخلاص، والإِيمان، وعمل أهل النفاق والضلال، والمعنى هل من أسس بنيان دينه على التقوى والإِخلاص كمن أسسه على الباطل والنفاق الذي يشبه طرف الوادي أو الجبل الذي أشفى على السقوط؟ { لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ ٱلَّذِي بَنَوْاْ رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ } أي لا يزال في قلوب أهل مسجد الضرار شكٌ ونفاقٌ، وغيظ وارتياب بسبب هدمه، يحسبون أنهم كانوا في بنائه محسنين، روي أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث إِلى ذلك المسجد من هدمه وحرقه وأمر بإِلقاء الجيف والنتن والقمامة فيه إِهانة لأهله، فلذلك اشتد غيظ المنافقين وحقدهم { إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ } أي لا يزالون في ارتياب وغيظ إِلا أن تتصدع قلوبهم فيموتوا { وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } أي والله سبحانه عليم بأحوال المنافقين، حكيم في تدبيره إِياهم ومجازاتهم بسوء نياتهم.

البَلاَغَة:

1- { ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ } بين الكلمتين طباق.

2- { لاَ يَرْضَىٰ عَنِ ٱلْقَوْمِ ٱلْفَاسِقِينَ } الإِظهار في موضع الإِضمار لزيادة التشنيع والتقبيح وأصله لا يرضى عنهم.

3- { سَيُدْخِلُهُمُ ٱللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ } فيه مجاز مرسل أي يدخلهم في جنته التي هي محل الرحمة وهو من إِطلاق الحال وإِرادة المحل.

4- { عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً } بين { صَالِحاً وسَيِّئاً } طباق.

5- { إِنَّ صَلَٰوتَك سَكَنٌ لَّهُمْ } فيه تشبيه بليغ حيث جعل الصلاة نفس السكن والاطمئنان مبالغة وأصله كالسكن حذفت أداة التشبيه ووجه الشبه فأصبح بليغاً.

6- { هَارٍ فَٱنْهَارَ } بينهما جناس ناقص وهو من المحسنات البديعية.

7- { أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ تَقْوَىٰ } في الكلام استعارة مكنية حيث شبهت التقوى والرضوان بأرض صلبة يعتمد عليها البنيان وطوي ذكر المشبه به ورمز له بشيء من لوازمه وهو التأسيس.

تنبيه:
كلمة " عسى " من الله واجب قال الإِمام الرازي: وتحقيق القول فيه أن القرآن نزل على عرف الناس في الكلام، والسلطان العظيم إِذا التمس المحتاج منه شيئاً فإِنه لا يجيبه إِلا على سبيل الترجي مع كلمة " عسى " أو " لعل " تنبيهاً على أنه ليس لأحدٍ أن يلزمه بشيء، بل كل ما يفعله فإِنما هو على سبيل التفضل والتطول، وفيه فائدة أخرى وهو أن يكون المكلف على الطمع والإِشفاق لأنه أبعد من الإِتكال والإِهمال.

لطيفَة:
روى الأعمش أن أعرابياً جلس إِلى " زيد بن صوحان " وهو يحدث أصحابه - وكانت يده أصيبت يوم نهاوند، فقال الأعرابي: والله إِن حديثك ليعجبني، وإِن يدك لتريبني! فقال زيد: ما يريبك من يدي إِنها الشمال، فقال الأعرابي: والله ما أدري اليمين يقطعون أم الشمال فقال زيد: صدق الله { ٱلأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ.. } الآية، معنى تريبني أي تدخل إِلى قلبي الشك هل قطعت في سرقة وهذا من جهل الأعرابي.






التوقيع

    رد مع اقتباس
قديم 2016-04-07, 12:47 رقم المشاركة : 8
أم سهام
بروفســــــــور
 
الصورة الرمزية أم سهام

 

إحصائية العضو









أم سهام غير متواجد حالياً


وسام المرتبة الثالثة في مسابقة القران الكريم

وسام المرتبة الثانية

وسام المشاركة في مسابقة السيرة النبوية العطرة

وسام المرتبة الثانية مسابقة الأستاذ الرمضانية

وسام المشاركة في دورة HTML

وسام المركز الثالث في مسابقة نتخلق بخلقه لنسعد بقر

وسام المركز الثالث في  المسابقة االرمضانية الكبرى

افتراضي رد: تفسير سورة التوبة


* تفسير صفوة التفاسير/ الصابوني (مـ 1930م -) مصنف و مدقق
{ إِنَّ ٱللَّهَ ٱشْتَرَىٰ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ ٱلْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي ٱلتَّوْرَاةِ وَٱلإِنْجِيلِ وَٱلْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ ٱللَّهِ فَٱسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ ٱلَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ } * { ٱلتَّائِبُونَ ٱلْعَابِدُونَ ٱلْحَامِدُونَ ٱلسَّائِحُونَ ٱلرَّاكِعُونَ ٱلسَّاجِدونَ ٱلآمِرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَٱلنَّاهُونَ عَنِ ٱلْمُنكَرِ وَٱلْحَافِظُونَ لِحُدُودِ ٱللَّهِ وَبَشِّرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ } * { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوۤاْ أُوْلِي قُرْبَىٰ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ ٱلْجَحِيمِ } * { وَمَا كَانَ ٱسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ } * { وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّىٰ يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ إِنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } * { إِنَّ ٱللَّهَ لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ يُحْيِـي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ } * { لَقَدْ تَابَ ٱللهُ عَلَىٰ ٱلنَّبِيِّ وَٱلْمُهَاجِرِينَ وَٱلأَنصَارِ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ ٱلْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } * { وَعَلَى ٱلثَّلاَثَةِ ٱلَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّىٰ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ ٱلأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوۤاْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ ٱللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ } * { يَـٰأيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ ٱلصَّادِقِينَ } * { مَا كَانَ لأَهْلِ ٱلْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِّنَ ٱلأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ ٱللَّهِ وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنْفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلاَ يَطَأُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ ٱلْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ ٱلْمُحْسِنِينَ } * { وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ ٱللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } * { وَمَا كَانَ ٱلْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي ٱلدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوۤاْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ } * { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ ٱلَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِّنَ ٱلْكُفَّارِ وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلْمُتَّقِينَ } * { وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَـٰذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } * { وَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَىٰ رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ } * { أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ } * { وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِّنْ أَحَدٍ ثُمَّ ٱنصَرَفُواْ صَرَفَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُم بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ } * { لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِٱلْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } * { فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِيَ ٱللَّهُ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ ٱلْعَرْشِ ٱلْعَظِيمِ }

المنَاسَبَة:
لما ذكر تعالى أحوال المنافقين، المتخلفين عن الجهاد، المثبطين عنه، ذكر صفات المؤمنين المجاهدين، الذين باعوا أنفسهم لله.. ثم ذكر قصة الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك وتوبة الله عليهم، وختم السورة بتذكير المؤمنين بالنعمة العظمى، ببعثة السراج المنير، النبي العربي، الذي أرسله الله رحمة للعالمين.

اللغَة:
{ أَوَّاهٌ } كثير التأوه ومعناه الخاشع المتضرع، يقال: تأوه الرجل تأوهاً إِذا توجع قال الشاعر:
إِذا ما قمت أُرحلها بليلٍ *** تأوه آهة الرجل الحزين
{ حَلِيمٌ } الحليم: الكثير الحلم وهو الذي يصفح عن الذنب ويصبر على الأذى { ٱلْعُسْرَةِ } الشدة وصعوبة الأمر وتسمى غزوة تبوك " غزوة العسرة " لما فيها من المشقة والشدة { يَزِيغُ } الزيغ: الميل: يقال زاغ قلبه إِذا مال عن الهدى والإِيمان { ظَمَأٌ } الظمأ: شدة العطش { نَصَبٌ } النصب: الإِعياء والتعب { مَخْمَصَةٌ } مجاعة شديدة يظهر بها ضمور البطن { يَنَالُونَ } يصيبون، نال الشيء إِذا أدركه وأصابه { غِلْظَةً } شدة وقوة وحمية { عَزِيزٌ } صعب وشاق { عَنِتُّمْ } العنت: الشدة والمشقة.

سَبَبُ النّزول:
أ - " لما بايع الأنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة - وكانوا سبعين رجلاً - قال عبد الله بن رواحة يا رسول الله: اشترط لربك ولنفسك ما شئت، فقال: اشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، واشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم، قالوا: فإِذا فعلنا ذلك فما لنا؟ قال: الجنة، قالوا: ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل فنزلت { إِنَّ ٱللَّهَ ٱشْتَرَىٰ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ.. } " الآية.

ب - " لما حضرت أبا طالب الوفاة، دخل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده أبو جهل، وعبد الله بن أبي أمية، فقال: أي عم قل " لا إِله إِلا الله " كلمة أشهد لك بها عند الله، فقال أبو جهل وابن أبي أُمية: يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه ويعيد له تلك المقالة، حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم: هو على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول " لا إِله إِلا الله " فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك فأنزل الله عز وجل { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ.. } " ونزلت
{*إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ*}
[القصص: 56].

التفسِير:

{ إِنَّ ٱللَّهَ ٱشْتَرَىٰ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ ٱلّجَنَّةَ } أي اشترى أموال المؤمنين وأنفسهم بالجنة وهو تمثيل في ذروة البلاغة والبيان لأجر المجاهدين، مَثَّل تعالى جزاءهم بالجنة على بذلهم الأموال والأنفس في سبيله بصورة عقد فيه بيع وشراء قال الحسن: بايعهم فأغلى لهم الثمن وانظروا إِلى كرم الله، أنفساً هو خلقها، وأموالاً هو رزقها، ثم وهبها لهم، ثم اشتراها منهم بهذا الثمن الغالي فإِنها لصفقة رابحة وقال بعضهم: ناهيك عن بيعٍ البائعُ فيه المؤمن، والمشتري فيه رب العزة والثمن فيه الجنة، والصك فيه الكتب السماوية، والواسطة فيه محمد عليه الصلاة والسلام { يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ } أي يجاهدون لإِعزاز دين الله وإِعلاء كلمته { فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ } أي في حالتي الظفر بالأعداء بقتلهم، أو الاستشهاد في المعركة بموتهم { وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً } أي وعدهم به المولى وعداً قاطعاً { فِي ٱلتَّوْرَاةِ وَٱلإِنْجِيلِ وَٱلْقُرْآنِ } أي وعداً مثبتاً في الكتب المقدسة " التوراة، والإِنجيل، والقرآن " { وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ ٱللَّهِ } الاستفهام إِنكاري بمعنى النفي أي لا أحد أوفى من الله جل وعلا قال الزمخشري: لأن إِخلاف الميعاد قبيح لا يقدم عليه الكرام من الخلق، فكيف بالغني الذي لا يجوز عليه القبيح؟ ولا ترى ترغيباً في الجهاد أحسن منه وأبلغ { فَٱسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ ٱلَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ } أي أبشروا بذلك البيع الرابح وافرحوا به غاية الفرح { وَذَلِكَ هُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ } هو الفوز الذي لا فوز أعظم منه { ٱلتَّائِبُونَ ٱلْعَابِدُونَ ٱلْحَامِدُونَ } كلام مستأنف قال الزجاج: مبتدأ خبره محذوف أي التائبون العابدون من أهل الجنة أيضاً وإِن لم يجاهدوا كقوله {*وَكُـلاًّ وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلْحُسْنَىٰ*}
[النساء: 95] والمعنى التائبون عن المعاصي، العابدون أي المخلصون في العبادة، الحامدون لله في السراء والضراء { ٱلسَّائِحُونَ } أي السائرون في الأرض للغزو أو طلب العلم، من السياحة وهي السير والذهاب في المدن والقفار للعظة والاعتبار { ٱلرَّاكِعُونَ ٱلسَّاجِدونَ } أي المصلون { ٱلآمِرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَٱلنَّاهُونَ عَنِ ٱلْمُنكَرِ } أي الداعون إِلى الله، يدعون الناس إِلى الرشد والهدى، وينهونهم عن الفساد والردى { وَٱلْحَافِظُونَ لِحُدُودِ ٱللَّهِ } أي المحافظون على فرائض الله، المتمسكون بما شرع الله من حلال وحرام قال الطبري: أي المؤدون فرائض الله، المنتهون إِلى أمره ونهيه { وَبَشِّرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ } أي بشرهم بجنات النعيم، وحذف المبشر به إِشارة إِلى أنه لا يدخل تحت حصر، بل لهم ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ } أي لا ينبغي ولا يصح للنبي والمؤمنين أن يطلبوا من الله المغفرة للمشركين { وَلَوْ كَانُوۤاْ أُوْلِي قُرْبَىٰ } أي ولو كان المشركون أقرباء لهم { مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ ٱلْجَحِيمِ } أي من بعد ما وضح لهم أنهم من أهل الجحيم لموتهم على الكفر، والآية نزلت في أبي طالب { وَمَا كَانَ ٱسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ } هذا بيان للسبب الذي حمل إِبراهيم على الاستغفار لأبيه آزر أي ما أقدم إِبراهيم على الاستغفار { إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ } أي إِلا من أجل وعدٍ تقدم له بقوله
{*سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّيۤ*}
[مريم: 47] وأنه كان قبل أن يتحقق إِصراره على الشرك { فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ } أي فلما تبين لإِبراهيم أن أباه مصرّ على الكفر ومستمر على الكفر، تبرأ من أبيه بالكلية فضلاً عن الاستغفار له، ثم بيّن تعالى بأن الذي حمل إِبراهيم على الاستغفار هو فرط ترحمه وصبره على أبيه فقال { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ } أي كثير التأوه من فرط الرحمة ورقة القلب { حَلِيمٌ } أي صبور على ما يعترضه من الأذى ولذلك حلم عن أبيه مع توعده له بقوله {*لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ*}
[مريم: 46] فليس لغيره أن يتأسى به في ذلك قال أبو حيان: ولما كان استغفار إِبراهيم لأبيه بصدد أن يُقتدى به بيّن تعالى العلة في استغفار إِبراهيم لأبيه، وهو الوعد الذي كان وعده به، فكان يرجو إِيمانه فلما تبيّن له من جهة الوحي أنه عدو لله، وأنه يموت كافراً، وانقطع رجاؤه منه تبرأ منه وقطع استغفاره { وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً } نزلت الآية في قوم من المسلمين استغفروا للمشركين، فخافوا على أنفسهم من ذلك فنزلت الآية تأنيساً لهم أي ما كان الله ليقضي على قوم بالضلال { بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ } أي بعد أن وفقهم للإِيمان { حَتَّىٰ يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ } أي حتى يبين لهم ما يجتنبونه فإِن خالفوا بعد النهي استحقوا العقوبة { إِنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } أي عليم بجميع الأشياء ومنها أنه يعلم من يستحق الهداية، ومن يستحق الإِضلال { إِنَّ ٱللَّهَ لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } أي له سلطان السماوات والأرض وملكهما، وكل من فيهما عبيده ومماليكه { يُحْيِـي وَيُمِيتُ } أي بيده وحده حياتهم وموتهم { وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ } أي ما لكم أيها الناس من أحد غير الله تلجأون إِليه أو تعتمدون عليه قال الألوسي: لما منعهم سبحانه عن الاستغفار للمشركين وإِن كانوا أولي قربى، وتضمن ذلك وجوب التبري عنهم، بيّن لهم أن الله سبحانه مالك كل موجود، ومتولي أمره، والغالب عليه، ولا يتأتى لهم ولاية ولا نصر إِلا منه تعالى، ليتوجهوا إِليه بكليتهم، متبرئين عما سواه، غير قاصدين إِلا إِياه { لَقَدْ تَابَ الله عَلَىٰ ٱلنَّبِيِّ وَٱلْمُهَاجِرِينَ وَٱلأَنصَارِ } أي تاب الله على النبي من إِذنه للمنافقين في التخلف، وتاب على المهاجرين والأنصار لما حصل منهم من بعض الهفوات في غزوة تبوك، حيث تباطأ بعضهم، وتثاقل عن الجهاد آخرون، والغرض التوبة على من تخلفوا من المؤمنين عن غزوة تبوك ثم تابوا وأنابوا، وعلم الله صدق توبتهم فقبلها منهم، وصدّرها بتوبته على رسوله وكبار صحبه جبراً لقلوبهم، وتنويهاً لشأنهم، وبعثاً للمؤمنين على التوبة، وأنه ما من مؤمن إِلا وهو محتاج إِلى التوبة والاستغفار، حتى النبي والمهاجرون والأنصار { ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ ٱلْعُسْرَةِ } أي اتبعوه في غزوة تبوك وقت العسرة في شدة الحر، وقلة الزاد، والضيق الشديد روى الطبري عن عمر رضي الله عنه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلى تبوك في قيظٍ شديد، فنزلنا منزلاً أصابنا فيه عطش، حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع، حتى إِن الرجل لينحر البعير فيعصر فرثه فيشربه، فقال أبو بكر يا رسول الله: إِن الله قد عودك في الدعاء خيراً فادع لنا، قال: تحب ذلك؟ قال: نعم فرفع يديه فلم يرجعهما حتى سكبت السماء فملأوا ما معهم، فرجعنا ننظر فلم نجدها جاوزت العسكر { مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ } أي من بعد ما كادت قلوب بعضهم تميل عن الحق وترتاب، لما نالهم من المشقة والشدة { ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ } أي وفقهم للثبات على الحق وتاب عليهم لما ندموا { إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } أي لطيف رحيم بالمؤمنين { وَعَلَى ٱلثَّلاَثَةِ ٱلَّذِينَ خُلِّفُواْ } أي وتاب كذلك على الثلاثة الذين تخلفوا عن الغزو، وهم " كعب، وهلال، ومرارة " { حَتَّىٰ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ ٱلأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ } أي ضاقت عليهم مع سعتها { وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ } أي ضاقت نفوسهم بما اعتراها من الغم والهم، بحيث لا يسعها أنس ولا سرور، وذلك بسبب " أن الرسول عليه السلام دعا لمقاطعتهم، فكان أحدهم يفشي السلام لأقرب أقربائه فلا يرد عليه، وهجرتهم نساؤهم وأهلوهم وأهملوهم حتى تاب الله عليهم " { وَظَنُّوۤاْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ ٱللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ } أي وأيقنوا أنه لا معتصم لهم من الله ومن عذابه، إِلا بالرجوع والإِنابة إِليه سبحانه { ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوۤاْ } أي رجع عليهم بالقبول والرحمة، ليستقيموا على التوبة ويدوموا عليها { إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ } أي المبالغ في قبول التوبة وإِن كثرت الجنايات وعظمت، المتفضل على العباد بالرحمة الشاملة { يَـۤأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ ٱلصَّادِقِينَ } أي راقبوا الله في جميع أقوالكم وأفعالكم، وكونوا مع أهل الصدق واليقين، الذين صدقوا في الدين نية وقولاً وعملاً { مَا كَانَ لأَهْلِ ٱلْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِّنَ ٱلأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ ٱللَّهِ } عتاب لمن تخلف عن غزوة تبوك أي ما صح ولا استقام لأهل المدينة ومن حولهم من سكان البوادي أن يتخلفوا عن الغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم { وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنْفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ } أي لا يترفعوا بأنفسهم عن نفسه بأن يكرهوا لها المكاره ولا يكرهوها له عليه السلام، بل عليهم أن يفدوه بالمُهَج والأرواح، وأن يكابدوا معه ما يكابده من الأهوال والخطوب قال الزمخشري: أُمروا بأن يصحبوه على البأساء والضراء، وأن يلقوا من الشدائد ما تلقاه نفسه، علماً بأنها أعز نفس على الله وأكرمها عليه، لا أن يضنوا بأنفسهم على ما سمح بنفسه عليه، وهذا نهي بليغ، وتهييج لمتابعته عليه السلام { ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ } أي ذلك النهي عن التخلف بسبب أنهم لا يصيبهم عطش { وَلاَ نَصَبٌ } أي ولا تعب { وَلاَ مَخْمَصَةٌ } أي ولا مجاعة { فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ } أي في طريق الجهاد { وَلاَ يَطَأُونَ مَوْطِئاً } أي ولا يدوسون مكاناً من أمكنة الكفار بأرجلهم أو حوافر خيولهم { يَغِيظُ ٱلْكُفَّارَ } أي يغضب الكفار وطؤها { وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً } أي ولا يصيبون أعداءهم بشيء بقتل أو أسرٍ أو هزيمة قليلاً كان أو كثيراً { إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ } أي إِلا كان ذلك قربة لهم عند الله { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ ٱلْمُحْسِنِينَ } أي لا يضيع أجر من أحسن عملاً { وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً } قال ابن عباس: تمرة فما فوقها { وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِياً } أي ولا يجتازون للجهاد في سيرهم أرضاً ذهاباً أو إِياباً { إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ } أي أثبت لهم أجر ذلك { لِيَجْزِيَهُمُ ٱللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } أي ليجزيهم على كل عمل لهم جزاء أحسن أعمالهم قال الألوسي: على معنى أن لأعمالهم جزاءً حسناً وجزاء أحسن، وهو سبحانه اختار لهم أحسن جزاء { وَمَا كَانَ ٱلْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً } أي لا ينبغي خروج جميع المؤمنين للغزو بحيث تخلو منهم البلاد، روي عن ابن عباس انه تعالى لما شدد على المتخلفين قالوا: لا يتخلف منا أحد عن جيشٍ أو سرية أبداً، فلما قدم الرسول المدينة وأرسل السرايا إِلى الكفار، نفر المسلمون جميعاً إِلى الغزو وتركوه وحده بالمدينة فنزلت هذه الآية { فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ } أي فإِذا لم يمكن نفير الجميع ولم يكن فيه مصلحة فهلا نفر من كل جماعة كثيرة فئة قليلة { لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي ٱلدِّينِ } أي ليصبحوا فقهاء ويتكلفوا المشاق في طلب العلم { وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوۤاْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ } أي وليخوفوا قومهم ويرشدوهم إِذا رجعوا إِليهم من الغزو، لعلهم يخافون عقاب الله بامتثال أوامره واجتناب نواهيه قال الألوسي: وكان الظاهر أن يقال (ليعلِّموا) بدل { لِيُنذِرُواْ } و (يفقهون) بدل { يَحْذَرُونَ } لكنه اختير ما في النظم الجليل للإِشارة الى أنه ينبغي أن يكون غرض المعلم: الإِرشاد والإِنذار، وغرض المتعلم: اكتساب الخشية لا التبسط والاستكبار { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ ٱلَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِّنَ ٱلْكُفَّارِ } أي قاتلوا القريبين منكم وطهروا ما حولكم من رجس المشركين ثم انتقلوا الى غيرهم، والغرض إِرشادهم إِلى الطريق الأصوب والأصلح، وهو أن يبتدئوا من الأقرب فالأقرب حتى يصلوا الى الأبعد فالأبعد { وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً } أي وليجد هؤلاء الكفار منكم شدة عليهم { وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلْمُتَّقِينَ } أي واعلموا أن من اتقى الله كان الله معه بالنصر والعون { وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ } أي من سور القرآن { فَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَـٰذِهِ إِيمَاناً } أي فمن هؤلاء المنافقين من يقول استهزاء: أيكم زادته هذه إِيماناً؟ على وجه الاستخفاف بالقرآن كأنهم يقولون: أي عجب في هذا وأي دليل في هذا؟ يقول تعالى { فَأَمَّا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً } أي فأما المؤمنون فزادتهم تصديقاً وذلك لما يتجدد عندهم من البراهين والأدلة عند نزول كل سورة { وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } أي وهم يفرحون لنزولها لأنه كلما نزل شيء من القرآن ازدادوا إِيماناً { وَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } أي وأما المنافقون الذين في قلوبهم نفاق وشك في دين الله { فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَىٰ رِجْسِهِمْ } أي زادتهم نفاقاً إِلى نفاقهم وكفراً إِلى كفرهم، فازدادوا رجساً وضلالاً فوق ما هم فيه من الرجس والضلال { وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ } أي ماتوا على الكفر { أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ } الهمزة للإِنكار والتوبيخ أي أوَلا يرى هؤلاء المنافقون الذين تُفضح سرائرهم كل سنة مرة أو مرتين حين ينزل فيهم الوحي؟ { ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ } أي ثم لا يرجعون عما هم فيه من النفاق ولا يعتبرون { وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِّنْ أَحَدٍ ثُمَّ ٱنصَرَفُواْ } أي وإِذا أنزلت سورة من القرآن فيها عيب المنافقين وهم في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم نظر بعضهم لبعض هل يراكم أحد من المسلمين لننصرف، فإِنا لا نصبر على استماعه وهو يفضحنا ثم قاموا فانصرفوا { صَرَفَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُم } جملة دعائية أي صرفها عن الهدى والإِيمان { بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ } أي لأجل أنهم لا يفهمون الحق ولا يتدبرون فهم حمقى غافلون { لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ } أي لقد جاءكم أيها القوم رسول عظيم القدر، من جنسكم عربي قرشي، يُبلغكم رسالة الله { عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ } أي يشق عليه عنتكم وهو المشقة ولقاء المكروه { حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ } أي حريص على هدايتكم { بِٱلْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } أي رءوف بالمؤمنين رحيم بالمذنبين، شديد الشفقة والرحمة عليهم قال ابن عباس: سماه باسمين من أسمائه { فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِيَ ٱللَّهُ } أي فإِن أعرضوا عن الإِيمان بك يا محمد فقل يكفيني ربي { لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ } أي لا معبود سواه { عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ } أي عليه اعتمدت فلا أرجو ولا أخاف أحداً غيره { وَهُوَ رَبُّ ٱلْعَرْشِ ٱلْعَظِيمِ } أي هو سبحانه رب العرش المحيط بكل شيء، لكونه أعظم الأشياء؛ الذي لا يعلم مقدار عظمته إِلا الله تعالى.
البَلاَغَة:
1- { إِنَّ ٱللَّهَ ٱشْتَرَىٰ } استعارة تبعية شبه بذلهم الأموال والأنفس وإِثابتهم عليها بالجنة بالبيع والشراء.

2- { فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ } فيه جناس ناقص لاختلافهما في الشكل وهو من المحسنات البديعية.

3- { ٱلرَّاكِعُونَ ٱلسَّاجِدونَ } يعني المصلون فيه مجاز مرسل من إِطلاق الجزء وإِرادة الكل، وخص الركوع والسجود بالذكر لشرفهما (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد).

4- { وَبَشِّرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ } الإِظهار في مقام الإِضمار للاعتناء بهم وتكريمهم.

5- { مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ } بينهما جناس الاشتقاق.
6- { لِيُضِلَّ.. إِذْ هَدَاهُمْ } بينهما طباق وكذلك بين { يُحْيِـي.. وَيُمِيتُ } وكذلك { ضَاقَتْ.. ورَحُبَتْ }.

7- { ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ } من صيغ المبالغة.

8- { يَطَأُونَ مَوْطِئاً } جناس الاشتقاق وكذلك { يَنَالُونَ نَّيْلاً }.

9- { صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً } طباق.

10- { فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَىٰ رِجْسِهِمْ } قال في تلخيص البيان: السورة لا تزيد الأرجاس رجساً، ولا القلوب مرضاً، بل هي شفاء للصدور وجلاء للقلوب، ولكن المنافقين لما ازدادوا عند نزولها عمىً، حسن أن يضاف ذلك إلى السورة على طريق الاستعارة.

تنبيه:
" روي أن أبا خيثمة الأنصاري رضي الله عنه بلغ بستانه وكانت له امرأة حسناء فرشت له في الظل، وبسطت له الحصير، وقربت إليه الرطب والماء البارد، فنظر فقال: ظل ظليل، ورطب يانع، وماء بارد، وامرأة حسناء، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الحر والريح! ما هذا بخير، فقام فرحل ناقته، وأخذ سيفه ورمحه، ومر كالريح فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم خلفه فإِذا براكب وراء السراب، فقال: كن أبا خيثمة! فكان ففرح به رسول الله صلى الله عليه وسلم واستغفر له ".






التوقيع

آخر تعديل أم سهام يوم 2016-04-07 في 13:20.
    رد مع اقتباس
قديم 2017-08-26, 18:08 رقم المشاركة : 9
خادم المنتدى
مدير التواصــل
 
الصورة الرمزية خادم المنتدى

 

إحصائية العضو








خادم المنتدى غير متواجد حالياً


وسام المشاركة السيرة 1438ه

وسام المشاركة في مسابقة السيرة النبوية العطرة

العضو المميز لشهر فبراير

افتراضي رد: تفسير سورة التوبة





    رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are معطلة


مــــواقـــع صـــديــقــة مــــواقـــع مـــهــــمــــة خـــدمـــــات مـــهـــمـــة
إديــكـبـريــس تربويات
منتديات نوادي صحيفة الشرق التربوي
منتديات ملتقى الأجيال منتديات كاري كوم
مجلة المدرس شبكة مدارس المغرب
كراسات تربوية منتديات دفاتر حرة
وزارة التربية الوطنية مصلحة الموارد البشرية
المجلس الأعلى للتعليم الأقسام التحضيرية للمدارس العليا
مؤسسة محمد السادس لأسرة التعليم التضامن الجامعي المغربي
الصندوق الوطني لمنظمات الاحتياط الاجتماعي التعاضدية العامة للتربية الوطنية
اطلع على وضعيتك الإدارية
احسب راتبك الشهري
احسب راتبك التقاعدي
وضعية ملفاتك لدى CNOPS
اطلع على نتائج الحركة الإنتقالية

منتديات الأستاذ

الساعة الآن 06:52 لوحة المفاتيح العربية Profvb en Alexa Profvb en Twitter Profvb en FaceBook xhtml validator css validator

RSS RSS 2.0 XML MAP HTML
جميع المواد المنشورة بالموقع تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر بأي شكل من الأشكال عن رأي الموقع ولا يتحمل أي مسؤولية عنها

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd