الرئيسية | الصحيفة | خدمات الإستضافة | مركز الملفات | الحركة الانتقالية | قوانين المنتدى | أعلن لدينا | اتصل بنا |

أفراح بن جدي - 0528861033 voiture d'occasion au Maroc
educpress
للتوصل بجديد الموقع أدخل بريدك الإلكتروني ثم فعل اشتراكك من علبة رسائلك :

فعاليات صيف 2011 على منتديات الأستاذ : مسابقة استوقفتني آية | ورشة : نحو مفهوم أمثل للزواج

العودة   منتديات الأستاذ التعليمية التربوية المغربية : فريق واحد لتعليم رائد > المنتديات العامة والشاملة > بنك الاستاذ للمعلومات العامة > سير و شخصيات



إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع
قديم 2015-07-06, 22:30 رقم المشاركة : 1
express-1
بروفســــــــور
 
الصورة الرمزية express-1

 

إحصائية العضو








express-1 غير متواجد حالياً


وسام التميز لشهر مارس 2012

formen عليلوش .. حكاية مغربي قضى ربع قرن بسجون الجزائر



عليلوش .. حكاية مغربي قضى ربع قرن بسجون الجزائر


هسبريس ـ ميمون أم العيد
الخميس 18 يونيو 2015 - 21:00
24 سنة و 9 أشهر و26 يوما، هي المدة التي قضَاها الجندي عْدِّي عْليلوش داخل السجون الجزائرية كأسير حرب. عاد ذات ليلة إلى قريته بعدما تم إطلاق سراحه تحت رعاية الصّليب الأحمر الدولي. وجد زوجته قد تزوجت غيره، وصارت جدّة.
وجد النقود المتداولة في البلد قد تغيرت، وأثمنة المواد قد تضاعفت أربع مرات، والناس غير الناس. أسير عانى الويلات رفقة زملائه دفاعا عن الصّحراء المغربية، وكثير منهم قضى نحبه داخل سجون البوليساريو.. في هذه الزاوية نسرد في حلقات خلال هذا الشهر الفضيل سيرة هذا الرجل، ومعاناته في السجون التي قضى بها ربع قرن.
(1)

قضينا أياما من الحَكيِ والبوح. أُسجّل تجربته الانسانية الفريدة في الأسر والسجن. ولما أنهينا ذلك، أو هكذا اعتقدت، سألته:
ــ "عْدِّي! بعد مُضيّ كل هذا العمر المترع بالانتكاسات، هل تشعرُ أن دولتك أنصفتكَ؟ أنت الذي قضيتَ ربع قرن بسجون الجزائر دفاعا عن الصّحراء المغربية."
أجاب بنبرة رجل مُفعم بحب الحياة:
ــ عندما حطّت الطائرة التي تُقِلّني رفقة دفعة من أقدم أسرى الحرب في العالم بمطار الدشيرة بأكادير. صَعد إليها مسئول عسكري. لم يُلقِ علينا تحية، وبدأ يحسب: واحد جوج ثلاثة ربعة...
لم يقل "السلام عليكم أيها الجنود"، كما يجب عليه أن يفعل. حافظ على ملامح صارمة وبَقِي يحسب.. تمنيت أن يُخاطبنا ونستمع إليه بما يكفي من توقير: "عْلا سْلامتكوم أيها الجنود. مَرْحبا بكم في وطنكم الذي ضحّيتم من أجله بشبابكم. رحم الله الجنود الأبطال الذين توفّوا في معتقلات الذّل، وبارك في عُمركم. هذه أرضكم التي غادرتموها مجبرين قبل 25 سنة، فمقاما سعيدا، ودعوا الأمس هناك وعيشوا اليوم، فالغد بانتظاركم.. "
لا أُحبّ أن أُعَلّم الناس ماذا سيقولون أو ماذا يجب عليهم أن يفعلوا. جُنديٌّ أنا ولست مُعَلّما. لكنني شعرت أنه كان يُعِدُّنا كما لو كنا أكياس قمح. خنشة، جوج، ثلاثة خناشي..
سجّل عددنا في مذكرة صغيرة ثم غادر دون كلام. كان ذلك بمثابة فأل سيء بالنسبة لزملاء جمعنا عدو واحد. سلبنا حُرّيتنا، عذّبنا، واستعبدنا مدة ربع قرن. كانوا يؤمنون أن الدولة سوف تُغدق علينا مالا يُغنينا عن العمل والسؤال.
نغّص عليّ هذا "الاستقبال" فرحتي، لكنني نسيت ذلك بعد أن نزلت درج الطائرة. لمّا وصلت أرضية المطار تأكدت أنني في بلادي. أدركت ذلك بأنفي وبقلبي. للوطن رائحة لا يخطئها أنف مُبعَد يحن لكل شيء في بلده. سجدت لله سجدتين. خاطبت خالقي بأمازيغيتي التي لا أتقن غيرها:
"شكرا لك أيها الكبير الذي في السّماء والأرض وبينهما. حاشاكَ أن تخذل المؤمنين بك، الخاضعين لمشيئتك وقدرك.. منحتني القوة والشجاعة لأُبعث من جديد. من أجل هذه الأرض دُفِنْتُ في سجون الذل 25 سنة، والآن تمنحني فرصة أُخرى لأرى أمّي وعشيرتي وأعيش ما قدّرت لي أن أعيش بينهم . فشكرا لك يا ألله"..
لا يشعر بقيمة التحليق من شجرة إلى أُخرى، من النبع إلى الجبل سوى الطائر الذي سقط بين أيدي أطفال سُذّج. لا هم ذبحوه ليُمصمصوا عظامه. لا هم أطلقوا سراحه ليعانقها. الحرية طبعا.. تلك المحبوبة التي لا معنى لحياة الطيّور بدونها.
لا أذكر أين سمعت أن الطيور لا تضع بيضها في الأقفاص حتّى لا تُورث صغارها العبودية وتُجبَل عليها، كذلك الشأن بالنسبة لأسرى الحرب. لم أسمع بأسير حرب أنجب أبناءً في المعتقل! هل يشتهي المسجون معاشرة النساء؟ وهل يُقابل الأسير النساء في المعتقل أصلا؟ وإن حدث أن صادفهن فمسترجلات طمرت ظروف الأسر والعسكرة أنوثتهن، تماما كما تفعل الأمطار بالمقابر المنسية.
وأنا.. عندما أُطلِقَ سراحي، عفوتُ عن الجميع. وجدت العذر للجميع. أحببت الجميع في وطني. من ذلك العسكري الكبير جدا الذي يُعدّنا كأكياس الدقيق المدعّم، إلى ذلك الرجل الذي يقربني ويسألني في أول ليلة أبيتها في منزلي الطيني بعد ربع قرن من البُعد:
"شْحالْ غَادِي يعْطيوْنَا؟"
أعرف أنه ينظر إليّ كدراهم تمشي. رِزْقٌ جاء به الصّليب الأحمر، ويمكن أن يستفيد منه. لا يَهم أَأنَا في كامل صحتي؟ لم يسألني هل أنا أشكو أَلما ــ وفي القلب آلام ــ أم لا؟
لم يسأل إن كُنت قد فقدت عقلي أم عُدتُ سليما؟ لم يسألني عن عدد الأمراض التي تزاحمت في جسدي. كل ما يسألني عنه هو: ماذا سَيعْطونَنَا؟ أموال أم منزل وراتب شهري؟ مبلغ جزافي؟ كم؟ منزل؟ أين سيمنحوهُ لنَا؟ وقد تَحدّث بصيغة الجمع لتأكيد حقه في الاستفادة، ما دام قريبا للأسير.
أنظر إليه نظرة رجل عاد من الجحيم ولا يُصدّق أنه عَادَ حيّا وأقول: "لا أنتظر أن يعْطُوني شيئا. العَاطِي الله. "
يقول لي وهو يحاول أن يُذْكِي بعض الصراعات القديمة ويُحَيّنَهَا في خاطري منذ يوم عودتي الأول:
" اسمع يَا عْدّي، لقد تَخاصَمنا مع أيت فْلان. لدينا قَطيعة مع أيت فلان أما أيْتْ فْلان فهم أعداؤنا منذ الاستحقاقات الانتخابية الماضية".
أَنظُر إليه نظرة لم يألفها، ثم أقول له:
ــ "لا أعداء لي في هذه القرية النائية. أعدائي تركتهم هناك خلف الحدود. عدوي ذلك السجان الذي يفرض عليّ أن آخذ غائطه بيدي وهو يشهر بندقيته نحوي قائلا: خُذ، ذاك هو فوسفات بُوكراع. خُذ وإلا أفرغتُ فيك الرصاص. ودون ذلك فلا عَدُو لي في هذا البلد. "
ينظُر إلي بازدراء كما لو كُنت منبوذ القبيلة وصُعلوكها. تماما كما سمعت من بعض الجيران الذين مررت بجانبهم، يقولون عنّي "إِيمِيشْكِي". تلك الكلمة التي تعني بالعربية "المُختفي" أو "الغريب"، وقد تعني دمج الكلمتين معا إضافة ما يكفي من الحُمولة القدحية..
وتسألني أنتَ هل أَخَدتُ حقّي؟ أعذرني. ذَكّرتني بكل هذا الذي ذكرت..
لا يهمني أن آخذ مُقَابلا ماليا عن سنوات عُمري التي قَضيتها في الأَسْرِ. ومنها أزيد من 18 سنة متنقلا بين سجون الجزائر، وما زاد عن ست سنوات في معتقل الرابوني الشّهير بتندوف.
ليس للحرية ثمن.. وليس للسجن والأَسْر مُقابل..
إنْ نلت مقابلا ماليا عن سنوات عمري التي أفنيتها أَسِيراً فذلك ما أُريده، وإن لم أَنَل درهما فإن حريتي التي نِلتها بعد الأسر أعظم من كل دراهم الكون ودنانيره.
لك أن تتصَوّر أسيرا يقول له سجّان شديد لا رحمة في قلبه:
لا تريد أن تعمل؟
يضربه بمؤخرة السلاح على قفاه: هيا احفر قبرك بنفسك.
يمنحونه فأسًا و"بَالةً" ليحفر قبره بنفسه ليرتاح من ذل الأسر. يتمنى لو يستطيع أن يحفر ليُواري نفسه الثرى. لكن مرض الكوليرا ينخر أحشاءَه ولا يلفظ سوى الدم فيعجز عن الحركة..
وتشاء القُدرة الإلهية أن يُكتب له عُمر جديد، ليعيش بين أحضان مواطِنيه.. يعانق أُمّه ويفرح برؤية ملامح وجهها الذي خطّته عوادي الزمن وصَوَادمُهُ، هو الذي لا يرَى سوى سجّانين أجلاف مدة ربع قرن.
ها هي ذي أمي التي بكَتْ عندما أخبروها شهود زور أني توفّيتُ شهيدا في المعركة تبكي الآن من الفرح هذه المرة، فالتحفت زوجتي البياض كأرامل عُدن للتو من دفن أزواجهن، وقد تركتها مباشرة بعد زواجنا، تلبية لنداء الوطن.
أفلا يُحسب من غاب في سجون البوليساريو 25 سنة سوى مع المتوفين؟
عُدتُ من الأنقاض..
تزوجت زوجتي التي لم أُطَلّقها بعد ثلاث سنوات من غيابي، وانتشار خبر استشهادي، وهاهي قد أنجبت من زوجها الثاني فتاتين، ثم ترَقّت وغدت جدّة بعدما أنجبت لها ابنتها الكبرى صبيا..
وأنا الذي بدأت معها حياتي بأحلام كبيرة، لا أملك سوى هذا "الصّاك" العسكري وملابس تَصْغُرني.. لا أَلُومها أبدا فالحَيُّ أَبْقَى من الميّت.. حُسِبتُ لسنوات في عداد الموتى.. الموت درجات. وأسوأ مراتبه أن نموت في أعين من نُحبّهم..
وتسألني أَأَنا رَاضٍ عمّا أَخذتُ؟
أحكام القدر غريبة ومثيرة للضحك. قبل أن ألج الخدمة العسكرية سافرت نحو أزيلال بحثا عن العمل. التقيت أقرانا لي فقال لي أحدهم:
ــ أقترح عليك أن نذهب نحو الجزائر للعمل في الضيعات الفلاحية. كان ذلك سنة 1973.
قلت له بعنفوان الشباب:
ــ لن أُوَلّي وجهي شَطْرَ الشرق سوى للصلاة أو للحج إن كُتِبَ لي. إما أن أذهب للشمال نحو أوروبا أم أبقى هنا في المغرب.
لكن الأقدار شاءت أن أعود إلى دوّاري بالنقوب، لأجد المقدم ينتظرني:
ــ لديك موعد يوم غد بزاكورة لِلْمَاڭاجْيَة..
ڭاجيتْ.. وتدرّبت ما قدّر لي رئيسي أن أتدرّب.. ثم أُرْسلت للصحراء.
ولم أكن أعرف أن البلد الذي رفضتُ أن أذهب إليه عاملا في الضيعات، سأذهب إليه أسيرا مقطوع الجناحين مدة 18 سنة، متنقلا بين معتقلاته السرية والعلنية..
إنها الأقدار.. والمكتوب على الجبين لازم تْشُوفُو العِينْ..







: منتديات الأستاذ التعليمية التربوية المغربية : فريق واحد لتعليم رائد https://www.profvb.com/vb/showthread.php?p=812816
    رد مع اقتباس
قديم 2015-07-06, 22:31 رقم المشاركة : 2
express-1
بروفســــــــور
 
الصورة الرمزية express-1

 

إحصائية العضو








express-1 غير متواجد حالياً


وسام التميز لشهر مارس 2012

افتراضي رد: عليلوش .. حكاية مغربي قضى ربع قرن بسجون الجزائر


"شهيد لم يمت بعد" يتذكر ظروف أسره لدى البوليساريو


هسبريس ـ ميمون أم العيد
السبت 20 يونيو 2015 - 10:40
24 سنة و 9 أشهر و26 يوما، هي المدة التي قضَاها الجندي عْدِّي عْليلوش داخل السجون الجزائرية كأسير حرب. عاد ذات ليلة إلى قريته بعدما تم إطلاق سراحه تحت رعاية الصّليب الأحمر الدولي. وجد زوجته قد تزوجت غيره، وصارت جدّة.
وجد النقود المتداولة في البلد قد تغيرت، وأثمنة المواد قد تضاعفت أربع مرات، والناس غير الناس. أسير عانى الويلات رفقة زملائه دفاعا عن الصّحراء المغربية، وكثير منهم قضى نحبه داخل سجون البوليساريو.. في هذه الزاوية نسرد في حلقات خلال هذا الشهر الفضيل سيرة هذا الرجل، ومعاناته في السجون التي قضى بها ربع قرن.
(2)
يسألني عْدي كل مرة، ونحن نتناول الغذاء معا، أو نتمشى جنب البحر كسائحين قدِما من بلاد بعيدة، أو نرتشف الشاي الثقيل في محل هادئ:
ــ هل ضغطتَ على زرّ التسجيل يا أستاذ؟
ــ لا عليك عدّي.. فقط احْكِ. هذه التسجيلات لن أعود إليها سوى لتذكّر الأسماء والتواريخ والشخصيات وترتيب الأحداث والوقائع، وغير ذلك فإنني أرغب أن أعيش قصتك كي أستطيع نقلها. وكأني الذي كنت في الأسر. سأكتب لك يا عَدّي.. لأجلك ولكل أبناء الهامش الصّادقين من طينتك..
لا تقف عند الأحداث فقط. لا تكلف نفسك عناء الحديث بالعربية. تحدث بلغتك التي رضعتها من أمك ومحيطك عندما يتعلق الأمر بالتذكارات والاسترجاعات والتأملات. وحدها لغتك الأم تستطيع أن تنقل أحاسيسك بصدق ودقة. تحدث بالعربية أو الحسانية أو الدارجة الجزائرية عندما يتعلق الأمر بأوامر الجلّادين وحوارات الضباط..
"تَاونْڭيمْت" يا عدّي.. (تفكيرك)، يُوصد عليك السجان أبوابه أو يرميك في حفرة غارقة لكن أنّى له أن يسجن " تَاوْنڭيمت". فاحك أين يسافر قلبك وعقلك عندما تكون وحيدا، قل أي شيء شعرتَ به هناك، حتى ما يبدو لك تافها غير ذي قيمة، ففيه ضالتي وضالّة قارئ مُفترض..
لَمْلِم حكايتك يا عْدّي.. قصتك تجربة إنسانية فريدة لا يجب أَن تُدفن معك. فاقْصُص علينا كيف بدأ الأسْرُ؟
ينظر إلي مليا. عرفت فيما بعد أنه لا يراني الآن. نظراته تخترقني، ملامحي تشوهت في عينيه وتحولت إلى زميل أسير أو سجان حقير، وبدأ يُحرك شفتيه:
… من أين سأبدأ قصّتي؟ كيف لي أن أُلَمْلِمُهَا وقد تشَظّت أشلاءَ.. أَيُلَمْلَمُ الخَرَاب وهل يُجمع الزجاج بعد انكسار؟ أتستطيع سطور من الكلمات أن تَفي في نقل ما يشعر به أسير وما عاناه كل الدقائق، كل الساعات، كل الأيام، كل الشهور، فكل السنين التي اقتربت من الربع قرن؟
يستَحيل أن نختزل 25 سنة من الأحداث والعواطف والأحقاد والضغائن في بضعة أوراق، لكنني سأعود إلى يوم مشمس من أيام فبراير سنة 1976. بالضبط يوم الـسابع والعشرين منه.
توصّلتُ برسالة من أخي الكبير احساين، يدعوني فيها أن أحضُر عرسه. للعرس في البلد طُعمٌ خاص، ولا أجمل من أن ترتدي زّيك التقليدي، تتخلّص لبعض الوقت من البذلة والبْرُودْكَان، وتُرَدّد مواويل الأفراح دون أن تتقيد باستعراض ولا أوامر..
لَم يتبقّ لموعد العرس سوى أقل من 10 أيام بحسب ما جاء في الرسالة، وإجراءَات طلب الرّخصة ــ أو بْرْمسْيُونْ بلغة العسكر من قَومي ــ تتطَلّبُ وقتا طويلا.
كُنتُ وقتها لا أقرأ ولا أكتب، والحُروف بالنسبة لي كانت كطلاسم السّحرة وتمائم الدّجالين.
طلبتُ من رفيقي الجندي الذي قرأ لي الرّسالة أن يكتب لشقيقي ردّا. انتزعت ورقة من دَفترٍ كبير كنت أَحتفظُ به بين أغراضي لمثل هذه المُناسبات. قلت له:
أكتب له رَدّا مقتضبا بالحرف بعد التحية السلام وما تُفتتَح به الرسائل:
"شقيقي العزيز.. وصلتني رِسالتك هذا اليوم فأفرحتني. بَارَك الله في عُرسك ورزقك صَالِح الذرّية. لا أستطيع الحُضور وأعتذر، فأنا في عُرْسٍ لا ينتهي لَيلَ نهار، بَلّغ سلامي لأمي الحَنُونة".
كانت الكلمات قليلة وسط صفحة كبيرة بيضاء كالبرقيات المُكَلّفة. لكنها سنة الحياة؛ تَقِلّ الكلمات عندما يكون الخطبُ جليلا.
قد لا يهمكم موضوع هذه الرسالة أصلا، لكني ذَكرته لأني كُنت فقط أريد أن أقول لأخي بأننا في حرب، وفي الحُرُوب لا تُمنح الرّخص للجنود. سيفهم مرادي ويجد لي ألف عُذر.
أنا جُندي يمشي فوق ألغام الصّحراء، فأَلِفَ أن تكون كلماته خفيفة كخطواته. جُبِلتُ على الكتمان ولا مندوحة لي من اختيار كلمات تقول كل شيء.. ولا تقول أي شيء.
وضعت الرسالة بنفسي في المظروف الأصفر، وإن كُنت لم أكتبها لكنني رغبت أن أتحسّس الورقة بأصابعي، كأعمى يتأكد بأصابع يديه إن كان طفله الذي لم يَرَه يُشبهه.
بَلّلتُ لصاق المظروف بلساني. أردت أن أنفث فيه شيئا من روحي ليصل أمي هناك خلف هذه الكثبان التي تذروها الرياح وترسم بها الحدود كل يوم. نحن هناك في الجنوب نجد غَضَاضَة في التعبير عن حُبنا لأمهاتنا ولأقربائنا لكن عدم التعبير لا يُفيد النفي أبدا.
سلمت الرسالة لذلك الجندي الصّديق. طلبت منه أن يضعها بنفسه في صندوق الثكنة البريدي صباحا أو يتكفل بإرسالها عبر بريد المدنيين بمركز المدينة.
صباح اليوم الموالي، جاءنا أمر من رؤسائنا بالانتقال من مدينة العيون إلى السمارة، بهدف توفير الحراسة الأمنية لقافلة من التجار الصّحراويين. سيعبرون تلك القفار محملين بمواد غذائية اشتروها من مدينة طانطان.
مهمتنا أن نُوفّر الأمن لتلك القافلة، خاصة مع تنامي هُجومات عصابات انفصالية، تطال المدنيين العزّل؛ من حافلات المسافرين وسيارات التجّار من الأشخاص الذين لا دخل لهم سوى تواجدهم في المكان الخطأ في الوقت الخطأ.
كانت القافلة (يسمونَهَا الكُوفا) في جملتها تتكون من 50 عربة؛ فيها شاحنات وسيارات من نوع لاندروڤر. كُنا حينَئذ 12 جنديا فقط. تُقِلّنا 3 عربات عسكرية. تتقدمنا سيارة جيب، بها أربعة جنود؛ السائق وحامل الراديو وعسكريان آخران. في الوسط شاحنة بها 4 أفراد بينهم المسئول عن الكتيبة. كنت أنا في سيارة الجيب التي في مؤخرة الركب، ومعي حامل الراديو وصديقي مصطفى وجندي سائق لا أعرف اسمه.
لا شيء يُرَى غير القِفار والرمال المتحركة كما تشتهي الرياح. لما تجاوزنا طريق بوكراع بقليل، توقف فجأة أحد التجار وكان يسوق سيارة لاندروڤر. فتح الصندوق الأمامي للسيارة كما يفعل عادة من استشعر سخونة المحرك. كانت سيارتنا تتعقبه. لما تجاوزته ببعض الأمتار توقفنا للاستفسار. اتصل حامل الراديو بالمسئول عن الكتيبة الذي يوجد بالشاحنة وأخبره أن تاجرا توقف عن السير. قال له أن اهبط عنده، وقل له أن يلتحق بالقافلة وإلا فاتركه هناك ولا تلتفت إليه.
أمر حامل الراديو سائق عربتنا أن ينزل ليأمر التاجر المتوقف بمواصلة المسير. أمرني أن أنزل مسلَّحا وأبقى بعيدا عنهم مستعدا لأي احتمال، وكذلك فعلت. كانوا ثلاثة أشخاص في تلك العربة. اقترب سائق عربتنا من الرجل الذي فتح الصندوق الأمامي وسأَلَهُ:
ــ مالك وْقْفتي؟
ــ المُحرك سخون!
ـ كايقول ليك المسئول، تْبّع الكُوفا ولَّا غَادي نضْطَرّوا نْخلّيوك هْنا..
لم يستسغ لغته تلك. نظر إلينا نظرة تنم عن حقد قديم. صمت زُهاء دقيقة. أغلق الصندوق الأمامي. نظر جهة تلال صغيرة لا تبعد كثيرا عن موضع وقوفنا. نزع الشّال الأزرق الذي يلفه حول عنقه وقد تدلّى جزء كبير منه. جمعه بين يديه وقذف به بعيدا نحو السماء. تلقّفه ثم قَذف به نحو الأعلى مجدّدا، ثم فعل مثل ذلك للمرة الثالثة. صعد نحو سيارته وانطلق يتقدّمنا بسرعة جنونية..
تداولنا فيما بيننا داخل السيارة أمر تلك الحركة المشبوهة، ونحن نتعقبّهم بسرعة أقلّ. وقام حامل الراديو بإخبار المسئول بكل تلك التفاصيل. ولم تَمْضِ على قطعنا أقل من أربعة كيلومترات عن مكان توقفنا حتى وقع ما لم يكن في الحسبان؛ هجوم مسلّح من كل الجهات.
لم نتمكن من الالتحاق بزملائنا الذين يرافقون القافلة، فالهاجمون قطعوا أمامنا الطريق، وعزلونا نحن الأربعة عن البقية. حاولنا الدفاع عن أنفسنا بإطلاق النار، كما حاول صاحب الراديو الاتصال بالمسئول بلا جدوى، ولا خيار لنا غير مواجهة قدرنا المحتوم.
تراءت لي دفوف فرح أخي والمهنئون يلجون الخيمة زُرافات وَوِحدانا. هل سأموت في هذه القفار بينما أخي يستعد لعرسه؟ أتفرح أمي بالعرس وفجأة تتلقّى خبر موتي. أيطغى صوت النواح ليحجب زغاريد الفرح. سيقول أهل الدوار إن حذاء العروس جالب نحس. يلصقون الشرور بحذائها، فهو أول من يتخطّى عتبه بيت زوجها، فما أن حطت بباب العتبة حتى فقدوا شابا في ساحة الحرب.
كنت أنا وصديقي نصوّب أعيرتنا تجاه الهاجمين والسائق يُرَكّز اهتمامه على السياقة، لعلنا نجد منفذا للهرب. سيارة لاندروڤير أخرى خلفنا لا يفصلها عن سيارتنا سوى شبرا واحدا.
أراد السائق أن يسرع أكثر وكأنه يتوسل إلى مُحرك هذه الدّابة أن يقدّم أقصى ما عنده، وأثناء ذلك خرج عن الطريق وبفعل الاصطدام بنتوءَات الطريق، فسقط صديقي.
سقط، فوقف يجري ويراوغ الرصّاص الذي انهمر عليه من الخلف. طلبت من السائق أن يعود للخلف لعلنا ننقد صديقنا من موت محقق وكذلك فعل.
كُنت أُصوّب بيد واحدة وأمد يدي لمصطفى، فاستطاع أن يمسك بي ويصعد للسيارة من جديد. كدنا ننجو هاربين، لكن رصاصة أصابت السائق في عظم العين اليسرى جعلته يمسك عينيه من الألم تاركا مقود السيارة لتذهب أنّى شاءت. فانقلبت بنا وكلٌّ في وجهة هو مولّيها.
كان صاحب الراديو مكسورا في رجله جهة الورك، يصرخ من الألم الشديد ولا مغيث، أما السائق فإن الدم ينهمر من عينه اليسرى بعد إصابته بكسر أيضا. كنت أشعر بألم شديد في ضلعي اليمنى، تحسست بيدي موضع الألم، فإذا بعظم مكسور يكاد يثقب الجلد. قلت لصديقي دون وعي: اضرب يا مصطفى!
ـ آش غادي نضرب. شْدّونا ولاد الحرام.
شكّل المباغتون دائرة حولنا، ولم يتبقّ أمامنا سوى أن نرفع أيدينا نحو الأعلى منتظرين الأسوأ.
أن نرفع أيدينا نحو الأعلى منتظرين الأسوأ.






    رد مع اقتباس
قديم 2015-07-06, 22:33 رقم المشاركة : 3
express-1
بروفســــــــور
 
الصورة الرمزية express-1

 

إحصائية العضو








express-1 غير متواجد حالياً


وسام التميز لشهر مارس 2012

افتراضي رد: عليلوش .. حكاية مغربي قضى ربع قرن بسجون الجزائر


عليلوش يتذكر "حفلة تعذيبه" على يد جلادين جزائريين


هسبريس ـ ميمون أم العيد
الاثنين 22 يونيو 2015 - 11:00
24 سنة و 9 أشهر و26 يوما، هي المدة التي قضَاها الجندي عْدِّي عْليلوش داخل السجون الجزائرية كأسير حرب. عاد ذات ليلة إلى قريته بعدما تم إطلاق سراحه تحت رعاية الصّليب الأحمر الدولي. وجد زوجته قد تزوجت غيره، وصارت جدّة.
وجد النقود المتداولة في البلد قد تغيرت، وأثمنة المواد قد تضاعفت أربع مرات، والناس غير الناس. أسير عانى الويلات رفقة زملائه دفاعا عن الصّحراء المغربية، وكثير منهم قضى نحبه داخل سجون البوليساريو.. في هذه الزاوية نسرد في حلقات خلال هذا الشهر الفضيل سيرة هذا الرجل، ومعاناته في السجون التي قضى بها ربع قرن.

(3)
يرتشف عدي من كأسه، يصمت قليلا، يتنهد، ثم يواصل حكيه عن ذكرياته، عن تلك اللحظة التي باغتهم فيها الهاجمون، إذ شكّلوا دائرة حولهم، صوبوا الأسلحة تجاههم ولا مندوحة أمامهم سوى رفع الأيدي نحو السماء إعلانا للاستسلام ولو إلى حين:
أَمرُونا أن نبتعد عن السيارة التي كنا نحتمي بها، أطلق أحدهم رصاصة في الهواء كي نشعر بالذعر ربما. عرفت من تصّرفه ذلك أنه ليس عسكريا، فالعسكريون يعرفون أن صوت الطلقة لا يُخيف الجنود، لأنهم يؤمنون أن الرصاصة التي ستقتلك لن تسمع صوتها أبدا. هكذا قال لنا رئيسنا ذات يوم.
كنت أتمنى أن أتلقى واحدة في القلب، لأخر صريعا على أن أسقط بين يديّ رجال أجلاف، لكن تذكرت أمي والفرح العائلي وناس الدوار والعشيرة وزوجتي التي تنتظر عودتي هناك..
خطَونَا قليلا إلى أن ابتعدنا عن الآلية المنقلبة. ركض شاب نحوي. كان أسمر اللون وقد تبّثَ في مقدمة سلاحه الناري سكينا حادة (كلاش). فوهة الأسلحة مصوبة إلينا ورأس السكين في عنقي. أراد أن يطعنني كما يمزّق جمركي كيس بُنّ أو قمح شّكك في محتواه. أعرف أنه يستطيع أن يفعل ذلك ببرودة دم، لكن زميله تدخل ورفع السكين عن عنقي بواسطة سلاحه الناري. أمرني أن أصعد إلى سيارتهم، وماذا يستطيع الميت أن يفعل أمام غسّاله سوى الإذعان؟ حاولت الصّعود مرتبكا. قال لي الشاب الأسمر بسخرية:
ــ قل الآن عاش الملك!
قُلت بما تبقّى لديّ من جهد:
ــ عاش الملك والموت للخونة.
ضربني بشدّة بمؤخرة بندقيته وسط ظهري وارتطم رأسي بعمود حديدي. شعرت بِصعوبة التنفس لبعض الوقت. أَراد أن يُعيد الكَرّة لكن زميله منعه ثانية.
ــ إِمّا أن تدعه عنك أو أقتلك.
ــ ألم تَرَ كيف كان يهاجمنا بيد واحدة، وبالأخرى يجرّ صديقه.
ــ قَسما لأطلقنّ عليك النار إن لم تدعه عنك.
انطقوا بنا إلى واد يُدعى توكات. في الطريق تأكدت أن شابا كان في سيارة بها رشاش من نوع 52، سبق لي أن رأيته. وأنه تسلل إلى الموكب مع السيارات الخاصة التي استقدمها كومندار من مركز السمارة. إذ تفتقت مخيلة الكمندار قُبيل المغرب على أن يستقدم بعض المدنيين من مالكي السيارات لمساعدتنا في نقل بعض الجنود والعتاد، فاستقدم خمس سيارات من نوع لاندروفير يملكها صحراويون مدنيون. ومن تلك الخطوة تسلّل الانفصاليون إلى معاقلنا حسب تقديري. زلة بسيطة ارتكبها مسئول كبير دفعتُ ثمنها رفقة زملائي من سنين عُمرنا المهدور.
قال لي بأنه كان يراقبنا منذ ذلك اليوم الذي ذهبنا فيه للعيون، فقلت له:
لقد تذكرتك، أنت الذي كنت ترتدي شالاً رماديا؟ صفعني ثم اختفى.
كُنت مُقيدا يسهل صفعي، لم أكد أتناسى ألم الصّفعة حتى ركضَ شاب في نفس عمري نحوي. أمسك شعري وبدأ يصرخ بكل قوة:
ــ أنت محمد ابن عمتي فاطِمتّو التي تزوجت عسكريا، وسافر معها لتَكنةٍ بورزازات. أنت هو.
كان يمسكني وكنت أنا مُصفّدا:
ــ يا محمد قل لهم أنك ابن عمتّي، إنهم لا يعرفونك.
ــ أنا لست ابن عمتك. ربما قد أكون أشبهه. أنا اسمي عدّي. أنا أمازيغي من تازارين ولست من العيون كما تقول.
لكنه لم يقتنع، ظل يُكرّر أني ابن عمته عليّ وعلى كل الذين كانوا هناك.
حتى عندما نقلونا إلى جبل توكات، كان هذا الشاب الصحراوي رفقتنا. بقيّ لصيقا بي، وكل مرة يكَرّر عليّ لازمته أني ابن عمته المتنكّر.
لمّا وصلنا جبل توكات، وجدنا بانتظارنا ضابطين جزائريين. أحدهما أمازيغي من تيزي وزّو أبيض البشرة بشارب مقصوص، والآخر أسمر اللون أشعتَ اللحيةِ.
هناك بدأت صنوف التعذيب والاستنطاق. وقد نِلتُ من الصفع والركل والرفس والكي بالنار والضرب بالكابلي ما لم ينله بقية زملائي. بدأت حفلة الصفع وقت الظهر، ولم يتوقف الجلادون المتناوبون سوى في حدود الرابعة صباحا. يقال إن الملابس ترفع أصحابها وتمنحهم بعض الدرجات، لكن ملابسي وقتئذ كانت وبالاً عليّ.

كانت ملابسي جديدة ونظيفة. لأني كنت قد تركت بذلتي العسكرية الثانية في طانطان، ولم أتوصل بأمتعتي حيث توجد بذلتي سوى بعد أن وصلتُ العيون، فارتديت تلك البذلة الجديدة، فاعتقد الضابطان ومن معهما أني المسئول عن هذه الكتيبة، سيّما أني كنت أطول الأسرى المقبوض عليهم، وأن الرّاديو كان موجودا بسيارتنا المنقلبة.

كانوا يعتقدون أنني برتبة ملازم، أو ملازم أول. ركّزوا كل جهودهم عليّ. لعلهم يحصلون على أسرار الجيش. يسألونني تحت الضرب عن أسماء الضباط وعددهم والجنود والعتاد والمعدّات والذخيرة. مخابئ الأسلحة وأوقات تغيير الحراسة والمداومة وغير ذلك.
لم يحصلوا مني بفضل الله على أي سر. كنت أعرف بعض أماكن السلاح والذخيرة رغم حداثة تواجدي بالثكنة. لكن لم أقل شيئا، ليس فقط لأني أقسمت ألّا أخون ولو دفعت عُمري، وأن أدافع عن وطني كما يُدافع ابن عن أمه وأشدّ، تفنى الأم ولا يبقى لنا سوى ذكراها ويبقى الوطن خالدا.
لم أُخبرهم بأي شيءٍ لأني آمنت بأنهم سيقتلونني سواء قلت مكان العتاد أو لم أقُل..
وأنا أومن أن الجندي قد يموت مردوما في خندق، ممزقا بفعل قذيفة أو انفجار لغم، مرحوما برصاصة في القلب، مَطعُونًا بسكين في الصدر في اشتباك بالأيدي.. ربما قليلة هي صيغ الموت بالنسبة للجنود في ساحة الوغى، لا كالمدنيين الذين تُتاح لهم فُرص موت كثيرة!
لكن كل ذلك لا يَفْرُق شيئا بالنسبة لجندي اختار قدره وآمن به. لا يختلف الموت بشدة الألم الذي قبل صعود الرّوح إلى مكان ما. الموت موتٌ والسلام! والفرق الوحيد الذي أومن به هو أن تموت وأنت راض على نفسك، أو أن تموت وفي قلبك غصة.
قضيت ليلة طويلة كطريق الصّحراء. تتقاذفني أسئلة المستنطِقين الجزائريين وصنوف التعذيب التي أتلقاها من رجال البوليساريو، وإصرار ذلك الشاب الصحراوي على أني ابن عمّته الذي تنكر لصحراويته. تكسر أنفي وبدأت أنزف دما. حاولوا إيقاف تدفق الدم السيال حفاظا على حياتي كي أُخبرهم بما يريدون معرفته، لذلك جاؤوا بالقطن والماء والكحول دون جدوى..
نادى أحدهم على ممرضة تدعي فاطمتّو. بدأت بطرشي على الوجه خاصة الأذنين. قالت إنها تفعل ذلك كي يتوقف النزيف! ولما لم يتوقف غابت بضع دقائق ثم عادت وقد جلبت روث حمار. أمرتهم أن يفتحوا فمي. لما امتنعت عن ذلك، ففتحوه باستعمال سكين الكلاش، ودست كمية مهمة من تلك الفضلات فيه.
كان فمي مُمتلئا عن آخره بفضلات البهيمة حتى صعُب عليّ إغلاقه. حسبتُ الأمر صنفا من التعذيب المهين، لكن النزيف توقّف فجأةً وإن كنت أجهل سبب التوقّف. بدأ الاستنطاق من جديد والأسئلة الكثيرة والغبية أحيانا، والجلادون يواجهون صمتي بالركل والرفس إلى حدود الثالثة صبَاحا.
توقف الاستنطاق والتعذيب بعد أن وصل رجل قمحي اللون، طويل القامة بلحية سوداء. ساعدوني في المشي إليه، بعدما ارتبكت مشيتي من أثر التعذيب.
وجدته يعِدّ شايا على الجمر، أمرني بالجلوس، لما رأيته شعرت بأنه كان يشتغل في الجيش المغربي. يرتدي شورط وكندورة قصيرة وسلهاما أسود.
أعطاني كأسا من الشاي، ثم فتح مذكرة صغيرة وبدأ يدون معلوماتي بقلم رصاص قصير.
أسئلة رسمية واضحة، عن الاسم والنسب واسم الأم واسم الأب والدوار والعمالة والقبيلة التي أنتمي إليها. ذكرت اسم أمي واسم أبي دون أي تحايل، قلت له بأني من بلدة النقوب، غير بعيد عن قيادة تازارين التي تنتمي إلى عمالة ورزازات (وقتها). أجبته بكل صدق ودون أن أتأخر عن أي سؤال.
سألني: واش سبق ليك شفتيني قبل هاذ النهار؟
لم أكن أَرى ملامحه جيدا، لأن انتفاخ وجهي بسبب اللكمات والكدمات يعيق انفتاح عيني بشكل كامل، وكأني أُطل إليه من كوة ضيقة، رغم أني كنت إلى جواره.
مع ذلك فوجهه ليس غريبا عليّ. فقلت له:
ــ رأيتك بين 73 و74.
ــ أين؟
ــ لا أذكر، ربما في تنغير أو بُومالن.
نظر إليا مليا ثم خاطب الآخرين:
ــ ليس هذا هو الذي تبحثون عنه.
كانت عبارته كرحمة نزلت عليّ من السماء. توقف الركل والرفس والكلام النابي. فنمت مقدار نصف ساعة لأبدأ حياة أُخرى لم أكن أتصورّها..






    رد مع اقتباس
قديم 2015-07-06, 22:36 رقم المشاركة : 4
express-1
بروفســــــــور
 
الصورة الرمزية express-1

 

إحصائية العضو








express-1 غير متواجد حالياً


وسام التميز لشهر مارس 2012

افتراضي رد: عليلوش .. حكاية مغربي قضى ربع قرن بسجون الجزائر


عليلوش: هكذا قضيتُ ليلتي الأولى في حُفرة بالرابوني


هسبريس ـ ميمون أم العيد
الأربعاء 24 يونيو 2015 - 12:00
24 سنة و 9 أشهر و26 يوما، هي المدة التي قضَاها الجندي عْدِّي عْليلوش داخل السجون الجزائرية كأسير حرب. عاد ذات ليلة إلى قريته بعدما تم إطلاق سراحه تحت رعاية الصّليب الأحمر الدولي. وجد زوجته قد تزوجت غيره، وصارت جدّة.
وجد النقود المتداولة في البلد قد تغيرت، وأثمنة المواد قد تضاعفت أربع مرات، والناس غير الناس. أسير عانى الويلات رفقة زملائه دفاعا عن الصّحراء المغربية، وكثير منهم قضى نحبه داخل سجون البوليساريو.. في هذه الزاوية نسرد في حلقات خلال هذا الشهر الفضيل سيرة هذا الرجل، ومعاناته في السجون التي قضى بها ربع قرن.
(4)
…أرسلت الشمس أول خيوطها إلى الأرض فأيقظني أحدهم برجله. ركلة على البطن كافية لأنهض بسرعة متناسيا كل الآلام. كذلك فعل مع زميلي. كان آخر عهد لي بالطعام تلك الرشفة من الشاي التي أعْطانِيهَا صاحب الكندورة والسلهام الأسود. لم يكن من فُطور بعد تلك الجُرعة السوداء لهذا الجسد الذي أنهكه التعذيب سوى الرّكل والرفس.
أشار إلى بعض أدوات الحفر أن نحملها، ثم أمرنا أن نحفر موضعا يتسع للشاحنة التي تزود المكان بالماء، يسمّونها الكُوبَة. لم يكن أمامنا سوى أن نحفر خندقا كبيرا يتسع لها ويخفيها من الطائرات الاستطلاعية. اشتغلنا دون توقف حتى حدود العاشرة صباحا كما قدّرت. وَصَل ضابط قبايلي وأربعة ضباط من البوليساريو.
أمرونا أن نترك تلك الأدوات التي نحفر بها، ونركب سيارة ستُقلّنا إلى الرّابوني الذي يبعد عن تيندوف بــ22 كيلومتر شرق هذا الموضع. الرابوني، الرّوبيني، كلها تسميات تدل على وجود سقاية في زمن ما. تعددت الأسماء والمعتقل واحِدٌ وفريد.
لا يملك الأسير سوى أن يطيع أوامر مُقيّدِهِ، ينتقل به من مكان لآخر. ركبنا 3 سيارات وانطلقنا. لم يقيّدونا إلى عمود الجيب الحديدي كما اعتادوا أن يفعلوا. ربما أدركوا أن المغامرة بالهرب أمر لن يُقدم عليه سوى راغب في الموت : إن قتلا بالرّصاص أو عطشا في الصحراء. لذلك تركونا هكذا، وإن لم ننل الحُرّية فعلى الأقل فأيدينا وأرجلنا حُرّة. نجرش موضع آلامنا بأصابعنا كلما دعت الضرورة. أن تملك الحق في أن تحكّ بأظافرك مكانا ما في جلدك، ياه، ما أعظمه من حق، لا أعرف ماذا يعادل بالضبط بالنسبة لشخص يحلم بامتلاك الفلل الواسعة ذات المسابح والخدم، لكنه يعني الشيء الكثير بالنسبة لأسير مقَيّد اليدين.
على ظهر الحمادة توقفوا بنا لإعداد الغذاء. كانوا يرغبون في تناول الطعام وشرب الشاي، لذلك قصدوا شجرة طلحة كبيرة. الطلح يُحيي بداخلي ذكريات الطفولة، لأنه ينبتُ أيضا في مسقط رأسي، كنت أتأمل تلك الشجرة الكبيرة التي تسلقت مثلها في بلدتي.
تحت أشجار الطلح في نواحي النقوب كنت أرعى الغنم، وتحت تلك الأشجار كنت أردّد أهازيج البدو من قومي غير مبال بهذا العالم. كل طموحي أن تعود أغنامي في المساء، وقد انتفخت بطونها من الشبع.
كنت أجلس حيث يجلسون، ولا أتحرك إلا بأمر منهم، لأتجنب أي تعذيب مجاني أو كلام نابي سوف يؤزم نفسيتي. تفرقوا لجمع الحطب من مسافات قريبة، وبقيت أنا وواحد منهم، بينما زميلي كان مع الذين يجمعون الحطب لإعداد الغذاء والشاي.
سألني الذي كان بجانبي:
ــ قُل يا شْلّيح، تعرف تعجن؟
ــ إييه، أعرف.
ــ زيد، نشُوفو.
عاد الذين ذهبوا لجلب الحطب، ومعهم كميات مهمة من الأعواد والسيقان اليابسة. صنعت حفرة كبيرة في الرمل وأضرمت فيها النار.
أخذتُ إناءً أبيضَ أعطانِيهِ والدقيق والماء وبدأتُ أعجن بعدما غَسلتُ يداي. كانوا ينظرون إليّ وهم يُعدّون الشاي الثقيل، وأحدهم يعدّ أسياخ لحم جلبوه معهم من مكان ما.
أتممتُ عملية العجين ووضعتُ العجين في الحفرة الملتهبة بعدما نظفتها من الرماد وبقايا النار. غطيت العجين بالرمل السّاخن والرماد ثم أضرمت النار فوقه من جديد.
كانوا يُعِدّون الشاي تحت الطلحة. اقتربت منهم وأخذت مكاني دون كلام وأنا أتأمل البراد الموضوع على الأثافي، فيذكرني بأوقات الظهيرة في بلدتي عندما كنت أرعى. بعد هنيهة قال لي أحدهم:
ـ شُوف خبزك يا شْلّيّح.
نهضت من مكاني. قلّبتُ خبزتي فوجدتها قد نضجت. نظّفتُها من الرماد وما علقَ بها من تراب فَبَدَت شهية تُغري. خاصة وأن الجوع الذي أشعر به جعلني أراها كأشهى وجبة رأيتها في حياتي. كنت أشم رائحة احتراق حوافها، فيسيل لُعابي.
سمعت أحدهم يقول لزَمِيلِهِ ساخرا وهو يتأمّل خُبزتِي:
ــ من الصّعب أن ننتصِر في خمسة أعوام على جيش الحْوِيسِينْ ( تصغير الحَسَن) مادام يضم مثل هذه العناصِر بين صُفوفه.
ناولتُ الخبزة المطهيّة لأحدهم. قسّمها بيننا. لم تكن القسمة ضِيزَى. منح لكل واحد جزءًا وسيخ لحم. انطلقت بنا السيّارة من جديد حتى بدأ الظلام يفرض نفسه على نور النهار. سرت بنا الجيب بعض كيلومترات، فوجدنا قبالتنا أول مخيم للصحراويين الذين يعلنون رغبتهم في الانفصال.
توقفت بنا السيارة ونزل منها الضباط الذين كانوا صحبتنا لتناول العشاء لوحدهم. استقبلوهم بصحن من الشّعرية. بينما وفّروا لنا نحن حراسة مشدّدة لأن العديد من النساء في ذلك المخيم كُنّ يصرخن فينا ويرغبن في تمزيقنا إربا إربا. تتعالى شتائمهن، لنا ولمقدسات الوطن.
لعنات وسباب متنوع لا أعرف معناه كلّه، لكن فهمته من خلال ملامح وجوهن وصُراخهن. كنّ يطلبن من الحرّاس أن يسمحوا لهن بأن يُبَرّدن فينا قلوبهن. يا تُرى أتبرد قُلوبهن عندما يسيل دم أسرى عُزّل، لا سلاح معهم ولا ذنب سوى أنهم خرجوا ذات صباح لتوفير حراسة لأرواح وأملاك صحراويين تُجار اندس بينهم الخونة.. لكن الحراس منعنهن ولم يصلنا منهن سوى الشتائم والبُصاق الساخن الخاثر. وكان ذلك هو عشاءنا في ذلك اليوم.
تحت الحراسة المشدّدة أعادونا إلى السيارة بعدما أفرغوا الصحن من الطعام وتناولوا حديثا قصيرا، لنواصل الطريق نحو الرابوني. المعتقل كان عبارة عن حُفر كبيرة بعمق أربعة أمتار ومساحة ستة أمتار مربعة. حفرت السلطات الجزائرية تلك الحُفَر خصّيصا من أجل أن تُكَدّس فيها الأسرى. ليل الحفرة بارد جدا ونهارها مشمس حار.
أنزلونا إلى تلك الحفرة. علّق أحدهم ساخرا منا:
ــ تصبحوا على خير، الصباح نجيب ليكم القهوة السّخونة. هادي دبا الثناعش.
قال ذلك بعد أن نظر إلى ساعته اليدوية تحت ضوء السيارة. تركوا حارسين يُطِلاّن علينا بين الفترة والأخرى، وكأنهما خشيا أن تنبت لنا أجنحة نطير بها من تلك الحُفرة.
كان زميلي حامل الراديو إلى جِواري يتألم وكلما لمح أحد العسس يقول له:
ــ بغيت نشرب الله يرحم والديك..
فيجيبه وهو يرمي علينا الرمل حتى نتجنب النظر إليه:
ــ قل لميركان تعطيك تشرب، حنا مانعْطيوْكُوم غير النار الزرقة. تقتلوا ولادنا وتنكحوا بناتنا وبغيتي نعطيك تشرب؟
ــ بغيت نشرب الله ينعل والديك..
ولا جواب سوى الرمل الذي ينثره علينا كلما أراد.
لا أذكر متى نمنا في تلك الحفرة. وفِي الحلم ذهبت إلى تمازيرت، وصلتُ مع وقت الضحى، حيث مراسيم عُرس أخي قد بدأت في يومها الأول. فرحت أمي بعرس أخي وزادت فرحتها بقُدومي. اصطف أهل الدُوار لتحيتي كبطل الأساطير القديمة.
باركت للعروسين وتمتمت لهما بدعوات بحسن المآب وصلاح الذرية ووفير الرزق وجلست أحكي لأهل الدوّار يوميات الحرب والبارود. بعد ذلك اصطف نفر من الرجال وقابلهم صف من النساء لترديد مقاطع قديمة من أحيدوس، تلك الرقصة الرسمية التي لا تستقيم الأعراس في الجنوب بدونها. بدأ الشاعر يتغنى بحُبّ الأوطان وحروب القبيلة القديمة التي خاضها الأجداد دفاعا عن الأرض والكرامة، بينما النساء يعبّرن عن إعجابهن بالزغاريد..
أيقظني صوت حامل الراديو، وهو يصرخ من شدة الألم، تأكدت أني لم أبرح حُفرة الرّبوني. كانت الشمس قد أشرقت، لكنها لم تتوسط كبد السماء بعد، فلا يصلنا منها سوى بعض الأشعة.
طلبنا من الحارسين الذين تم استبدالهما في وقت ما، أن يعطوه جرعة ماء. لكننا تلقنا منهما نفس الجواب:
ــ ماكاين غير النّار الزرقة.
كنا نَطلب له جُرعة ماء مخافة أن يموت وهو عطشانا. لا أعرف لماذا على المُحتضر أن يشرب جرعة ماء! حتى وإن كانت لن تنقذه من موت لازم، لدرجة أن الناس يتمنون لأعدائهم ألا يجدوا جرعة ماء عندما يواجهون سكرة الموت.
بقينا في تلك الوضعية حتى اقترب العصر، سمعنا هدير سيارتين قادمتين. أنزلوا إلينا أسيرين إضافيين جاؤوا بهما من تندوف. أحدهما من قلعة السراغنة والثاني من نواحي بولمان. هذا الأخير توفي رحمه الله سنة 1995، كانوا يعذبونه بوضع كيس ثقيل من الحمص على بطنه، ومن وقتها بدأت أعراض مرض ما تظهر عليه إلى أن مات.
أخرجونا من تلك الحُفرة الموحشة، وأخذونا إلى معتقل آخر رفقة آسرى آخرين. قيل لنا أن الأسرى سبق أن تم القبض عليهم منذ سنة تقريبا في أمڭالا.
المعتقل يسمى مكتب عمر ولد عْلي بويا في ذلك الوقت. تغيّر اسمه بعد ذلك إلى الدّخيل، لكن وإن تغيرت الأسماء، فإن المعتقل يتمتع بسمعة سيئة، وفيها عاش الأسرى صنوفا لا تُطاق من التعذيب.
كنّا وقتها 64 مغربيا في ذلك المعتقل الذي يشرف عليه هذا المسمى عمر ولد عْلي بويا. وفيه سمعت من معتقلي أمڭالا أن الرئيس الجزائري بومدين قد وقّع اتفاقا مع انفصاليي البوليساريو بتمويلهم مدة 5 سنوات، حينها فهمت تلك الجملة التي قالها ذلك الضابط وهو يراقب طريقة عجني للخبز في الصحراء!
كان بيننا 16 أسيرا مغربيا كان قد تم اقتيادهم إلى معتقل خاص بمدينة البْليدة. معتقل تحت الأرض كانت قد شيدته السلطات الفرنسية لسجن المقاومين الجزائريين من الذين يعارضون التواجد الفرنسي. وذات ليلة خطب الحسن الثاني وقال " إييه يا بُومدين. فرنسا بنات المعتقلات لتسجن فيها المجاهدين، وأنت تسجن فيهم أولاد المغاربة".
مباشرة في تلك الليلة تم شحنهم في طائرة عسكرية وتنقيلهم إلى معتقل عمرو ولد علي بويا. كان الأسرى يسمونه عْوِميرْ، لتصغيره رغم شدته وبطشه.
كان يصرخ فينا: نتُوما حْميرْ. نتُوما عبيدْ. أنتوما ماشي أحرار. تْيِّيوْ مع الماليك ومتقدروش تقرّبوه! واش ماقريتوش أن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها.. أنتوما خوّافة، جبناء، حنا بغينا نحرّرُكوم، ولكن نتوما حمير ما تفهموش!






    رد مع اقتباس
قديم 2015-07-06, 22:37 رقم المشاركة : 5
express-1
بروفســــــــور
 
الصورة الرمزية express-1

 

إحصائية العضو








express-1 غير متواجد حالياً


وسام التميز لشهر مارس 2012

افتراضي رد: عليلوش .. حكاية مغربي قضى ربع قرن بسجون الجزائر


يوم سقط أول شهيد .. عليلوش يتفرس في وجوه جلادين شِداد


هسبريس ـ ميمون أم العيد
الجمعة 26 يونيو 2015 - 14:35
24 سنة و 9 أشهر و26 يوما، هي المدة التي قضَاها الجندي عْدِّي عْليلوش داخل السجون الجزائرية كأسير حرب. عاد ذات ليلة إلى قريته بعدما تم إطلاق سراحه تحت رعاية الصّليب الأحمر الدولي. وجد زوجته قد تزوجت غيره، وصارت جدّة.
وجد النقود المتداولة في البلد قد تغيرت، وأثمنة المواد قد تضاعفت أربع مرات، والناس غير الناس. أسير عانى الويلات رفقة زملائه دفاعا عن الصّحراء المغربية، وكثير منهم قضى نحبه داخل سجون البوليساريو.. في هذه الزاوية نسرد في حلقات خلال هذا الشهر الفضيل سيرة هذا الرجل، ومعاناته في السجون التي قضى بها ربع قرن.

(5)
طعَامُنا في المعتقل لُقمة من الأرز كل ليلة، ويا ليتنا نأكلها هانئين. قبل موعد الطعام لابد أن يستمع السجانون للأخبار في المذياع. أخبار محطتهم ثم أخبار الإذاعة الوطنية بعد ذلك. تُعكّر الأخبار أمزجتهم عندما تكون سيئة. إذا جاء في نشرة الأخبار أنهم قتلوا كذا وأسروا كذا، فإنهم يمرحون، وإذا سمعوا دون ذلك فإن حصّة من التعذيب تنتظرنا نحن الذين بُرمِجنا أن نأكل لقمة من الأرز كل ليلة، وننتظر لقمة الموعد المقبل بعد 24 ساعة.
مرارة العيش أسيرا لا يعرفها سوى رجل قضى جزءًا مهما من عمره مقيدا بقوانين المعتقل، وَعْدِّي يواصل الحكي عن تجربته المريرة التي عاشها ولم يسمع منها مثلنا:
من بين القائمين علينا موريتاني أسمر ينادونه مسعود. لا يرى شيئا بعينه اليُسرى .كانت مهمته أن يصفعنا كل ليلة، ونحن نصطف لأخذ تلك اللقمة من الطبّاخ. ليت الأمر يتوقف عند صفعات مسعود التي ألفتها وجوهنا وتأقلمت معها، بل يقف قُربهُ رجل ينادونه ولد الشيخ. كان يرتدي في أغلب الأوقات ــ خاصة بعد سماع الأخبار غير المفرحة ــ جلبابا رماديا بقِبٍّ كبير.
يملأ ولد الشيخ قبّ جلبابه بالرمل، ويقف قرب الباب إلى جانب مسعود الموريتاني. ما أن يمر الأسير بمحاذاته حاملا الصّحَين الذي به ملعقة الرّز، يصفعه مسعود أولا، ثم يتناول ولد الشيخ من قبه بعض الرمل، فينثره كالتوابل في طعامك معلقا:
ـ كُلْ! هذا قليل من فُوسفاط بوكراع.
وبعد أن يفعل ذلك مع جميع الأسرى يأخذ "بيرية" يضعها على رأسه. يتجه إلى مكان يراه فيه الجميع ويبدأ في إصدار حنحنة كتلك التي يصدرها من يريد أن يخطب في الناس، مُقلّدا في ذلك الحسن الثاني رحمه الله:
" شعبي العزيز.. أَعِدُكَ بغَدٍ مُشرق. غدك يا شعبي كله الذهب والفوسفاط.." يردد جملا كثيرة إلى أن يبدأ الحُرّاس في القهقهة، ثم يتناول ما تبقّى من رمل في قب جلبابه وينثره علينا عشوائيا وهو يقول:
"هَاكُو فُوسفاط بوكراع، وها حوت وادي الذهب لّي كايْوَاعْدْكُوم به الماليك ديالكوم".
أيام كثيرة لا نعرف ماذا سمعوا في ذلك الجهاز العجيب الذي يتحكم في أمزجتهم وتصرّفاتهم، لكنهم فقدوا صوابهم وبدئوا يضربوننا بالتناوب دون توقف ليلة كاملة باستعمال عَصيٍّ وأسلاك كهربائية مبرُومة.
من الحُرّاس الذين لا أستطيع نسيان ملامحهم التي وُشمَت بذاكرتي إلى جانب مسعود وولد الشيخ، هناك أعرج يُدعى هارون، جُرح في معركة أمكالا، وآخر اسمه تَاغي. وكان بالفعل طاغية شديدا على الأسرى العُزّل. كان لا يستطيع أن ينحني بسبب كسر في ظهره في نفس المعركة أيضا. يضرب الأسرى بمقبض الفأس أو بمقبض البالة. يأتي إليك أول مرة فيسألك:
ـ هل تُصلّي؟
ـ نَعم!
ـ اقرأ عليّ الفاتحة لأسمعك.
وتبدأ في الاستعراض كطفل في المسيد. تعتقد أن ذلك القرآن قد يُليّن قَلبَه. يستمع إليك في اهتمام والآيات تُتلى كفقيه طاعن في العلم والفقه. لما تصل آية " مَلِكِ يوم الدّين" يضربك بمقبض البالة على أي جزء من جسمك دون اكتراث وهو يصرخ:
ـ"تْفُو.. حتّى الصلاة دخلتُو فيها الماليك".
ولا تملك سوى أن تتألم وتُردّد "ربِّي إنِي قَدْ مَسَنِي الضُر وأَنتَ أَرْحَم الرَاحِمِين". تُردّد ذلك وهو يهوي عليك بالعصى الغليظة دون شفقة.
مرة قيل ذلك لأحد الأسرى الجدد. فلما نُوديَ عليه من طرف تاغي هذا، فكّر أن يستعمل بعض الكذب الأبيض لعله ينجو بجلده من مُبرِحِ الضرب وفُحشِ الكلام. رماه بالسؤال المكرور:
ـ هل تُصلّي؟
ـ لا.
ـ ألا تحفظ سورة الفاتحة؟
ـ لا. ولا آية واحدة، وما جلستُ قَط على حصير المسيد.
ضربهُ بمقبض البالة على رأسه صارخا:
ـ " تفُو.. أنتم المْرَارْكَة يهود. بْنِي جْوِيفْ، لا تصلون ولا تعرفون الله".
ومن وقتها كان الأسرى يقرؤون الفاتحة كلما طلب التاغي ذلك، يتحملون ضرباته وهم يواصلون الآيات المتبقية من سُورة يتمنون يوما أن يقرؤوها على روحه. لكن عُمر السجان طويل كلسانه ويده.
ماء المعتقل مالح متسخ، فالأواني المخصّصة للأسرى كانت عبارة عن براميل متسخة بالزيت والوقود. كنت أعتقد أن وصف "يُقطّع الأمعاء" لفظ مبالغ فيه قبل أن ألج هذا المعتقل، لكني لما شربت من مياه المعتقل في حالات العطش الشديد شعرت بأمعائي تتقطع بالفعل. خاصة وأن هذا الماء مرتبط بجوع شديد وحر لا يُطاق.
وبسبب هذه الضرب والجوع والماء المالح الملوث بالنفط، سنفقد أوّل أسير ينتقل إلى دار الحق، ليتركنا هنا في دار الباطل المُضاعَف.
اسمه حسن، وكان مدنيا. يشتغل سائقا لشاحنة في ملكية دُكالي يعيش نواحي أكادير. بحسب ما حكاه لنا قبل وفاته فإن رجال الدرك أوقفوه بأيت ملول قُبيل المسيرة الخضراء. أمروه أن يُفرغ البضاعة التي تحملها الشاحنة التي كان يسوقها، وأن يعطيهم معلومات مالك الشاحنة ليتصلوا به ليأخذ بضاعته، فالمخزن يُريد هذه الشاحنة وسائقها لخدمة الوطن.
أمروه بعدها أن يشارك في المسيرة الخضراء بحمل الأفراد وبعض المؤن. بعد ذلك ألحقوه وشاحنته بالجيش لنقل البضائع والمواد الغذائية بسبب قلة الشاحنات العسكرية أمام الأحداث التي استجدّت.
بعد أن هدأت الأمور قليلا، جاء قرار بعودتهم إلى أُسرهم بعد هذه الخدمة الوطنية، لكنهم لم يصلوا إلى أبنائهم الذين كانوا ينتظرنهم بحُرقة. خاصّة وأن كل الذين شاركوا في المسيرة قد عادوا. نصب لهم الانفصاليون كمينا في طريق الزاك. مات منهم من مات وتم أسر ثمانية واقتيادهم إلى الحُفر التي كُنّا فيها أولا، ثم بعد ذلك إلى المعتقلات الجزائرية.
مرارة الفقد لا تطاق، خاصّة عندما تُفكّر في أطفال صغار ينتظرون أباً أن يعود إليهم، وإن كان لا يحمل إليهم شيئا، المهم أن يعود لكن امنيات الصّغار لم تخترق جدار السماء وتاهت بين السماء والأرض. التهمت الصحراء الأب المُنتظَر وغدَت ذكراه توقظ الشجون.
لقد ذكرت فيما مضى أن موريتانيا كان ضمن السجّانين الأجلاف، وفاتني أن أذكر أن ضمن الأسرى موريتانيين أيضا. ولم يكن السجّان يعطف على ابن بلده أبدا فالعبرة بالولاء. وأذكر أنه بعد أيام قليلة على موت السائق حسن أسير الزاك حتى نودِي على بعض الأقوياء منّا لتفريغ شاحنة تموين.
كان بين المنادَى عليهم موريتاني. قبل الانتهاء من تفريغ الحمولة أختلس علبة سردين، فتحها بسرعة والتهمها وأخفى العلبة الفارغة في رمل المعتقل دون أن يفطن به أحد. ربما أحس بالشبع وبعض السعادة، وهو يزدرد قطع السردين المالح بالفلفل الحار.
بعد ساعة أو أقل فطنوا إلى أن علبة سردين واحدة ناقصة. فأعلنوا حالة طوارئ في المعتقل كلّه. لم يكتفوا بجمع الشبان الذين شاركوا في إفراغ شاحنة المئونة، بل نُوديَ على جميع من كان في ذلك المعتقل عن بُكرة أبيه!
طَلب عْوِمير ولد علي بويا أن يصطف الجميع، وطلب من مرافق له أن يبدأ مهمته في كشف هذا السارق الذي تحدّى القوانين وظفر بعلبة سردين كاملة.
كان مُرافقه مُتخصصا في الشم. ذكرّني المنظر بفقيه المسيد الذي يُكلّف صبيا ليعرف الذي ضرط أثناء التلقين والحفظ. حانت مني ابتسامة أنستني قليلا هول الموقف. كان يأمر أي أسير أن يفتح فمه فيقترب منه بنيفه يشم رائحة زفيره ككلب شرطة. فعل ذلك مع جميع الأسرى فجأةً عاد إلى ذلك الموريطاني وجرّه من الصّف نحو عويمير ليؤكد له:
ــ هذا هو الكلب الذي سرق علبة السردين.
جرّدوه من ملابسه كلها أمام الأسرى. ربطوا يديه ورجله وتناوبوا عليه ضربا. كانوا يضربونه أنّى شاءوا. كان ذلك في شهر مارس والليل في المعتقل يكون باردا، لكنهم ظلوا يضربونه طول الليل إلى أن أُغمي عليه. استغلوا وقت الإغماء ليأخذوا استراحة في انتظار أن يستفيق. ولما عادا إليه وعيهُ وبدأ في الأنين من الألم استأنفوا حفلة الضّرب بالسياط.
كان الموريتاني أسود اللون، فأصبح جسده بقعا من اللون الأزرق والأحمر. وفي الصباح شنّف عويمير مسامعنا بخُطبة بثراء عن العفة والشرف والأمانة!






    رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are معطلة


مــــواقـــع صـــديــقــة مــــواقـــع مـــهــــمــــة خـــدمـــــات مـــهـــمـــة
إديــكـبـريــس تربويات
منتديات نوادي صحيفة الشرق التربوي
منتديات ملتقى الأجيال منتديات كاري كوم
مجلة المدرس شبكة مدارس المغرب
كراسات تربوية منتديات دفاتر حرة
وزارة التربية الوطنية مصلحة الموارد البشرية
المجلس الأعلى للتعليم الأقسام التحضيرية للمدارس العليا
مؤسسة محمد السادس لأسرة التعليم التضامن الجامعي المغربي
الصندوق الوطني لمنظمات الاحتياط الاجتماعي التعاضدية العامة للتربية الوطنية
اطلع على وضعيتك الإدارية
احسب راتبك الشهري
احسب راتبك التقاعدي
وضعية ملفاتك لدى CNOPS
اطلع على نتائج الحركة الإنتقالية

منتديات الأستاذ

الساعة الآن 10:36 لوحة المفاتيح العربية Profvb en Alexa Profvb en Twitter Profvb en FaceBook xhtml validator css validator

RSS RSS 2.0 XML MAP HTML
جميع المواد المنشورة بالموقع تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر بأي شكل من الأشكال عن رأي الموقع ولا يتحمل أي مسؤولية عنها

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd