واحة النفوس المطمئنة قديما قيل كمقولة سائدة إلى اليوم : الجار قبل الدار دون أن ننسى وصايا من لا ينطق عن الهوى عليه الصلاة والسلام فقد أوصى الجار بالتعامل الحسن كما أوصاه جبريل عليه السلام .. حتى حسب عليه الصلاة والسلام أن الجار سيكون من الورثة أتذكر وأنا في السادسة من العمر كنا قد غيّرنا مسكننا بمسكن في حارة شعبية , أول دخولنا بيتنا الجديد بسويعات قليلة , سمعنا طرق الباب ,,, تفتح أمي فتجد مجموعة نساء كل واحدة تحمل فوق رأسها طبق بع الدجاج واللحم والكسكس .. أو بين يديها صينية الشاي والقهوة , والخبز المبطبط المدهون بالسمن وزيت الزيتون ,,, والبغرير , وهو خبز به ثقوب يتم دهنه بالعسل الصافي , رأيتهن يدخلن ويزغدن ويرحّبن بنا حتى تهيأ لي أن في بيتنا عرس , رأيت على وجوههن ملامح تشع بالفرحة وكأننا من أقاربهن وعدنا من غياب طويل ,, ترتمي النساء في أحضان أمي واحدة تلو الأخرى , ويضعن ما جلبنه من طعام على الأمتعة المتراكمة على بعضها ,,, والتي لم يتسنّ لأمي أن تهيء موضعا للجلوس أو تعدّ نصيبها من الضيافة ,, تبسّمت الجارة مباركة وقالت بصوتها الجهوري : مرحباااا بلالة خديجة الجارة الجديدة ومرحبا بنا عندها .. ثم أطلقت زغرودة رأيتُ لسانها في حركة سريعة يمنة ويسرة داخل جحر فمها .. فتابعتْ قولها : لن تشعلي الموقد لمدة ثلاثة أيام , ألالة خديجة , لأن من عاداتنا عندما يحل ساكن جديد نحن من نقوم بواجب الطعام 3 أيام حق الترحيب .. وهي المدة التي تكفي لترتيب البيت , والتعرف على الجيران , والراحة النفسية بعد التآلف مع المكان الجديد .. في الحقيقة كنت أسمع ما يدور بأذن الطفلة التي يبدو لي أن أشياءً كثيرة سوف تتغير لديّ بدخولي لـ هذه الحارة الرحيمة جلستْ النسوة بعد أن أعدت لهن أمي موضعا ,, فنادت الجارة فوزية زوجة أخيها : رقية .. هاتي لنا الطعريجة والنواقس والطّارة , ولا تنسي القعدة .. إنها مجموعة آلات إيقاع ,, والقعدة هي الجزء من البرميل كالذي ( يعبّأ فيه النفط ) .. يتم قلب ذلك الجزء المقطوع لتصعد فوقه المرأة وترقص على إيقاع الدفوف .. بنفس طريقة الرقصة الإسبانية بالدق بالحذاء لتصدر أصوات القرقعة المتناسقة والمنسجمة مع إيقاعهم الإسباني هنا الجارات يرقصنها بدون حذاء بحركة من مقدمة القدم إلى نهايته مع طرطقة الطعريجة والطّارة .. بعد الحفل البهيج ,, والضحك الذي يبدو أنه نابع من قلوب طيبة جدا .. تُفرش سفرة الطعام فيأكل الجميع ,, جارات وأطفال دون نسيان عزل نصيب الأزواج .. هذا صحن فلان وهذا صحن فلان .. بعد أن تمتليء النفوس بالطمأنينة والقلوب تُشحن مودة ومحبة تتفرق الجارات وقد جددن الروابط .. واكتسبن جارة جديدة تضاف إلى رصيدهن في العشرة الصافية والجيرة التي وكأنها الأسرة الواحدة .. بعد ثلالثة أيام قامت أمي بإعداد وليمة حضرتها الجارات وحضر معهن نفس الإحتفال والفرحة .. هذا الحي الشعبي الذي دخلته وعمري 6 سنوات هو واحتي الخضراء , هو موطني الذي لم أستطع تبديله رغم مغريات الحياة ,,, فرضت الظروف أن أهاجر من مدينتي مراكش وبلدي المغرب سعيا وراء الرزق إلى أحضان غربة قاسية , ,, وإلى أرض أمشي في مناكيبها , جسد أنا هنا ... بـ قالب فقط ... أما روحي وعقلي وكل ذكرياتي ما تزال حية قابعة في حارتي البسيطة , أشارك الجيران أفراحهم ومسراتهم تصلني ونتواصل من قارة لقارة ,, لا حدود بين مشاعرنا , ولا جسور تفرّقنا ولا أسوار تحجب قلوبنا ,, جُلت ما تيسّر لي من البلدان والبقاع ,, ولم أرَ للجار حس ولا خبر ,, لم اسمع زغرودة ,, ولم آكل طبق الترحيب بجيرتي لهم ,, ولم أتلقّ حتى السلام الشرعي الذي يجمع المسلم بأخيه المسلم هنا .. لا أعرف عن جاري سوى شكل بيته الخارجي , بدل القفل الواحد لباب البيت أصبحت أقفال ,,, أقفلنا القلوب كي لا تتحابّ ,, وحجبنا الأرواح عن بعضها كي لا تتآلف ,, وأصبحنا نعيش كأننا في جزيرة ,, كل جار مختبيء بين جدران بيته , لا يدري عمّن يقطن وراء الجدار .. أهو حي أم ميت أم به حاجة يحتاجها ... حارتي المركشية هي واحة النفوس المطمئنة ,,, ما زال قلبي ينبض بحبها , ,, وما زالت طمأنينتها تزوّدني بالدفء فتمدني بالحياة .. ويبقى السؤال مطروحا : هذه الدار , فأين الجار ؟ وما قيمة الدار بلا جار ؟ فطيمة المراكشية أم القاسم الشريف المملكة المغربية .. |