منتديات الأستاذ التعليمية التربوية المغربية : فريق واحد لتعليم رائد

منتديات الأستاذ التعليمية التربوية المغربية : فريق واحد لتعليم رائد (https://www.profvb.com/vb/)
-   منتدى المكتبة التربوية العامة (https://www.profvb.com/vb/f38.html)
-   -   حديقة الأزهار في ماهية العشب والعقار للغساني (https://www.profvb.com/vb/t122762.html)

بالتوفيق 2013-06-23 12:52

رد: حديقة الأزهار في ماهية العشب والعقار للغساني
 
الجزء الخامس

تصنيف النباتات بفاس وأبعادها البيئية والطبيعية
إن هذا الجانب يكشف بدقة ووضوح عن الأسلوب العلمي الذي سلكه الغساني في تعريفه بمختلف النباتات، وهو أمر يعبر عن الخبرة التي اكتسبها من خلال رحلاته الاستكشافية المتكررة التي قام بها في الميدان. وهو بملاحظاته الملموسة والدقيقة التي قدمها يعتبر من علماء النبات الأوائل والقلائل الذين اكتشفوا أن هناك مجموعة من العوامل التي تتحكم في توزيع الغطاء النباتي الطبيعي، مثل طبيعة التربة ودرجة الرطوبة والتعرض لأشعة الشمس أو عدمه والمستوى الارتفاعي. ولقد نجحت العلوم الحديثة في الكشف عن المزيد من العوامل المؤثرة في ذلك التوزيع وتوضيح طبيعة التفاعلات بين مختلف العناصر الفيزيائية والعضوية والمناخية التي تتحكم في توزيع النبات. ويعود تقدم المعرفة الإنسانية في هذا المجال أولاً إلى ما جمعه علماء النبات ـ من أمثال الغساني ـ من ملاحظات ميدانية منذ القدم والتي تضاعفت في العصور الحديثة وأصبحت أكثر دقة وتنظيماً. ويعود الفضل في حصول ذلك التقدم المعرفي أيضاً إلى اكتشاف أدوات البحث المجهري واستعمالها، وتضافر جهود تخصصات علمية مختلفة للبحث في الميدان نفسه، واستقلال علم النبات عن علم الطب. وكانت النتيجة أن الباحثين المحدثين وضعوا خرائط بأنواع وأصناف النباتات التي تميز كل مجال جغرافي ومناخي وطبيعي على حدة من سطح الكرة الأرضية.
إن الإطار الطبيعي شكل عنصراً مهماً في نشأة المدينة ونموها وتطورها. فطبيعة الموضع الذي تقوم عنده المدينة، ونوعية التربة، وحجم الموارد المائية وطبيعتها، وطبيعة الموقع من حيث الغطاء النباتي والمناخ، كلها عناصر لها تأثير واضح في النمو العمراني والاقتصادي والديمغرافي للمدينة. الأمر الذي يفسر في كثير من الأحيان نمو واستمرار عدة مدن وزوال أخرى واندثارها. ولقد تنبه ابن خلدون لأهمية هذه العناصر في أوضاع المدن، فذكر منها:حاجة الماء وهي ضرورية فيكون لهم في وجوده مرفقة عظيمة عامة. ومما يراعى من المرافق في المدن طيب المراعي لسائمتهم، إذ صاحب كل قرار لابد له من دواجن الحيوان للنتاج والضرع والركوب، ولابد لها من المرعى. فإذا كان قريباً طيباً، كان ذلك أرفق بحالهم (…). ومما يراعى أيضاً المزارع؛ فإن الزروع هي الأقوات. فإذا كانت مزارع البلد بالقرب منها، كان ذلك أسهل في اتخاذه وأقرب في تحصيله. ومن ذلك الشجر للحطب والبناء؛ فإن الحطب مما تعم البلوى في اتخاذه لوقود النيران للاصطلاء والطبخ. والخشب أيضاً ضروري لسقفهم وكثير ما يستعمل فيه الخشب من ضرورياتهم..
كما أن ابن أبي زرع تنبه لوفرة هذه المرافق وتنوعها في موقع وموضع مدينة فاس، واعتبرها السبب الرئيس الذي حمل الإمام إدريس الأزهر على اختيار مكانها ليكون قاعدة لعاصمته الفتية. ثم إنه عد تلك العناصر من عوامل ازدهارها: »وقد جمعت مدينة فاس بين عذوبة الماء، واعتدال الهواء، وطيب التربة، وحسن الثمرة، وسعة المحرث وعظيم بركته، وقرب المحطب وكثرة عدده وشجره (…). وقد جمعت مدينة فاس هذه الخصال التي هي كمال المدن وشرفها...«.
ولقد حفلت المصادر الجغرافية وكتب الرحلات الوسيطية بالإشارات إلى أصناف من النباتات التي ميزت منطقة فاس، ولكنها ركزت بالأساس على تلك التي لها اتصال مباشر بالنشاط الزراعي وبالحاجات الغذائية للسكان كأصناف الحبوب وأنواع الأشجار المثمرة. وحديثها عن هذه الأصناف كان مختصراً ومقتضباً في جمل قليلة متكررة. ويمكن اعتبار ابن أبي زرع من بين المؤرخين القلائل الذين ذكروا أصنافاً من الأعشاب والأشجار الطبيعية والبرية، وذلك عند حديثه بالخصوص عن موضع فاس قبل بنائها: »والموضع يومئذ شعراء بالطخش والبلوط والطرفاء وغير ذلك (…) وكان بعين علون شجر من طخش وعليق وكلخ وبسباس وأشجار برية«.
إن الغساني يقدم في كتابه "حديقة الأزهار" معلومات أكثر تفصيلاً ودلالة عن المميزات الطبيعية والبيئية لمدينة فاس مما قدمته مصادر معاصرة له أو تعود للعصر الوسيط. من ذلك مثلاً ذكره لعدد من النباتات التي تظهر أساساً في الأماكن الرطبة والظليلة إشارة إلى المواضع التي تتميز بدرجة عالية من رطوبة التربة وكثافة الغطاء النباتي. وهذا من دون شك له صلة بما عرفت به مدينة فاس من وفرة الموارد المائية وتنوع مصادرها من عيون متدفقة كثيرة داخل أسوار المدينة وخارجها، وأنهار وجداول: واد فاس الذي يشق المدينة، وواد مصمودة اللذان تتفرع عنهما وعن العيون سواقٍ تتخلل كل دور المدينة وأحيائها، ونهر سبو الذي لا يبعد كثيراً عنها.
يذكر الغساني نباتاً يعرف عند العامة بفاس باسم »السوسن الأزرق«: »وكثيراً ما ينبت عندنا بالمقابر وبالمواضع الرطبة من الجبال (…) وفي تلك الزهرة سواد وبياض. وبالجملة، فإنها ذات ألوان من صنع الصانع العظيم القدرة والإتقان، لا إله غيره«. ويطلعنا أبو القاسم الغساني أيضاً على نبات يدعوه العامة بفاس بـ»العقربان«: »منابته الصخور وأماكن الماء والمغاثر التي يطرد منها الماء، وكثيراً ما ينبت عندنا بفاس بجبل صالغ«.
وهناك نبات يعرف عند العامة في فاس باسم »عشبة خير من ألف« من جنس الحشيش: »منابته المواضع الظليلة الحسنة والأماكن الرطبة وعلى شطوط الأنهار، وبالقرب من منابع المياه«. ثم يضيف صاحب الكتاب أنه ينبت كثيراً بجنات فاس.
وفي الإطار نفسه يندرج نبات مشهور في فاس حسب الغساني، وهو الكرفس الذي يكثر في »الجنات والأماكن الرطبة والمروج والسياجات«. ومن ذلك نبات اسمه عصا الراعي، يعرف لدى العامة باسم »بوعقاد«: »منابته الجنات والمواضع الرطبة والقيعان وقرب المياه«. وهذا النبات إلى جانب منافعه الطبية للإنسان كالنباتات السابقة، فهو غذاء مهم للدواب، فهي تأكله وتحبه، و»تربي عليه لحماً وشحما«.
وهناك أصناف من النباتات يوردها الغساني تنبت بالأساس في الأماكن الصلبة والجبال، حيث توجد منها عينات بأحواز فاس. وهذا الأمر يدلنا على أن تنوع الأشكال التضاريسية الذي يميز منطقة فاس ساهم في تنوع أشكال التربة وفي تنوع الغطاء النباتي وغناه. ومن أمثلة ذلك نبات يعرف باسم »بسبايج«: »ينبت بالصخور الندية (…) منابته عندنا بفاس على الصخور بجبل صالغ«. ونبات يسمى »زوفا« من نوع الصعاتر: »منابته الجبال الصلبة، وهو كثير عندنا بفاس خارج باب الجيسة بإزاء الحصن العظيم المصون المعروف بحصن البستيون«

بالتوفيق 2013-06-23 13:01

رد: حديقة الأزهار في ماهية العشب والعقار للغساني
 
الجزء السادس
تصنيف النباتات بفاس ودلالاتها الاقتصادية
1 ـ الفلاحة
تتعدد المعلومات ذات الطابع الاقتصادي التي يوردها الغساني في معرض حديثه وتمثيله لعينات النبات التي تحفل بها منطقة فاس. فهناك ما يتصل بالقطاع الفلاحي، وهناك ما يهم القطاع التجاري والقطاع الصناعي. فأما الفلاحة، فقد شكلت نشاطاً اقتصادياً مهما في تاريخ مدينة فاس. فاتساع الأراضي الخصبة المحيطة بها ووفرة الموارد المائية تم استغلالها بشكل مكثف منذ وقت مبكر من طرف سكانها الأوائل، وخصوصاً من جانب الوافدين عليها من بلاد الأندلس، بما حملوه من تقنيات وأساليب جديدة في السقي والحرث والعناية بالتربة وبالأشجار، وما جلبوه من بذور وأشجار مثمرة متنوعة. ولقد شهد هذا القطاع تطوراً مهماً ابتداء من القرن السادس الهجري، بفعل العوامل السابقة الذكر، إضافة إلى الاستقرار السياسي النسبي الذي تحقق في عهد المرابطين والموحدين، فتضاعف الإنتاج الفلاحي، ووظف الفائض في مجال التصدير.
وكما سبقت الإشارة، فإن كتب الرحلات والجغرافيا التي صنفت في العصر الوسيط، أولت هذا الجانب اهتماماً كبيراً في معرض وصفها وحديثها عن فضائل فاس. فعبرت عن إعجابها بما تحفل به المدينة من جنات وبساتين وسهول خصبة واسعة، تتميز بوفرة إنتاجها وتنوّعه.
وينفرد الغساني بتقديم تفاصيل إضافية ودقيقة حول أصناف الثمار وأسمائها عند الفلاحين والعامة بفاس، وذكر تاريخ نضج بعض الفواكه وظهور بعض النباتات حسب فصول السنة، إلى جانب ذكر نباتات للزينة أو ذات رائحة طيبة ومنافع طبية يعتني بها أصحاب الجنات والبساتين.
تشغل زراعة الحبوب جانباً مهماً من النشاط الفلاحي بأحواز فاس، وذلك لوجود أراضٍ شاسعة وخصبة، أهمها سهل سايس. وعادة ما يكون الإنتاج غزيراً، خصوصاً في السنوات المطيرة. ولقد اشتهرت فاس بكثرة عدد الأرحي التي تطحن فيها كافة أصناف الحنطة، إذ تقارب حسب بعض الروايات عدد أيام السنة، كما أنها اشتهرت بجودة منتوجها من السميد. ولقد عرض الغساني لموضوع الحبوب في موضعين من كتابه: الأول عند مادة الحنطة، والثاني عند مادة الشعير. والملاحظ أن حديث الغساني كان مقتضباً جداً، وذلك باعتبار أن أصناف الحنطة من قمح وشعير وسلت وخندروش هي بحسب المؤلف كلها معروفة ولا حاجة للإطالة بذكرها. وهكذا يكتفي عند تعريفه بالحنطة بالوقوف عند الصنف المعروف بالقمح فيقول: »له أنواع باعتبار جودته أو رداءته. فالجيد منه هو الأصفر الذهبي الممتلئ، وفيه احديداب. وهذا النوع يعرف عندنا بفاس بصدر باز وهو أجودها، ومنه يصنع الدرمك والسميد... «.
وأما في حديثه عن الشعير، فيقول: »وأنواعه كثيرة. فمنها الأملس والأحرش، ومنه شعير النبي r، وهو حب قصير ينعزل عن قشره سريعاً، ومنه الشعير الرومي ـ وهو الأشقاليا ـ وكلها معروفة«. هذا النص يحملنا على الاعتقاد أن الاستقرار النسبي الذي عرفه المغرب بعد استيلاء السعديين على السلطة ساهم في حدوث انتعاش في القطاع الفلاحي وازدهار في إنتاج الحبوب. كما أن انفتاح المغرب على بعض البلاد الأوروبية كان من نتائجه جلب بذور جديدة وتجربتها في المغرب، وهو ما توحي به إشارة الغساني للشعير الرومي. ولا نجد عند الحسن الوزان ـ ويا للأسف! ـ أي إشارات دقيقة لأصناف الحبوب المعروفة والمستهلكة في فاس يمكن أن تؤكد أو تنفي ما ذهبنا إليه. فهو عند تعريفه بسهل سايس، يذكر أن »أراضيه ممتازة، لكنها تنتج قمحاً أسود صغيراً«، ويعني بذلك على ما يبدو القمح الصلب.
ومن جملة الفواكه التي تنتج بفاس المشمش: »وهو من فاكهة الصيف، أولها نضجاً يظهر عندنا بفاس في العشر الأواخر من أبريل. له أنواع كثيرة وألوان عديدة«. ومن الفاكهة الرمان: له أنواع كثيرة، فمنه الحلو، والحامض والمر، والمائي والعظمي، وله ألقاب وأسماء عند العامة بفاس، مختلف باختلاف أصنافه وأنواعه، فمن ذلك: السلطان ـ وهو أجودها وأرفعها ـ ثم السفري ـ وهو دونه ـ ثم الكلخي ثم ميمونة ـ وهي أعظم ثمار الرمان ـ ثم العظمي وهو أردأ أنواع الرمان وأقله. ثم يقارن الغساني بين أصناف الرمان في فاس ومراكش فيقول: »والرمان بمراكش كله جيد وليس فيه رديء، وهو نوع واحد: السفري، يعظم كثيراً كمثل ما يعظم صنف ميمونة عندنا بفاس« .
ومن الأشجار المثمرة السفرجل: »وأنواعه كثيرة. فمنه الحلو، والحامض، والطويل، والمدحرج، والمنهّد لشبهه بنهود الأبكار، وهو معروف كثير عندنا بفاس بالجنات والبساتين«. ومن الفواكه التي اشتهرت بها مدينة فاس التين، إذ يكثر الإقبال عليه طريّاً ويابساً حتى أن أهل فاس لا يكتفون باستهلاك إنتاجهم المحلي بل يقبلون على استهلاك ما يرد عليهم من البلاد المجاورة خصوصاً من بلاد غمارة. والتين أنواع كثيرة: فمنه الأبيض والأسود والأحمر. فالأبيض له أصناف وأنواع منها الودناكسي يلد مرتين في السنة باكوراً وتيناً، وهو أجود أنواع التين وأحسنها. والأسود له أنواع وأجناس، فمنها ما يلد إلا مرة واحدة في السنة، ولا يلد باكوراً وإنما يلد تيناً ـ وهو التين الشعري ـ وهو أجود هذا النوع من الأسود وأطيبه وأحسنه.. .
ولعل أكثر الأشجار انتشاراً في أحواز فاس شجرة الزيتون، التي اتسع غرسها منذ قيام دولة المرابطين، وتضاعف إنتاجها في أواسط القرن السادس الهجري. وهذا النمو في المساحات المخصصة لشجرة الزيتون كان الغرض منه مواكبة تضاعف الطلب على الزيتون ومشتقاته بعد النمو الديمغرافي الكبير الذي شهدته مدينة فاس في تلك الفترة. كما كان لازدهار حركة المبادلات التجارية على نطاق واسع، وتحول فاس إلى محور ومحطة أساسية في التجارة المحلية والدولية أثر كبير في الزيادة على الطلب، خصوصاً زيت الزيتون. والظاهر أن مكانة الزيتون في اقتصاديات مدينة فاس استمر نسبياً على المستوى نفسه في العهود التالية، إذ أن بعض الحوالات الحبسية من الفترة السعدية تتحدث عن وجود غابات من شجر الزيتون في ملكية الأحباس.
ويذكر الغساني أن الزيتون من الأشجار المعروفة في عامة بلاد المغرب وأنه نوعان: »بستاني وبري. فالبستاني يعظم كثيراً، وثمره أعظم من ثمر البري (…) وتسمى شجرة البري الزبوج«. ويميز أيضاً بين ثمر البستاني حسب درجة نضجه ولونه: فهناك الزيتون المدرك التام النضج، والزيتون الفج والياقوتي وهو المتوسط بين الفجاجة والنضج.
ويدلنا الغساني على بعض وسائل الري المستعملة في نواحي فاس. من ذلك استعمال النواعير والدواليب لسقي أحد أنواع الحناء الذي هو من جنس البقل النابت من بزره كل عام، وهو كثير بالجنات والولجات على ضفة نهر سبو، حيث يكثر استعمال هذه التقنية في السقي من الوادي. والناعورة هي عبارة عن دولاب دائري الشكل، يحمل أوعية ينزل بها إلى مستوى الماء عند بئر أو نهر ثم يرفع الماء ويقذف به في قناة توصل الماء إلى حوض حيث يتم توزيع الماء عبر قنوات للري. وعادة ما يحرك الدولاب حمار أو بغل.
تتوزع الأراضي الزراعية بمنطقة فاس بين أراض في ملكية خواص وأراض تدخل في إطار الملكية العامة، جزء كبير منها أراضي الأحباس، وجميع هذه الأراضي تتفاوت في مساحتها. والصنف الأول من الأراضي يوجد في كثير من الأحيان في ملكية تجار وفقهاء من سكان المدينة، يعهدون لفلاحين باستغلال تلك البساتين والجنات طبقاً لشروط خاصة. وتعرف مثل هذه القطع الأرضية بالعرصة.
ولقد كشف محمد مزين في دراسته لفاس وباديتها عن النظام الذي كان يميز استغلال هذه العرصات في العهد السعدي، ووقف على أسماء الأشخاص أو العائلات التي ينسب إليها عدد من تلك العرصات داخل المدينة وخارجها وفي المناطق المجاورة، وذلك اعتماداً على مجموعة من الوثائق والنوازل الفقهية.
ونجد في ثنايا كتاب الغساني إشارة إلى عرصتين تقعان داخل المدينة لم يرد ذكر لهما في الدراسة السالفة الذكر. وجاءت هذه الإشارة عند تعريف الغساني لنبات يعرف تحت اسم »دادي«، وهو من جنس الشجر العظام حيث يقرر قائلاً: »وقد رأيت منه شجرة واحدة عندنا بفاس بعرصة عائشة المرينية برحبة بني زناسن. وحدثني والدي ـ رحمه الله ـ أنه رأى أخرى بعرصة الطريفي من البلد المذكور« .
والظاهر أن أصحاب القطع الأرضية الزراعية كانوا يلجأون إلى وسائل مختلفة لرسم حدود ممتلكاتهم وحمايتها. من ذلك استعمال نباتات شائكة تكون حدّاً فاصلاً لأراضيهم. ومن أكثر تلك النباتات استعمالاً حسب الغساني نبات العوسج ذو الأشواك الطويلة الحادة الأطراف: »يغرس في الحدود بين الجنات والأرضين، وهو كثير عندنا بفاس بالمقابر والجبّانات« .
ولما كانت البساتين والجنات تعتبر قبلة مفضلة من طرف أهل فاس للنزهة والترويح على النفس، فإن أصحابها كانوا يغرسون بها أنواعاً من النباتات تضفي عليها جمالاً وبهجة، وتفوح منها روائح طيبة وعطرة. يقدم لنا الحسن الوزان وصفاً رائعاً للبساتين التي تنتشر في القسم الجنوبي من فاس ويذكر أصناف النباتات التي تحتوي عليها: كالبرتقال والليمون الحامض والأترج، وبالأزهار الجميلة كالياسمين والورد الدمشقي والوزال المجلوب من أوروبا الذي يستحسنه المغاربة كثيراً. وتزدان هذه البساتين بأروقة جميلة وصهاريج وأحواض يحيط بها الياسمين والورد وزهر الليمون. وعندما يمر المرء في فصل الربيع بجوار هذه الرياض، يشم نفحات عبقة منبعثة من كل جانب.
يطلعنا الوزان على أنه جرت العادة أن الأعيان »يقيموا بها (البساتين) من أوائل أبريل إلى نهاية شتنبر«.والظاهر أن أصنافاً متعددة من الأزهار والرياحين المغروسة بهذه الجنات كانت تقطف وتباع بدكاكين خاصة داخل المدينة، حيث يكثر الإقبال عليها، وهو ما يلمح إليه الوزان نفسه. ولعل أكثر تلك النباتات انتشاراً بفاس نبات الياسمين، المتخذ في البساتين وفي الدور أيضاً. ولما كان هذا النبات الذي هو من جنس التمنس، »يأخذ في التدويح أكثر مما يأخذ في الارتفاع«، فإنه كانت تستعمل عدة أساليب لتسهيل وتوجيه امتداده، وذلك بتهييء الخشب والقصب كما يفعل بالنسبة لدوالي العنب، أو جعله يمتد على أغصان الشجر. والنوع الأكثر وجوداً بفاس هو »الأبيض ذو أربع شرافات أو خمس، عطر الرائحة وأعطر ما هو في زمن الصيف« .
ومن جملة تلك النباتات أيضاً نبات يعرف لدى العامة بفاس بالحبق القرنفلي، له »رائحة ذكية عطرة، ينبت بالبساتين، يقوم على أغصان كثيرة متدوحة تفترش الأرض كالفسطاط في قدر شبر ونصف أو شبر، له زهر أبيض وورق كورق المردقوش« .
ويطلعنا الغساني على نبات آخر يتميز برائحته العطرة، وهو النسرين. وهو من أنواع »التمنس يتدوح كثيراً، وفيه شوك (…)، وزهره كزهر الورد الجبلي شكلاً وقدراً«. ويضيف الغساني أن هذا النبات »معروف ومشهور، منابته الجنات والعراص، زكي الرائحة طيب الشمة«.
وهناك نباتات تضفي جمالاً وبهجة وتسر الناظرين، أحدها يعرف عند العامة بفاس بالقزقاز يكثر بالجنات والأماكن الرطبة والسياج، يتخذ في البساتين لجمال منظره.
ومن الأنشطة المرتبطة بالفلاحة والتي ازدهرت بفاس ونواحيها تربية المواشي والأغنام والدواجن، وذلك لحاجة السكان الطبيعية للحوم والألبان ومختلف مشتقاتها. ويندرج ضمن النشاط نفسه العناية بالدواب الخاصة بالركوب والضرورية للنقل وحمل الأثقال. إن جزءاً كبيراً من هذه الأنشطة كان يقوم عند مشارف المدينة وجزء منه داخل المدينة. ولقد ساعد على ازدهار هذه الأنشطة توفر المراعي الجيدة قريباً من المدينة وفي الجبال المجاورة، وذلك عبر كل فصول السنة وحتى في فصل الصيف الحار والجاف. ونجد عند الغساني معلومات تؤكد هذا الأمر. من ذلك مثلاً نبات النَّفَل (حركة الفتحة على النون والفاء)، وهو من أنواع البقل المستأنف كل سنة. وجميعها حسب الغساني تعد غذاء ومرعى مفضلاً للدواب والبهائم. وهذا النبات »دقيق الورق ينبسط على الأرض كالطنافس والزرابي (…)، منابته المروج في زمن القيظ. وهو كثير عندنا بفاس في ضفة وادي الجواهر خارج مدينة الملك من حضرة فاس المحروسة« .
ومن النباتات التي تقبل عليها الدواب النبات الذي أشرنا إليه سابقاً والمعروف لدى العامة بفاس ببوعقاد، إذ تأكله الدواب وتحبه وتربي عليه لحماً وشحماً. وهذا النبات يكثر بالجنات والمواضع الرطبة والقيعان وقرب المياه، وهي شروط تتوفر في جهات مختلفة من أحواز فاس لكثرة العيون والأنهار بها. كما أن هناك نباتاً كالزرع له سنابل يعرف بالبهمي عند العامة بفاس: »وهو في أول نباته يضر بالبهائم والإبل والدواب. فإذا جف ويبس، نفعها وسمنها... «. ومما يفيدنا في تأكيد حيوية هذا القطاع إشارة غير مباشرة نجدها لدى الغساني تدل على كثرة الإسطبلات ومرابض الماشية بالمدينة وضواحيها، وذلك عند تعريفه بنبات يعرف بالخبازي وهو من أنواع البقل، مشهور عند العامة، يسمونه البقول. هذا النبات »كثيراً ما ينبت بقرب الأنهار والسياجات وسواقي الماء ومرابض الغنم والبقر، وفي الخرب والدمن والمزابل«.
ومن جملة النشاطات المرتبطة بالفلاحة التي ازدهرت بفاس في تلك الفترة تربية دود الحرير. ووجود هذا النشاط نستشفه من بعض الإشارات غير المباشرة من طرف الغساني. من ذلك مثلاً ذكره لوجود صناعة أطباق دود الحرير بفاس والتي تقوم على استغلال مادة القصب، خصوصاً منه الرقيق المعروف لدى العامة بالمدينة بقصب الريح، والموجود بكثرة في أحواز فاس. ثم نجد إشارة ثانية في مادة شجر التوت حيث يبين الغساني أن الصنف البستاني من هذه الشجرة هو المعروف لدى العامة بفاس بتوت دود الحرير، وهو أبيض وأسود.
إنه يصعب حصر النباتات التي يقوم الفلاحون بغراستها في البساتين والعراص التي توجد بفاس وأحوازها؛ كما أنه يصعب تحديد كافة الأسباب التي تدفع هؤلاء الفلاحين إلى اتخاذ نباتات وتعهدها دون أخرى.
وواضح أن الرغبة في الربح عن طريق بيع فائض الإنتاج تأتي في المقام الأول، وتندرج في هذا الإطار كافة أصناف الحبوب والقطاني والفواكه والخضار التي ذكرنا نماذج منها. ولكن لا ينبغي أن ننسى أن هناك من النباتات ما يمكن أن يجني منه الفلاح أرباحاً لا يستهان بها، خصوصاً تلك التي تستخلص منها مواد تستخدم في بعض الصناعات والحرف، أو مواد تستخدم للزينة والعناية بالشعر والبشرة أو توابل في تهييء الأطعمة أو حفظها، أو مواد ذات منافع طبية. وهذه الخاصية الأخيرة هي أصلاً تشمل جل المواد التي يوردها الغساني في كتابه.

بالتوفيق 2013-06-23 13:04

رد: حديقة الأزهار في ماهية العشب والعقار للغساني
 
الجزء السابع

2 ـ الصناعة
لا يخلو كتاب "حديقة الأزهار" من معلومات طريفة ومهمة حول ارتباط الصناعة والحرف بفاس بمجالها الجغرافي. وهذا الأمر ليس بجديد: فلقد كانت مميزات هذا المجال منذ وقت مبكر مساعدة إلى أبعد الحدود على ازدهار النشاط الحرفي والتجاري بما يوفره من موارد ومواد أولية متنوعة، نجحت العناصر البشرية التي استوطنت المدينة في استغلالها والإبداع في تحويلها وتصنيعها. هذه الموارد تتمثل أساساً في وجود عنصر الماء بوفرة ممثلاً في وادي فاس والعيون المتعددة والمطردة التي تزخر بها المدينة. فعنصر الماء كان أساسياً في تحريك الرحى، وعاملاً مساعداً في نمو حرفة الدباغة والصباغة مثلاً. كما أن التنوع في التضاريس والتربة والغطاء النباتي سمح بتوافر مواد أولية مختلفة سهلة التناول، كالجبص والرمال والحجارة المستعملة في البناء، أو الصلصال المستعمل في صناعة الخزف. ثم الموقع الجغرافي الاستراتيجي الذي كان يستقطب أغلب خطوط التجارة المحلية والدولية والذي كان يسمح بجلب المواد المفقودة في عين المكان ويفتح آفاقاً كبيرة لتصدير المنتوجات المحلية. ومن دون شك إن كل هذه العناصر والمميزات لا يمكن إلا أن تدفع عجلة الصناعة والتجارة في فاس إلى الأمام، خصوصاً في فترات الاستقرار السياسي والاجتماعي، وانعدام الكوارث الطبيعية والأوبئة التي تؤثر سلباً في التوازن الديمغرافي.
إن المعلومات التي توفرها المصادر حول قطاع الصناعة بفاس منذ العصر الوسيط قليلة لا تسمح بمعرفة كافة المواد المعدنية المستعملة وطرق تصنيعها. وفي كثير من الأحيان، فإن تعرُّف بعض المصنوعات المعدنية يكون بطريقة عرضية. كما أن المعومات التي تقدمها المصادر تركز على المعادن النفيسة كالذهب والفضة أو معادن كانت استعمالاتها كثيرة كالحديد والنحاس وتغفل معادن أخرى ولا تذكرها إلا عرضاً. ولقد انعكست طبيعة هذه المعلومات على الدراسات التي اهتمت بالموضوع، فتميزت بالعمومية وحاولت سد الثغرات من خلال توظيف معلومات تخص القطاع نفسه، ولكن في مدن وبلاد أخرى كالأندلس مثلاً. ومن جملة المعادن التي كان اهتمام الباحثين بها قليلاً أو منعدماً مادة الرصاص والقصدير. فالغساني يشير إلى تصنيع هذين المعدنين بفاس، حيث كانت تشكل منهما صفائح يتم صباغتها بلحاء يستخرج من أصول شجرة تعرف باسم »أزرغنت« باللسان البربري، وهو شجر البرباريس من نوع العوسج. وهذه الشجرة تنبت كثيراً بجبال بني زينة، ومنها يجلب إلى مدينة فاس. ويذكر الغساني أن والده حدثه »أنه وقف عليه ورأى شجرته بموضع يقال له سليلجو على مقربة من ضريح الولي الصالح سيدي يحيى بن بكار ـ رحمه الله ـ من عمل فاس« .
ووردت في كتاب "حديقة الأزهار" إشارة إلى صناعة تزويق الكتب مثل المصاحف والكتب الدينية القيمة أو غيرها، وهي صناعة عريقة شجعها الحكام والأمراء وكبار الأثرياء الذين كانوا يتنافسون في اقتناء نسخ جميلة من القرآن والكتب النفيسة من شتى العلوم والآداب ويودعونها في مكتباتهم الخاصة.
ومنذ القرن السادس الهجري برزت أسماء في هذا الميدان بمدينة فاس، نذكر منها أبو الحسن يحيى بن محمد القيسي القرطبي ثم الفاسي مُسْتَوْطَناً المعروف بابن الإشبيلي حيث وصف بأنه من أهل الخط والتذهيب. ويدلنا الغساني على مادة تدعى: أُشَّق (ضم الهمزة، والشين مشددة مع الفتحة)، وهو »صمغ الكلخ (...) ويقال له لزاق الذهب، لأن به يلصق الذهب في القراطيس في فواتح سور القرآن والتراجم وأسماء الله تعالى وأسماء نبيه سيدنا محمد r. ويعرف عندنا بفاس بفاسوخ الوشق«.
ومن الصناعات التي شهدت تطوراً كبيراً بفاس منذ عهد المرابطين النجارة، وذلك لتوافر مادة أولية متنوعة في الغابات القريبة من فاس. فكانت هناك أصناف من الخشب تتميز بصلابتها لفترات زمنية طويلة تستعمل في تدعيم وبناء السقوف والأبواب. ولعل الصنف الذي كان أكثر استعمالاً: خشب الأرز. فابن أبي زرع يذكر أنه »على مسيرة ثلاثين ميلاً من فاس جبال بني يازغة حيث يقطع خشب الأرز فيجلب إلى المدينة منه في كل يوم ما لا يحصى كثرة«. وهذا الخشب كان يستعمل في بناء سقوف الدور التي أكثرها من عدة طبقات و»يعمر العود منه في سقف البيت ألف سنة لا يعفن ولا يسوس ولا يعتريه شيء ما لم يصبه ماء«. وفي مكان آخر يدلنا هذا المؤرخ نفسه على أصناف أخرى من الخشب المستخدمة في صناعة النجارة بفاس، وذلك عند حديثه عن منبر جامع القرويين الذي تم تجديده في عهد المرابطين: »وصنع المنبر الذي به الآن من الأبنوس والصندل والعاج والنارنج والعناب وأصناف الخشب العظيم« .
ويدلنا الغساني على استمرار استعمال المواد نفسها في الفترة السعدية، بل يعرفنا بأصناف أخرى لا تقل أهمية. فهو يذكر مثلاً خشباً يعرف عند العامة بفاس باسم »العرعر«، وهو من جنس الشجر المشوك ومن الشجر العظام، لون خشبه يميل إلى الحمرة كخشب العذاب، وهو »عطر الرائحة تصنع منه الأواني والجفان« . ويطلعنا الغساني أيضاً على بعض الاستعمالات الأخرى لخشب الأبنوس في مجال النجارة. وقبل ذلك، يدلنا على الاسم الذي تطلقه العامة على هذا الصنف من الخشب: »يعرف عند العامة بفاس بـ"اليابنوز" (بياء وزاي). وبالعربية الفصيحة "الساسم"، وبالبربرية "ايسغارن انيسمشان"، معناه: حطب السودان، وبعضهم يقولون: "إيسغارن يزان"، أي العود الأسود«. إن هذه المعلومات اللغوية النادرة تدلنا على مدى حرص هذا العالم الأندلسي الأصل على الإحاطة بكافة العناصر المتعلقة بميدان تخصصه حتى اللغوية منها، لأنها تعبر عن تعدد العناصر المشكلة للثقافة السائدة وما تحمله من تعدد في الخبرات والتجارب. وحول الخشب نفسه يذكر الغساني معلومات إضافية تعبر عن دقة ملاحظاته وخبرته بدقائق الأمور: »ولونه أسود شديد السواد، فيه ملامسة وبراقة يحسبه الناظر قرناً محكوكاً، أجوده ما كان رزيناً إذا وضع في ماء غاص فيه وغرق. يصنع من خشبه حقاق وأوعية، وترصع به المنابر والكراسي، يغش بخشب البطم إذا صبغ«. ومن جملة أصناف الخشب المتوافرة بمنطقة فاس والتي تستخدم لأغراض مختلفة: الطرفاء، وهو من الشجر العظام، ومن أنواعه الأثل: ولون خشبه أحمر كالبقم تصنع منه الأواني والقصع والجفان، ويسمى النضار؛ والنضار كل خشب أحمر تصنع منه الأواني. ويسمى عندنا بالمغرب ـ في فاس ومراكش وما والاهما من القرى والمداشر ـ بتكاوت، تدبغ بثمره الجلود وتصنع منه الأمدة للكتابة .
والواضح أن صنعة النجارة كانت تعرف عدة تخصصات لها علاقة بطبيعة المادة المستعملة وطرق تصنيعها والأشياء المصنعة. ومن هنا نجد حرفاً تتفرع عن النجارة كالتزويق والخراطة. والغساني يحدثنا عن سوق بفاس للخراطين، من بين ما يختصون بصنعه »الحقاق ونواعير فتل الحرير وغزل الصوف وأفلاك المغازل«. وهم يعتمدون في ذلك على خشب الدفلى، خصوصاً النهري منه: »ينبت في الخنادق الرطبة من الجبال وغيرها وعلى شطوط الأنهار، وهو كثير معروف عند الناس (...) وله خشب أبيض خوار...«.
أما القصب، فهو أيضاً من المواد المتوافرة بكثرة في أحواز فاس. وهو أنواع تختلف من حيث رقتها أو قصرها، ومنها ما هو »كثير اللحم صلب متلزز يسمى بـ"القَشّ" (حركة الفتح على القاف) تصنع منه الأقلام والسهام، ومنها ما هو قليل اللحم رقيق سريع الانكسار يقال له "قصب الريح" عند العامة بفاس، تصنع منه الحصر وأطباق دود الحرير«. وهناك نبات آخر تتخذ منه الحصر أيضاً وهو »الأسل« والمعروف بـ»السمار« الذي ينبت بالمروج.
يجب التنبيه على أن الغساني عرض لمجموعة من النباتات التي اشتهرت بها منطقة فاس دون أن يقوم بتحديد أماكن وجودها أو بعض وجوه استعمالاتها غير الطبية كما تعودنا منه ذلك في مواطن متعددة من كتابه. فهو في عدة مواضع يكتفي بالإشارة إلى شهرة النبات وأنه معروف لدى العامة، وذلك تجنباً منه للإطالة. والحقيقة أن هذا الاختصار يحرمنا من معلومات قلما نجدها في مصادر أخرى. ولكن من حسن الحظ أن الحسن الوزان يغطي جانباً من ذلك النقص بذكره مثلاً للاستعمالات الصناعية لمجموعة من تلك النباتات التي كان حديث الغساني حولها مقتضباً. ونورد هنا نموذج شجر التوت والجوز والعناب والليمون. فالوزان عند وصفه لبعض أسواق فاس، ذكر أن: القباقب التي ينتعلها الأعيان عندما تكون الأزقة موحلة (...) تصنع هذه القباقب عادة من خشب التوت الأسود أو الأبيض، وقد تصنع من خشب الجوز والليمون والعناب. والقباقب المصنوعة من هذين النوعين الأخيرين من الخشب أكثر جمالاً وأناقة، لكن التي تصنع من التوت تدوم مدة أطول .
ومن الصناعات التي ازدهرت في فاس منذ العصر الوسيط صناعة الحياكة، حيث أحصيت بها في مطلع القرن السابع الهجري/ القرن الثالث عشر الميلادي قرابة ثلاثة آلاف موضع لهذه الحرفة. والظاهر أن هذه الحرفة تراجعت نتيجة الأزمات التي مرت بها المدينة في أواخر الدولة المرينية، حيث يذكر الحسن الوزان بخصوص مطلع القرن العاشر الهجري/ السادس عشر الميلادي أن عدد دور النساجين بفاس كان عشرين وخمسمئة دينارٍ، ثم يقرر أن هذه هي الصناعة الرئيسة بفاس إذ أنها تكفل العمل لعشرين ألف عامل. ولقد كانت الدور الخاصة بالحياكة تستقبل ما يرد عليها من صوف وقطن وكتان خام وحرير، وتقوم بتصنيعه بعد أن يمر بعمليات مختلفة إلى أن يأخذ شكل خيوط متعددة الألوان ومتفاوتة الجودة، قابلة لنسجها حسب رغبات التجار والزبناء. ومن أهم العمليات التي يمر بها الصوف الخام عملية التنظيف التي كانت تستعمل فيها مواد خاصة مضافة إلى الماء تساعد على إزالة الأوساخ العالقة بالصوف. ويذكر الغساني من بين تلك المواد نباتاً يعرف بسعوط الدواب، و»يسمى عند العامة بفاس وغيرها من مدن المغرب بـ"تغيغشت"، وهي العروق التي يغسل بها الصوف للتنقية والنظافة«.
واستخدمت عدة مواد نباتية في صباغة الصوف منها مادة تستخلص من شجرة تعرف بـ»الصفيراء«: »وهو خشب يجلب إلينا يستعمل في صبغ الثياب والصوف، معلوم عند الصباغين، معروف مشهور بالصفيرا« .

بالتوفيق 2013-06-23 13:05

رد: حديقة الأزهار في ماهية العشب والعقار للغساني
 
الجزء الثامن

3 ـ التجارة
نشطت الحركة التجارية في فاس في الفترة السعدية، خصوصاً في عهد أحمد المنصور الذهبي الذي يمثل أوج الدولة السعدية وقمة نشاط العلاقات التجارية الداخلية والخارجية، وذلك نتيجة للإصلاحات التي قام بها، ورفعه لعدد كبير من المكوس والضرائب التي كانت تفرض على السلع في المراسي وعلى أبواب المدن. ولا يخلو كتاب "حديقة الأزهار" من معلومات حول واقع الحركة التجارية بفاس إبان هذه الفترة التي عاصرها الغساني. وهي معلومات تهم جوانب مختلفة، نذكر منها أولاً وجود صلات تجارية بين فاس وبلاد مختلفة، خصوصاً بلاد السودان وبلاد المشرق وحتى بلاد الروم. وهذه الإشارات هي بمثابة قرائن تدل على أنه بالرغم من التوتر الذي طبع العلاقات السعدية بالأتراك في المغرب الأوسط أو العلاقات مع السودان في فترة من الفترات، فإن ذلك ـ على ما يبدو ـ لم تكن له آثار عميقة. ففاس ظلت تستقبل عدداً من المواد التي كانت تجد لها سواقاً رائجة خصوصاً في العطارين ولدى الصيادلة، وإن بكميات أقل في فترات التوتر الحادة، مما ينعكس على الأسعار ويجعلها ترتفع.
ترد على فاس من بلاد السودان مواد متعددة، نذكر منها: »جوز الزنج«: » يؤتى من أرض السودان، ويسمى عند العامة بفاس وغيرها "جوزة الشَّرك" (التشديد والفتحة على الشين)، لها ثمرة في قدر جوزة الأكل، في داخلها بزر كالقاقلة الصغيرة، لونه أحمر إلى السواد وطعمه كالخلجان أو الزنجبيل، بل أمرّ منهما« . وفي مكان آخر يطلعنا الغساني على مادة تدعى بخروب السودان من جنس الشجر العظام التي لم يذكرها ـ حسب المؤلف ـ »أحد من الأطباء القدماء والمتأخرين إلى هلم جرا، وإنما استخرج بعدهم«. ولم يكتف صاحبنا بتعرُّف ثمرة هذه الشجرة عند باعة العطور، بل سأل عنها بعض التجار الثقات الذين يذهبون إلى السودان، فحدثه أحدهم بأن »شجرته تشبه شجرة النارنج شكلاً وورقاً، ولا تمتاز عنها إلا بثمرها (...) وهذا الثمر هو الموجود عندنا بالمغرب، يعرف عند العامة بالكورو (بكاف تحته ثلاث نقط)«.
ويضيف الغساني معلومات مهمة عن بعض الأساليب التي كان يستعملها أصحاب القوافل التجارية لحفظ المواد التي ينقلونها خلال المسافات الطويلة التي يقطعونها والظروف الشاقة التي يجتازونها، فيقول عن الكورو: منابته بالسودان بموضع هناك (...) ينطوي على معادن الذهب والتبر، ومنها يجلب إلينا في أوعية مشدودة بورق وسوافط محكمة الشدة والرباط لئلا يجف ذلك الثمر وييبس وتذهب رطوبته، ويعالج في تلك الأوعية بالماء، لا بقليله ولا بكثيره، حتى يصل إلينا ولأقطار البلاد غضاً رطباً كأنما قطف من يومه... .
ومن المواد التي ترد على فاس الأسارون و هو من جنس اللبلاب، مشهور عند الأطباء معروف (...) أجوده ما جلب من الصين وبعده الأندلسي، وخيره ما جمع بناحية الجزيرة الخضراء؛ ويعرف عندنا بفاس بآسرون (بهمزة ممدودة وألف بعدها) موجود عندنا بسوق العطارين بها مشهور معروف عند باعة العطر.
ومن مواد الطيب التي ترد على فاس أيضاً: الأذخر، وهو من جنس الديس ومن أنواع الأسل (...) كثيراً ما ينبت بأرض بابل ـ وهو أجوده ـ وبأرض الحجاز، وبمكة المشرفة وأرض العرب (...)، وعندنا بالمغرب بناحية مكناسة الزيتون؛ ويسمى عندنا بفاس باسمين: »أحدهما الأذخر، والآخر تبن مكة، بالإضافة إليها... «. ومن ذلك أيضاً: بلاذر وهو »ثمر شجرة تنبت بأرض الهند والصين، وقد توجد بصقلية عند جبل النار، وهو يشبه القسطل لوناً وشكلاً، (...) وقد شاهدته ورأيته بسوق العطارين في فاس«.
ويطلعنا الغساني على مادة كانت تصدر إلى بلاد الروم، إشارة من دون شك إلى بلاد أوروبا عموماً والمدن الإيطالية على الخصوص، وهذه المادة من جنس الفطر يعرف باسم أغاريقون. فالنوع الأبيض من هذا الفطر والأنثى بالتحديد، يذكر الغساني أن فيها رخواً و»هشاشة وتفرك بسرعة، وهو في قدر جمجمة الإنسان، مدحرج الشكل كأنه ثؤلول عظيم، ينبت في أعلى شجرة الأرز«. ثم يضيف »وكثيراً ما ينبت عندنا بالجبل الكبير من جبال الفحامين خارج مدينة فاس، ومنه يحمل إلى سائر البلاد وإلى بلاد الروم«.
وترتبط فاس بصلات تجارية وثيقة مع كافة جهات المغرب، وذلك أنها بموقعها الجغرافي المتميز كانت تعتبر قاعدة بلاد المغرب ومحطة أساسية في خطوط المواصلات التي تربط جنوب المغرب الأقصى بشماله، وغربه بمشرقه. ولقد اشتهرت مكناسة الزيتون في حياة الغساني بزراعة نبات القنب. وكانت كميات منه توجه إلى فاس حيث يستخدم في صنع الشرائط والحبال، وذلك بعد تجفيف القنب وتيبيسه ومرسه ونفضه كما ينفض الكتان. ومن الجهة نفسها كان يجلب إلى فاس الأنيسون، ويعرف عند العامة بحبة حلاوة، و»كثيراً ما يستعمل منه بزره، وأجوده ما كان رزيناً كبير الحبة حديثاً لا يتقشر قشراً شبهاً بالنخالة«. ويطلعنا الغساني على مادة ترد على فاس من واحات سجلماسة، وتعرف تحت اسم »ترنجبيل«، ومعناه »"عسل الندى" (...) وأكثر ما ينزل من السماء على شجر النخل بناحية سجلماسة، ومنها يجلب إلينا، وأجوده الأبيض الشبيه بالجلاب«
ومن جملة الفوائد ذات الطابع التجاري التي يتضمنهاكتاب "حديقة الأزهار"، وصفه الحي لأساليب بيع بعض الفواكه فور ظهورها ووصولها إلى أسواق فاس الخاصة بمثل هذه المواد. من ذلك إشارته إلى أنه عند ظهور الكمثرى والأجاص في زمن الصيف، فإن الباعة يضعونه على موائد تم تزيينها بورق نبات يعرف بالخطمي، وهو من البقل. وذلك الورق يشبه ورق الخبازى، يعرف عند العامة بفاس بورد الزوان. وبهذه الطريقة يجلب الباعة الزبناء، ويعملون على سرعة نفاد الفواكه المعروضة. ويشير الغساني إلى أن نبات الخطمي يتخذ في البساتين والجنات والعراص للزينة.
ويطلعنا الغساني على ظاهرة أخرى تقع بأسواق الخضر والفواكه بفاس عند أواخر فصل الخريف من كل سنة، وهي قدوم بربر غمارة بأنواع الفاكهة. ومن ذلك السفرجل الذي يجينون به في أوعية مغطاة بورق السرخس. وهذا النبات ينمو بكثرة في الجبال الكثيرة المياه وقرب العيون، وهو كثير بجبال غمارة. ويقوم هؤلاء البدو بعرض بضاعتهم على موائد في إحدى رحاب المدينة المخصصة لذلك، وببيعها مباشرة للزبناء دون اللجوء إلى تجار وسطاء من أهل المدينة. واللاَّفت للنظر في هذا الأمر هو أن هؤلاء البربر إذا »قضوا مآربهم وباعوا ما في تلك الأوعية، نبذوه [ورق السرخس] وطرحوه وألقوه بالطرق وشوارع السوق يطأه الناس بأقدامهم«.
ووردت في كتاب الغساني إشارة إلى أن هناك نباتاً »كثيراً ما يباع عندنا بالملاح عند باعة اليهود«، وهو الترمس. وهو من جنس البقل أو من نوع الكفوف، وأصنافه كثيرة. وهذا الخبر فيه ـ من دون شك ـ إشارة إلى اشتغال عدد من اليهود بمهنة الطب والصيدلة وبيع الأعشاب والعقاقير الطبية في الحي الخاص بهم بفاس الجديد. وهذا، إلى جانب سوق العطارين بفاس العتيقة والذي كان يضم دكاكين الأطباء والصيادلة وباعة الأعشاب والعقاقير أيضاً.
إن النشاط الاقتصادي الكبير الذي كانت تشهده مدينة فاس، كانت تحكمه عادة ضوابط وقيم يحرص المحتسب بتعاون مع أمناء الحرف والأسواق على أن تحترم ويعاقب من يخالفها. ولكن لم يمنع هذا من حدوث أنواع من التدليس والغش في بعض المعاملات التي تجري في خضم الحركة الدائبة التي تعرفها كافة الأسواق. وكان أكثر الناس تعرضاً لعمليات التدليس الغرباء والأشخاص الذين ليست لديهم الخبرة الكافية للتمييز بين الأشياء وتقدير القيمة الحقيقية لكل سلعة على حدة، ومعرفة درجة جودتها بالنظر إلى طبيعة المواد المستعملة في صناعتها.
ويدلنا الغساني على بعض طرق الغش التي كانت تعرفها حرفة النجارة. من ذلك أن خشب الأبنوس الذي هو من المواد النفيسة التي ترصع بها المنابر والكراسي، كان »يغش بخشب البطم إذا صبغ«. وينبه الغساني إلى طريقة معرفة الأبنوس الأصيل »بالرائحة والمذاق، لأن رائحة الأبنوس طيبة عطرة، ومذاقه يلذَعُ اللسان، وليس كذلك البطم« .
ويذكر الغساني نموذجاً آخر للغش في مجال بيع الأعشاب، لا يمكن أن يتبينه إلا من له دراية كبيرة بالخواص الدقيقة للأعشاب. ويتعلق الأمر بنبات اسمه السنا، وهو على ما يبدو من العطور المستوردة التي تنسب إلى الأماكن المقدسة بالحجاز فيقال: »سنا حرمي« و»سنا مكي«. وحسب المؤلف، فإن »السنا معروف عندنا بفاس، موجود عند باعة العطر والصيادلة، له ورق كورق السدر وبه يغش«.

بالتوفيق 2013-06-23 13:12

رد: حديقة الأزهار في ماهية العشب والعقار للغساني
 
الجزء التاسع

الدلالات الاجتماعية
من الخصائص الفريدة التي تميزت بها مدينة فاس تركيبتها السكانية المتعددة الأصول والعناصر. فإلى جانب سكانها الأوائل من البربر والعرب، فإنها في فترات مختلفة من تاريخها، منذ تأسيسها وإلى حدود ظهور دولة السعديين، كانت قبلة لعدة هجرات من إفريقية والأندلس ومن تلمسان ومن البدو، ومن عائلات تنتسب إلى مدن مغربية أخرى. وعلى العموم، فإن الهجرات الأولى كانت لها في كثير من الأحيان آثار إيجابيّة على المدينة، لأنها طعمتها بعناصر ذات خبرات علمية أو حرفية إلى جانب عادات وتقاليد في الملبس والمأكل أغنت تقاليد أهل فاس وتفاعلت مع المكونات الأخرى ذات الأصول البربرية والعربية. ومن دون شك أن مما ساعد على اندماج كافة تلك العناصر وبلورتها لحضارة وتقاليد متميزة أن أغلب تلك الهجرات حدثت في فترات كانت فيها المدينة تملك القدرة نسبياً على استيعاب جزء كبير من المهاجرين وإدماجهم في النسيج الاجتماعي والاقتصادي والثقافي وجعلهم يساهمون في بناء وتدعيم موقع المدينة على شتى المستويات.
والظاهر أن هذه القدرة ضعفت في أواخر عهد الدولة المرينية بفعل تردي الأوضاع السياسية والاقتصادية والعسكرية وتوالي سنوات الجفاف والأوبئة. وتراجع دور مدينة فاس على المستوى السياسي وضعفت مؤسساتها التعليمية واضطربت مؤسسة الأوقاف والأحباس وعجزت عن الأخذ بيد الفئات الفقيرة من سكان المدينة أو المستوطنين الجدد الذين لجأوا إليها هرباً من الجوع والمرض من البوادي المجاورة، أو من قمع المسيحيين في الأندلس. ولقد ترتب على هذه التحولات بروز اختلالات في المجتمع وبروز ظواهر اجتماعية تعبر عن الفقر والحرمان والجهل الذي أضحت تتخبط فيه فئات من المجتمع. وبعض هذه الظواهر السلبية سيظل قائماً، بالرغم من قيام الدولة السعدية وسنها لمجموعة من الإصلاحات، وذلك لأن فترات الاستقرار والقوة كعهد أحمد المنصور الذهبي لم تدم طويلاً، ولم تلبث أن عادت الصراعات والفوضى من جديد.
وكما عكس الغساني في كتابه بعض مظاهر الانتعاش الذي شهدته بعض القطاعات الاقتصادية، والتي أشرنا في الفقرات السابقة إلى نماذج منها، فإنه من جهة أخرى عكس بعض الاختلالات الاجتماعية والظواهر السلبية التي برزت وتفشت في فاس أكثر من أي وقت مضى. ومن الظواهر الاجتماعية الخطيرة التي يقرر الغساني انتشارها واستفحالها في القرن العاشر الهجري في مناطق مختلفة من المغرب ومدينة فاس أيضاً، ظاهرة التعاطي للحشيش والتي عمت شرائح اجتماعية من مختلف الأعمار وكلا الجنسين معاً. والحقيقة أن هذه الظاهرة ليست بالجديدة، ولعلها انتقلت من المشرق إلى المغرب: فالبادسي يذكر قدوم أحد »الفقراء« من المشرق لزيارة أحد شيوخ التصوف بسبتة ومعه جراب من ورق القنب، فخاف أن يدخل على الشيخ بشيء محرم فأخفاه. وينقل البادسي أن الشيخ علم بمكان الجراب فأمر أحد خدامه بأخذه وقذفه في البحر. ويصرح أحد الدارسين بأن تناول الحشيش انتشر منذ القرن السابع الهجري في أواسط بعض رجال التصوف الذين استعملوها لزيادة الحماس الذي تذكيه الأذكار الصوفية.
ويوضح الغساني أن ورق القنب المأكول للإسكار يسمى عند العامة بالحشيش، ثم يستنكر قائلاً: »وقد عمت البلوى في هذا الزمان الكثير من الفواحش والمناكر بكثرة أكله والاشتغال به عند الرجال والنسوان والشبان والصبيان، وفحش ذلك فيهم واتبعوا أهواءهم إلا من عصمه الله« .
ويؤكد الغساني تفشي ظاهرة مشينة لا تقل خطورة عن الأولى وهي ظاهرة البغاء والسحر، وهو أمر سبق للوزان أن أشار إلى وجوده في أحياء وفنادق من مدينة فاس. وجاء ذكر الغساني لهذا الموضوع عند تعريفه لنبات الخطمي، وهو نوع من البقل الذي يكثر غرسه بالجنات والعراص بفاس بقصد الزينة. يطلق عليه بعض العامة اسم »ورد الزناة والزواني (جمع زانية)، لأن البغايا يستعملنه في أعمالهن من الإيلاف والاختلاف على طريق السحر« .
كما يتطرق الغساني في كتابه "حديقة الأزهار" إلى بعض المعتقدات السائدة في أواسط العامة والتي تتصل ببعض الأعشاب أو الأشجار. من ذلك مثلاً: نبات يعرف باسم ذنب الخيل، »وهو من جنس الهدبات له ورق طويل كالقضبان في رقة الحبل، وهو معروف عندنا بفاس مشهور. وتزعم العامة أن من استدبر شجرته وألقاها وراء ظهره وشد يديه من خلفه وعقد عقدة في هدباتها، فإن ذلك ينفعه من وجع ظهره« . وهناك نبات آخر ينمو في وسط فصل الخريف له نور أصفر يسمى عند أهل فاس بالمخبر والمديلكة، وهو »عند الناس سمة وعلامة على العام الخصيب الطيب يتفاءلون بكثرة زهره« .
كما وردت عند الغساني أخبار تتصل ببعض أوضاع المرأة في تلك الفترة والتعريف ببعض اهتماماتها وهمومها. من ذلك اهتمامها بزينتها وقيامها بشؤون البيت كتهييء الطعام والسهر على نظافة المسكن وزينته. يذكر المؤلف استعمال النساء لزلائف العكر لزينتهن. وجرت العادة أن تلك الزلائف تصبغ بمادة تستخلص من نبات يزرع بجنات فاس يعرف لدى عامتها بالعصفر، وهو القرطم البستاني.
ويتحدث المؤلف عن نوع من البخور كانت النساء يستعملنه في بيوتهن. وأصل هذه البخور نبات دقيق الورق يعرف بـ»سرغينة«. ويذكر الغساني أن الأطباء اختلفوا فيه: »قيل هو بخور مريم وقيل بخور السودان، وقيل بخور البربر وهو الصحيح«. ثم يضيف المؤلف أن مادة البخور هذه تستخلص من أصل النبات »وهو على صورة الجزرة، أصهب، عطر الرائحة، فيه رطوبة لا يندق سريعاً إلا إذا جفف بالنار (...) ويعرف عند العامة بالمغرب بتاسرغنت، معروفة يتخذها النساء للبخور«. ومن الأعمال التي تتسلى بها نسوة فاس العناية بمجموعة من النباتات التي يغرسنها في أشقاق الجرار والمراجل على سطح الدور، خصوصاً الأحباق وأنواع الخيري. فلقد كانت أغلب الدور تتألف من طابقين ولها سطوح مستوية ليسهل نشر الغسيل والنوم فيها صيفاً. كما جرت العادة أن يبنى في السطوح »منتَزَه يشتمل على عدة حجيرات فسيحة ومزخرفة جداً، تتسلى فيه النساء عندما يتعبهن العمل، إذ يستطعن من هناك أن يشرفن على المدينة كلها«.
ومن أشهر الأحباق التي كانت النساء يغرسنها نبات »يعرف عند العامة بالمرددوش، له ورق كأذن الفأر ولون أخضر مائل إلى الغبرة، وله قضبان رقاق غبر... «. وعادة ما يغرس النساء نباتات تفوح منها روائح عطرة. من ذلك مثلاً الخيري الأزرق والأصفر، وهما يتميزان ببهاء نورهما وبطيب رائحتهما التي تنبعث منهما بالليل، خصوصاً عند هبوب نسيم السحر، فسمي لذلك بنفسج الليل. وقد ذكر ابن الخطيب السلماني هذا النبات في إحدى موشحاته الجميلة فقال:
بنفسج الليل تذكى وفاح ووشـــى الـبـطــــاح أظـنه يسقـى بمسك وراح
ويذكر الغساني أن لهذا النبات أسماء أخرى غير هذه وأنه »يغرس بالجنات والعراص والبساتين لطيب رائحته« . ولعل أخطر اللحظات التي تمر بها عدد من النساء في حياتهن بعد الزواج، عملية وضع الجنين بعد الحمل. إذ كانت النساء يقدمن على تناول أي شيء أو فعل أي شيء يمكن أن يخفف آلام الوضع. ومما يذكره الغساني في هذا المجال نبات يعرف بشجرة الطلق، وهو عبارة عن دويح صغير متشنج إذا ألقي في الماء لان، وكانت المرأة الحامل التي تسقى ماء نقع فيه ذلك النبات وهي »في حالة الطلق ولدت وأطلقت الولد سريعاً، ولذلك سميت شجرة الطلق«. ويطلعنا الغساني على نبات آخر يعرف عند العامة بفاس بالحبق القرنفلي، وهو »من نبات الصيف والخريف، يغرسه النساء في أشقاف الأواني على سطوح الدور لطيب رائحته وبهاء منظره، ويجعلنه تابلاً لطبخ اللحم« .ولقد برعت المرأة الفاسية في صنع ألوان من العطور التي تستعمل في المناسبات والأعياد الدينية وكذا صنع بعض التوابل التي تضاف إلى الأطعمة. من ذلك مثلاً ما يذكره الغساني بخصوص النارنج، وهو من أنواع شجر الأترج الذي يكثر وجوده بجنات فاس وبساتينها، و»يسمى عندنا بفاس: النرنج ـ بغير ألف ـ وله زهر عطر الرائحة تقطر منه المياه كمياه الورد يسمى بماء زهر...«. ومن أصناف الأترج أيضاً الليم: »ورقه وثمره أصغر. منه النارنج، والليم يكون مدحرجاً وطويلاً في قدر بيض الدجاج، يفوق بقليل وينقص بقليل، رقيق القشر كثير اللحم شديد الحموضة يصنع منه تابل يسمى عند العامة بفاس "ليما مسيرا"«. ومن الأطعمة المفضلة عند أهل فاس طعام الكسكسو، وهو طعام مشهور يصنع من البر، ويسقى بمرق يهيأ بعناصر مختلفة بحسب الخضار المتوافرة في كل فصل من السنة، وعادة مضافة إلى اللحم. ويشير الغساني إلى طريقة خاصة في تهييء كسكسو إبان فصل الربيع وتعتمد على استعمال عرق أبيض غائر في الأرض لنبات يحمل اسم الشبث، وهو من نوع البقل. وذلك العرق »يعرف عند العامة بفاس بأسليلي، من خضار أيام الربيع عندهم، يطبخ بالحليب، ويسقى به "كسكسو"، فيجيء في غاية اللذة والمطعم البنين. مشهور معروف« .
ويحدثنا أيضاً عن الخرشف وهو بستاني وبري أنواعه كثيرة: »فالبستاني هو القنارية، والبري تحته أنواع منها "الخرشوف" المعروف الذي يطبخ به اللحم وتؤكل عسالجه ورؤوسه...«.
أما مادة الزيتون، فقد شكلت غذاء مفضّلاً لدى شريحة عريضة من السكان، خصوصاً وأنه ساد اعتقاد راسخ بأن شجرة الزيتون شجرة مباركة وكذا ثمرها وزيتها. ولقد توارث أهل فاس أساليب مختلفة في حفظ الزيتون لفترات زمنية طويلة. وحسب الغساني، فإن كل أنواعه مقوية للأبدان ومنشطة للحركة. ويطلعنا على أن البري من شجر الزيتون يسمى بالزبوج (بضم الزَّاي): »ويعتصر منها زيت يقال له "الركابي"، لكونه مركباً للأذهان والحشائش، والذي يعتصر من الزيتون الفج يقال له "زيت الإنفاق"«. فالزيت الأول يستعمل »كدهن الورد في كثير من المعاني وحفظ الشعر في منع سرعة الشيب إليه إذا استعمل كل يوم«. أما "زيت الإنفاق"، فهو جيد للمعدة، وهو أجود الزيت للأصحاء. وبين الزيت الذي اعتصر حديثاً وبين الزيت العتيق، فكل منهما له طعمه ومنافعه واستعمالاته الخاصة.
أما في فترات الجفاف والمجاعة، فإن الناس يلجأون إلى وسائل شتى لتخفيف ما هو واقع بهم من شدة الجوع والضعف. من ذلك حب نبات البهمي: »وهو نبات كنبات الزرع ينبت على السطوح والطرق، وله سنبلة كسنبلة الشيلم (...) وتنقل حبه النمل إلى بيوتها. فإذا كانت السِّنُون الجدباء، حفر الناس بيوتها وأخرجوا منها ذلك الحب وأكلوه وتقوّتوا به. ويعرف عندنا بفاس بـ"البهميّ"«. وتحت ضغط الظروف نفسها، يلجأ الناس إلى نبات "الوف"، وهو من نوع البصل، ويعرف عند أهل المغرب بـ"آيَرْنا" (حركة الفتحة على الياء والسكون على الراء). وهو معروف عندهم، إذ يصنعون منه الخبز في زمان الجدب والغلاء، بالرغم من أنه يضر بالحلق وينفطه.
يتضمن كتاب "حدائق الأزهار" إشارات نادرة تخص جوانب من عمران مدينة فاس قلما نصادف حولها معلومات وافية في المصادر التقليدية. ويتعلق الأمر بالأماكن التي كان بها عمران ثم لحقها الخراب والدمار بسبب عجز أصحابها عن ترميمها وهجرهم لها لسبب من الأسباب. ولقد خلصت إحدى الدراسات إلى أن عدداً مهماً من الدور وبعض المرافق العمومية والبساتين تعرضت للخراب بعد الأزمات والمجاعات التي تعرضت لها مدينة فاس في أواخر الدولة المرينية وإبان حكم الوطاسيين، حيث تراجع العمران بفعل الأزمة الديمغرافية التي شهدها المغرب الأقصى عقب توالي تلك الفترات العصيبة. والظاهر أن عدداً من تلك الخرب المتناثرة داخل المدينة أو في أطرافها تحولت إلى مواضع تطرح فيها القاذورات، وذلك من دون شك نتيجة ضعف الوازع الديني والأخلاقي وفي غياب أي رادع أو مراقبة صارمة من طرف السلطة ومتولي الحسبة. ولقد قامت منازعات حول من تقع عليه مسؤولية كنس تلك الخرب التي ألحقت ضرراً كبيراً بمن جاورها من السكان، حيث وردت في "المعيار" نوازل في هذا الموضوع عرضت على أنظار المفتين بفاس.
يذكر الغساني في معرض وصفه وتعريفه للنباتات ذات المنافع الطبية أن بعضها ينبت وينمو في »الخرب والمزابل والدمن«، وهي إشارة إلى أماكن داخل أسوار المدينة أو خارجها كان بها عمران فهجر وتعرض للفساد والخراب، أو أماكن اعتاد الناس على إلقاء القاذورات والفضلات بها، أو أماكن خارج المدينة كانت تجمع فيها فضلات الحيوانات التي تعرف بالزبل لاستعمالها بعد ذلك في تخصيب التربة أو وقوداً للنيران. وبشأن هذا الصنف الأخير، يذكر الحسن الوزان: »ويعمل عند الحماميين غلمان وبغالون يجوبون أرجاء المدينة ليشتروا الزبل من الإسطبلات وينقلوه إلى خارج المدينة ثم يجعلوه أكداساً ويتركوه ليجف شهرين أو ثلاثة أشهر. وبعد ذلك، يستعمل كالحطب في تسخين القاعات وماء الحمامات«.
ومن النباتات التي تنمو في مثل هذه المواضع بقل يعرف عند العامة بـ»الحريق« و»القريص«، وهي نوعان: حرشاء وملساء. وتتميز الحرشاء بأنها لذاعة لمن يلمسها. ومن ذلك أيضاً الخبازى، وهو من البقل الذي يعرف عند العامة بفاس بـ»البقول«، وهو يتميز بورقه المستدير.
ومن الإشارات الطريفة والمفيدة التي يذكرها الغساني في كتابه والتي تتصل بالعمران من بعض الوجوه، تلك التي تنبه على أصناف من العيوب التي تطرأ على بعض المباني داخل مدينة فاس. فصاحبنا يذكر أن من الأعشاب ما يظهر وينمو في شقوق البيوت والحيطان ومنها ما ينبت بالسطوح. من ذلك مثلاً نبات يعرف بـ»حيّ العالم« وهو كبير وصغير ومتوسط، يتميز بخضرته الدائمة عبر كل الفصول »لا يجف ولا يتغير عن رطوبته. إلا أنه يدركه القحط زمن الصيف من حر الشمس (...) منابتها على الجدارات (الجدران) وشقوق البيوت والحيطان والصخور، ويعرف عند العامة بفاس بـ"صحيفة الملوك"«.
ومن النماذج الأخرى »نبات البهميّ« الذي سبق الإشارة إليه والذي ينبت على السطوح والطرق، ويعرف عند العامة بفاس بالاسم نفسه. ومن ذلك أيضاً »حشيشة الزجاج«، خصوصاً الصنف المعروف بـ»ـعشبة البرطال« المستخدم في غسل الزجاج وتجليته من الأدران العالقة به. فهذه الحشيشة »تنبت بالحيطان والسياجات، وتعرف عند العامة بـ"الحبيقة"«. ثم هناك نبات يعرف عند الأطباء بـ»كزبرة البير« ـ لأنها تنبت كثيراً بالآبار ـ و»شعر الغول« إلى غير ذلك من الأسماء، وهو »نبات ينبت بالحيطان والسروب والآبار، له ورق كورق الكزبرة البستانية؛ إلا أنها أدق وأصغر، ولها أغصان دقاق سود كشعر الخنزير الذي تخرز به النعال والأخفاف وغيرها (...) ويسمى عندنا (أي بفاس) بقسبيرة البير (مصغراً بقاف وسين)«.
إن هذه الإشارات إلى جوانب دقيقة من عمران مدينة فاس، بالرغم من اختصارها؛ لأن غرض الكاتب كان بالأساس التعريف بالنبات ومنافعه العلاجية. فهي تسمح بالوقوف على جملة من الآثار السلبية والعيوب المتمثلة في الشقوق والرطوبة الكبيرة التي كانت تعرفها عدد من المباني داخل مدينة فاس نتيجة لعوامل مختلفة لها علاقة بطبيعة مواد البناء وارتفاع نسبة الرطوبة في فصل الشتاء وشدة الحرارة في فصل الصيف. إن انتشار العيون والجداول و»السواقي« التي هي عبارة عن قنوات تنقل الماء وتوزعه على دور ومساجد وحمامات المدينة ـ وهي القنوات التي عبر عنها الغساني بالسروب في النص الذي نقلناه عنه سابقاً ـ كثير منها كان يمر تحت الأرض ويخترق الحيطان. وهذا الأمر كان يسمح بتسرب الماء بدرجات متفاوتة إلى أساسات المباني والجدران، مما كان يلحق بالمباني ضرراً بليغاً مع مرور الزمن، خصوصاً المباني التي كان أصحابها عاجزين عن القيام بالإصلاحات اللاّزمة والمنتظمة لقنوات الماء وترميم ما أفسدته الرطوبة في أسس البناء والحيطان.
كما أن ما أشار إليه الغساني من ظهور شقوق في الجدران ونمو نباتات بها وكذا في السطوح فيه دلالة على أن عدداً من المباني المتواضعة لم تبلط جدرانها وسطوحها بشكل يحد من نسبة تسرب الرطوبة وماء الأمطار إلى داخلها، وبالتالي فإنه نتيجة لعوامل فيزيائية وكميائية مترتبة على توالي ارتفاع نسبة الرطوبة والبرودة في فصل الشتاء والتعرض لأشعة الشمس الحارقة في فصل الصيف تظهر تلك الشقوق.
إن هذه الدراسة التي قمنا بها لكتاب "حديقة الأزهار" للغساني أظهرت الأهمية البالغة للمعلومات التاريخية التي قدمها صاحب الكتاب حول جوانب مختلفة من واقع مدينة فاس في مطلع العصر الحديث، حيث أن هذه المعلومات تهم الجانب الجغرافي والطبيعي؛ كما تهم الواقع الاقتصادي وجوانب أخرى لا تقل أهمية. وجميع المعلومات التي عرضنا لها في هذه الدراسة تؤكد أكثر من أي مصدر آخر أرخ لمدينة فاس من قريب أو بعيد ـ حسب ما نعتقد ـ ذلك التفاعل الكبير الذي كان للمدينة مع محيطها الطبيعي والجغرافي، حتى أنه ساهم وساعد في ازدهار المدينة وتوجيه مجموعة من أنشطتها التجارية والصناعية.
وتزداد قيمة الكتاب التاريخية بما قدمه الغساني من معلومات لسانية دقيقة ونادرة حول أسماء عدد كبير من النباتات باللهجة العامية لأهل فاس، واستمرار استعمال جزء كبير من تلك الأسماء إلى يومنا هذا يفيد أن إنتاج عدداً من المواد لم يطرأ عليه تغيير كبير، كما يفيد أن استعمالات تلك المواد ما زالت تأخذ حيزاً مهمّاً في عادات أهل فاس وتقاليدهم إلى عهد قريب. وعلى العموم، فإن الكتاب بما يدّخر من معلومات ما زال بحاجة لمزيد من البحث والتحليل والآفاق التي يفتحها كما تتبعنا من خلال هذه الدراسة المتواضعة تظل متعددة.


الساعة الآن 14:52

جميع المواد المنشورة بالموقع تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر بأي شكل من الأشكال عن رأي الموقع ولا يتحمل أي مسؤولية عنها

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd