عرض مشاركة واحدة
قديم 2020-05-02, 20:16 رقم المشاركة : 6
خادم المنتدى
مدير التواصــل
 
الصورة الرمزية خادم المنتدى

 

إحصائية العضو








خادم المنتدى غير متواجد حالياً


وسام المشاركة السيرة 1438ه

وسام المشاركة في مسابقة السيرة النبوية العطرة

العضو المميز لشهر فبراير

افتراضي رد: 2- سلسلة حكايات كليلة ودمنة .. التفريغ الحكائي وأنماط التخييل ..


دوال النظم والأنماط التخييلية:

لم يتفق المؤرخون والنقاد العرب، القدماء والمعاصرون، على تحديد دلالة المصطلحات المرتبطة بالحكاية، مثل "الحكاية الشعبية، والحكاية الخرافية، والحكاية السحرية، والحكاية العجيبة، وحكاية الجان... إلخ" فقد استخدموا جميع هذه المصطلحات من دون الدلالة على النمط.
وقديمًا، وتحديدًا في القرن الثاني الهجري حين بدأ السرد يفارق مكونه الدلالي الاعتباري الديني، نشأ قصٌّ من رحمه لا يهتم بالدقة الموضوعية وصحة الخبر وصدقه[74] وبقي الجذر اللغوي لكلمة "خرافة"، يضاف الى ذلك التناول الديني للمصطلح، يحدد ماهية الحكاية عند النقاد المعاصرين. وهذا ما نقرؤه عند بطرس البستاني إذ يقول:
إن الخرافة تدل على اعتقاد أمور منافية للدين الصحيح [وإن كل خرافة] تستلزم فساد التصورات في الأمور الدينية، وإن الخرافة تنشأ من أوهام وتصورات باطلة[75].
ولأن الأوهام والتسلية خارج نطاق الاعتبار، تُنجَز الحكاية في فضاء مظلم، ويكون الليل موطن الخرافة[76]. ولكن ذلك لا يحدد أنواع السرد الحكائي وأنماطه، فتبقى بذلك مفارقة الحكي للقيمة الاعتبارية مجالاً لتحديد فضاءات القص من دون تحديد الأنماط. فنرى تسميات عدة لدلالة واحدة. ومن ذلك أن تحديد النمط القائم على الخارق تتجاذبه مجموعة من التسميات؛ فنبيلة إبراهيم وعز الدين إسماعيل وعبد الملك مرتاض يسمونه بـ"الحكاية الخرافية"[77] ويسميه التكريتي بـ"الحكاية السحرية"[78] ويسميه عبد الحميد يونس بـ"حكاية الجان"[79]. بينما يربط آخرون بين الحكاية الخرافية والحيوان. فابن النديم يختم الفن الأول من كتابه الفهرست بقوله: " كانت الأسمار والخرافات على ألسنة الحيوان وغيره"[80]. فيقرن الخرافاتِ والأسمار بالحيوان، وإن لم يحددها به فقط. في حين نجد محمد رجب النجار يقرنها ويحددها بالاسم، فيقول: "حكايات الحيوان في التراث العربي"[81] في حين يربط صاحب بيان شهرزاد بين الخرافة والحيوان "نقصد بالخرافة [...] حكاية الحيوان"[82].
هذا التباين في تحديد المصطلح لم يطل النقد العربي، بل أيضًا النقد الأجنبي. ففي تمييز فون دير لاين للحكاية الشعبية من الحكاية الخرافية لا يخرج بنتيجة واضحة تحدد النمط، وإنما بآراء انطباعية لا تقوم على تحديد المكونات السردية. يقول: إن الحكاية الخرافية
ذات بعد واحد، وأنها مسطحة، ذات أسلوب تجريدي، وأن الباعث منعزل عنها، كما أنها لا تتضمن أي موضوع نفسي. الحكاية الخرافية لا ترتبط بالآلهة والأرواح العلوية بالطريقة التي ترتبط بها الحكاية الشعبية. إن الحكاية الشعبية تعرف كائنات العالم الآخر من شياطين ومردة وسحرة إلى غير ذلك وباستطاعة الإنسان فيها أن يتصل بشخوص العالم الآخر. في حين أن الأمر في الحكاية الخرافية على خلاف ذلك، فهي، وإن كانت تحكي كذلك عن المردة والسحرة والأقزام فإنها لا تنشئ علاقة مع عالمنا الممكن إدراكه، إذ إنها ذات بعد واحد. وهي كذلك لا تعرف التركيب المنطقي الدقيق، كما أن شخوصها غير منسجمة، وبلا عالم داخلي أو خارجي، بل ينقصها كذلك عالم المشاعر، حتى العنصر الزمني لا تعرفه الحكاية الخرافية. كما أن الحكاية الخرافية لا تتحمل أي تصوير وزخرفة أو تعليق ينتشر في أثنائها، وكلما ازداد سرد الحكاية الخرافية وضوحًا كان ذلك ضمانًا لوصولها الى هدفها وتأكيدًا لأصالتها[83].
لعل سببب ذلك التباين وعدم التحديد الدقيق يعود إلى تداخل الأنماط الحكائية في كثير من الحكايات أولاً، وإلى مفارقتها المنطقي والموضوعي ثانيًا، وإلى تحميل بعض الكائنات الحيوانية الطاقة الرمزية لمقابلها الإنساني ثالثًا، وإلى غياب الدراسات العلمية المتخصصة التي تبحث في المكونات السردية لكل نمط من الأنماط الحكائية رابعًا.
وكان من نتائج ذلك أن الدارسين للحكاية صنفوها وفق ملاحظاتهم الانطباعية؛ فكان من قال بـ " حكاية الحيوان" لهيمنة الشخوص الحيوانية، ومن قال بـ " الحكاية الخرافية" ويقصد حكاية الحيوان لتحميل الحيوان قدرة خارج طبيعته الحيوانية كالحكمة، ومن قال بـ" الحكاية الخرافية" أو " العجيبة" أو " الخارقة" لمفارقتها الممكن والمنطقي... إلخ.
ويمكن الخروج من ذلك، كما نرى، إلى تصنيف ثلاثي:
1. الحكاية الشعبية: وتمثل العنوان العام لكل الأصناف والأنماط الحكائية لارتباطها بالعامة من دون أن تشير إلى نمط محدد، كما جاء في تصنيف شوقي عبد الحكيم[84].
2. الحكاية الشعبية الخرافية: تتكون شخوصها من الإنسان والحيوان، أو من الإنسان والحيوان والجن والعفاريت، وكل الكائنات التي تخرج في نطاق حركتها عن الواقعي والممكن، وضمن إطار النوع.
3. الحكاية الشعبية الواقعية: تتكون شخوصها من الإنسان. وتتشكل دائرة حركتها ضمن حدود الطاقة البشرية، وترتبط بما هو واقعي وممكن. وتهتم بالقضايا اليومية لحياة البشر.
إن الغاية من هذا العرض الموجز لمسألة تصنيف الحكاية الشعبية الدخول إلى تصنيف الحكاية المضمنة في كتاب كليلة ودمنة، باعتبار أن خصوصيتها تتشكل من نموها الداخلي، على مستوى الموضوعات المفارقة لموضوع الحكاية الإطار، وعلى مستوى النمط أيضًا. فالحكاية الإطار تبحث في موضوع ظلم دبشليم لرعيته، وعمل بيدبا على تقديم النصيحة له؛ أي إنها من حيث تصنيفنا السابق حكاية شعبية واقعية؛ شخوصها من البشر، وحركتهم تدور ضمن الواقعي والممكن، ولا توجد فيها مفارقات خارقة. أما الحكاية المضمنة المتناسلة من الحكاية الإطار، فهي، وإن كانت كما ذكرنا تنويعًا وإبدالاً على مستوى المضمون للحكاية الإطار، فإنها مختلفة عنها على مستوى الموضوع والنمط، وسنلاحظ ذلك في هذا التصنيف للحكاية المضمنة في كتاب كليلة ودمنة:
1. حكاية شعبية خرافية. العدد 32 حكاية.
2. حكاية شعبية واقعية. العدد 20 حكاية.
تهيمن الحكاية الشعبية الخرافية على الحكاية المضمنة في كتاب كليلة ودمنة. وهذا التناسل النمطي غير مرتبط بنمط الحكاية الإطار في المستوى السردي الأول، كما أنه غير مرتبط بالحكاية المضمنة الكبرى (الحكاية الإطار في الدرجة الثانية) في المستوى السردي الثاني أيضًا، أو أي مستوى سردي تناسلي آخر.

النمط الواقعي (بلاغة الممكن)

نعرف الحكاية المضمنة في النمط الواقعي بأنها وحدة سردية مستقلة بذاتها، تجسد فعلاً أو حادثًا ما، تنجزه شخصيات تتحرك ضمن الفعل الممكن باختلاف أشكال التنظيم، إن كانت بسيطة أو مركبة، وباختلاف أطوال الوحدات السردية؛ لأنها جميعا تُنجِز وظيفة أو وظائف إبدالية للحكاية الإطار.
ولتحليل تلك الوحدات السردية سوف نستعين بما طورته المدرسة البنيوية للنقد الأدبي في مجال الأبنية السردية[85] من حيث فعل الحكاية، والعمل على فحصها داخليًا ووظيفيًا، لكي نبتعد عن التقديرات الذاتية والمسائل البلاغية والتوصيف الشكلي. ومن أجل الوصول إلى دراسة نسقية نقرأ الحكاية المضمنة بوصفها وحدة مستقلة ووحدة كلية مع مجموع نص كليلة ودمنة في إطار التنويع والإبدال.
ووفقًا لتلك الغاية، علينا القيام باختيار وتكييف الأساليب المنهجية المعاصرة وفقًا لخصوصية الحكاية التي نريد تحليلها ووضعناها تحت بند "النمط الواقعي – بلاغة الممكن" ولكي نطبق تلك المفاهيم المنهجية على النمط الواقعي في حكايات كليلة ودمنة سيكون من الضروري ملاحظة أن حكايات ذلك النمط تعرض مجموعة من الحوادث، ولكنها تتضمن وظيفة واحدة، وفي أقصاها ثلاث وظائف، إلا أن كل وظيفة تأخذ دلالتها من السياق الحكائي الخاص بها.
وقد سمح تماثل الوظائف ومحدوديتها بتصنيف الحكايات في فئتين وظيفيتين كبيرتين، يمكن تشعبهما داخليًا، وهما: حكايات الاعتلال القيمي وحكايات الإيجاب القيمي.

1. حكايات الاعتلال القيمي:
تمثل حكايات الاعتلال القيمي الدال على النقص والاختلال في السلوك الإنساني 10 حكايات من أصل 15 حكاية، أي مايعادل 69% من مجموع حكايات النمط الواقعي. ويمكن إدراجها تحت ثلاث وحدات وظيفية، هي 6 حكايات في السرقة، و3 حكايات في مكر المرأة، وحكاية واحدة في التواكل. وكل حكاية تحكي وظيفة أو أكثر. وسوف نمثل لذلك بحكايتين، هما حكاية الخب[86] والمغفل[87] وحكاية المرأة والمصور والعبد[88].
تقول حكاية الخب والمغفل: وجد المغفل والخب كيسًا من المال وقررا دفنه تحت شجرة في الطريق، ثم يعودان إليه سوية عندما يحتاجان إلى شيء من المال. ولكن الخب عاد وحده فيما بعد وأخذ الدنانير كلها. وجاء المغفل بعد ذلك إلى الخب، وقال له: احتجت إلى نفقة فانطلقْ بنا إلى مكان الدنانير لنأخذ منها حاجتنا، فذهب معه الخب. وحين حفرا تحت الشجرة لم يجدا المال، فاتَّهم الخب المغفل بسرقة المال في غيابه، فأنكر المغفل ذلك وحلف الأيمان، ولكن الخب أصر على اتهامه، ورفع الخلاف إلى القاضي. وكان الخب قد اتفق مع والده على الاختباء في الشجرة لكي يجيب عن سؤال القاضي بدلاً من الشجرة عن سرقة المال. ولكن القاضي حين حضر، وسأل الشجرة شك، وقرر حرقها لقطع الشك باليقيم، فخرج والد الخب مذعورًا واعترف بخديعة ولده وسرقته.
لا تحدد الحكاية سمات شخصية الفاعل بغير السمات العامة لمواصفات الفعل الذي ينجزه. فالخب هو الغشاش والمخادع؛ وهي إبدالات لمظاهر النقص في سلوك الإنسان يقابله المخدوع والمغفل. أي إن الحكاية تُنجَز من خلال حضور قطبين في السلوك، هما الخادع والمخدوع، ولا بد من حضورهما لتحقيق الاعتلال القيمي. غير أن تناقضهما وظيفيًا لا يعني إكسابهما سمتين متناقضتين: سلبية (الخب) وإيجابية (المغفل)؛ لأن صفة الغفلة ليست إيجابية، ولكنها في الوقت نفسه تفتح المجال للخب لمارسة غشه وخداعه. والقطبان يحققان بذلك شرط حضور الاعتلال في السلوك الاجتماعي. إلا أن هذه الوظيفة لا تأخذ أهميتها في صورة السرد الكلي للنمط الواقعي إلا من خلال تكرارها الوظيفي عبر حكايات الاعتلال بصور متباينة ودلالات مختلفة، وضمن السياق الحكائي. وهي في الوقت ذاته تقدم، على مستوى البناء الداخلي، أكثر من وظيفة؛ فالفعل الواقع في الحكاية منجز على ثلاثة مستويات وظيفية:
1. خيانة الشراكة التجارية.
2. خيانة الأمانة.
3. السرقة.
تقول حكاية المرأة والمصور والعبد: كان هناك تاجر لديه خازن مال، وكان بجانب دكان التاجر مصور ماهر هو صديق الخازن. فاتفق المصور والخازن على سرقة التاجر بالحيلة؛ وهي أن يلبس المصور ملاءة امرأة ويمر في الظلام بجانب كوة من المخزن تطل على الطريق، فإذا رآه الخازن رمى له بشيء من البضاعة المخزنة. وهكذا تتكرر السرقة في كل ليلة إلى أن رآهما يومًا صديق خادم المصور، فطلب منه الملاءة، وقام بتجربة ما رآه، فاكتشف السرقة.
كذلك لا نجد في الحكاية سمات نوعية محددة للشخصيات، وإنما سمات مهنية توطئ للوظيفة أو الفعل الذي سينجزه السرد؛ التاجر = المال. الخازن = الأمانة على المال. المصور = الاحتيال. فأركان الفعل تتحقق عبر التوطئة لحدوث الاعتلال القيمي، عبر أكثر من وحدة وظيفية تقدمها الحكاية، ويمكن رصدها في وظيفتين:
1. خيانة الشراكة التجارية.
2. السرقة.
وهما وظيفتان إبداليتان لـ"1" و"2" في الحكاية الأولى. يضاف إلى ذلك حضور وسائل جوهرية واحدة للبناء الوظيفي في الحكايتين، تتكرر في حكايات الاعتلال القيمي بشكل عام، وتتمثل في الحيلة واكتشاف فعل النقيصة (اليقظة).
ففي حكاية الخب والمغفل يلجأ الخب إلى الحيلة مرتين: الأولى حين يرفض اقتسام المال بحجة حرصه على قيم الشراكة، والثانية حين يقنع والده بالتواري داخل الشجرة. وفي الحكاية الثانية المرأة والمصور والعبد تهيمن الحيلة على النص، ولكنها لا تشكل وحدة وظيفية، وإنما تبقى في إطار الوسيلة للبناء الحكائي عبر شخصية المصور بوصفه "المحرك للفعل" وفق تصنيف بريمون[89] ولذلك فهو مصور ماهر لاحظ وجود كوة في جدار المخزن، كما أنه أوجد حيلة "ملاءة" المرأة.
ولأن الانتصار للقيمة وليس لاعتلالها تُكتشَف السرقة في الحكايتين؛ مرة بحضور القاضي اليقظ، ومرة بحضور صديق خادم المصور اليقظ أيضًا. والشخصان يحملان صفة تقع على نقيض الاعتلال القيمي، مما يحيل النص الحكائي بشكل عام، ومرة ثانية، إلى ثنائية تقابلية أخرى تتشكل من طرفين: السارق↔الأمين. أو إبدالهما: الاعتلال↔الإيجاب. أو الخطأ↔الصواب.

3. حكايات الإيجاب القيمي:
تمثل حكايات الإيجاب القيمي في النمط الواقعي خمس حكايات، أي بنسبة 34% من مجموع حكايات النمط. ويمكن تصنيفها في فئتين وظيفيتين:
1. حكايات الحكمة وإبدالاتها في المشورة والتدبر وإعمال العقل والخضوع للمنطق.
2. حكاية القدر عبر إبدالاته الوظيفية في الإيمان به سمةً من سمات العقل.
ونمثل لذلك بحكايتين: حكاية التاجر وبنيه[90] وحكاية إيلاذ وبلاذ وإيراخت[91].
تقول حكاية التاجر وبنيه إنه كان بأرض دستاوند رجل شيخ له ثلاثة بنين، فلما بلغوا أشدهم أسرفوا في مال أبيهم، ولم يكونوا قد احترفوا حرفة يكسبون منها لأنفسهم خيرًا، فلامهم أبوهم ووعظهم على سوء فعلهم. وكان من قوله لهم: يا بنيَّ إن صاحب الدنيا يطلب ثلاثة أمور لن يدركها إلا بأربعة أشياء أما الثلاثة التي يطلب: فالسعة في الرزق، والمنزلة بين الناس، والزاد للآخرة. أما الأربعة التي يحتاج إليها، فهي اكتساب المال من أحسن وجه يكون، ثم حسن القيام على ما اكتسب منه، ثم إنفاقه فيما يصلح المعيشة ويرضي الأهل والإخوان، فيعود عليه نفعه في الآخرة. فاتعظ الأبناء من قول أبيهم وعملوا به.
لا حدود أو سمات تبين شخصيات الحكاية. والعبارة الوصفية في " رجل شيخ" هي سمة توطئ للفعل أو الوظيفة المتمحورة في الحكاية. فالرجل الشيخ يمتلك خبرة الحياة بحكم سنه، وبالتالي فهو يوجز الحكمة في السلوك الإنساني. أما متلقو الحكمة فلا توجد علامة ما تدل على شخصياتهم سوى أنهم أبناء الشيخ الحكيم، مما يبين أن العلاقة بين الطرفين (الحكيم × غير الحكيم، أو الشيخ الكبير الخبير × الابن الصغير المفتقر إلى الخبرة) هي التي ستخلق فضاء الوظيفة-الحكمة، من خلال المساحة التي تباعد بينهما؛ وهي مساحة التجربة التي أدى افتقادها عند الأبناء إلى الإسراف في المال، وأدى حضورها عند الشيخ إلى توليد الحكمة المنجزة نظريًا بوصفها خطابًا مهيمنًا بتفصيلاته على النص الحكائي.
تقول حكاية إيلاذ وبلاذ وإيراخت كان في قديم الزمان ملك يدعى بلاذ وله وزير يدعى إيلاذ كان متعبدًا ناسكًا. نام ذات ليلة فرأى في منامه ثمانية أحلام أفزعته، هي: 1. سمكتان حمراوان قائمتان على ذنبيهما. 2. وزتان طائرتان من خلف ظهره. 3. حية تدب على رجله اليسرى. 4. دم خُضِّب به جسدُه. 5. غسل جسده بالماء. 6. وقف على جبل أبيض.7. على رأسه شيء شبيه بالنار. 8. طائر ضرب رأسه بمنقاره. استيقظ الملك فزعًا، فجمع نسَّاك البراهمة ليفسروا له رؤياه. وكان البراهمة يكرهونه. فطلبوا منه التخلص من أصدقائه وزوجته وابنه لكي ينجو بنفسه، كما تقول الرؤيا، حسب تفسيرهم. فاغتمَّ الملك لذلك، ولكن زوجته نصحته بسؤال كباريون الحكيم. فامتثل لرأيها، وجاء له كباريون بتفسير مخالف يحمل في طياته الخير والاطمئنان وبعد سبعة أيام جاءت البشائر بقدوم رسل الملوك محملين بالهدايا مؤكدين صحة تفسير كباريون.
على الرغم من أنها حكاية "حلمية"[92] وفيها العبارة الموطئة للحلم: "نام الملك ذات ليلة فرأى في منامه" ثم حضور الحلم وتفسيره، إلا أن الحُلُم ليس هو الوظيفة التي تريد الحكاية إنجازها، وإنما "الحِلْم" بكسر الحاء وتسكين اللام؛ أي الحكمة في التصرف، فلولاها لقضى الملك على المخلصين له، وتغلب عليه أعداؤه. غير أن صبره وتدبره وتفكيره في العاقبة أهدوه إلى شاطئ النجاة على يد الحكيم المخلص ذي العلم الواسع.
تنجز الحكايتان، إذًا، وظيفة واحدة عبر أحداث مختلفة، ولكن بحضور الرجل الحكيم في كلتيهما. "الرجل الشيخ" في الأولى، و"كباريون" في الثانية. في الأولى هيمنت خبرة الشيخ على الحكاية وفي الثانية هيمنت أيضًا خبرة كباريون الحكيم، فأصبح العنصر المشترك هو الحكمة بإبدالاتها وتنوعاتها (الخبرة، العلم، العقل... إلخ).
بقي أن نشير إلى أن حكايات "النمط الواقعي – بلاغة الممكن" تنجز بلاغتها من واقع الحياة اليومية وتفاصيلها في السلوك الإنساني بذلك تشكل حكايات الإيجاب القيمي في النمط الواقعي الطرف الآخر في ثنائية التقابل للصورة الإيجابية في الحكاية الإطار، بعد أن أنجزت حكايات الاعتلال القيمي الطرف لأول؛ فتكون الصورة على الشكل الآتي:
الاعتلال القيمي ↔ الإيجاب القيمي
يمثل الطرف الأول السلوك الإنساني الناقص بصوره وإبدالاته المتنوعة، ويتجسد في المستوى السردي الأول بخطاب الملك دبشليم المتسلط والمفارق للشرعية، ويتجسد في الحكاية المضمنة بصور النقص والخلل في السلوك الإنساني، عبر خيانة الأمانة والصداقة وعبر السرقة ومكر النساء وسوء التصرف... إلخ.
ويمثل الطرفَ الثاني العقلُ وإبدالاتُه وصوره المتجلية، في المستوى السردي الأول، بخطاب بيدبا الفيلسوف، وفي الحكاية المضمنة بصور العقل والتجربة والحكمة، بوصفها المعادل النقيض للخلل؛ أي لا مجال فيها للخرافي والمفارق، بل تقترب من تفصيلات المألوف والاعتيادي. فهي استبطان للجوهر الإنساني، ولما يمثله من طبائع وعواطف وأفكار. وتعتني بإبراز منطق الاختلال وصور النقص والتشوُّه، ولاتهتم بالشخصيات إلا بوصفهم أفرادًا يمثلون نمطًا في "ذاكرة النوع"[93] بغض النظر عن أسمائهم وسماتهم الشخصية. فهم تجليات للاعتلال، ولذلك نراهم يقدَّمون بصفاتهم الدلالية الموطِّئة للوظيفة، مثل السارق والناسك والتاجر... إلخ.
إن الاهتمام بالتفاصيل اليومية للحياة في النمط الواقعي نقيض للرمز والكلي والعام[94] الذي سنراه في النمط المفارق؛ فالخيانة والسرقة والمكر مثلاً، موضوعات تتناولها الحكاية الشعبية من الحياة، وتستند إلى شخصيات يحكمها منطق الإمكان، وتعبر عن تجارب إنسانية ملموسة.

النمط المفارق (بلاغة الخرافي)

تهيمن في النمط المفارق الرمزية الحيوانية على النصوص الحكائية، وذلك عبر تنوع الشخصيات، إن كانت حيوانية فقط، مثل حكاية الغراب والثعبان وابن آوى[95] أو كانت حيوانية و إنسانية، مثل حكاية الملك والطير فنزة[96] أو كانت حيوانية وجمادًا، مثل حكاية الثعلب والطبل[97]. وما ذلك إلا لأن الشخصيات في النمط المفارق لا تهتم بحدود الشخصيات وملامحها، وإنما تقدمها بوصفها تجسيدًا للنوع، مثل الأسد والثعلب وابن آوى والثعبان... إلخ. أي إن الشخصيات تقدَّم بوصفها أصنافًا وطبائع مكثَّفة ومجردة، رسبها في الذاكرة اللقاء المرجعي المتكرر مع صورها؛ فالأسد كائن لحمي، قوي، مفترس. والثعلب حيوان ماكر، مخادع. إن هذا التكثيف يفضي بالكائنات الحيوانية إلى تشخيص حكمة أو مثل في نهاية الحكاية، مثل القول في نهاية حكاية ابن آوى والأسد والحمار[98]هذا مثل الرجل الذي "يطلب الحاجة فإذا ظفر بها أضاعها".
وتسعى القصدية في تجليات الرمزية الحيوانية إلى تمثُّل المواقف والصفات والعواطف والصراعات الإنسانية عبر تمثيلها في الشخصيات الحيوانية. يقول كيليطو:
إن الحكمة في الخرافة توضع على ألسنة الحيوان... الخرافة تحاكي القيمة الرمزية التي يجسدها كل حيوان ضمن مجموع الحيوانات. وكل خطاب ينطق به حيوان يكون مطابقًا للموقع الذي يمثله هذا الأخير في مجمع الحيوان والدور الذي يلعبه فيه. يختلف دور الأسد عن دور ابن آوى، والثعلب والتمساح... وتستهدف المحاكاة الطريقة التي يجب أن يتصرف بها ويعبر بها [كل حيوان] والنتيجة هي استنتاج نمط قد حددت سماته بصورة نهائية[99].
إن الفعالية الرمزية في الحكاية المفارقة (حكاية الحيوان) تتخطى نطاق الشخصية الحيوانية المفردة وأوصافها إلى وظيفتها الرمزية من خلال علاقاتها التقابلية مع المعنى المجازي الذي يستحضره المتلقي ليفسر به المعنى الوظيفي في الحكاية عبر التأويل.
إن هذا التعالق بين القطبين: المعنى المباشر والمعنى المجازي يكسب النص الحكائي المفارق جوهره التخييلي عبر الاستبدال والتخفي في تمثيل الخبرة والسلوك الإنساني، مما يمنح الدوال القدرة على كشف التقاطبات الكبرى، عبر مدلول حيواني ينتهي في السياق التخييلي إلى تغليب طبع على طبع، والانتصار لسلوك على سلوك، وفق ما يشترطه العقل والمثال الإنساني[100].

يتبع ...





    رد مع اقتباس