عرض مشاركة واحدة
قديم 2020-05-02, 18:41 رقم المشاركة : 4
خادم المنتدى
مدير التواصــل
 
الصورة الرمزية خادم المنتدى

 

إحصائية العضو








خادم المنتدى غير متواجد حالياً


وسام المشاركة السيرة 1438ه

وسام المشاركة في مسابقة السيرة النبوية العطرة

العضو المميز لشهر فبراير

افتراضي رد: الصعاليك في المجتمع الجاهلي


الصعاليك في المجتمع الجاهلي (2)

ينظر هؤلاء الصعاليك الأقوياء إلى المجتمع الذي يعيشون فيه، فإذا هو مجتمعٌ ظالم، وإذا توزيع الثروة فيه توزيع جائرٌ مضطرب. إنَّه مجتمع لا يؤمن إلَّا بالمال، ولكنَّه -مع ذلك- لا يحسن توزيع المال بين أفراده، فليس من العدل أن يكون لأحد أفراده عدد ضخم من الإبل في حين لا يملك الآخر غير حبل يجرره لا بعير فيه. وما هذه الإبل التي يملكها هذا الفرد سوى إبل الله خلقها للناس جميعًا، فهي ليست حقًّا له وحده دون غيره من خلق الله في هذه الأرض[1].

والعجيب من أمر هذا المجتمع أنَّ بين من يعطيهم بغير حساب بخلاء، أشحاء، لا ينتفع بمالهم أحد. في حين يَحْرم فيمن يحرم كرماء لو أعطاهم لنفعوا بمالهم أفراد مجتمعهم الفقراء المحتاجين، فهو يحرم هؤلاء الكرماء ما يكنزه أولئك البخلاء، ويحرمهم نتيجةً لهذا فرصة التكافؤ الاجتماعي ومساواة إخوانهم في الإنسانية من الأغنياء الكرماء في شراء تلك الأحاديث الخالدة التي:
تبْقَى والفتَى غيرُ خالدٍ *** إذا هو أمْسَى هامةً فوق صَيِّر
كما كان يقول عروة.

ووقف هؤلاءِ الصعاليك أمام هذه المشكلة الخطيرة، ولم يجدوا أمامهم -بسبب ظروف البيئة، والمجتمع، والمزاج الشخصي - من وسيلة يرضونها لأنفسهم إلَّا الاعتماد على القوة، يغتصبون عن طريقها ما آمنوا بأنَّه حقُّهم المسلوب. «والخَلَّة تدعو إلى السَّلَّة» -كما يقول المثال العربي[2]. فمضوا خلف أولئك الأغنياء المترفين، وبخاصة البخلاء منهم، وتربصوا بالقوافل التجارية التي تسيل بها شعاب الجزيرة العربية، ينهبون، ويسلبون، ولا يتورعون عن قتل من يعترض طريقَهم؛ لأن المسألة أخذت في أذهانهم وضعًا ثنائيًّا لا ثالث له: إمّا حياة كريمة، وإمّا ميتة كريمة، أما أنصاف الحلول فشيء لا يؤمنون به.

لقد آمن هؤلاء الصعاليك بأن "الحق للقوة"، وأن الضعيف ضائع حقه في هذه الحياة، ورأوا أمامهم أولئك الصعاليك الفقراء المستضعفين وما يلاقونه من ذل وضيم وهوان، فرثوا لهم، وآلوا على أنفسهم أن يثأروا لهم ممن استضعفوهم، وأن يفرضوا أنفسهم فرضًا على ذلك المجتمع الذي أذل إخوانهم الضعفاء.

هكذا رسم هؤلاء الصعاليك الأقوياء النفس والجسد خطتهم من أجل الحياة أولًا، ثم من أجل فرض أنفسهم على مجتمعهم الذي لا يعترف بهم، وتحقيق صورة من صور العدالة الاجتماعية بين طبقات هذه المجتمع بعد ذلك، وهي خطة تقوم على أساس "الغزو والإغارة للسلب والنهب".

وأحاديث "الغزو والإغارة للسَّلب والنَّهب" تنتشرُ في أخبار هؤلاء الصعاليك وشعرهم انتشارًا واسعًا، بل لعلها أكثر ما ينتشر في أخبارهم وشعرهم من أحاديث، حتى لتوْشك أن تكون هي اللون البارز في لوحة حياتهم الاجتماعية والفنية.

ففي أخبار السُّليك أنَّه «أمْلق حتّى لم يبق له شيء، فخرج على رجليه رجاء أن يصيب غرة من بعض من يمر به فيذهب بإبله، حتى أمسى في ليلة من ليالي الشتاء باردة مقمرة، فاشتمل الصمَّاء ثم نام ... فبينما هو نائم إذ جثم رجل فقعد على جنبه، فقال: استأسر»، وسأله السُّليك من يكون، فقال له: «أنا رجلٌ افتقرت، فقلتُ لأخرجنَّ فلا أرجع إلى أهلي حتى أستغني، فآتيهم وأنا غني»، فقال له السُّليك: انطلق معي: «فانطلقا معًا، فوجدا رجلًا قصته مثل قصَّتِهما، فاصطحبوا جميعًا، حتى أتوا الجوف، جوف مراد، فلما أشرفوا عليه إذا فيه نَعَمٌ قد ملأ كلَّ شيءٍ من كثرته، فهابوا أن يُغيروا»، ولكنَّ السُّليك دبَّرَ لهم حيلةً «فأطردوا الإبل، فذهبوا بها، ولم يبلغ الصَّريخُ الحيَّ حتى فاتوهم بالإبل»[3].

إنها قصة تصور لنا تلك الهوة الواسعة بين الطبقات في المجتمع الجاهلي: بين أولئك الذين «أملقوا حتى لم يبق لهم شيء»، وأولئك الذين أترفوا حتى «ملأ نَعَمهم كل شيء من كثرته»، وهي قوة كانت تدفع هؤلاء الصعاليك المعدمين للخروج إلى الصحراء من أجل اغتصاب رزقهم من أيدي أولئك المترفين، وانتزاع لقمة العيش من بين أنيابهم، أو - بعبارة أخرى - كانت تدفعهم إلى "الغزو والإغارة للسلب والنهب".

وفي أخبار تأبَّط شرًّا أنه خرج في "عدة من فَهْم" يريدون الغارة على أحد أحياء بجيلة. وتمت الغارة بقتل نفرٍ من بجيلة، ونهب إبل لهم. وساق الصعاليك الإبل حتى إذا كانوا "على يوم وليلة من بلادهم" تصدَّت لهم خثعم طامعة فيما معهم، ودار قتال بين الفريقين: صعاليك فهم العائدين بغنيمتهم، ورجال خثعم الطامعين فيها. وثبت الصَّعاليك - على قلَّتهم وكثرة خثعم - وانتهى الصراع بانهزام خثعم وتفرُّقها، وانطلاق الصعاليك بغنيمهم[4].

في هذه القصة نرى صورة من حياة الصعاليك في المجتمع الجاهلي، تلك الحياة التي كانت تقوم على "الغزو والإغارة للسلب والنهب"، ومثلًا قويًّا لذلك الصراع الدامي الذي كان الصعاليك يخوضون غماره في سبيل الحياة، وهو صراعٌ كانوا يخوضون غماره في شجاعةٍ وقوَّةٍ لأنهم كانوا يتمثَّلونه صراعًا بين الحياة والموت.

وفي أخبار عُرْوةَ أنه كان -إذا أصابت الناس سَنةٌ شديدة - يجمع المرضَى والضعفاء والمسنين من عشيرته، «ثم يحفر لهم الأسراب، ويكنف عليهم الكُنُف، ويكسبهم، ومن قوي منهم إما مريض يبرأ من مرضه، أو ضعيف تثوب قوَّته، خرج به معه فأغار، وجعل لأصحابه الباقين في ذلك نصيبًا. حتى إذا أخصب النَّاس وألبنوا وذهبتِ السَّنةُ ألحق كل إنسانٍ بأهله، وقسم له نصيبه من غنيمةٍ إن كانوا غنموها، فربما أتى الإنسان منهم أهله وقد استغنى»[5].

وفي أخباره أيضا أنَّه «بلغه عن رجل من بني كنانة بن خزيمة أنه أبخلُ الناس وأكثرهمُ مالًا، فبعث عليه عيونًا فأتوه بخبره، فشدَّ على إبله فاستاقها، ثم قسمَها في قومه»[6].

على هذا النحو كانت الصَّعلكة عند عروة نزعةً إنسانية نبيلة. وضريبة يدفعُها القوي للضعيف، والغني للفقير، وفكرةً اشتراكية تشرك الفقراء في مال الأغنياء، وتجعل لهم فيه نصيبًا، بل حقًّا يغتصبونه إن لم يؤدِّ لهم، وتهدف إلى تحقيق لون من ألوان العدالة الاجتماعية، التوازن الاقتصادي بين طبقتي المجتمع المتباعدتين: طبقة الأغنياء، وطبقة الفقراء، "فالغزو والإغارة للسلب والنهب" لم يعد عنده وسيلة وغاية، وإنما أصبح وسيلة غايتها تحقيق نزعته الإنسانية وفكرته الاشتراكية.

وقد يحدث أن تتطور هذه الأهداف الاجتماعية والاقتصادية عند بعض الصعاليك إلى لون من التمرد الخالص الذي لا يميز بين الأهداف، فإذا هم يتعرضون لكل من يسوقه حظه السيئ إلى مناطق تربصهم. يقول تأبَّط شرًّا معبّرًا عن هذا التمرد الخالص الذي أصبح عنده الوسيلة والغاية معًا:
ولَسْتُ أبيتُ الدَّهرَ إلَّا علَى فتًى *** أسلِّبه أو أَذعرُ السَّربَ أجمعَا[7]

أو يناضلون قبائل معينة العداء، يصبُّون عليها شرورهم، ويوجِّهون إليها غاراتهم وغزواتهم، كما كان يفعل تأبَّط شرًّا مع تلك المجموعة من القبائل التي يُعدِّدها في بعض أبياتِه[8]، وكما كان بين صعاليك هُذيل وصعاليك فَهم من عداوةٍ مستحكمةٍ لا يهدأُ أوارها، ظهرت آثارها في شعر الفريقين وأخبارهما[9].

وفي شعر الصعاليك صورة كثيرة متعددة الألوان والأوضاع لهذه الغارات، وأحاديث عنها لا تكاد تنتهي حتى تبدأ، وفي أكثر قصائد هذا الشعر ومقطوعاته يردِّد الصعاليك أقاصيص هذه الغارات في فخر، وإعجابٍ، واعتداد بأنفسهم وبطولتهم. وفي تائيَّةِ الشَّنْفرَى الـمُفضَّليةِ صورة رائعة قوية لغارة قام بها هو وأصحابه الصعاليك، يصف فيها كيف أعدَّ عصابته للغزو، ويصف الطريق الذي سلكوه، ويتحدَّث عن الدوافع التي دفعته إلى هذه الغارة، ثم يتحدَّث عن الأهداف التي حققتها، والغايات التي وصلت إليها؛ يقول:
وَباضِعةٍ حُمْرِ القَسيِّ بَعثتُها
ومَنْ يَغْزُ يَغْنمْ مرَّةً ويُشَمَّتِ
خَرَجْنا مِنَ الوادِي الَّذي بيْنَ مِشْعَلٍ
وبيْنَ الجَبَا هَيْهاتَ أَنْشأتُ سُرْبتِي
أَمْشِي علَى الأرْضِ الَّتي لنْ تَضُرَّني
لأُنْكِيَ قوْمًا أوْ أُلاقِي حُمَّتِي
أُمَشِّي على أَيْنِ الغُزاةِ وبُعْدِها
يُقرِّبُني منها رَواحِي وغُدْوَتي


ثم يقول:
قتَلنا قتيلًا مُهْديًا بِمُلبِّدٍ
جِمَارَ مِنًي وَسْطَ الحَجيجِ المُصَوِّتِ

جَزَيْنا سَلَامانَ بنَ مُفْرِجَ قَرْضَها
بما قدَّمَتْ أيْديهِمُ وأزَلَّتِ

وَهُنِّئَ بي قومٌ وما إنْ هَنأتُهم
وأصْبحتُ في قومٍ وليْسوا بمُنْيَتي

شَفيْنا بعبدِ اللهِ بعضَ غَليلِنا
وعَوْفٍ لدَى المَعْدَى أَوانَ اسْتهَلَّتِ[10]



وفي لاميّة العرب قصةُ غارة مفاجئةٍ خاطفة قام بها الصعلوك في ليلة باردة ذات ظلام ومطر، وقد استبدَّ به الجوع والبرد والخوف، ثم عاد إلى "قواعده" سالما، بعد أن حقَّق أهدافه، مخلِّفًا وراءه القوم يتسألون: ما هذا الذي طرَقَ حيَّهم ليلًا؟ وقد ذهبتْ آراؤهم فيه مذاهبَ شتَّى:
وليلةِ نَحسٍ يصْطلي القوْسَ ربُّها
وأَقطُعَه اللاتي بها يَتَنبَّلُ
دَعَسْتُ علَى غَطْشٍ وبَغْشٍ، وصُحْبتي
سُعارٌ، وإِرْزيزٌ ووَجرٌ وأَفْكَلُ
فأَيَّمتُ نسوانًا، وأيْتمْتُ إِلْدةً
وعُدتُ كما أبْدَأتُ والَّليلُ أَلْيلُ
وأصْبحَ عنِّي بالغُميْصاءِ جالسًا
فريقان: مسئولٌ وآخرُ يَسْألُ
فَقَالوا: لقد هرَّتْ بليلٍ كلابُنا
فقلنا أَذِئبٌ عسَّ أم عسَّ فُرْعُلُ
فلم تَكُ إلَّا نَبأَةٌ ثم هَوَّمتْ
فقلنا قَطاةٌ رِيعَ أم رِيعَ أَجْدَلُ
فإنْ يَكُ مِنْ جِنٍّ لأَبرحُ طارقًا
وإِنْ يَكُ إنسًا ماكها الإِنْسُ تَفْعَلُ[11]


وكان الصعاليك يخرجون لهذه الغارات الرهيبة فرادى أحيانًا، وفي عصابات أحيانًا أخرى. وكان أكثرهم يُغير على رجليه، وبعضهم يغير على الخيل.

ففي أخبار الشنفرى أنه كان «يغير على الأزد على رجليه فيمن معه من فَهْم، وكان يُغير عليهم وحدَه أكثر ذلك»"[12]، ومن أخباره أيضا أنه خرج «في ثلاثين رجلًا معه تأبَّط شرًّا يريدون الغارة على بني سلامان»[13]. وفي أخبار السُّليك أنه خرج «على رجليه رجاء أن يصيب غرة من بعض من يمر به فيذهب بإبله»، وأنه التقى برجلين قصتهما مثل قصته "فاصطحبوا جميعا"[14]. وفي أخبار تأبَّط شرًّا أنه خرج "في عدَّة من فّهْم"[15]. وفي شعره حديث عن غزواته هو وصعاليكه على الخيل أحيانًا، وعلى الأرْجل أحيانًا أخرى:
فيوما بغزاء، ويوما بسربة *** ويما بخشخاش من الرجل هيضل[16]

وفي شعر عروة أحاديث كثيرة عن هذين الأسلوبين من أساليب الغزو. يقول متحدِّثًا عن امرأته التي تلومه على مخاطرته بنفسه في غاراته المتكررة تارة بأولئك الرجلين الذين يعتمدون في غزوهم على أرجلهم، وتارة بأولئك الفرسان الذين يغيرون على الخيل:
تقول: لك الويلاتُ، هل أنت تاركٌ *** ضُبُوءًا برَجْلٍ تارةً وبِمَنْسِرِ[17]
ويقول متحدِّثًا عن اعتماده على كلا الأسلوبين في بعض غاراته:
لعلَّ انطلاقي في البلاد، ورِحْلتي
وشدِّي حيازيم المطيَّة بالرَّحلِ

سيدْفعني يومًا إلى ربِّ هجْمةٍ
يدافعُ عنها بالعقوقِ وبالبُخْلِ

قليل تواليها وطالب وترها
إذا صِحتُ فيها بالفوارسِ والرِّجلِ[18]











    رد مع اقتباس