عرض مشاركة واحدة
قديم 2019-01-08, 10:55 رقم المشاركة : 2
خادم المنتدى
مدير التواصــل
 
الصورة الرمزية خادم المنتدى

 

إحصائية العضو








خادم المنتدى غير متواجد حالياً


وسام المشاركة السيرة 1438ه

وسام المشاركة في مسابقة السيرة النبوية العطرة

العضو المميز لشهر فبراير

افتراضي رد: سر الخلود في شعر المتنبي


  • قضيّةُ التحاسدِ الواقعةِ بينَ أبي الطيّبِ وخصومهِ منها قدرٌ مُتّفقٌ عليهِ ، وهو أنَّ الرجلَ وجدَ من يُنابذهُ العِداءَ ويحسدهُ ويبحثُ عن زللهِ ، وقد ذكرَ ابنُ خنزابةَ أنّهُ رجعَ إلى خمسينَ كتاباً ليبحثَ فيها عن سرقةِ أبي الطيّبِ لأحدِ الأبياتِ فما وجدَ لها أثراً ، فقضى لهُ حينها بابتكارِ المعنى وتوليدهِ ، لا جرمَ أنّهُ كانَ محسوداً وقد حفِظتْ لنا كُتبُ التراجمِ أناساً نافسوهُ كما هو حالُ ابنِ خالويه وابن خنزابة وابن وكيع ، ومنهم من رأى نفسهُ أعلى قدراً من أبي الطيّبِ وأسمى درجةً ، وهذا قد لا يُسمّى حسداً بالمعنى الدقيقِ ، كما هو حالُ ابنِ العميدِ وأبي فراسٍ وغيرهم ، فهؤلاءِ كانوا بمنزلةٍ كبيرةٍ ومقامٍ عالٍ ، وكانوا في عامّةِ حالِهم على ازدراءٍ بالنّاسِ وطعنٍ فيهم ، كما هي حالِ أبي الطيّبِ في نفسهِ .

    إذن نتّفقُ على قدرٍ أوّليٍّ من الحسدِ وقعَ لهذا العبقريِّ الفذِّ .

    تبقى القضيّةُ الأخرى : هل كانَ الرّجلُ محسوداً بهذه الطريقةِ التي يصوّرها هو للقارئ ؟ ، أظنَّ هذه القضيّةَ ليستْ سوى إسقاطٍ نفسيٍّ من أبي الطيّبِ ، وذلك أنَّ القارئ لشعرهِ والنّاظرَ في خصائصهِ النفسيّةِ تحديداً يجدُ أنَّ على درجةٍ تصاعديّةٍ من ابتداءِ قرضهِ للشعرِ وحتّى كهولتهِ في ازدراءِ النّاسِ ، ومقتِهم ، والشعورِ بالنّقصِ الذي ولّدَ فوقيّةً مقيتةً ضربتْ أطنابها في الكثيرِ من قصائدهِ ، وكانَ يرى أنَّ الناس تتقصّده بالأذيةِ والدسائسِ ، ممّا أدّاهُ إلى ازدراءٍ للنّاسِ واحتقارٍ لهم ، وقد كمن ذلك في ثنايا نفسهِ وتفجّرَ لا شعوريّاً في شعرهِ ، ومنها قصائدُ قالَ في صباهُ ، كما في قولهِ :

    كم قتيلٍ كما قُتلتُ شهيدِ ........ لبياضِ الطُّلى ووردِ الخدودِ
    لا بقومي شرفتُ بل شرفوا بي ..... وبنفسي فخرتُ لا بجدودي
    إن أكن معجباً فعُجبُ عجيبٍ ...... لم يجدْ فوقَ نفسهِ من مزيدِ
    ما مُقامي بأرضِ نخلةَ إلا ....... مقامُ المسيحِ بينَ اليهودِ !
    أنا في أمّةٍ تداركها اللهُ ...... غريبٌ كصالحٍ في ثمودِ

    وقولهِ - وهي في صباهُ أيضاً - :

    أيَّ محلٍ أرتقي ....... أيَّ عظيمٍ أتقي
    وكلُّ ما قد خلقَ اللهُ .... وما لم يخلقِ
    مُحتقرٌ في همّتي ..... كشعرةٍ في مفرقي

    وقولهِ - وهي في صباهُ كذلكَ - :

    ويجهلُ أنّي مالكَ الأرضِ مُعسرٌ ...... وأنّي على ظهرِ السماكينِ راجلُ
    وما زلتُ طوداً لا تزولُ مناكبي ...... إلى أن بدتْ للضيمِ فيَّ زلازلُ

    وغيرُ ذلكَ من القصائدِ والمقطوعاتِ التي قالها في صباهُ ، واستمرَّ فيها يتصاعدُ في أزمتهِ النفسيّةِ وشعورهِ بالاستعلاءِ والاستطالةِ والتنقّصُ ، بل والحقدِ الفظيعِ على الآخرينَ ، وهذه الكراهيةُ للنّاسِ وتنقّصهم لها أسبابٌ موضوعيّةُ في سيرةِ أبي الطيّبِ ، إلا أنَّ ما نفخَ أوارها وزادها هو أبو الطيّبِ نفسهُ ، فصوّرَ العالمَ من خلالِها شرّاً والنّاسَ بهماً ، وهكذا ، وهذا الأمرُ هو ما حدا الكثيرينَ إلى التنكّبِ عن طريقهِ ومنابذتهِ العداءَ ، وهو ما يُفكّكُ لنا سرَّ الاستطالةِ الكامنةِ في شعرهِ ، وكذلكَ سرَّ المُجافاةِ لهُ من قِبلِ الكثيرِ ، وبعضُهم من ذوي الشرفِ والنباهةِ ، كما هو حالُ أبي فراسٍ وكافورَ وغيرهم .

    - الغموضُ في سيرةِ أبي الطيّبِ أمرٌ مرجعهُ أبو الطيّبِ نفسهُ ، فقد كانَ يُضمرُ مطالبهُ ويُضمرُ الكثيرَ من سيرةِ حياتهِ ولا يكادُ يذكرُ من ذلكَ شيئاً !! ، وفي العديدِ من التراجمِ - كما عند ابنِ النديمِ في بغيةِ الطلبِ - أنّهُ كان لا يذكرُ نسبهُ ولا يُعرّفُ بنفسهِ ، ويتحاشى ذلكَ ! ، وهذا لهُ أسبابهُ التي ذكرها المؤرخونَ والنقّادُ .

    وفي الجملةِ فإنَّ غموضَ السيرةِ ليستْ بما يُحتفلُ بهِ ، بل هي للمذمّةِ أقربُ منها للمدحِ ، ولو ثبتَ أنَّ حياةَ أبا الطيّبِ كانتْ بمثلِ هذا الغموضِ الذي يُشيعهُ بعضِ مترجميهِ ، فالرّجلُ إذن من العبقريّةِ بمكانٍ عظيمٍ ، أن تخطّى كلِّ هذه العوائقِ حتّى ثبتَ ثباتَ الأبطالِ ، على أنّهُ لا جِدالَ ولا مِراءَ في هذا الأمرِ - أعني عبقريّتهِ ونبوغهِ - ، وللمعلوميّةِ فإنَّ سيرةَ أبي تمّامٍ ومن قبلهِ ابنَ المقفّعِ وغيرهم قد قوبلتْ بنظيرِ ما قوبلتْ بهِ سيرةُ أبي الطيّبِ من الغموضِ والتشكيكِ والنّقاشِ ، وليسو أقلَّ منهُ في هذا شأناً .

    - التعقيدُ في شعرِ أبي تمّامٍ موجودٌ ، كما أنَّ أبا الطيّبِ في هذا لهُ نصيبٌ وافرٌ وكبيرٌ ، ومدرسةُ أبي الطيّبِ في التركيبِ وتوليدِ المعاني وصناعةِ اللفظِ هي مدرسةُ أبي تمّامٍ ، ولو كانَ أبو تمّامٍ يستحقُّ المؤاخذةَ على ساقطِ شعرهِ ، أو أن يُغضَّ من قدرهِ لبعضِ التكلّفِ الحاصلِ فيهِ ، فإنَّ أبا الطيّبِ في هذا لا يقلُّ عنهُ ، بل إنَّ الساقطَ في شعرِ أبي الطيّبِ والمعاني المبتذلةِ أحياناً تُشعرُ القارئ بالنفورِ الشديدِ ، وقد جمعَ ذلكَ الجرجانيُّ وابنُ الأثيرِ وغيرُهم .

    لقد كانَ أبا تمّامٍ شاعراً عظيماً ، أبدعَ وابتكرَ المعاني وأحسنَ في صنعةِ اللفظِ وجلبِ المُحسناتِ البديعيّةِ الرائقةِ ، ويكفيهِ فخراً أنّهُ أخمدَ في زمانهِ 500 شاعرٍ مُجيدٍ ، وهو القائلُ :

    بيُمنِ أبي إسحاقَ طالتْ يدُ الهُدى ...... وقامتْ قناةُ الدينِ واشتدَّ كاهلهْ
    هو البحرُ من أيِّ النّواحي أتيتهُ ...... فلُجّتهُ المعروفُ والجودُ ساحلهْ
    تعوّدَ بسطَ الكفِّ حتى لو انّهُ ..... دعاها لقبضٍ لم تُطعْهُ أناملهْ

    وقولهُ :

    فإن يكنْ وصبٌ قاسيتَ سورتهُ ..... فالوِردُ حلفٌ لليثِ الغابةِ الأضمِ
    إنَّ الرّياحَ إذا ما أعصفتْ قصفتْ ..... عيدانَ نجدٍ ولم يعبأنَ بالرتمِ
    بناتُ نعشٍ ونعشٌ لا كسوفَ لها ..... والشمسُ والبدرُ منها الدهرُ في الرقمِ
    فلْيهنكَ الأجرُ والنّعمى التي سبغتْ ..... حتّى جلتْ صدأ الصّمصامةِ الخذمِ
    قد يُنعمُ اللهُ بالبلوى وإن عظمتْ ...... ويبتلي اللهُ بعضَ القومِ بالنِّعمِ

    وقولهُ :

    يا أيّها الملكُ النّائي برؤيتهِ ..... وجودهُ لمُراعي جودهِ كثبُ
    ليسَ الحِجابُ بمُقصٍ عنكَ لي أملاً ...... إنَّ السماءَ تُرجّي حينَ تحتجبُ

    وقولهُ :

    وإذا أرادَ اللهُ نشرَ فضيلةٍ ..... طويتْ أتاحَ لها لِسانَ حسودِ
    لولا اشتعالُ النّارِ فيما جاورتْ ..... ما كانَ يُعرفُ طيبُ عرفِ العودِ

    وقولهُ : أقولُ وقد قالوا استراحتْ لموتِها ..... من الكربِ ، روحُ الموتِ شرٌّ من الكربِ
    لقد نزلتْ ضنكاً من اللحدِ والثرى ...... ولو كانَ رحبَ الذراعِ ما كانَ بالّرحبِ
    وكنتُ أرجّي القربَ وهي بعيدةٌ ..... فقد نُقلتْ بعدي عن القربِ والبعدِ
    لها منزلٌ تحتَ الثرى وعهِدتها ..... لها منزلٌ بينَ الجوانحِ والقلبِ

    وغيرها الكثير والكثيرُ جداً ، حتّى قالَ عنهُ ابنُ الأثيرِ : ولم يوجدْ في متأخّري الشعراءِ من يقعُ موقعَ أبي تمّامٍ في توليد المعاني وابتكارِها وتفرّدهِ في ذلكَ ، وفي ترجمةِ المُتنبّي أنّهُ كانَ يُسافرُ ومعه ديوانا أبي تمّامٍ والبُحتري ، فأخذَ منهما كثيراً ، حتّى إنَّ أبا العلاءِ حينَ سُئلَ عن الشعراءِ الثلاثةِ قالَ : أبو تمّامٍ والمُتنبّي حكيمانِ ، وإنّما الشاعرُ البُحتريُّ .

    ولو أردتَ الوقوفَ على ما يُعابُ بهِ شعرُ أبي الطيّبِ فنظرْ في الوساطةِ وفي المثلِ السائرِ ، لترى كم كانَ عصيّاً في الصياغةِ عسِراً في التوليدِ مُتكلّفاً في الصنعةِ ، وهو حالٌ تعتريهِ كما يعتريهُ الرشاقةُ والعذوبةُ ، وعلى كلِّ الأحوالِ فهما على نبوغِهما سقطا في التكلّفِ والتقعّرِ والمعاضلةِ ، وذكرَ ابنُ الأثيرِ أنَّ المعاضلةِ كثيرةٌ جداً في شعرِ أبي الطيّبِ ، وهذا بلا شكِّ من العيوبِ في الشعرِ .





    رد مع اقتباس