عرض مشاركة واحدة
قديم 2010-03-11, 15:34 رقم المشاركة : 1
ابن خلدون
بروفســــــــور
إحصائية العضو







ابن خلدون غير متواجد حالياً


الوسام الذهبي

وسام المراقب المتميز

a9 المدرسة ... الرهان الأضمن المكي ناشيد باحث في التربية


المدرسة ... الرهان الأضمن
المكي ناشيد

إن أي مجتمع بما هو عليه من تناغم وتكامل وانسجام، وبما يعرفه من نمو اقتصادي ونضج اجتماعي وتراكم ثقافي، وما يحققه من تقدم معرفي وتكنولوجي، وما يحظى به من استقرار سياسي وارتقاء حضاري، هو بالضرورة نتاج عمل تعليمي، وفعل تربوي لمدرسة بعينها. إن لكل مدرسة مشروعها المجتمعي الذي تعمل على صياغته في أهدافها ومراميها.
ولعل جان جاك روسو تاريخيا، كان أول من عبر بجرأة نادرة، وبأسلوب بليغ ولغة فصيحة، في كتابه التربوي الشهير» إميل « الذي دشن به ثورة في الميدان التربوي شبهها البعض بالثورة الكوبرنيكية على المستوى الفلكي، فأكد من خلال آرائه التربوية على أن الحرية تربية، والديمقراطية تربية، والمواطنة تربية، ومن تمة فإن سمات شخصية الفرد وما ستكون عليه في سيرورة حياته، تتحدد معالمها بنمط التربية التي يتلقاها في المدرسة بالدرجة الأولى.
لذلك تلعب المدرسة دورا أساسيا في تشكيل معالم المجتمعات وتحديد مستويات الشعوب، وهو الأمر الذي آمن به روسو فعمل على الربط بين فكره التربوي من خلال كتابه «إميل»، وآرائه السياسية في « العقد الاجتماعي»، وكأنه يريد من وراء ذلك القول على أنه لكي يصير المواطن الفرنسي قادرا على الاختيار الحر عن وعي ومسؤولية لممثليه في المؤسسات المنتخبة تشريعية كانت أم رئاسية، ينبغي أن يربى على نموذج «إميل»، تربية طبيعية تحررية مستقلة...وبذلك يكون جان جاك روسو قد رسم، بالتربية ومن خلالها، الطريق إلى تحقيق التحول السياسي في فرنسا. فكانت مباشرة بعد ذلك الثورة الفرنسية في القرن الثامن عشر، وكانت فرنسا ما بعد الثورة التي تشكلت فيها مع نابوليون بونابارت معالم المدرسة الحديثة التي أرسى مبادئها الثلاثة؛ المجانية، الإجبارية والتعميم، وهي التي تحظى إلى اليوم بالإجماع المطلق من طرف المجتمع الفرنسي.
إن الدول العظمى اليوم، هي التي تردد صدى أفكار روسو وتعاليمه التربوية بين أرجاء مؤسساتها التربوية/ التعليمية، فجعلت من المدرسة أداة رئيسية للتنمية الشاملة، أداة تتبوأ مكانة أولى الأولويات في برامج الدولة ورهانات قادتها.
فخلال حكم الرئيس الأمريكي هاري ترومان وفي سنة 1948، تبين للقيمين على التعليم أن المدرسة الأمريكية تمر بأزمة تتعلق بالتقويم خصوصا في مادة الرياضيات حيث تتباين النقطة الممنوحة للورقة الواحدة ما بين مصحح وآخر، وهو الأمر الذي من شأنه أن يؤثر في النتائج الدراسية، إذ ينعكس سلبا على المردودية ومستويات التحصيل العلمي، الشيء الذي تنعكس آثاره بالضرورة على التقدم العلمي والإنتاج التكنولوجي للدولة ككل. وهم في ذلك مقتنعون بأنه إذا ما استمر المشكل على هذا النحو، فإن توازن القوى في إطار الصراع الدولي سيختل لفائدة المعسكر الشرقي الشيوعي الذي تُنتج مدرسته بتوجيه من آراء تروبسكايا وأفكار ماكارنكو قدرات علمية جد متفوقة مكنت الدولة السوفيتية من الوقوف في وجه المعسكر الرأسمالي ندا للند في سائر المجالات ومختلف الميادين. وهكذا وحتى لا تتراجع المدرسة الأمريكية أمام نظيرتها السوفيتية تم تنظيم مؤتمر وطني ضم مختلف علماء النفس الأمريكيين لمعالجة مشكل التقويم التربوي، وهو المؤتمر الذي بقيت أشغاله مفتوحة إلى أن انتهت، بعد ثمان سنوات، اللجنة المنبثقة عنه إلى الوصول ليس لعلاج المشكل فحسب، وإنما إلى اكتشاف نظرية تربوية جديدة اتخذت لها اسم: بيداعوجيا الأهداف،. وإذا كان من الواضح أن هذا الحرص الشديد على دور المدرسة وقوة أدائها تتحكم فيه الرغبة في تحقيق أمن الدولة وضمان استمراريتها في خضم الصراع الدولي، فإنه من جهة أخرى يمكن المدرسة الأمريكية من إعادة صياغة ذاتها، وتغيير عدتها وعتادها، وتطوير آلياتها الديداكتيكية والبيداغوجية.
لم تعد المدرسة في العالم الغربي المتقدم مجرد مؤسسة سلبية تنفعل وتتأثر بما يجري حولها، تستجيب لمتطلبات السوق وتلبي رغبات الناس وتخضع لأذواق الحكام وميولهم، وإنما صار لها دور فاعل في صنع الأحداث، وتوجيه اختيارات الشعوب في القضايا الكبرى بما في ذلك الانتخابات الرئاسية، وأود هنا أن أقف على نموذجين دالين لهما راهنيتهما:
النموذج الأول؛ هو الكتاب الانتخابي لنكولا ساركوزي الذي صدر بعنوان «شهادة « سنة 2006، مقدما فيه للشعب الفرنسي ما يتعهد بإنجازه لو انتخب رئيسا للدولة خلال انتخابات 2007 ، وبين صفحاته اختزل الرهان الذي يضعه على المدرسة الفرنسية في» المصالحة بين المدرسة والتقدم الاجتماعي» مذكرا في ذلك بالمبادئ الكبرى للتعليم الفرنسي والتي هي؛ المجانية، العلمانية والمدرسة المختلطة باعتبارها ثوابت تحظى بإجماع الشعب الفرنسي ولا مجال للنقاش حولها.
وحسب ساركوزي فإنه بالنسبة للمجتمع الفرنسي حيث يعتبر العلم والمعرفة مجالين حاسمين، لذلك لا ينبغي تقليص الإنفاق على التربية والتعليم كيفما كانت الأحوال، بل على العكس من ذلك فالأمر يتطلب الزيادة في الإنفاق. وهو قي ذلك متأثر بما يراه من تزايد لجحافل المتخرجين من مدارس الهند والصين الذين يعدون بالملاين ما بين مهندسين وباحثين.
وفي حديثه عن أساليب التعليم ، يؤكد على أن الأستاذ في المدرسة ينبغي أن يكون حرا في اختيار طرائق التدريس التي يراها ملائمة، وأن أي دورية إدارية لا يمكن أن تقوم مقام الخبرة الميدانية لمدرس في الفصل.
ومع كل ذلك فإن ساركوزي لا يخفي إعجابه بنموذج المدرسة الألمانية،لكنه من الصعب كما يرى، فرضه على المجتمع الفرنسي.
النموذج الثاني؛ هو الكتاب الانتخابي لباراك أوباما الذي صدر بعنوان « التغيير يجب أن نؤمن به» سنة 2008 مقدما فيه هو الآخر للشعب الأمريكي ما يتعهد بإنجازه لو انتخب رئيسا للدولة في انتخابات 2009 . وفي موضوع التعليم، يلخص أوباما الرهان الذي يضعه على المدرسة الأمريكية في تحقيق» تعليم في مستوى عالمي لكل مواطن» يضمن من خلاله التغيير الذي يرتضيه لبلده. وهو يؤمن بأنه في اقتصاد معولم كما نعيشه اليوم، فإن الدول التي تستطيع تحقيق تعليم أفضل من تعليمنا حتما ستتجاوزنا سواء أكانت هذه الدول محافظة أو ليبرالية أو ديمقراطية، وبناء على ذلك، يعيب على المدرسة الأمريكية ضعف أدائها، إذ أن 20% فقط من طلبتها الذين يلتحقون بالجامعات يكونون في مستوى جيد في الإنجليزية والرياضيات والعلوم، وأن مستوى طلبة بلاده أصبح من بين المستويات الأدنى في العالم الصناعي، وباستياء يرى أن هذا الوضع مرفوض أخلاقيا، وغير مقبول اقتصاديا، خصوصا وأن التعليم الصيني يحقق أربع مرات أكثر مما يحققه تعليم بلده من المهندسين.
لذلك يريد أوباما أن يلفت الانتباه إلى أن المجتمع الأمريكي سيفشل إذا ما قصر اهتمامه فقط على النجاح الدراسي للشباب دون الاهتمام بتطوير القيم التي ستجعلهم مواطنين مسؤولين، وتلك مسؤولية المدرسة التي على الأسرة أن تدعمها، وفي سبيل ذلك، يلح على الآباء أن يحرصوا على أن ينجز أطفالهم واجباتهم المدرسية في المنزل، وأن يبعدوا عنهم التلفاز وألعاب الفيديو، وبهذا يساوي بين المدرسة والأسرة في تحمل مسؤولية تربية الأبناء وتعليمهم.
وهكذا فإذا كانت المدرسة الأمريكية براكماتية المذهب، تجارية النزعة، مستقلة عن الدولة في التمويل والإشراف، في حين أن المدرسة الفرنسية ؛ عقلانية المذهب، مجانية المبدإ، عمومية النزعة، تابعة للدولة تمويلا وإشرافا، فإنهما يلتقيان معا في أداء نفس الوظيفة، وتحقيق نفس الأهداف التنموية لمجتمعهما في مواجهة التقدم العلمي والتكنولوجي الذي بدأت تتميز به دول أسوية من أبرزها الصين والهند وهو الهاجس المشترك لدى كل من ساركوزي وأوباما في كتابيهما سالفي الذكر .
وعلى كل، يمكن أن تقاس درجة تقدم المجتمعات والدول بمقدار الاعتبار الذي تحظى به المدرسة لديها، فما خابت أمة وضعت كامل ثقتها في مؤسساتها التربوية/التعليمية.

باحث في التربية

11/3/2010

الاتحاد الاشتراكي






    رد مع اقتباس