2- تطـور مقاومة الكاهنــــة:
إذا كان الفتح العربي الإسلامي في الشرق قد تم بسرعة ملحوظة ، حيث أخضع المسلمون في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه مجموعة من البلدان كالشام ومصر والعراق وفارس ، فقد ظلت أفريقيا الشمالية منطقة عسيرة وأرضا خطيرة بسبب وعورة التضاريس الأفريقية، وشدة مقاومة الأمازيغيين لكل من حاول الاعتداء على حريتهم وممتلكاتهم، وصلابة عود البرابرة، وكثرة شجاعتهم ، وقوة شكيمتهم، وتعسف الولاة في التعامل مع الأفارقة الذين لايقبلون الضيم ولا يرضون بالذل؛ نظرا لاعتزازهم الكبير بأنفسهم أنفة وكرامة واستعلاء .
لذا، بقيت أفريقيا الشمالية وعرة التطويع وصعبة الإخضاع لمدة تتراوح بين 22هـ و82هــ، أي فترة زمنية تقدر بــ60 سنة من تاريخ المد والجزر من أجل نشر الإسلام بين ساكنة تامازغا التي أظهرت العناد وعدم الانقياد بسهولة لسلطة الخلافة الأموية . ومن ثم، كان إسلامهم يتأرجح بين الاعتناق الطوعي و الردة المؤقتة .
ويمكن تقسيم تطور مقاومة الكاهنة في شمال أفريقيا في مجابهتها للقائد العربي المسلم حسان بن النعمان إلى مرحلتين أساسيتين: مرحلة الانتصار ومرحلة الهزيمة.
أ*- مرحلة انتصار الكاهنة على حسان بن النعمان:
بعد انتصار حسان بن النعمان على كسيلة، اتجه هذا القائد العربي نحو ممالك الجزائر والمغرب لنشر الإسلام بين ساكنتها، لكنه واجه مقاومة شرسة من قبل الكاهنة التي وحدت القبائل الأمازيغية، فكونت جيشا عرمرما استطاعت أن تؤثر فيه بهيبتها وجمالها وقوة شكيمتها وحدة فراستها.
وقد سبقت الكاهنة إلى إعلان الحرب على حسان ، وقصدت مدينة باغية، فأخرجت منها الروم، ثم هدمت حصونها لكي لايحتمي بها حسان بن النعمان الذي تحرك بدوره في اتجاهها ، فنزل بوادي مسكيانة، ثم التقى الجيشان مع انبلاج شمس الصباح قرب نهر بلىّ التقاء داميا تطاحنت فيه الرؤوس والخيول والسيوف، وانتهت المعركة بانهزام حسان ، وأسفرت المعركة عن مقتل الكثير من العرب ، فأسرت الكاهنة حسب المصادر حوالي ثمانين رجلا، وسميت هذه الموقعة بيوم البلاء ، وسمي النهر الذي التقى فيه الجيشان بنهر البلاء.
و بعد المعركة، عاد حسان بن النعمان إلى تونس . وإثر ذلك، انتقل بجيشه إلى برقة، واستخلف على إفريقيا أبا صالح.
وكان" انهزام حسان أمام الكاهنة أشنع ما مني به العرب في بلاد المغرب، وهذا بإجماع المصادر العربية، وأول انكسار عرفه لهم التاريخ آنذاك.
وعندما وصل حسان لمأمنه كتب إلى الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان بالواقعة يستنجده لإعادة الكرة ويعتذر عن انكساره.
ومن ضمن مابرر به هذا الاندحار مايلي:" إن أمم المغرب ليس لها غاية، ولايقف أحد منها على نهاية، كلما بادت أمة خلفتها أمم".
ومن مظاهر إنسانية الكاهنة أنها عندما تتبعت جيش حسان بن النعمان إلى تخوم تونس لم تخرب القيروان، ولم تقتل المسلمين المتواجدين بها أو تقوم بالتنكيل بهم ثأرا وانتقاما ، بل عادت برجالها إلى مقر عاصمتها بالأوراس، مما يعني هذا أن ثورتها كانت محلية وتستهدف من ورائها طرد العرب من بلادها إلى خارج أفريقية . كما أفرجت عن جميع أسرى حسان بن النعمان " فأحسنت الكاهنة أسر من أسرته من أصحابه وأرسلتهم إلا رجلا منهم من بني عبس يقال له خالد بن يزيد فتبنته وأقام معها".
ولم يكن هذا التبني إلا لأسباب ترومها الكاهنة ، ربما أنها كانت تسعى من وراء ذلك إلى اتقاء المحاولات الانتقامية من قبل حسان بن النعمان وتجنب ردود فعل المسلمين أو ربما تريد من ذلك الفعل أن تستكنه نوايا الفاتحين المسلمين وتعرف خطط قوادهم وكيف يفكرون، وربما قربته إليه ليفشي لها أسرار كل الخطط الهجومية التي يمكن أن يلتجئ إليها حسان بن النعمان في المستقبل أو ربما قررت أن تستعين به ليوم الحرب الضروس الآتية و يوم اللقاء الأخير لتستأمنه على أولادها مما يمكن أن تصدر عن حسان من ردود فعل انتقامية .
ويقول ابن عذارى صاحب البيان:" وحبست عندها خالد بن اليزيد فقالت له يوما: مارأيت في الرجال أجمل منك ولا أشجع، وأنا أريد أن أرضعك فتكون أخا لولدي، وكان لها ابنان أحدهما: بربري، والآخر يوناني. وقالت له:" نحن جماعة البربر لنا رضاع ، إذا فعلناه نتوارث به"، فعمدت إلى دقيق الشعير فلتته بزيت وجعلته على ثديها ودعت ولديها وقالت " كلا معه على ثديي" ففعلا فقالت:" قد صرتم إخوة".
أما رواية ابن عبد الحكيم فكانت أكثر وضوحا لمبتغى الكاهنة من هذا التبني حيث قال:" فقالت: يابني انظروا ماذا ترون في السماء. قالوا : نرى شيئا من سحاب أحمر. قالت: لا وإلهي ، ولكنها رهج خيل العرب. ثم قالت لخالد ين يزيد:إني تبنيتك لمثل هذا اليوم".