عرض مشاركة واحدة
قديم 2015-06-14, 04:14 رقم المشاركة : 13
المرتاح
أستـــــاذ(ة) متميز
إحصائية العضو









المرتاح غير متواجد حالياً


افتراضي رد: قصة : البدويّة .!!! من تأليفي .


ج 3

ومن يومها، اشتغلت على الشاحنة ، كما كان يشتغل عليها أبي ، أقوم بشراء الغنم و تحميل بعض الإبل لصالح مُربي آخر .. وفي صباحات إحدى الأيام وصلتُ إلى عِزبة احد أصدقاء أبي القُدامى الذي كان يُتاجر معهم ، يحمل الأغنام والخِرفان والإبل بمختلفها إلى أسواق بُلدان مُجاورة لصيقة بنا ، أو هيَ جزءٌ من امتداد رُقعة بلادنا حتى في الأيام القريبة ، قبل ما يُعرف بالترسيمات المكانيةاو الحُدودية .. نحمل إلى أسواقها ، مَواشينا وإبلنا وكان سُوقها رائجاً يومئذ ولم يزل على مكانته وتتزايد قوته الشرائية ، فالطلب على المواشي ينمو بشكل سريع ،تأتي هذه القوة الشرائية مُعزّزة الطلب من مناطقٍ وبُلدانٍ تتجاور مع بلدنا ولكنه عن طريق السوق الاكثر تجاوراً لنا ، وأكثرهُم يرغبون في شراء (الجِمَال ) الإبل الأصيلة ذي التربية العربية والسلالات العريقة ، وخاصة القُعود أو الثنايا حيث امتدّت العولمة إلى سباقات الماشية ، والابل ليس عنها ببعيد ، وهذه التحوّلات أيضاً لحقتْ بسُوق الغنم فصار مطلوباً جداً لمناطق حضريّة فأكثر هاته المناطق ذات الشبْع الرغيدْ ، بأموال تتزاحم كما تتزاحم ماشيتنا على شربة الماء ..!!
وصلتُ إلى هذا الرجل ، صديق أبي المرحوم ، وسلمتُ عليه ، قبّلتُ رأسه احتراماً له وتقديراً .. قربّني وأجلسني محل صديقه القديم ، أبي ، وسألني عن العُلوم والأخبار ، هذه الحالة من المُساءلة في العلوم والاخبار تجدها مُستحسنة وبقوة في مجتمعنا الشرقي ذي الجذور العربية الذي يعبق بتراثيات لا مثيل في منظومتنا بل وفي كوننا الإنساني الحافل بذكريات عِشق الإنسان للتراب منذ الخليقة ، ذلك لأن الله أودع هذا الاستخلاف في بشرية تتلو بعضها بعضاً ، لا حكْر لأحد أو قوميّة أو بيئة دون أخرى ، كيْ تستخلف عليها ، وتُسمى عادة بـ " المُناشدة " وتذكّرتُ هنا ، كلام أبي ـ رحمه الله ـ ربّنا تعالى أراد أن نفعل ما يُرضي الحياة ونعمل عليها ، كلُ ما هُو زاخر بالمعاني القيّمة فقد أعطانا أُسس مَبادئها القويمة وسُلوكياتها الحسنة ، فنتعامل مع الآخر بروح التفاؤل والنّظرة الحسنة ، كما أتاح لنا حُرية تعديل أُطرها بما يتلاءم ويتّفق مع القاعدة الحياتية ، التي انفطرنا عليها ، وهي محبّة التعايش والتقارب ، فلا يخرج عنها أحدّ او يشذّ ومن شذّ ، يكون رِزْئًا بغيضاً ، محسوداً ، يُصيبه الحِقد من بُغض الناس عليه .. !! هززتُ رأسي ، وقلت ، صدقت أبي .!؟
نعم ، ففي مُجتمعنا قد جدنا أُسسٌ قام عليها السلف ، وذهبَ الرجال عليها وطبقوها بحرفية ،ومشوا على خُطواتها ، خطوة بخطوة ، لا يحيدون عنها ولا تزلّ أقدامهم عن خُطاهم ، كانو رجلٌ ما ضيّعوا ولا فرّطوا ولا بدّلوا تبديلاً .. وعسانا نكون مِثلهم وتكون أجيالنا الواعدة قائمون إلى مسرّاتها وحفظها وترميمها بما يتوافق وعصرهم لُغة وحياة ، وقيماً ..!! سألتُ صديق أبي ، عن هاته المسألة ، فأجابني :
ـ إن مثلها كمثل القيام بمُلاطفة الام لابنها ، فالزائر يكون بحاجة إلى من يفتح له نفسه ليتكلّم عن خطبٍ جاء به ، فقد تجد البعض في تردد ، وما أن تفتح له هذه المسألة ، حتى يقول ما يجلو في خاطره .. فالعلوم والأخبار ، مسألة ، هي أقرب إلى الأخذ والعطاء ، وهيَ مِساحة من الحُرية أو هي فُسحة من الجرأة للتحدث بدون خجل ، ويعتبره كثير من العُقلاء ، كسْراً لقاعدة الاستحياء التي تكون مُتلازمة عند كثيرٍ من الناس ..! شكرته على إجابته، ورفعتُ فنجان القهوة العربية إلى فمي ، مُستأذنا إيّاه .. انظر في الشمس فأجدها تُطالعني ، تُغريني بجمال سحرها الذي لا يُضاهيه جمال في الكون كُلّه ، مُشرعةً ، بازغة في صباح مُشرق ، آخّاذ ، تأسر النفس وهي تأخذ صُعوداً لتُعطي الأرض ديمومة النشاط المتقلّب ، بعد ليل صاخب بأزيز الحشرات وأنّات الهوام لمخيفة .. ولكني كنتُ قد آنستُ رُشداً بضيافة صديق أبي ، وأعجبتني الصحراء بكل ما تحمله من رجالات وبيئة ، فتأنس النفس إلى هواء الصحاري وتهجع بنسيمها الأرواح المعذّبة ، وترتاح القلوب المتألّمة إلى ترانيمها وقرقرات السّحالي تشدو بموسيقى لا تجد لها مثيلاً إلا مع هؤلاء البدو .. وعلى تُربتها النظيفة تسترخي بغفوته البُطون الجائعة .. كان ذلك الإشراق الصباحي يبعث في النفس رَونقاً من التواصل مع الحياة .. ينظر إليّ صديق أبي ، وابتسم مرحّباً بي ، فقد كان الرجل بطيبته وبطبيعته وسجيّته الإنسانية ، لها قوة التأثّير بالنخوة البدوية التي قلّ ان تجدها في المناطق الحضرية المختلطة بالانفس والمصالح ، مسكَ يدي وجذبني إليه ، وأدخلني في حُجرته الصغيرة المبنية من قوائم جذوع النّخل وبسقوفٍ من أعواد سَعْفها ، مَشْبوكة بحبال مُتماسكة وعلى ركائزها أعواد النّخل الصّلبة وشيء من جذوعها، مُغطّاة من جهاتها الثلاث ، بينما الجهة الأمامية مفتوحة ، وعلى القُرب منها دار صغيرة ، عبارة عن أعواد وسَعفات النخيل وشيء من وَبر الحيوانات وجلودها ، تجلس تحت ضِلّها فتاة رائعة الجَمال ، باسمة المحيّا .. عليها سُرور من المودّة ، زاخرة بعطاء أنثوي ، يظهر ذلك من جِيْد حُسنها الباذخَ بالرشاقة وعُودها النّظر ، سحرتني عيونها وهي تُصوّبها في عيني ، أحسستُ برموشها ترفرف ، كأجنحة طائر يسحر الناظر كُلما ارتفع أو مالَ مُنحنياً ، لكأنه يستعرض حركته وفنياته بصورة تجعلني استلهم من رَفرفتها ،قوة مكانتها المُتخلّقة في سموات الكون البديع ، ليكونا جناحيها مروحتين دافئتين لتهدئة حرارة العين بمهارة رائعة .. وأُرجع إصابة عيني بسحرها إلى دفء نظراتها التي شعّتْ ببهائها في قلبي .. سرّتني نظراتها وأدفئتني تصويباتها ، فكُلما ولّيت بوجهي جانباً أو نحتْ نظرتي صوباً آخر ، تشع ابتسامتها فتغريني غريزياً وتُلقي بسحرها في قلبي ، ورغم أنني آنستُ رُشداً، بابتساماتها ، لكني كنت مُلتزماً إلى ابعد الحدود بأخلاقي التي تربيّتُ عليها ، مُسترشداً بقِيَم رسّخها والدي فيّ ،ومهتدياً بأدب سَبلته وسَمت الرجال .. ومُستحسناً رشاد التقدير الإنساني ومقاصد السّمت والتأدّب الجميل.. اتسعتْ عيني بمساحة تلك العِزبة ، دفءٌ يسكنني ، وهدوء يَغْمرني وسكينة تُغشيني ، وهواءَ الصحراء مُؤنس ولطيف ينعش النفس المضطرّة ويُبْدلها إلى نفسٍ لا تعرف الضّيق سُلوكاً ولا الحمقَ طريقاً .. تذكرت قريتنا وأهلها الذين ينتقلون من الحارة إلى " مزارع النخيل " الملأى بأشجار الزيتون والبيذام والليمون والنخيل وبعض أشجار السفرجل والموز ومزروعات أخرى ، كالحشائش والقتّ " البرسيم " الذي يُعدّ طعاماً مهماً لحيواناتهم وماشيتهم وتدرّ على تربيتهم للحيوانات وسائر المواشي بالمال الوفير ، فينعموا برفاهية الحياة التي ينشدونها .. كان هذا التآلف والانسجام مُتجذّراً منذ زمنٍ بعيدٍ ، أوعزه بعض الرجال إلى كونه هُروباً من رُطوبة البحر ، ففي الحارة الساحلية تزيد الرطوبة وتختنق بالحرارة العالية ، لأسباب كثيرة منها عجز اليابسة من تحمّل أبخرة ماء البحر وبالتالي أنّ بُيوتها صغيرة ضيّقة مُتكدّسة فوق بعضها ، وتختنق أمكنتها برطوبة يعجز هبوب الرياح الشرقية عن حملها ، رياح " الكوس " كما يطلق عليها محلياً ، فتزداد اختناقات الحارة وترتفع الرطوبة ، ويُقال أن الشريط الساحل ، في موسم القيض ، لا تَقْدر الرياح على حمْل أبخرة الماء ، ولا تستطيع تبديدها ولا حتّى تشتيتها .. فتبقى في حجر زاوية طبقة الغلاف الجوي ، فلا تُغادر البيوت التي تلتهب حوائطها الإسمنتية بفعل الرطوبة المشبّعة بأبخرة ماء البحر ، مما يُسبب ارتفاع نسبة الرطوبة ، فتعمل هذه الزيادة الخانقة على تضييق مُتنفس الحارة ، فيهرب ساكنيها إلى أماكن أكثر بُرودة واعتدالاً بعيداً عن شدّة الرطوبة الخانقة وارتفاعاتها التي لا تهدأ . وفي ايامنا هذه ، تقول بعض المصادر ، أنها سببٌ رئيس في أزدياد وكثرة الوفيّات ، خاصة اؤلئك الذين يُعانون من الرّبو ، وكذا هو الحال عند مرضى القلب وكبار السن الذين بلغت بهم سِنينهم عِتيّاً من الكدح والصّبْر ، واغلب هذه الطبقة الكادحة ف زمن بئيس من الحال ، بقيتْ على الفقر وبُؤس المعيشة ، فصبروا ، حتى ظفروا بحياة أفضلْ ، قال أبي عن تلكم السنين التي اسمها بالمحْل من الماء ، والجدْب من المزروعات الغصّة من حاجة المال ، حتى انهم أكلوا أوراق الشجر .. وآلتْ أجساد النساء إلى حياة العَجْز والجوع ، فوهنتْ الاجساد وتكالبت الامراض ، وعاش الناس في فقْر مدقع وحياة سوداء ، كحياة القبر أو هي أقرب ..!! قال صديق أبي يُحدّثني ، مُستذكراً أيام القيض ، ما أن يأتي الصيف ، إلا ويهرع الناس إلى النخيل ، يأكلون من ثمارها ورطبها .. فلا تجد هسيساً في الحارة ، وتكاد تكون مخيفة ، لخلوّها من انفاس البشر .!

الكاتب : حمد الناصري المرتاح عُماني






التوقيع

لن تستقيم الحياة إن لمْ يستقم عليها الانسان .!
لن يُحبّ الله أحداً إلا إذا أحبّ الانسان غيره بصدق ..!!
الحُبّ الحقيقي تتدفّق عاطفته كما يتدفّق الماء من أعلى قِمّة.!
    رد مع اقتباس