عرض مشاركة واحدة
قديم 2014-10-15, 19:45 رقم المشاركة : 27
خادم المنتدى
مدير التواصــل
 
الصورة الرمزية خادم المنتدى

 

إحصائية العضو








خادم المنتدى غير متواجد حالياً


وسام المشاركة السيرة 1438ه

وسام المشاركة في مسابقة السيرة النبوية العطرة

العضو المميز لشهر فبراير

افتراضي رد: منتدى فرعي لمواضيع الفلسفة.


ونصل في الفصل السادس من الكتاب إلى "وحدة الوجود في الفكر العربي الإسلامي الحديث". ويُفرِد الراشد لكلٍّ من محمد إقبال وأحمد حيدر وتيسير شيخ الأرض موقفًا. فمحمد إقبال
[...] يريد إقامة صرح فلسفي إسلامي من خلال المعطى القرآني من جهة، وعلى ضوء المعطى العلمي من جهة أخرى. ومن هذا المنطلق، عمد إلى بناء الفكر الفلسفي في الإسلام بناءً جديدًا [...]،
بحسب المقتطَف الذي أورده الراشد من مقدمة د. عادل العوا لكتاب إقبال تجديد الفكر الديني في الإسلام. ولا شك أن إقبال شاعر عظيم، يمتلك رؤيا على نسق المتصوفة الذين عرفناهم؛ ولكنه، على صعيد الفكر، أتساءل: ماذا أضاف إلى الصياغة الأخيرة التي توصلتْ إليها نظريةُ وحدة الوجود عند ابن عربي أو ابن رشد أو سپينوزا؟
أما الشيخ أحمد حيدر، فيعيدنا إلى نغمة العقل الفعال لدى الفارابي والحكمة المشرقية لدى ابن سينا، ولكن مع ملاحظة ما حدث في العالم من تطورات في العلوم الإنسانية والفلسفية والاجتماعية: فنحن الآن مطالبون بطروح مختلفة، متجاوِزة على أقل تقدير؛ نحن الآن ننتمي إلى فضاء حداثوي – أو هكذا نأمل – وليس إلى فضاء قروسطي. غير أن الشيخ في نتاجه يقدم تفسيرًا باطنيًّا صوفيًّا لنصوص قرآنية عديدة وأحاديث نبوية استُهلِكَتْ شرحًا وتفسيرًا وتعليقًا من قبل، مثل: "فأينما تُوَلُّوا فثمَّ وجه الله"؛ "اللهم لا مفرَّ منك إلا إليك"؛ "كان كنزًا مخفيًّا فأحبَّ أن يُعرَف فخلق الخلق..."؛ إلخ. ويقول الراشد:
يلوح لي أن المرحوم أحمد حيدر استطاع أن يصل إلى نظرية في وحدة الوجود من خلال صياغة شملتْ النظرياتِ السابقةَ كلَّها، محققًا ضربًا من التزاوج بين نظرية الفيض والصدور ونظرية الأنوار والتجلِّي الإلهي، ومعتمدًا، بالوقت نفسه، على معطيات العلم الحديث. وهنا تبرز عظمتُه كمفكر عربي إسلامي من الدرجة الأولى في العصر الحديث.
يعمد الراشد هنا، وفي أماكن أخرى من كتابه، إلى استخدام لغة إنشائية خطابية تبجيلية، لا تنتمي لحقل البحث العلمي والفلسفي[4]، مع أننا – نذكِّر – في صدد "دراسة تحليلية رؤيوية" (كذا!). فما علاقة العلم الحديث بـ"نور الأنوار" و"العقل الفعال" و"الفيض الإلهي" و"التسبيح الفطري" للمخلوقات و"الحقيقة المحمدية" إلخ؟ أتمنى على الراشد أن يكون صارمًا في استخدام مصطلحاته، فيتبنى لغةً رصينةً تفرضها ضرورةُ البحث!
أما تيسير شيخ الأرض، فيبدو واثقًا تمامًا ومتفائلاً عتيدًا في قدراته الذهنية والعقلية. فكتابه دراسات فلسفية: محاولة ثورة في الفلسفة هو ثورة حقيقية، أو بمعنى أدق، الوصول إلى "أول ثورة حقيقية" (كذا!) في تاريخ الفلسفة، كما يورد في مقدمة الكتاب. فالفلسفة، من سقراط الذي أنزل الفلسفة من السماء إلى الأرض وحتى هيدغِّر حديثًا، ليست إلا "ثورات زائفة". وهو ينطلق في ذلك من الوجدان، باعتبار أن الوجدان قلب الوجود، أي "وجود الذات في قلب المطلق"، بحسب تعبيره الحرفي. إننا مع تيسير شيخ الأرض خارج الإطار الفلسفي بمعناه الخاص؛ وحبذا لو صنَّفه الراشد ضمن التيار الصوفي في وحدة الوجود والتيار القائل بالوحدة المطلقة بالأخص، كابن سبعين والعفيف التلمساني. فتيسير شيخ الأرض لا يقدم رؤيا فلسفية أو فعلاً معرفيًّا يرقى إلى "الثورة الفلسفية" أو محاولة ثورة بأيِّ شكل من الأشكال، بل يتحفنا بمصطلحات عجائبية، كـ"الأجدوان" و"الأجدوانية" (كذا!)، وهما مشتقان من "الوجدان"!
ثم يعرض الراشد لمحاولتين معاصرتين: الأولى لعبد الجبار الوائلي، وتقوم على "وحدة الوجود العقلية"، حيث ينطلق فيها الوائلي من عقلنة المادة. فالخلية الحية تملك قسطًا من العقل مادامت تتصف بالحياة؛ تملك عقلاً بدائيًا خاليًا من العواطف والغرائز، لكنها تملك الإرادة والإدراك والتذكر والاختيار. وأبسط جزء من المادة – وهو الذرة[5] – يملك عقلاً يتناسب مع بساطتها؛ وكذلك الأبسط من الذرة، كالفوتون. وهذا يعني أن العالم كلَّه ما هو إلا "عقول أولية" تتصف بإمكانية التفاعل المستمر. فالكائن الحي يتكون من "عقول خالصة، وليس من روح ومادة، كما يتوهم الواهمون". وهذا يعني أن هناك وحدةً متكاملةً في الوجود كلِّه: وحدة الوجود العقلية. وإن "العقل العام"، أي عقل الله، هو مجموعة العقول المنبثقة في ذرات العالم كلِّه. فكل ما في الوجود ما هو إلا ركام العقول المتفاوتة في الدرجات التي تؤلِّف العقل العام؛ وهذا الأخير لا يأخذ شيئًا من خارجه، باعتباره هو الطبيعة ذاتها. ويتابع الوائلي:
[...] بينما الوحدة التي قال بها اسپينوزا وأستاذه برونو وابن عربي وحدة مغلوطة، لأنهم يقولون بوحدة الطبيعة والعقول المنبثقة فيها من دون أن يوحدوهما في عقل عام مسيطر على أجزائه.
وهذا يعني أن الوجود كلَّه، بنظر الوائلي، مجرد فكرة:
الله فكرة الأفكار الكبرى. فالعقل العام هو الله، والعقول البسيطة هي أفكار في العقل العام، تُمِدُّه بأفكارها العقلية. وإنها لا تأخذ شيئًا من العقل العام، كما أنها غير قادرة على الذوبان فيه. بكلام آخر: إن العقل العام هو الذرات الإلهية المطلقة، المنزَّهة عن تجلِّياتها وصفاتها، على لغة الفكر الصوفي؛ أي العقل العام هو الذرات المتعالية عن صدوراتها وفيوضاتها، على لغة الفكر الفلسفي.
ويتساءل الوائلي عن صفات العقل العام، عن بداية تطور العقول الجزئية، وعن نهاية المطاف لهذا التطور، ليجيب بالنفي: نفي إمكانية معرفة ذلك لعدم إحاطة العقل الجزئي–الإنساني بمضامين العقل العام. فالله، عند الوائلي، هو العالم. يعقِّب الراشد، بعد عرضه نظرية الوائلي في وحدة الوجود العقلية:
أولاً: الوائلي يخطو على طريق الفيلسوف الألماني لايبنتس، الذي أسقط العقلَ على جميع "المونادات" التي يتألف منها العالم، وبذلك عدَّ أن العالم هو الله. وهكذا سقط الوائلي في المطب نفسه الذي سقط فيه الفكرُ الغربي حينما ألَّه الكون.
ثانيًا: إن نظرية الوائلي مصداق لقوله تعالى: "إنْ مِن شيء إلا يسبِّح بحمده." ولكن القرآن، حينما جعل كلَّ شيء يمارس التسبيح، جعل الذات الإلهية متعاليةً على العالم تعاليًا مطلقًا.
وهنا أورد عددًا من التساؤلات حول مقولات الوائلي ومحمد الراشد:
1. إن محاولة عقلنة الخلية مقبولة إلى حدٍّ ما. أما عقلنة الذرة وأجزائها فتلك رؤية متطرفة تحتاج إلى برهان لإثباتها؛ ونحن غير قادرين على تأكيدها من باب أن دراستنا، في حدِّ ذاتها، لم تصل إلى نتائج حاسمة على الصعيد العلمي.
2. إن تحويل الوجود كلِّه إلى مجرد "فكرة" هو نظرية مثالية تُسقِطُ البعدَ المادي عن العالم بعد "فلترته" عقليًّا عبر صيغ اختزالية.
3. إذا كان العقل العام، بنظر الوائلي، يُمِدُّ العقول البسيطة بأفكارها العقلية ولا يأخذ منها شيئًا، كما أنها غير قادرة على الذوبان فيه، فالعلاقة، بحسب الوائلي، هي علاقة جامدة، أحادية الاتجاه، لا ترتقي إلى جدلية العلاقة بين الإلهي والأرضي (أو الله والإنسان).
4. لا يصرِّح الوائلي بالمنابع التي صاغ منها فرضيته، وخاصة المنابع الغربية.
5. إن نظرية الوائلي لا يصح أن تستمد مشروعيتَها وبراهينَها من الآيات القرآنية، بل من طروحاتها الخاصة والمنطقية. إذ إن محاولة ربط النظريات بالنص القرآني هي محاولة خطيرة تسخِّر النصَّ لتسويغ النظرية، بينما النص له كيان مستقل. وأركز هنا على الفصل بين النص الديني والنص العلمي والنص الفلسفي. فالقرآن كتاب هداية وأخلاق، وليس كتابًا علميًّا.
والمحاولة الثانية التي يوردها الراشد هي وحدة الوجود الحيوية، مثلما يقدمها د. رائق النقري في كتابه الإيديولوجية الحيوية. يحدِّد النقري مفهومه عن الله في قوة ووضوح، دونما تطرُّق إلى مقدمات وشروح، ودون اللجوء إلى براهين وأدلة. فالله موجود كمسلَّمة؛ أما كيف نفهمه فهو، بحسب النقري، الكل الحيوي باعتباره القوة الخلاقة والدفق المستمر في الكائنات كلها. والله ليس جوهرًا أصلاً، بل هو قابلية التحول الدائم للأشياء. فإذا كانت الكتلة تتحول إلى طاقة والطاقة تتحول إلى كتلة، كما تفيدنا الفيزياء الحديثة، فلماذا لا نتجاوز فكرة الجوهر أصلاً؟
ولكن، كيف نحقق ضربًا من الانسجام بين مفهوم الله، باعتباره اصطلاحًا تندرج تحت لوائه الكائنات كافة، وبين مفهوم الله، باعتباره مجرد اسم يملك فعالية الخلق السارية في الكائنات؟ الله بالنسبة للكون كالروح للبدن – وإن كان النقري يعد الروح والجسد واحدًا، متجاوزًا الانفصال بين الروح والمادة. فإمكانية تبرير مفهومه عن الله – الذي يبدو مشبعًا بالتناقض – ممكنة في ضوء المنطلقات الفلسفية والعلمية والمنطقية التي ينطلق منها.
لقد مرت فكرةُ الله – بحسب النقري – بأدوار عدة وفقًا لحركة القانون الحيوي للمجتمع: فكانت الخطوة الأولى هي معرفة الله من خلال فكرة الخوف من الموت والحلال والحرام. وقد تابع مفهوم الله نموَّه، حتى وصل إلى الإله المجرد الذي ليس له شبيه ولا شكل ولا وزن ولا صفة، كما تقول الحيوية، الأمر الذي جعل للزمان تأثيرًا مباشرًا على مفهوم الإله. ومن خلال هذا الطرح، نستطيع وضع إطار للتزاوج بين مفهوم الله لدى الصوفية، كعبد الكريم الجيلي في الإنسان الكامل وابن عربي في فصوص الحكم إبان تحليله للحديث القدسي "كنت كنزًا مخفيًا...". في عبارة أخرى، نجد أن النقري يبني جسرًا بين الله والإنسان، كما بنى جسرًا بين الله والعالم: فالإله لدى الحيوية لا يتدخل في شؤون العالم ولا يحرك العالم، لأنه هو والعالم حركة – وهذا يدفعنا إلى التساؤل عن دوره في تجربة الحق والخلق.
لكأني بالنقري يريد أن يقرر، كما قرَّر جان پول سارتر من قبل، بأن الله موجود؛ ولكن المشكلة ليست مشكلة وجوده أو عدم وجوده، لأنه في الحالتين لا شيء يتغير، وإنما المشكلة في هذا الإنسان الذي يجد ذاته، وفي أن لا شيء يحرره من ذاته، حتى في حالة إيجاده برهانًا على وجود الله، على لغة سارتر أو كما تقول الحيوية. فالمعضلة تكمن في هذا الإنسان الذي يكتشف تفرُّده، أو بمعنى أدق، يكتشف احتواءه على الخلق. لقد حصر سارتر المشكلة في الإنسان الذي يكتشف ذاته، حريته، تطلُّعه إلى المطلق. وإذن: "إن الإنسان يجعل نفسه إنسانًا ليكون الله." وفي النهاية، نصل مع النقري إلى نتيجة مُفادها أن تجربة الحق والخلق هي تجربة إلهية بقدر ما هي تجربة إنسانية وكونية. إنها تجربة الحياة ذاتها – إرادة الحياة. إن طروح النقري تجسيد للحسِّ الفلسفي الخلاَّق عبر الحيوية، بكلِّ أبعادها ومناحيها. وهو يتقاطع مع الفكر الغربي في قوله بتأليه الكون، ويتقاطع كذلك مع بعض الصوفية المسلمين القائلين بالوحدة المطلقة، أمثال ابن سبعين والعفيف التلمساني.
وينهي الراشد كتابه إشكالية وحدة الوجود في الفكر العربي الإسلامي بالفصل السابع الذي يخصصه لبحث "وحدة الوجود في الفكر العلمي الحديث"، حيث يقول:
يكاد علماء القرن العشرين يتفقون على عدم تأليه العلم، تلك الأسطورة التي راجت في القرنين الثامن والتاسع عشر، ولاسيما بعد ظهور الميكانيكا الكوانتية وعلائق الارتياب، وبالتالي، ولادة النزوع اللاحتمي.
بيد أن للعلم قوانينه الخاصة القائمة على التجربة والاستقراء والاستنتاج؛ فهو يتعامل مع الواقع والأشياء باعتبارها موضوعًا للمعرفة، ولا يتعامل مع "أحلام" الإنسان! فالخيال يسبق النظريات العلمية ويمهِّد لوضعها؛ لكن ليس الخيال هو الذي يلي صوغ النظريات العلمية علمًا. فالعلم يقول لنا رأيه في واقعة مادية أو ذهنية، ولكنه يقف عند هذا الحد فقط؛ يقول لنا إن الكون يتألف من ذرات وكهارب ويقف عند هذا، لكنه لا يقول لنا إن الذرات عقول، أو إن هناك روحًا تسري في الذرات والفضاء الكوني، ولا يقول لنا إن الله "نور الأنوار"، مثلاً، – وهذا ما يغيب عن طرح الراشد للعلاقة بين وحدة الوجود والفكر العلمي الحديث. باختصار، هذا لا ينفي اعتماد العلم كبداية – وهذا منطق سليم –؛ ولكننا نختلف مع الراشد على تبعات هذا الاعتماد.
العقل الديني عمومًا (الراشد في مثالنا هذا) يطرح رؤية توفيقية غير "مؤصَّلة" عند طرحه قضية العلم والدين والعلاقة بين الاكتشافات العلمية والنص القرآني. وسأورد هذا المقطع من كتاب الراشد:
فالكون كله عبارة عن ذرات متناهية الصغر، وكل ذرة مؤلَّفة من كهارب سالبة وموجبة، والكهارب تتحول إلى طاقة، والطاقة تتحول إلى كهارب، والكهارب نور. إذًا فالكون كله نور. والله نور الأنوار، على لغة السهروردي. ونور الأنوار هنا هو الذات الإلهية. وبما أن الطاقة مصونة ومحدودة في الكون، إذًا هناك استحالة الخلق من عدم. (ص 278)
يمكن تصنيف مقولات النص السابق للراشد ضمن حقلين دلاليين: حقل علمي، وحقل فلسفي صوفي شخصاني. فلنفكك نص الراشد:
- الكون كله عبارة عن ذرات
- كل ذرة مؤلَّفة من كهارب سالبة وموجبة
- الكهارب تتحول إلى طاقة وبالعكس
- الكهارب نور
- الكون كله نور
- الله نور الأنوار
- نور الأنوار هو الذات الإلهية
- الطاقة مصونة في الكون
- استحالة الخلق من عدم
في نصِّ الراشد هذا، تتداخل مقولاتُ الحقلين العلمي والصوفي، بحيث تُنتِج نظامًا للكلام يتيح لنا الوصول إلى النتيجة المتمثلة في نظرية الإشراق النوراني للسهروردي. وعند الدخول في التفاصيل أكثر، يتضح لنا الخلل في المنطق. فأن تقول: "الكون كله نور" غير أن تقول: "الكون كله طاقة". فالفرق يتم تمريره عبر "حيلة لغوية" يمكن كشفها بإعادة الاعتبار الوجودي للظلام؛ فالقول إن "الكون كله نور" يكشف لنا عن الغائب–الحاضر في هذه العبارة، وهو الظلام. وهنا نتساءل ونقول: "الكون سريان النور في الظلام"؛ ثم نتساءل أكثر ونضيف: "أو سريان الظلام في النور"! إننا أمام ثنائية "الفاعل/مفعول به"، "الذات/الكينونة"؛ والمسألة هي في كيفية النظر إلى العلاقة بين طرفي الثنائية.
الراشد في كتابه إشكالية وحدة الوجود في الفكر العربي الإسلامي يصوغ الحلقة الأولى من سلسلة ما يسميه بـموسوعة وحدة الوجود في التصوف الإسلامي؛ وهو جهد رائد وسبَّاق ينطوي على بحث مضنٍ وتنقيب تراثي كبير. وقد قدَّمه الراشد عبر لغة سهلة وأسلوب ممتع، قابل للتداول بين القراء غير المختصين. فالراشد "باحث" بامتياز. ولكن إلى أيِّ مدى يقترب من صفة المفكر الباحث، أي مَن يضع نتاج الآخر في مقدمات تولِّد رؤيةً ابتكارية – هذا هو السؤال الذي نطرحه عليه.

د. حمزة رستناوي

إن حوالى ثلاثة أخماس الكتاب تحدِّثنا عن وحدة الوجود في حضارات الشرق الأقصى والفكر الغربي والفكر العربي القديم والفكر العلمي الحديث، مع مدخل عام في مقدمة الكتاب. وإن لهذا التوزيع الكمي دلالته: فمعظم صفحات الكتاب تناقش موضوعًا خارج إطار العنوان الأساسي للكتاب: "إشكالية وحدة الوجود في الفكر العربي الإسلامي"؛ وهذا يعكس الدور الهام الذي قامت به هذه الحضارات خارج الدائرة العربية الإسلامية في صوغ "النظرية العربية الإسلامية لوحدة الوجود"، إن جاز التعبير. فنحن أمام نظرية أو نظريات متعددة في وحدة الوجود: وحدة وجودية، وحدة مادية، وحدة عقلية، وحدة حيوية، وحدة روحية... فكلها نظريات عابرة للحدود بين اللغات والأعراف والأديان.
إن نظرية وحدة الوجود هي نظرية إنسانية بامتياز، كان للحضارات العربية قبل الإسلام وللحضارة العربية الإسلامية دورها الهام في صياغتها. إلا أنني آخذ على الراشد إصراره على "تعريب" هذه النظرية – وقد أكون مخطئًا، لكني أود مناقشة فكرتين من أفكار الراشد المبثوثة في كتابه للتدليل على ذلك.
يجزم الراشد بأن الفلسفتين الرواقية والأفلاطونية الحديثة هما فلسفتان سوريتان بامتياز! صحيح أن أحد مؤسِّسي الرواقية الثلاثة هو زينون السوري، وصحيح أن الأفلاطونية الحديثة جهد مشترك لمدرسة الإسكندرية ساهم فيه نومينوس وفرفيريوس السوريان؛ ولكن هذا لا يعفينا من النظر إلى النصف الآخر من الكأس، ألا وهو الفكر الإغريقي وإسهاماته الجادة في المضمار. فالرواقية والأفلاطونية الحديثة نتاج فكر خصب ينتمي إلى الشرق والغرب معًا؛ إنه وليد الحضارة الهلنستية.
والنقطة الثانية التي سأطرحها هي حول دور التأثيرات العربية الإسلامية في تفتح فكر النهضة الغربي عبر ترجمة كتب ابن سينا والغزالي والفارابي وابن رشد عن طريق يوحنا الإسباني وغونديسالفي وغيرهما. حدوث هذه التأثيرات أمر محسوم؛ إلا أن ذلك يفيد معنى التكامل الإنساني لإنتاج ثقافة مشتركة ذات خصوصيات معينة. فالرد على مقولة "المركزية الأوروبية" لا يتم عِبْرَ "مركزية عربية"، بل عبر طرح إنساني عبرعرقي، عبرديني، تفاعُلي، موضوعي. فالحقيقة هي الحقيقة، ولا تحتمل أية قيمة مضافة إليها!
*** *** ***





    رد مع اقتباس