عرض مشاركة واحدة
قديم 2014-10-15, 19:45 رقم المشاركة : 26
خادم المنتدى
مدير التواصــل
 
الصورة الرمزية خادم المنتدى

 

إحصائية العضو








خادم المنتدى غير متواجد حالياً


وسام المشاركة السيرة 1438ه

وسام المشاركة في مسابقة السيرة النبوية العطرة

العضو المميز لشهر فبراير

افتراضي رد: منتدى فرعي لمواضيع الفلسفة.


التيَّار الفلسفي في وحدة الوجود

قراءة في كتاب

إشكاليَّة وحدة الوجود في الفكر العربي الإسلامي
حمزة رستناوي[1]
ما هي الأسباب التي دفعت الباحث محمد الراشد إلى دراسة وحدة الوجود في التراث العربي الإسلامي؟ يجيبنا الراشد:
لقد شكَّلت وحدةُ الوجود تيارًا واضحًا في تاريخ الفكر العربي الإسلامي عبر المراحل والأحقاب كلِّها. ولكنها حينما غدت بمثابة محور واحد لقطاع كبير أوغل فيها إيغالاً مفرطًا، عُدَّتْ واحدةً من أهم عوامل انهيار الحضارة العربية وسقوطها.
فمهمة الحضارة، في رأي الراشد،
[...] تتمحور على نقطتين جوهريتين قوامهما: تفسير العالم أولاً، واكتشافه وتغييره في منحى التطور الصاعد ثانيًا. ولقد اقتصر التيارُ الأحادي – أي وحدة الوجود – على النقطة الأولى وحدها، أعني تفسير العالم وتأويله فقط. وانطلاقًا من إيغال التيار الأحادي في تفسير الوجود وتأويله إلى حدِّ الإفراط فقد شكَّل عامل كبح لمسيرة الحضارة.
فدراسة الراشد لإشكالية وحدة الوجود هي دراسة لجزئية ساهمت في الانهيار والسقوط الكلِّي للحضارة العربية. والكتاب الذي بين أيدينا – إشكالية وحدة الوجود في الفكر العربي الإسلامي[2] – يهتم باستعراض تيار وحدة الوجود في الخط الفلسفي والفكري المحض. وقد خصص الراشد كتابين لدراسة تيار وحدة الوجود في التصوف الإسلامي، هما على التوالي: نظرية الحب والاتحاد في التصوف الإسلامي ووحدة الوجود من الغزالي إلى ابن عربي[3]، يليهما كتاب ثالث بعنوان مسارات وحدة الوجود يرصد تطور هذه النظرية من القرن الثامن الهجري حتى العصر الحديث.

إن وحدة الحقيقة الوجودية تعني أن الجزء لا يمثل الكل، وبعبارة أدق، أن الجزء يرمز إلى الكل ولا يمثِّله، باعتبار الأجزاء تحقق وجودها عبر تجلِّيات المطلق وصدوراته وفيوضاته وتعيناته. إذًا فالجوهر الإلهي الأول المطلق يبقى واحدًا في ذاته؛ وهذا يعني تعالي الذات عن الأسماء والصفات بحسب التصوف، أو تعالي الذات الإلهية عن فيوضاتها بحسب الفلسفة. فالخط العام، – فلسفيًّا وصوفيًّا، – في مراحله الأولى، فهم وحدة الوجود على أساس سريان الحقيقة الإلهية في الإنسان والكائنات. فالعدد "واحد" يبدع الكثرة من جراء سريانه في الكثرة، من غير أن يتكاثر أو يتبعَّض في ذاته: العدد واحد يرمز إلى الله؛ والعلاقة بين الخالق والمخلوقات كالعلاقة بين الواحد والأعداد المنبثقة عنه؛ والذات الإلهية مستقلة استقلالاً مطلقًا كاستقلال الواحد عن الأعداد اللاحقة، كما يقرر ابن السيد البطليوسي وغيره. وهكذا انطلقت النظرية الواحدية، وأقامت بنيانها على أساس الموازنة بين "الكون الأكبر" و"الكون الأصغر"، على لغة ابن عربي. وهذا الفهم يعود إلى جذور تاريخية بعيدة المدى، نجد ملامحها في الأساطير العربية القديمة في سورية ومصر وما بين النهرين.
فالفكر الأحادي في التراث العربي الإسلامي يبقى تيارًا واحدًا، وإن اتخذ صيغًا ومناحي متعددة. لكن التيار الفلسفي كان أنقى وأوضح، وكان في إمكان هذا التيار الأحادي من خلاله أن يؤدي دوره "الحضاري" لو أنه انطلق من النتائج التي توصل إليها ابن رشد فيما بعد؛ في حين نجد أن التيار الصوفي لم يستطع تحقيق التصور الممكن في قامته النهائية للمساهمة في بناء الإنسان والحضارة، بل سار في الطريق المظلم، حتى غدت النظرية لدى ابن عربي أحيانًا، ولدى معظم تلاميذه، ضربًا من الوثنية والغموض والإبهام واللامعقول، فماتت إرادةُ الوجود موتًا نهائيًّا على يد المتصوفة اللاحقين – وبذلك مات الإنسان العربي!
إن نظرية وحدة الوجود ليست وليدة الفكر العربي الإسلامي بمقدار ما هي إسهام إنساني مشترك، قام كل من اسپينوزا في الغرب وابن عربي في الشرق الإسلامي بصياغة مجملة له. فالعلاقة بين الله والعالم في الذهنية الهندية ليست علاقة خلق وإبداع من عدم، وإنما هي علاقة فيض وصدور وتجلٍّ: "إنِّي أنا هذا الخلق نفسه لأني أُخرِجُه من نفسي"، يقول الفيدنتا اللاثنوي الهندي. فكرة الله لم تتبلور بعدُ، وعملية الخلق تتخذ منحًى عامًّا، اعتبارًا من حكماء أسفار الأپنشاد وانتهاءً بطاغور، وحتى غاندي القائل بأن الله كامنٌ في الصخرة – كل صخرة على الإطلاق! فالفكر الهندوسي يراوح بين إسقاط الألوهية على العالم (= تشبيه) حينًا، وبين تعالي الألوهية عن العالم حينًا آخر (= تنزيه).
أما في الصين، فإن انسجام العقل الصيني مع الروح "العلمية" وتركيزه على التفاعل مع الحياة المعيشة تفاعلاً واقعيًّا أدَّيا بالضرورة إلى افتقار الأفكار والعقائد الصينية إلى مفهوم "ما وراء الطبيعة". ولعل كتاب التغيرات (الذي جمعه وُو وانغ) يُعَد إحدى الوثائق الفلسفية القليلة التي عنيت بما وراء الطبيعة في الصين، حيث تقوم بنيته الجوهرية على أن الظواهر الكونية هي ثمانية فقط، يمثل كلٌّ منها متوالية ثلاثية الخطوط، بحيث ترمز المتوالية إلى كونية إيجابية بظاهرة أخرى سلبية. وقد أطلق كتاب التغيرات على الظاهرة السلبية اسم ين (أي القمري)، بينما أطلق على الظاهرة الإيجابية اسم ينغ (أي الشمسي).
ننتقل الآن إلى وحدة الوجود عند الإغريق. فالأورفية، مثلاً، كانت تعتقد بوحدة الوجود: زفس، الإله الواحد، إله في كلِّ شيء، وهو في كل مكان. لذا آمنت الأورفية بأن الهدف الجوهري للإنسان يتمركز على محور الحقيقة الروحية، ولا يستهدف التلاشي البسيط في ذروة اللانهاية الإلهية. وهنا لا بدَّ أن نعرج قليلاً على أفلاطون قبل التحول إلى نقطة أخرى. فأفلاطون يعرِّف الكينونة بالقوة، أي أن الكينونة تفترض القوة، وتكون خاضعة لها بالضرورة؛ إنها "فاعل العقل ومفعوله". ولذا كان طبيعيًّا أن يكون نصيبُ فكرة العدم عنده الرفضَ المطلق. وهذا ما نتحسبه من محاورة "مشكلة الخطأ ومسألة اللاوجود". ففي الحوار الدائر بين ثيئيتيتس والغريب، نجد هذا الغريب يطرح مقولاتٍ على غاية من الخطورة: "إن كل مَن يحاول التعبير عن الوجود لا يتكلم البتة." وهل يمكن أن يضاف موجودٌ ما من الموجودات إلى غير الموجود؟!
ولعل هذا الطرح رافق الفكر الغربي على طول امتداده. وسنرى، عبر تجوالنا السريع، هذه الملامح والخطوط العامة لوحدة الوجود في الفكر الغربي، سواء في إغريق الأمس البعيد أم في الغرب القريب. فالله عند أرسطو هو "المحرك الذي لا يتحرك"، أي الذي حرك العالم ثم تركه وشأنه. وما كان هذا سوى بداية الطريق، حيث إن فكرة إقصاء وجود الله حققت نموًّا كبيرًا مع التغيرات الاقتصادية ونمو البرجوازية في أوروبا في العصر الحديث وبداية عصر التنوير الذي أقام صرح فكره على العقلانية المحض، حيث ولدت نظرية "الدين الطبيعي"، مقرةً بوجود الله مع رفضها للوحي الإلهي. فالله لم يعد "واجب الوجود"، كما كان الأمر في العصر الوسيط وما قبله، بل غدا مجرد فرضية احتمالية تقتضيها الحياة وبنية التركيب العقلي والنفسي للإنسان. لذا قال فولتير: "إذا كان الله غير موجود فلا بدَّ من اختراعه." وقد تابعه على ذلك فيودور دوستويفسكي وغيره كثيرون. إلا أن معظم رواد الأنوار لم يجدوا ضرورةً لمثل هذه الفرضية، فقالوا بأزلية العالم – وهذا يعني دمج الله في العالم بالضرورة.
ولنقف في ختام هذه الجولة السريعة عند باروخ (بندكت) اسپينوزا، رائد وحدة الوجود في الفكر الغربي، حيث ينطلق اسپينوزا من ثلاثة مصطلحات محورية هي:
1. جوهر: ويعني به الحقيقة الأساسية الثابتة وبناء قوانين العالم؛
2. صفة: وهي أحد مظاهر الجوهر أو الحقيقة غير المتناهية، كالاتساع والفكر؛ و
3. عَرَض: وهو شيء معيَّن أو شكل حادث.
واسپينوزا يعني بـ"الجوهر" النظام الأبدي أو سنَّة الله. فهو، إذن، يقسِّم العالم إلى جوهر، أي إله، وعَرَض، أي مادة، وحادث، هو العالم المادي المحسوس. بيد أن "الجوهر"، أي الله، هو حقيقة تتسامى على المادة. إذًا ليس العالم هو الله، ولا الله هو العالم؛ وإنما، بعبارة أدق، إن العالم كامن في الله: فالله هو كل شيء. اسپينوزا يرفض، إذن، أي تشخص للإله، ويجيب رجلاً اعترض على تصوره اللاشخصي والغامض لله قائلاً:
عندما تقول إنني أنكر بأن يكون لله بصر وسمع وإرادة وما إلى ذلك فإنك لا تعرف أيَّ نوع من الله إلهي. وأظن أنك تعتقد بأن الإله أعظم كمالاً من الله الذي يتصف بالصفات السابقة. وهذا لا يدعو إلى إثارة الدهشة في نفسي، لأنني أعتقد أن المثلث، لو استطاع أن يتكلم، لقال بنفسه إن الله مثلي في أضلاعه، ولقالت الدائرة إن طبيعة الله دائرية في سموها. وهكذا يخلع كل شيء صفاتِه الخاصةَ على الله.
يستحيل، إذن، وجودُ شيء أو تصوُّره من دون الله. فمن المؤكد أن موجودات الطبيعة كلَّها تحتوي على فكرة الله وتعبِّر عنها بحسب درجتها في الماهية والكمال. ومع اسپينوزا، ينتهي كل صراع بين الدين والفلسفة. ذلكم هو إله اسپينوزا: إنه الوجود كله، – يؤطِّره ويحتويه، – بحيث يتعذر أن يوجد شيء خارج نطاقه. فهو إله متسامٍ، وليس إلهًا شخصانيًّا.
وللوقوف عند نظرية وحدة الوجود خارج إطار الفكر العربي الإسلامي، تبقى أمامنا محطتان اثنتان هما: الرواقية والأفلاطونية الحديثة. فالكون، بنظر الرواقية، قديم أزلي، بيد أن نظامه حادث، وهو كون واحد. ويقول الرواقيون بوجود مبدأين للكون: أولهما مبدأ "فاعل"، والآخر "منفعل". وما المادة إلا هذا المبدأ المنفعل، باعتبارها جوهرًا خاليًا من أية الصفات؛ أما المبدأ الفاعل، أي الإلهي، فهو ذلك العقل الكائن في المادة ذاتها الذي يمنح الأشياء والكائنات صورها.
أما الأفلاطونية الحديثة فقد صيغت صياغةً نهائيةً على يد أفلوطين وأستاذه نومينوس، ابن مدينة أفاميا، وتلميذه فرفيريوس الذي جمع رسائله الأربع والخمسين ونشرها باسم التاسوعات. وتبدأ ميتافيزيقا أفلوطين بثالوث مقدس: الواحد، فالعقل، فالنفس. وهذا الثالوث ليس متساويًا، بل يتسامى حده الأول عن الثاني، والثاني عن الثالث، على التدريج. فالواحد، أي الله، يتصف بالجود والكمال، ولا بدَّ أن يفيض عنه كائنٌ أدنى منه وفقًا للقانون العام الذي ينص أن كلَّ كائن يصل حدَّ الكمال لا بدَّ له أن يلد كائنًا آخر مشابهًا له ولكنه أدنى منه كمالاً. ولذا يصدر عن الله أول ما يصدر العقل الكلي أو الروح المطلقة؛ ثم إن العقل يفيض بدوره، فتولد النفس الكلية التي تنتشر محقِّقة الأشكال الكامنة في العقل الكلِّي كافة؛ ثم تفيض النفس الكلِّية بدورها بالنفوس الجزئية. وهذا يعني أن الأشياء كلها صادرة عن الموجود الأول: الله؛ فهي إذن مترابطة ومتطابقة ترابطًا وتطابقًا كاملين. لذا كان هذا العالم هو خير العوالم الممكنة: هو خير في كلِّيته، وما الشر إلا ضرب من العدم.
أما في خصوص ديانات الشرق القديم، فنحن حيال وحدة وجود حيوية ذات طابع أسطوري. فالساميون عامة كانوا يدينون بعبادة الطبيعة التي اتُّخِذَتْ لديهم رمزًا للألوهية. ودائمًا ما تتمظهر هذه الديانات في عبادة قوَّتَي التوليد والنمو، المنبثقة بالضرورة عن طبيعة المجتمع الزراعي. فإيل (أي الله) يمثل، في التصور الفينيقي الكنعاني الأسطوري، جماع الآلهة المتعددة، أي جميع ظواهر الكون. وإذا ما وضعنا تصور "الأسماء الحسنى" في هذا السياق، فإنه يتضح لنا أن هذه الأخيرة هي الجمع من الواحد. فالعلاقة بين الوحدة والكثرة هي علاقة جدلية من طراز أسطوري عميق الدلالة. ولنقف عند هذا النص من ملحمة التكوين البابلية إينوما إيليش التي تتحدث عن بداية الكون والإله مردوخ:
ثم جلسوا ليعلنوا أسماءه –
وكلهم يتذكَّر أسماءه في المكان المقدس:
تعالوا نعلن للملأ أسماءه الخمسين.
فالخمسون تنطوي على الواحد وتشير إليه، كما ينطوي الواحد على الخمسين ويشير إليها.
أما في وادي النيل، فيكاد المصري القديم لا يفرق بين الآلهة والأشياء والبشر إلا في حدود الشكل، حتى إنه ليعد الناس والآلهة والعناصر الكونية شيئًا واحدًا من حيث الجوهر. أي أن المصريين لم يكونوا ليؤمنوا بإله واحد متعالٍ على العالم، بل كانوا يؤمنون بوحدة الوجود، وحدة الكون، وحدة الله والعالم والإنسان، لأنهم اعتقدوا بأن الكائنات كلَّها، من نجوم وأقمار وأنهار وآلهة وبشر، ذات جوهر واحد، كقوس قزح تطغى فيه ألوانٌ بعينها على غيرها وفقًا لتغير الظروف:
فملك مصر هو نفسه أحد الآلهة وممثل البلاد بين الآلهة؛ وهو فضلاً عن ذلك الوسيط الرسمي الوحيد بين الشعب والآلهة، والكاهن المعترَف به الأوحد للآلهة كلِّها. وأنَّى للملك أن يكون إلهًا إذا لم يكن الإلهُ الملك حالاًّ فيه، فيصبح الاثنان واحدًا.
وهذا ضرب من الحلول، كما قد يخيَّل لفريق من الناس. ولكن الحلول نفسه مرفوض في الذهنية الأسطورية المصرية.
لقد قمت حتى الآن بعرض مختصر لنظرية وحدة الوجود في المرحلة ما قبل الإسلامية على الامتداد العالمي. عنوان كتابنا هو إشكالية وحدة الوجود في الفكر العربي الإسلامي؛ وهناك عنوان فرعي هو "الله والإنسان والعالم في الحضارات الإنسانية: دراسة تحليلية رؤيوية" (كل ما سبق يدخل في إطار العنوان الفرعي). فلندخل الآن إلى لب "الإشكالية".
هناك حدث جديد هو القرآن، باعتباره نصًّا تأسيسيًّا، ونصوص ثانوية، متمثلة بالحديث والفقه وعلم الكلام والتصوف إلخ. وبالتالي، كان الشاغل الأكبر عند رواد وحدة الوجود المسلمين هو رغبتهم في الحفاظ على توازن مع الوسط الديني المهيمن آنذاك. لذا قام الفلاسفة المسلمون، مثلهم مثل الصوفية، بتأويل الآيات القرآنية حول خلق العالم بروح نظرية الفيض، حيث تصدر الأشياء في العالم من الله. ويُعد أبو نصر محمد الفارابي (ت 329 هـ) أول مَن أدخل نظرية الصدور في الفلسفة العربية الإسلامية، ثم تناوَلها عنه عددٌ كبير من الفلاسفة، في مقدمتهم أبو علي ابن سينا. فالتفلسف، وفق الفارابي، هو الطريق الوحيد للعروج إلى الله؛ وهو العلم الوحيد القادر على وضع صورة شاملة للوجود الإنساني. هذه النزعة المنطقية لدى الفارابي ساهمت في تبنِّيه فكرتي "الممكن الوجود" و"الواجب الوجود"، بدلاً من فكرتَي "الحادث" و"القديم" الكلاميتين، حيث كان الوسط الذي يعيش فيه يقول بنظرية "الخلق من عدم" (الفهم النصِّي السنِّي لنظرية الخلق في القرآن الكريم). ولهذا، كان هم الفارابي وغيره من فلاسفة الإسلام محاولة التوفيق بين الإله كما جاءت به الفلسفة وبين الإله كما جاء به القرآن – وإن لم يوفَّق في محاولته! فلنتساءل الآن عما أضافه الفارابي إلى نظرية الفيض والصدور على الأفلاطونية الحديثة:
1. عملية الصدور ليست إرادية، بل هي تلقائية (فكرة مشتركة).
2. إقامة بناء تراتُبي في الصدور: فالمراتب الثلاث الأولى (السبب الأول، الأسباب الثواني، العقل الفعال) ليست في جسوم، والأصناف الثلاثة الأخيرة (النفس، الصورة، المادة) كائنة في أجسام؛ والأجسام ستة أجناس أيضًا، وهي: السماء والإنسان والحيوان والنبات والمعادن والعناصر الأربعة، ومن هذه الأجسام يتألف الكون الكبير. ولا يخفى أن نظام الفارابي، وفق هذه الصورة، هو نظام لا يمسُّ العمود الفقري لنظرية الفيض الأفلاطونية، بل هو نظام معدَّل عنه على مستوى الفروع والتسميات فقط.
3. تمسَّك الفارابي بالأرقام: ففي كتابه مبادئ الموجودات أو السياسات المدنية يضع ستة أصناف؛ بينما الرقم أربعة رائده في رسالة في إثبات المفارقة. وسنجد الرقم عشرة يسيطر على كتاب أراء أهل المدينة الفاضلة والمدينة الجاهلية والمدينة الفاسقة والمدينة المبدلة والمدينة الضالة – و"الجواب لدى الفارابي نفسه"، كما يقول الراشد.
4. الموجودات الفائضة، على كثرتها، تشكل كلاًّ واحدًا مع الموجود الأول العادل (فكرة مشتركة).
يطرح د. طيب تيزيني نظرية الفيض الفارابية، قائلاً بأن "المعلم الثاني"، بموقفه هذا، حقق تجاوزًا لأرسطو وأفلوطين معًا، لأنه
[...] لم يتبنَّ فكرة الفيض الأفلاطونية تبنيًا غير نقدي، بل إنه فعل العكس من ذلك: فقد اكتسبت على يده تطورًا ملحوظًا.
ذلك أن
[...] الفارابي قد أكسب فكرة الفيض، من خلال ماديته الاجتماعية، مضمونًا جديدًا: وحدة وجود مادية. وهذا يشكِّل خطوةً بارزةً في فهم تراث الفارابي الفلسفي.
إن الأدلة التي بين يدينا على "وحدة وجود مادية" عند الفارابي ضئيلة. فالفارابي يلح دائمًا على "خسة" المادة: الأصناف العليا في نظريته الفيضية ليست أجسامًا، وهناك إعلاء للعقل والروح. ونحن نشاطر الراشد في قوله إن وحدة الوجود الفارابية ليست مادية في النهاية.
يبقى أن نقول إن الفارابي هو أول مَن قال بوحدة الوجود في الفكر العربي الإسلامي ضمن نظرية متكاملة، على خلاف الكندي الذي قدم "إرهاصات" مبدئية لنظرية الفيض، إذ قال بتأثير الفلك الأعلى في الفلك الأدنى، على الرغم من أنه لم يقل بالصدور واعتمد الخلق من عدم. فالكندي، على غرار الأورفيين الإغريق، يعتبر أن الجسم هو السجن الحقيقي للنفس الإنسانية وأنها إذا ما تحررت منه تغدو قريبة الشبه بالله، وذلك في رسالته القول في النفس. وبذلك يشاطر أبو يعقوب الكندي التيار الصوفي لوحدة الوجود في الفكر العربي الإسلامي مذهبَه. إن الفارابي، بحسب حسين مروة: "وضع نظرية الفيض الأفلاطونية في سياق التطور التاريخي للفلسفة العربية، من حيث هي علم وإيديولوجيا"؛ وقد قاده تعريف الفارابي للفلسفة بأنها "العلم بالموجودات بما هي موجودة" إلى القول بوحدة الحقيقة الفلسفية. فالفارابي انطلق من وحدة العقل ووحدة الفلسفة معًا.
وننتقل الآن إلى أبي علي الحسين بن سينا (ت 1037 هـ)، الذي يؤكد في نظريته على عدم صدور المادة عن الله مباشرة، لأن صدورها عن الله يعني اختلاف الجهات في ذاته العلية. وهو يرى أن مهمة النفس العروجُ باستمرار إلى تلك المنزلة الرفيع؛ وهذا لا يتحقق إلا للعارفين:
هبطتْ إليك من المحلِّ الأرفع ورقـاء ذات تعزُّز وتمنُّـع

والعارفون يمتازون على مَن عداهم بأن أرواحهم انطلقت من القيود – وهذا سر ينبغي ألا يذاع للعامة؛ والفيلسوف إنما يفضي به إلى خاصة مريديه، كما يقرِّر الشيخ الرئيس في مقامات العارفين. إن ابن سينا يرفض مقولة "الاتحاد بالله" رفضًا مطلقًا، غير أنه يجعل من الحب والمعرفة وسيلةً وحيدةً للوصول إلى الله ويعدُّهما الخلاص الوحيد للنفس. يقول المستشرق هنري كوربان:
إن ابن سينا خلط بين الوحدة الوجودية والوحدة العددية. ولعل هذا الخلط أن يكون هو القلب الذي لا مفرَّ منه والذي يجعله التفكير الفلسفي يحدث لحقيقة التجربة الصوفية بمعارضتها.
يطرح ابن سينا مقولة "العقل القدسي" أو الإشراقي، وهو العقل الذي يتمتع به الفلاسفة والعارفون؛ وهؤلاء يتلقون المعارف عن العقل الفعال مباشرةً، دونما حاجة إلى وسيط، أي عن فلك الأقمار، أو العقل العاشر، بحسب نظرية صدور الموجودات والفيض. فنظرية العقل القدسي أو الحدس قد غدت منطلقًا للفلسفة الإشراقية في ما بعد على يد السهروردي. ومهما يكن من أمر، فإن نظرةً فاحصةً عن نظرية الخلق الإلهي عند ابن سينا وترتيب الموجودات لديه، وبخاصةً رسائله في التصوف، تجعلنا نقرِّر أنه كان يقول بضرب من الوحدة المطلقة. فهو يميز في كتابه النجاة بين ثلاثة أنواع من الموجودات:
1. الممكن بذاته: ويشمل جميع الأشياء التي في طبعها أن توجد أو لا توجد؛
2. الممكن بذاته الواجب بغيره: ويشمل كل ما تراه من أشياء وحركات؛ و
3. الواجب بذاته: الله.
فـ"الخلق من عدم" غير وارد في التصور السينوي لمفهوم الخلق، كقول سلفه الفارابي بذلك. وهذا يقودنا إلى نظرية الفيض أو الصدور التي انطلق منها ابن سينا والتي دفعتْه إلى إسقاط العقلانية والحس والتخيل على الأجرام السماوية، كما فعل من قبله مفكرو ما بين النهرين، وبخاصة خريجو مدرسة حرَّان. وهكذا فإن فكر ابن سينا ساهم، إلى حدِّ ما، في تكوين التصوف الإسلامي بما احتوى من تأثيرات غنوصية.
وننتقل الآن إلى الضفة المغاربية للفلسفة العربية الإسلامية، حيث يقف محمد الراشد عند خمس محطات هي: ابن مسرة، ابن السيد البطليوسي، ابن باجة، ابن طفيل، ابن رشد. فابن مسرة وابن السيد البطليوسي لا يخرجان عن الخطوط العريضة التي رسمها الفارابي وابن سينا من قبل. إلا أن ابن السيد البطليوسي ينطلق في البرهنة على نظريته في الصدور من براهين رياضية محض، على خلاف ابن سينا:
فإذا كان الرقم اثنين منبثقًا عن الواحد، فهو صدور عنه أو تجلٍّ له، إن صح التعبير. ولكن تبقى ذات الواحد متفردةً تفردًا أبديًّا عن ذوات الأعداد اللاحقة لها والصادرة عنها. والأمر نفسه بالنسبة للذات الإلهية والكائنات الصادرة عنها، مع الفرق الكبير واللانهائي بين الله والعدد.
أما ابن باجة، فإنه يرى أن المعرفة لا تتم بطريق ذوقي، على نسق الخط الصوفي، وإنما تتم عن طريق التأمل الفلسفي. ويضع ابن باجة كتابه تدبير المتوحد على نسق مدينة الفارابي الفاضلة، ولكنه في الجوهر أبعد ما يكون عن الفارابي و"مدينته": فهو يعالج فيه إشكالية الإنسان الفاضل في مجتمع غير فاضل، ويحدد الطريق التي توصل الإنسانَ إلى مرتبة الألوهية. وإن تطلُّع ابن باجة إلى الوصول نحو المرتبة الإلهية كان بمثابة البذرة الأولى لتحقيق نظرية "الإنسان الكامل"، على نسق "الأنبياء النيتشويين"، كما أُطلِقَ عليهم في الغرب.
أما ابن طفيل، فيركِّز على اتفاق العقل والوحي: فحي بن يقظان، ذلك الرجل المعزول في جزيرته، استطاع، بالاعتماد على عقله الطبيعي، الكشف عما توصل إليه أبسال عن طريق نزوعه الصوفي المبني على الشريعة والوحي، فتمكن، بكدحه المستمر، من الوصول إلى الحقيقة عبر إشراقات العقل الفعال. وأهمية ابن طفيل تكمن في تجاوُزه لفكرة الواسطة، حينما عدَّ العقل التأملي المنطلقَ لتحقيق الفرد لشرطه الإنساني، من خلال الوصول إلى الله عبر منطق عقلي محض. وهذا هو الجديد الذي قدمه ابن طفيل في قصته حي بن يقظان: فالقرابة واضحة بين قصة حي عند ابن سينا وبين نظيرتها عند ابن طفيل (وقد ألمح ابن طفيل نفسه إلى ذلك). غير أن حيًّا عند ابن طفيل أقرب إلى "الإنسان الطبيعي" منه عند ابن سينا: فصورة حي عند ابن سينا تمثل العقل الفعال؛ أما قصة ابن طفيل فتشبه أن تكون تمثيلاً للعقل الإنساني الطبيعي الذي يسري عليه نور العالم العلوي، وهو يماثل نفس النبي محمد – عليه السلام – إذا عرف حق المعرفة:
فابن طفيل توصل من خلال آرائه حول العالم الإلهي الواحد إلى إزالة الهوة بين الإنسان والإله: فالإله في الإنسان، والإنسان في الإله، وكلاهما تجسيد للعالم الإلهي الواحد.
وأما خامسهم، ابن رشد، فهو رائد القائلين بوحدة الوجود العقلية – وهذا ما حدث لأول مرة في تاريخ الفكر العربي الإسلامي. فالاتصال عند ابن رشد لا يتم بالنسك، كما يقول ابن طفيل وابن باجة وغيرهما، وإنما يكون الاتصال بالإدراك العقلي المحض، أي بالمنطق وحده. وهنا تلوح لنا طبيعة العلاقة بين الله والإنسان والعالم: إنها علاقة جدلية، أساسها كون الله بمثابة تيار روحي يسري في أجزاء العالم كلِّه؛ أي أن الله هو القانون الضابط للعالم، لا من خارجه، بل من خلاله، باعتبار أن العقل الإلهي يسري في الوجود كله. وهذا نَفَس واضح في وحدة الوجود يرفض الاتصال بالعقل الفعال عن طريق الإشراق الصوفي، كما عند ابن سينا.





    رد مع اقتباس