عرض مشاركة واحدة
قديم 2014-10-15, 19:28 رقم المشاركة : 21
خادم المنتدى
مدير التواصــل
 
الصورة الرمزية خادم المنتدى

 

إحصائية العضو








خادم المنتدى غير متواجد حالياً


وسام المشاركة السيرة 1438ه

وسام المشاركة في مسابقة السيرة النبوية العطرة

العضو المميز لشهر فبراير

افتراضي دراسات في تاريخ الفلسفة الإسلامية


دراسات في تاريخ الفلسفة الإسلامية

الدكتور محمد الناصري


* دكتوراه في الفكر الإسلامي وحوار الأديان والحضارات، المغرب.

الكتاب: دراسات في تاريخ الفلسفة الإسلامية.

المؤلف: زكي الميلاد.

الناشر: النادي الأدبي بالرياض.

سنة النشر: الطبعة الأولى 1432هـ/ 2011م.

* مدخل

لم يكن حظ الفلسفة من التأليف شبيهاً بغيرها من المعارف والعلوم في تراثنا المدون بالعربية، الذي تنعقد الريادة فيه إلى علوم التفسير وعلوم القرآن والحديث والفقه وأصوله، واللغة العربية وآدابها، وعلم الكلام وغيرها. بينما لا نعثر بالكم نفسه على مدونات مستقلة تعنى بالفلسفة وقضاياها في فترات التدوين قديماً وبالأخص حديثاً؛ إذ تعد الكتابات والمؤلفات في مجال الفلسفة، ضئيلة ومحدودة جدًّا، يسهل عدها وحصرها والإحاطة بها.

وعلى قلة التأليف فيها، فلقد عانت الفلسفة الإسلامية كثيراً من القراءات المتعسفة والأحكام المسبقة فضلاً عن الظلم والارتياب الذي لازم الكثير من أعلامها وموضوعاتها. إذ لم تواجه فلسفة من الفلسفات مشاكل وصعوبات كالتي واجهتها الفلسفة الإسلامية عبر تاريخها، سواء من أهلها أو من غيرهم من الدارسين الغربيين وخاصة المستشرقين الذين أثاروا جملة من الشبهات تتعلَّق بتسمية هذه الفلسفة وأصالتها وأهميتها، وبمصدرها وظروف نشأتها، بل بوجودها على وجه العموم. فأصدروا في ذلك أحكاماً جانبها الصواب؛ حيث انتهوا إلى نتائج لا تتسق والمعطيات العامة لتلك الظاهرة الفلسفية المتميزة في تاريخ الفكر الإنساني.

ومرد هذا التعسف في إصدار الأحكام يرجع إلى تصور خاطئ في الرؤية وخلل في المنهج، فأكثر الأحكام المتعسفة والأخطاء التي عمت دراسات المستشرقين ناجمة عن هذا الخلل المنهجي الذي يمكن تحديد خصائصه العامة والأفكار النظرية التي تشكل صلب جوهره في:

أولاً: نظرية المركزية الأوروبية، التي ترى أن أوروبا هي مركز التاريخ والحضارة، ورائدة العلم والفلسفة قديماً وحديثاً، على ضوئها يقرأ تاريخ الإنسانية ويقاس تطور الحضارة. ويعد الفيلسوف الألماني هيجل من أبرز المبشرين بهذه النظرية، من خلال دعوته المتكررة بأن تشطب الفلسفة الشرقية من تاريخ الفلسفة؛ لأنها مستندة إلى الدين وممتزجة به. وتاريخ الفلسفة عنده لا يشمل تاريخ الأديان، ولأن الفلسفة تمثل المرحلة النهائية من خط تطوري صاعد يبدأ بالفن فالدين فالفلسفة في صورتها العقلية الخالصة التي لم تظهر إلَّا عند اليونان قديماً، وفي الفلسفة الغربية الأوروبية منذ عصر النهضة حديثاً. فماذا يبقى من تاريخ الفلسفة؟ لا يبقى-بحسب هذه النظرية- غير الفلسفة الأوروبية بشقيها القديم والحديث، وتظل أوروبا هي المركز العقلي في هذا العالم.

ثانياً: النظرية العرقية، والذي يعد إرنست رينان من أبرز دعاتها، حيث يصرح بأن الجنس السامي أدنى من الجنس الآري، وعلى هذا الأساس ينفي أن يكون للجنس السامي أي أثر فلسفي خاص به، وما الفلسفة عندهم إلَّا اقتباس خارجي صرف من اليونانيين، لذا فإن الفلسفة الإسلامية هي الفلسفة اليونانية منقولة إلى العربية، وينفي رينان بإصرار أي أثر للعقيدة الإسلامية في نشأة هذه الفلسفة .

لقد كانت هذه الأفكار سبباً في الأخطاء الكثيرة التي وقع فيها المستشرقون. وأمام فداحة هذه الأخطاء كان لا بد من ظهور كتابات تهتم بدراسة الفلسفة الإسلامية وتبرز أصالتها وأهميتها وتفرد موضوعاتها، وفي سياق التعريف ببعض الكتابات المنشورة حول الفلسفة الإسلامية، يأتي الكتاب الماثل بين أيدينا، وهو أحد كتابات المفكر السعودي الأستاذ زكي الميلاد التي صنفها ضمن خطابه التجديدي الذي يشتغل عليه منذ فترة ليست بالقصيرة.

والكتاب هو حصيلة مطالعة الأستاذ الميلاد في موضوع تاريخ الفلسفة الإسلامية، وهو يغطي ستة مؤلفات، تعد من أسبق وأبرز وأهم المؤلفات، والأكثر شهرة في القرين العشرين في المجال العربي، والتي باتت تمثل اليوم مراجع أساسية في موضوع تاريخ الفلسفة الإسلامية.

وهذه المؤلفات بحسب ترتيب تاريخ صدورها، هي:

1- تاريخ الفلسفة في الإسلام، للمستشرق الهولندي دي بور، الصادر باللغة الألمانية سنة 1901م، وفي ترجمته الإنجليزية سنة 1903م، وفي طبعته العربية سنة 1938م.

2- تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية، للشيخ مصطفى عبد الرازق، الصادر سنة 1944م.

3- في الفلسفة الإسلامية.. منهج وتطبيق، للدكتور إبراهيم مدكور، الصادر سنة 1947م.

4- نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام، للدكتور علي سامي النشار، الصادر سنة 1954م.

5- تاريخ الفلسفة الإسلامية، للمستشرق الفرنسي هنري كوربان، الصادر باللغة الفرنسية سنة 1964م، وفي طبعته العربية سنة 1968م.

6- تاريخ الفلسفة الإسلامية، للدكتور ماجد فخري، الصادر باللغة الإنجليزية سنة 1970م، وفي طبعته العربية سنة 1978م.

وقد جاء الكتاب في شكله العام يضم ستة فصول ومقدمة، حيث خصص الأستاذ زكي فصلاً مستقلاً لكل واحد من المؤلفات الستة، مرتبة بحسب تاريخ صدورها، وتشرح هذه الفصول الستة أهمية كل كتاب وقيمته ومنزلته الفكرية والتاريخية والمنهجية، وتعرف بالمؤلف منزلته ومكانته، أثره وتأثيره، وتعرض مواقف الآخرين ووجهات نظرهم الوصفية والتحليلية والنقدية، مع تركيز أستاذنا الميلاد على جانب المنهج، ومن هذه الجهة يقول زكي: «فإن هذا الكتاب هو أقرب ما يكون إلى بحث في المنهج، وتحديداً في منهج دراسة تاريخ الفلسفة الإسلامية». (ص: 10).

(1)

دي بور.. ومنهج دراسة تاريخ الفلسفة الإسلامية

كان هذا هو عنوان الفصل الأول من الكتاب، الذي خصصه الأستاذ الميلاد إلى مؤلف (بفتح اللام) دي بور، «تاريخ الفلسفة في الإسلام»، ولم يأت هذا التقديم اعتباطاً وإنما فرضته اعتبارات موضوعية أجملها الميلاد في عاملين متعاضدين:

العامل الأول: كونه أول كتاب صدر مع مطلع القرن العشرين، إذ صدر باللغة الألمانية سنة 1901م، الأمر الذي جعله يمثل حدثاً فكريًّا يؤرخ له في مجال الكتابة الحديثة عن تاريخ الفلسفة الإسلامية.

والكتابات الأولى لها أهميتها بطبيعة الحال..، وبهذا اللحاظ يكون كتاب «تاريخ الفلسفة في الإسلام»، هو أول كتاب يرجع إليه مع مطلع القرن العشرين عند الحديث عن تاريخ الفلسفة الإسلامية، وهذا ما حصل في الكتابات والمؤلفات التي أرخت لتاريخ الفلسفة الإسلامية من خلال تتبع الدراسات والأعمال التي تناولت هذا الشأن.

العامل الثاني: كون أن هذا الكتاب هو أول كتاب شامل في تاريخ الفلسفة الإسلامية، إذ تتبع منازع واتجاهات التفكير الفلسفي عند المسلمين، وتطور هذه المنازع والاتجاهات منذ النشأة حتى عصر ابن خلدون في القرن الثامن الهجري الرابع عشر الميلادي، وكتب بطريقة منظمة ومركزة، جعلت منه واحداً من أفضل ما كتبه المستشرقون حول تاريخ الفلسفة الإسلامية من هذه الجهة المنهجية. (ص: 15-16).

ويشترك الأستاذ الميلاد في هذه الملاحظة مع العديد من الباحثين المعاصرين، الذين يجمعون على أهمية الكتاب، وعلى أنه أفضل عرض مجمل للفلسفة الإسلامية باللغتين الألمانية والإنجليزية، في نظر أحدهم، وأحسن ما كتب في الفلسفة الإسلامية من المستشرقين في نظر آخر.

بيد أنه ورغم الشهرة الواسعة للكتاب وأهميته الفائقة في مجاله وعند الباحثين العرب، يسجل الأستاذ الميلاد وباستغراب شديد غياب دراسات مستقلة تتناول الكتاب بالدراسة والنقد، باستثناء إشارات عابرة ومتكررة في ثنايا بعض الكتب، وهو ما لا ينسجم وأهمية الكتاب وشهرته (ص: 16-17).

الأمر الذي يعد في نظري عاملاً ثالثاً من العوامل الذي شجَّعت أستاذنا الميلاد على تصدير فصول كتابه بمؤلف دي بور، أملاً في إعادة الاعتبار إلى باحث قدَّم خدمات جليلة للفلسفة الإسلامية. منوهاً في الوقت نفسه بالجهد الرائع الذي بذله الدكتور أبو ريدة في ترجمته للكتاب إلى العربية، وأبو ريدة باحث مصري وأستاذ جامعي متخصص في الفلسفة الإسلامية، وهو الحقل الذي ارتبطت به سيرته العلمية والفكرية من المرحلة الجامعية وبداية التخصص، إلى نهاية مشواره (ص: 18).

وقد عرف عن الدكتور أبي ريدة أنه كان يتقن عدة لغات أجنبية منها: الألمانية والإنجليزية والفرنسية والإسبانية والفارسية، وحتى بعض اللغات القديمة كاللاتينية واليونانية. وهو ما أعطى لترجمات أبي ريدة عموماً وترجمته لكتاب دي بور خصوصاً، درجة عالية من العلمية والإتقان والموثوقية والتميز. إلى درجة يشعر بها من طالع الترجمة وكأن الكتاب كتب بلغة المترجم لضبطه وإحكامه، وتواتر العبارات والجمل بطريقة سلسة (ص: 22).

ويبدو لولا هذه الترجمة لما عرف دي بور في المجال العربي، ولما نال كتابه هذه الشهرة الواسعة، وبهذا يكون الدكتور أبو ريدة قد قدَّم خدمة جليلة لدي بور حين عرف به وبكتابه وعلى هذا النطاق الواسع، وبشكل يتمناه كل مؤلف لنفسه، ولم يعرف دي بور في المجال العربي إلَّا بهذا الكتاب فحسب، دون غيره من المؤلفات الأخرى (ص: 23).

وتظهر قيمة العمل الذي قام به أبو ريدة من خلال التعليقات الكثيرة التي ضمّنها ترجمته. ولأهميتها فقد أشار إليها الأستاذ الميلاد تحت عنوان: «تعليقات المترجم.. مواقف وانطباعات»، وقد قسّم الميلاد هذه التعليقات إلى قسمين: الأول: يتعلق بالإشارة إلى المصادر والمراجع التي أغفلها دي بور والتي لم يأتِ على ذكرها، والثاني: يتعلق بالتوضيحات والشروح والإضافات والاعتراضات التي تراوحت بين الإيجاز والإسهاب بحسب ما يقتضيه كلام دي بور. وقليلة جدًّا هي الصفحات التي خلت من تعليقات المترجم شرحاً وتوضيحاً، أو إحالةً وتذييلاً لمصادر ومراجع عربية أو أجنبية (ص:33).

وقد لاقت هذه التعليقات استحساناً لافتاً من لدن الذين طالعوا الكتاب، أو الذين رجعوا إليه بصورة من الصور، حيث أثنوا على الجهد الذي بذله أبو ريدة، إلى درجة اعتبر أحدهم التعليقات بمثابة كتاب منفصل عن الكتاب الأصلي، وهي في نظر آخر علمية لدرجة القول بإمكانية نسبة العمل إلى الاثنين معاً أبوريدة ودي بور (ص:34).

ولقد كان لأستاذنا الميلاد بعض الملاحظات حول تعليقات أبي ريدة، جاءت إحداها متعلقة بالطريقة المتبعة من لدن أبي ريدة في تعليقاته، حيث اعتمد طريقة قام من خلالها بتوزيع ملاحظاته على طول صفحات كتابه بحسب الاقتضاء والحاجة. وهي الطريقة التي لم ترق لأستاذنا الميلاد مفضلاً تصدير الكتاب المترجم بنص واحد، فتنفصل الملاحظات والتعليقات عن نص الكتاب، لما تتيحه هذه الطريقة من إمكانية التعرف إلى مجموع ملاحظات المترجم في نص كلي موحد ومتواتر، كما أنها تمنع من تشتت ذهن القارئ بين متن الكتاب وتعليقات المترجم...(ص: 36).

وجاءت الثانية مسجلة غياب ترجمة للمؤلف، بحيث إن أبا ريدة لم يذكر شيئاً عن سيرة المؤلف، وتكتسب هذة الملاحظة شرعيتها من أن دي بور ليس اسماً معروفاً في الدراسات الفلسفية، الأمر الذي كان سبباً في اختلاف المهتمين بحقل الدراسات الفلسفية عربيًّا بشأن تحديد دي بور، فهناك من اعتبره ألمانيًّا، وهناك من اعتبره هولنديًّا (ص: 37).

أما الثالثة: فخصصها الميلاد لتلك المفارقة الكمية والنوعية بين تعليقاته عن الغزالي وتعليقاته عن ابن رشد، إذ سجّل الأستاذ زكي، أن تعليقات أبي ريدة عن الغزالي جاءت دفاعاً مطولةً وشرحاً وتوضيحاً على امتداد صفحات الكتاب، وهذا بخلاف الحال في تعليقاته عن ابن رشد التي اكتفى فيها بالإشارة إلى المصادر والمراجع، ولم يظهر دفاعاً واضحاً حتى في المواقف التي تستدعي الدفاع والتوضيح والشرح (ص: 38).

ولتكوين معرفة بكتاب «تاريخ الفلسفة في الإسلام»، قدَّم الميلاد سرداً لمحتوياته، فهو يتألف من مقدمة وسبعة أبواب، كل باب يتضمن فصولاً عدة.

الباب الأول: حمل عنوان «مدخل» واحتوى على ثلاثة فصول، الفصل الأول، جاء بعنوان: «مسرح الحوادث» تطرق إلى بلاد العرب ما قبل الإسلام، والعرب ما بعد الإسلام، مارًّا على عهد النبي ﷺ، وعهد الخلفاء الراشدين، ثم عهد الأمويين في دمشق ومتوقِّفاً عند مراكز الثقافة العقلية في البصرة والكوفة، وصولاً إلى عهد العباسيين ببغداد، وسقوط الخلافة.

والفصل الثاني جاء بعنوان «الحكمة الشرقية» تطرق إلى النظر العقلي عند الساميين، ثم الديانة الفارسية والدهرية، وانتهاء بالحكمة الهندية. وجاء الفصل الثالث بعنوان «العلم اليوناني» تطرق إلى المدن والمراكز التي وصل إليها العلم اليوناني، وتحدث عن السريان والكنائس النصرانية، وعن مدن حران وجنديسابور، وعن المذهب الأفلاطوني الجديد، ومعرفة أرسطو عند العرب.

الباب الثاني: حمل عنوان « الفلسفة والعلوم العربية»، واحتوى على أربعة فصول، الفصل الأول جاء بعنوان «علوم اللغة» تطرق إلى أنواع العلوم اللغوية، وعلاقة هذه العلوم بالقرآن وبالمنطق والفلسفة، والفصل الثاني جاء بعنوان «مذاهب الفقهاء»، تطرق إلى مواقف وآراء الفقهاء تجاه السنة والحديث والفقه والقياس والرأي، وجاء الفصل الثالث بعنوان «المذاهب الاعتقادية - مذاهب المتكلمين»، تطرق إلى العقائد النصرانية، وتحدث عن علم الكلام، ثم عن المعتزلة، وأشار إلى أربعة من أئمتهم الكبار هم أبو الهذيل العلاف، وإبراهيم النظام، والجاحظ، وأبو هاشم، كما تحدث عن الأشعري وعن التصوف.

والفصل الرابع جاء بعنوان « الأدب والتاريخ»، تطرق في جانب الأدب إلى أربعة من أئمة الأدب العربي، هم أبو العتاهية والمتنبي وأبو العلاء المعري، والحريري، وفي جانب التاريخ، تحدث عن السعودي والمقدسي.

الباب الثالث: حمل عنوان «الفلسفة الفيتاغورية»، واحتوى على فصلين، الفصل الأول جاء بعنوان «الفلسفة الطبيعية»، تطرق إلى مصادر هذه الفلسفة، وتحدث عن علوم الرياضيات والعلوم الطبيعية، وعلم الطب، والفصل الثاني جاء بعنوان، «إخوان الصف بالبصرة»، تطرق إلى «القرامطة»، وتحدث عن إخوان الصفا، في ميادين العلم والرياضيات والمنطق وفلسفة الدين والأخلاق.

الباب الرابع: وحمل عنوان «الفلاسفة الآخذون بمذهب أرسطو متأثراً بالأفلاطونية الجديدة بالشرق»، واحتوى على خمسة فصول، تحدث كل فصل عن واحد من فلاسفة المسلمين الأوائل، وهم حسب الترتيب: الكندي والفارابي ومسكويه وابن سينا وابن الهيتم.

الباب الخامس: حمل عنوان «نهاية الفلسفة في المشرق»، واحتوى على فصلين، الفصل الأول تحدث عن الغزالي، والفصل الثاني تحدث عن أصحاب المختصرات الجامعة.

الباب السادس: وحمل عنوان «الفلسفة في المغرب»، واحتوى على أربعة فصول، الفصل الأول، تحدث عن بواكير الفلسفة في عصر بني أمية بالأندلس، والفصل الثاني تحدث عن ابن باجة، والفصل الثالث تحدث عن ابن طفيل، والفصل الرابع تحدث عن ابن رشد.

الباب السابع والأخير: حمل عنوان «خاتمة»، واحتوى على فصلين، الفصل الأول تحدث عن ابن خلدون وعصره وثقافته، والفصل الثاني، تحدث عن العرب والفلسفة النصرانية في القرون الوسطى.

كانت هذه هي الخريطة التفصيلية لمحتويات الكتاب الأبواب والفصول، والتي تظهر أن حديث دي بور عن الفلسفة الإسلامية يمتد إلى عصر ابن خلدون في القرن الثامن الهجري، مع إشارة موجزة في نهاية الكتاب إلى التفاعل الثقافي الذي حصل بين العالمين الإسلامي والمسيحي بالعصور الوسطى بأوروبا، وفي إسبانيا وإيطاليا بصورة خاصة، وفضل المسلمين على الفلسفة المسيحية في العصور الوسطى. (ص: 28-29).

وقد لخّص الميلاد شرح دي بور لرؤيته الكلية لفكرة الفلسفة في الإسلام في قول دي بور: «ظلت الفلسفة الإسلامية على الدوام فلسفة انتخابية عمادها الاقتباس مما ترجم من كتب الإغريق، ومجرى تاريخها أدنى أن يكون فهماً وتشرّباً لمعارف السابقين لا ابتكاراً، ولم تتميز تميزاً يذكر عن الفلسفة التي سبقتها، لا بافتتاح مشكلات جديدة، ولا هي استقلت بجديد فيما حاولته من معالجة المسائل القديمة، فلا نجد لها في عالم الفكر خطوات جديدة تستحق أن نسجلها لها».

يقول الميلاد: وحين يتمم دي بور رؤيته الكلية يختم بالقول: «ونكاد لا نستطيع أن نقول: إن هناك فلسفة إسلامية بالمعنى الحقيقي لهذه العبارة، لكن كان في الإسلام رجال كثيرون لم يستطيعوا أن يردوا أنفسهم عن التفلسف، وهم إن اتشحوا برداء اليونان، فإن رداء اليونان لا يخفي ملامحهم الخاصة، ومن اليسير علينا أن نستهين بشأنهم إذا أطللنا عليهم من ذروة إحدى المدارس الفلسفية الحديثة المزهوة بفلسفتها، ولكن يحسن بنا أن نتعرّفهم في بيئتهم التاريخية، ولندع الآن رد كل فكرة من أفكارهم إلى أصلها الذي انحدرت منه، تاركين هذا لمبحث قائماً بذاته، وأما غرضنا فيما يلي فلا يعدو الإشارة إلى الهيكل الذي شاده المسلمون من المواد التي وجدوها مهيأة لهم».

وفي نظر الميلاد فهذا النص القصير، هو من أكثر ما لفت انتباه الكتّاب والباحثين المهتمين بحقل الدراسات الفلسفية في المجالين العربي والإسلامي، ومن أشد ما أثار انتقادهم وامتعاضهم. وأغلب الكتابات والمؤلفات العربية والإسلامية التي رجعت لكتاب دي بور، إنما رجعت للتوقف أمام هذا النص ومناقشته ونقده والتشكيك فيه، والكشف عن مغالطته وحتى تناقضه. (ص: 31).

ويسجل الأستاذ الميلاد، وفي ارتباط باتجاهات النقد في الكتابات العربية لمؤلف دي بور، غياب مراجعات نقدية شاملة وتفصيلية، وهذا يعني في نظر الميلاد، أن كتاب دي بور ومع شهرته الواسعة في المجال العربي، وبعدما يزيد على قرن من تاريخ صدوره، وما يزيد على سبعين سنة من تاريخ ترجمته، لم يتعرض للتحليل النقدي في الكتابات العربية المعاصرة، بأنماطها الفكرية والفلسفية والتاريخية. وهو أمر في نظر أستاذنا الميلاد يمثل مفارقة تثير الانتباه حقًّا، وتصوّب النقد على المجال الفكري العربي المعاصر. (ص: 39).

ولقد كانت لأستاذنا الميلاد مجموعة من الملاحظات النقدية ختم بها قراءته لكتاب دي بور، تعلّقت في مجملها بفكرة لطالما كررها دي بور في كتابه تأكيداً لها؛ وهي تلك المتعلقة بارتهان الفلسفة الإسلامية بنظيرتها اليونانية والرومانية والنصرانية، وهو الأمر الذي رفضه الميلاد شأنه في ذلك شأن غالبية الباحثين العرب، وفي مقدمتهم مترجم الكتاب إلى العربية الأستاذ أبو ريدة. حيث يرى الميلاد أن هذا الارتهان إنما هو دليل على شغف المسلمين بالعلم، لما أحدثه فيهم القرآن من تأثير حيث افتتحت آياته بكلمة «اقرأ» التي تفيد نفي الجهل..، الأمر الذي دفعه إلى اكتساب العلوم والمعارف أنّى وجدت يونانية كانت أو غيرها. كما أن المسلمين وبشهادة المؤرخين أسهموا في إحياء هذه العلوم، وإكسابها حيوية وتجدّداً، ولولا هذا الدور الحضاري الذي اطلع به المسلمون ما كنا نعلم أين ينتهي مصير هذه العلوم والمعارف. (ص: 44).

(2)

مصطفى عبد الرازق.. ومنهج دراسة تاريخ الفلسفة الإسلامية

هو شيخ الجامع الأزهر الشريف، ومجدّد للفلسفة الإسلامية في العصر الحديث، وصاحب أول تاريخ لها بالعربية، ومؤسس المدرسة الفلسفية العربية التي أقامها على الإسلام، بهذا يعرف الشيخ مصطفى عبد الرازق، صاحب كتاب: «تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية»، إذ مثل مصطفى عبد الرازق تجربة مهمة في تاريخ تطور الفكر الفلسفي الإسلامي خلال النصف الأول من القرن العشرين، وهي التجربة التي توقف عندها، ورجع إليها معظم الدارسين والباحثين الذين حاولوا دراسة تاريخ تطور الفلسفة والفكر الفلسفي الإسلامي والدرس الفلسفي في مصر والعالم العربي.

وقد أورد الأستاذ زكي الميلاد مجموعة من الأقوال لمجموعة من المفكرين والنقاد تبرز مكانة الشيخ مصطفى عبد الرازق، وتؤكد ريادته في مجال الدراسات الفلسفية الإسلامية. وعن ذلك يقول الدكتور زكي نجيب محمود: «قد نحا منحى جديداً في دراسة الفلسفة الإسلامية، وأرسى دعائم مدرسة كانت الحياة الفلسفية أحوج ما تكون إليها». وعندما أراد الدكتور أنور عبد المالك أن يعدد بعض وجوه الإبداع الفكري الذاتي في مصر، توقف عند الشيخ عبد الرازق واعتبر أنه كان « مبدعاً رائداً؛ إذ أعاد منهاجية تاريخ الفلسفة الإسلامية إلى ضرورة الأخذ بأصولها التاريخية الذاتية، دون الاعتماد على أسطورة أن الفلسفة ما كان لها من دور إلَّا نقل التراث اليوناني إلى العرب، ومن ثم تسهيل نقله إلى الغرب في مرحلة النهضة». (ص: 57).

أما كتابه «تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية» فقد توخى في موضوعاته الرجوع إلى النظر العقلي الإسلامي وتتبع مدارجه في ثنايا عصوره وأسرار تطوره، وقد حرص في مقدمة هذا الكتاب على أن يوضح منهجية تأليفه ودواعي نشره، فكتب يقول: «قد كنت أيام اشتغالي بتدريس الفلسفة الإسلامية وتاريخها في الجامعة المصرية (جامعة القاهرة الآن) معنيًّا بدرس هذه الموضوعات واستكمال بحثها، ودونت فيها صحفاً طويتها على غرِّها منذ تركت الجامعة في صدر سنة 1939م، وصرفتني الشواغل عنها. واليوم أعود إلى هذه الصحف لأنشرها كما هي بصورتها يوم كتبت من غير تنقيح ولا تعديل، وفى صياغتها التعليمية التي تراعى حاجة الطلاب إلى مراجعة النصوص الكثيرة وحسن التدبر والفهم للأساليب المتفاوتة، وإن لم يخفَ ذلك على ذوق المطالعين جميعاً. وأرجو أن يكون في هذه الصفحات عون لباحث أو فائدة لقارئ».

ولقد كان كتاب التمهيد، من المؤلفات الرائدة في مجال الفلسفة الإسلامية وتاريخها خلال القرن العشرين، إذ أصبح موضع عناية الباحثين والمؤرخين.

ولقد حاول الأستاذ زكي الميلاد منح القارئ فرصة للاطلاع على محتويات كتاب التمهيد، من خلال تذكيره بمباحث الكتاب وفصوله، المقسمة إلى قسمين:

القسم الأول: تحدث عن مقالات المؤلفين الغربيين، ومقالات المؤلفين الإسلاميين، وبيان منازعهم ومناهجهم في دراسة الفلسفة الإسلامية وتاريخها.

القسم الثاني: عن منهج المؤلف في دراسة تاريخ الفلسفة الإسلامية، وهو منهج مغاير لمناهج أولئك المؤلفين، غربيين وإسلاميين، ويلي هذا المنهج تطبيق له، وتوضيح بما هو أشبه بالنموذج والمثال. (ص: 59).

لقد تحدث الشيخ مصطفى عبدالرازق من خلال فصول الكتاب العديدة عن تعريف الفلسفة وتقسيمها عند الإسلاميين، كما تحدث عن بداية التفكير الفلسفي الإسلامي، وعن النظريات المختلفة في الفقه الإسلامي وتاريخه، وعن القياس والاجتهاد والرأي، كما نجده يحلل تاريخ علم الكلام، ويتحدث عن العقائد الإيمانية في عهد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وعهد الخلفاء الراشدين، وعهد الأمويين والعباسيين.

ونجده في هذا الكتاب يفند آراء المستشرقين حول الفلسفة الإسلامية، ويوضح موقفه من هذه الآراء، ويناقش الكثير من الأحكام التي قال بها أصحاب النزعة العرقية الذين اتخذوا من علم نفس الأجناس ذريعة لتقرير أن للجنس السامي دون الجنس الآري موهبة وقدرة وذكاء، ثم بنوا على أساس هذه المقولة زعمهم بأن السلالة الآرية التي تنتمي إليها الأمم الأوروبية هي وحدها الصفوة المؤهلة للرقي وللسيادة، وإليها يُردّ كل ما له قيمة في تاريخ المعرفة والحضارة. أما العرب -حسب هذا الزعم- فهم أخلص أنواع الجنس السامي الذي يتميز بميله الفطري إلى إدراك المفردات وحدها، ولا قِبَل لهم باستخلاص قضايا وقوانين، ولا بالوصول إلى فروض ونظريات معرفية، ومن العبث أن يتلمس المرء لديهم إبداعاً فكريًّا أو إنجازاً حضاريًّا أو منهجاً عقلانيًّا، خصوصاً أن الإسلام -فيما يدّعون ويزعمون- قد ضيق آفاق العقل العربي وحرمه من البحث الحر والنظر الطليق، وأن ما ينسبه العرب لأنفسهم من فلسفة أو معرفة إسلامية خاصة بهم ليس إلَّا مجرد محاكاة أو تقليد لفلاسفة الإغريق، وضرب من التكرار لآراء وأفكار يونانية صيغت باللغة العربية.

من ناحية أخرى، أسهب الشيخ مصطفى عبدالرازق في توضيح أصول الدرس الفلسفي، وتوسع فيما يشمله علم أصول الفقه من مباحث تكاد تكون في جملتها من جنس المباحث التي يتناولها علم العقائد الذي هو علم الكلام. ودلل على رأيه هذا من خلال عرضه المفصل لأهم النظريات المختلفة في الفقه الإسلامي وتاريخه، ثم معالجته لمسألة «الرأي» وأطواره.

لقد كان كتاب التمهيد ومنهجه في نظر العديد من الباحثين والأكاديميين يمثل: «قيمة تاريخية ومذهبية كبرى بين الكتب التي ألفت في الفلسفة الإسلامية، لأنه يختلف عنها جميعاً في مواضيعه ونتائجه، فهو ليس على النحو المألوف، والنهج المعروف عند المؤلفين الشرقين والمستشرقين، بل هو منهج جديد في دراسة تاريخ الفلسفة الإسلامية مغايراً لهذه المناهج، وفيه تتجلى شخصية الشيخ الفيلسوف». (ص: 69-70).

ومن الملاحظات التي استوقفت انتباه الدارسين لكتاب التمهيد، كثافة النصوص المطولة، والمقتبسة من المصادر القديمة والحديثة، الغربية والإسلامية، الظاهرة التي تجلت في جميع فصول الكتاب، وفي كل صفحة من صفحاته تقريباً.

وقد كانت هذه الملاحظة موطن مدح من لدن العديد من الباحثين الذين تناولوا الكتاب بالدراسة والتحليل والنقد. بيد أنها في نظر الميلاد تفسير للطبيعة التعليمية للكتاب، يقول الميلاد: «فكون الكتاب جاء تعليميًّا ولغايات تعليمية، ودُوّن في الأصل على صورة ملازم تعليمية، لهذا احتوى على كل هذه النصوص والاقتباسات، المطولة في جميع فصول الكتاب، فهو يراعي -حسب قول المؤلف- حاجة الطلاب إلى مراجعة النصوص الكثيرة».(ص: 86).

ومن الملاحظات النقدية الأخرى التي سجلها الميلاد بخصوص الكتاب، تلك المتعلقة بفكرة ضم أصول الفقه إلى شعب الفلسفة، فالشيخ مصطفى عبد الرازق، أشار إلى إمكانية ضم أصول الفقه إلى شعب الفلسفة، دون الحديث عن الفكرة بشكل مركز وبطريقة متماسكة، ولم يفرد لها فصلاً أو محوراً مستقلاً لبلورتها وتنضيجها، خصوصاً أنها عُدّت واحدة من ركائز أطروحة الكتاب.

والقدر الذي تحدث عنه المؤلف حول هذه الفكرة جاء متناثراً ومتفرقاً بين أجزاء وفصول الكتاب، في حين أن فكرة بهذه الأهمية كانت بحاجة إلى التوقف مليًّا عندها، والبرهنة عليها وتكثيف الحديث عنها لتوثيقها وتأكيدها وتقعيدها. (ص: 87).

ومن مظاهر إعجاب الميلاد بكتاب التمهيد ولربما تأثره بالشيخ مصطفى عبد الرازق، عدم استرساله في تحديد ملاحظاته النقدية، إذ سرعان ما وجّه نقده لطبيعة الانتقادات التي تعرض الكتاب وصاحبه من لدن بعض الباحثين، أمثال: الدكتور ماجد فخري، والدكتور عاطف العراقي، والدكتور محمد عابد الجابري، والتي كانت موضوع مبحث من مباحث كتابه، تحت عنوان «اتجاهات النقد».

(3)

إبراهيم مدكور.. ومنهج دراسة تاريخ الفلسفة الإسلامية

وأحسن الأستاذ الميلاد، إذ جعل من كتاب: «في الفلسفة الإسلامية.. منهج وتطبيقه» للأستاذ إبراهيم مدكور، تالياً لكتاب التمهيد لمصطفى عبد الرازق، لشدة الترابط بين الكتابين، حيث ظل الحديث عن هذين الكتابين مقترناً في بعض الكتابات العربية، ولكون صاحبيهما في نظر العديد من الباحثين، «من الأساتذة الذين ساهموا مساهمة كبيرة في إعادة بحث وإحياء الفلسفة في الفكر العربي الحديث، بعد أن بقيت مخنوقة مقموعة طيلة عصر الانحطاط، بل منذ وفاة ابن رشد» .

ومن أكثر ما تميز به مدكور في كتابه: «في الفلسفة الإسلامية..منهج وتطبيقه»، هو ذلك الجانب الذي يتصل بالمنهج التطبيقي، فهو من أكثر المؤلفات وضوحاً في المنهج من الناحيتين النظرية والتطبيقية، واتسم بالتجديد والابتكار من هذه الناحية، وكانت هذه من أعظم نجاحاته، بحيث يمكن القول: إنه كتاب في الفلسفة من جهة، وكتاب في المنهج من جهة أخرى، ولا يزال إلى اليوم يحتفظ بهذه السمة المتفوقة. (ص: 100).

لهذا يعد كتاب: «في الفلسفة الإسلامية..منهج وتطبيقه»، من المحاولات الأولى التي اتخذت طابعاً منهجيًّا في دراسة الفلسفة الإسلامية.

والمنهج الذي يعول عيه إبراهيم مدكور، ويقترحه في دراسة الفلسفة الإسلامية وتاريخها، يتحدد –حسب الميلاد- في نطاقين هما:

أولا: المنهج التاريخي، الذي يرى فيه مدكور أنه المنهج: « الذي يصعد بنا إلى الأصول الأولى وينمي معلوماتنا، ويزيد ثروتنا العلمية، وبواسطته يمكن استعادة الماضي، وتكوين أجزائه البالية، وعرض صورة منه تطابق الواقع ما أمكن».(ص: 100).

ثانيا: المنهج المقارن الذي يرى فيه مدكور أنه المنهج: «الذي يسمح بمقابلة الأشخاص والآراء وجهاً لوجه، ويعين على كشف ما بينها من شبه أو علاقة، والمقارنة والموازنة من العلوم الإنسانية بمثابة الملاحظة والتجربة من العلوم الطبيعية». (ص: 102).

ويشير الميلاد إلى أن الإبداع والتجديد الذي ميّز الدكتور إبراهيم مدكور، لا يكمن في التحديد للمنهج من الناحية النظرية، فهو من المناهج المعروفة والمتداولة والمفضلة عند الكثيرين، وإنما يكمن في تطبيقات هذا المنهج، وهي التطبيقات التي هي بنية الكتاب الأساسية، وتجلت فيها أطروحته. (ص: 103).

ولقد طبّق مدكور منهجه ذاك على خمسة نظريات تنتمي إلى الفلسفة الإسلامية، ثلاث منها جرت التطبيقات عليها في الجزء الأول، وهي نظريات السعادة، والنبوة، وخلود النفس، واثنتان جرت التطبيقات عليهما في الجزء الثاني، وهما نظريتا الألوهية وحرية الإرادة.

وطريقة مدكور في تطبيقات المنهج على هذه النظريات الخمس، تبدأ بتوضيح النظرية وإعطاء فكرة عنها، وشرحها بلغة أصحابها وواضعيها، وبحث الصورة التي ظهرت عليها في المجال الإسلامي، ومحاولة تلمّس أصولها، والبحث عن مصادرها فيما نقل إلى العربية، من أفكار أجنبية، أو فيما جاء به الدين من تعاليم.

ومن ثم تتبع تاريخ هذه النظريات، والكشف عن مدى تأثيرها في ساحة المسلمين، وعلى غير المسلمين من اليهود والمسيحيين.ولا تنتهي هذه التطبيقات عند هذا الحد، وإنما تمتد إلى العصور الحديثة، وتصل أحياناً إلى ما هو أبعد من ذلك. (ص: 103-104).

وقد تحدث مدكور عن المستشرقين وهو يؤرخ لدورهم في مجال العناية بالدراسات الإسلامية بشكل عام، والدراسات الفلسفية بشكل خاص، منوهاً بهذا الدور، وبهذا الموقف قد ظهر بمظهر صاحب الموقف الهادئ والإيجابي من الاستشراق والمستشرقين، وكان بعيداً كل البعد عن التشكيك والانفعال بخلاف موقف الكثيرين، في المجالين العربي والإسلامي، ومن هذه الجهة يمكن تصنيف موقف مدكور في خانة أصحاب الموقف الإيجابي تجاه الاستشراق الأوروبي. (ص: 107).

ويفسر الأستاذ الميلاد هذا الموقف بالطبيعة الفكرية المتسامحة عند الدكتور مدكور التي تجلّت بوضوح في كتابه «في الفلسفة الإسلامية»، ومنها عامل التتلمذ على المستشرقين، والزمالة لهم والصحبة معهم. ويتمم هذه العوامل، أن مدكور حين التفت إلى حقل الدراسات الفلسفية في المجال العربي ما بين الثلاثينات والأربعينات من القرن المنصرم، لم يجد من الترجمات والتحقيقات والنصوص والمؤلفات سوى كتابات المستشرقين التي رجع إليها، واستعان بها في إعداد وتصنيف كتابه عن الفلسفة الإسلامية، وأشار إلى هذه الملاحظة في مقدمة الكتاب معترفاً لهم بالفضل. وأظن –يقول الميلاد- أن هذه العوامل مجتمعة، تقدم تفسيراً معقولاً ومتماسكاً لموقف مدكور تجاه ظاهرة الاستشراق والمستشرقين. (ص: 108-109).

بيد أن هذا الموقف الإيجابي لمدكور من الاستشراق والمستشرقين لم يمنعه من رفض التشكيك الاستشراقي في أصالة الفلسفة الإسلامية، وفي هذا النطاق جاء كتاب الدكتور مدكور، وإلى هذه المهمة ينتمي في أطروحته الفكرية، وبها تتحدد حكمته وفلسفته، وهذا ما يتكشف حين التعرّف إلى الإشكالية الأساسية التي ينطلق منها. (ص: 110).

ويرى الدكتور مدكور أن هناك ثلاث بيئات في المجال الإسلامي عُنيت بالفكر الفلسفي وكانت متعاصرة، وأخذ بعضها عن بعض، مع ما ظهر منها من مناقضة ومعارضة، ولن يكتمل البحث عن الفكر الفلسفي الإسلامي قضاياه ومشكلاته إلَّا باستعراض هذه البيئات الثلاث، وهي: البيئة الكلامية، وبيئة الفلاسفة الخلص، وبيئة المتصوفة. ولم يقف الفكر الفلسفي الإسلامي عند هذه البيئات الثلاث، بل امتد عند مدكور إلى ميادين أخرى، منها ميادين أدبية ونحوية وبلاغية، وميادين أخرى منها ميدان علم الأصول الذي هو ضرب من مناهج البحث في التشريع الإسلامي وقد غذي بغذاء فلسفي. (ص: 113-115).

ويشير الميلاد إلى أن نظرية الدكتور مدكور في دراسة الفلسفة الإسلامية، تحددت في ربط هذه الفلسفة بمراحل تطوُّر الفكر الإنساني القديم والوسيط والحديث، وعلى أساس أنها تمثل مرحلة من مراحله المهمة والمؤثرة، وحلقة من حلقاته المتصلة والفاعلة، والنظر لها بهذا النمط، ودراستها في هذا الإطار، ومن خلال هذا المنهج. ولقد حاول مدكور، يقول الميلاد: التركيز على هذه النظرية، ولفت الانتباه إليها، وظل يذكر بها من أول الكتاب في المقدمة إلى نهايته في الخاتمة. (ص: 116).







    رد مع اقتباس