عرض مشاركة واحدة
قديم 2014-10-04, 22:53 رقم المشاركة : 15
خادم المنتدى
مدير التواصــل
 
الصورة الرمزية خادم المنتدى

 

إحصائية العضو








خادم المنتدى غير متواجد حالياً


وسام المشاركة السيرة 1438ه

وسام المشاركة في مسابقة السيرة النبوية العطرة

العضو المميز لشهر فبراير

افتراضي رد: منتدى فرعي لمواضيع الفلسفة.


أثر ابن رشد في الفكر السياسي الغربي
الدكتور عبد السلام بن مَيْسَ
كلية الآداب ـ الرباط
نُنَبّه أولاً إلى صعوبة تناول الفكر السياسي الرشدي، نظراً لأسباب كثيرة أهمها:
1 ـ لم يُخَلِّف لنا ابن رشد شرحاً لـ"كتاب السياسة" لأرسطو كما فعل لباقي مؤلفات هذا الفيلسوف. وبهذا تضيع مِنّا فرصةٌ للتعرف إلى أفكار ابن رشد السياسية بشكل مفصل؛
2 ـ لما شرح ابن رشد "جمهورية" أفلاطون، فعل ذلك بأعين أرسطية؛ وبالتالي يصعب التمييز بين ما يعتقده ابن رشد من جهة وما يجعل ابن رشد أفلاطون وأرسطو يعتقدانه من جهة ثانية وما يعتقدانه فعلاً من جهة ثالثة؛
3 ـ ما نعرفه عن شرح ابن رشد لـ"جمهورية" أفلاطون هو ما نقلته لنا الترجمات العِبْرية واللاتينيةِ([1])؛ أما النص العربي الأصلي، فقد ضاع. وهذا أمر يُعَقّد مهمة من يرغب في التعرف إلى الفكر الرشدي السياسي بدقّة:
4 ـ الخلط الذي حصل لابن رشد أو لمترجمه العِبْرِي عندما اعتبر "جمهورية" أفلاطون الجزء الثاني من كتاب "الأخلاق النِّيقُوماقية" باعتبار الفلسفة العملية تنقسم إلى قسمين: الأخلاق والسياسة([2]).
5 ـ عندما شرح ابن رشد "جمهورية" أفلاطون، فنحن لا نعرف هل اعتمد على نص "الجمهورية" كما ترجمه حُنَين بن إسحاق أو على "جوامع" جالينوس للكتاب نفسه الذي كان هو أيضاً مترجماً إلى اللغة العربية على يد مترجم "الجمهورية" نفسه؛
6 ـ غموض مفهوم المدينة عند ابن رشد، على الأقل من خلال شرحه لـ"جمهورية" أفلاطون؛
7 ـ تعدد مصادر الفكر السياسي الرشدي وتنوعها. فبالإضافة إلى شرح "جمهورية" أفلاطون، هناك:
أ ـ شرح كتاب "الخطابة" لأرسطو؛
ب ـ شرح "الأخلاق النيقوماقية
جـ ـ الشريعة الإسلامية؛
د ـ كتب ابن رشد التي ينتقد فيها المتكلمين (مثل كتاب "فصل المقال" وكتاب "التهافت" وغيرهما).
وبالإضافة إلى هذه الصعوبات التي تطرحها المصادر، هناك صعوبات أخرى تطرحها المراجع والتي تتلخص في ندرة النصوص المتعلقة بالجانب السياسي من فكر ابن رشد بالمقارنة مع ما كُتب حول الجوانب الأخرى مثل الجانب الميتافيزيقي والجانب الفقهي والجانب العلمي وغيرها. والواقع أن مؤرخي الفلسفة لم يُولوا الجانب السياسي الرشديَّ الاهتمامَ الذي يستحقه بالمقارنة مع الاهتمام الذي حظِي به مثلا ابن سينا والغزالي والفارابي وإخوان الصفا والماوردي وابن خلدون وغيرهم. كما أهمل أغلب الباحثين، وربما كان هذا نتيجة لذاك، أثر ابن رشد السياسي في الفكر المسيحي الغربي من خلال ما عُرف بالرشدانية اللاتينية. ولهذا سيكون موضوع بحثنا هذا هو المساهمة في إبراز مدَى ونوع التأثير الذي مارسه الفكر الرشدي، فلسفياً كان أو سياسياً، على الغرب المسيحي بين القرنين الثالث عشر والسابع عشر الميلاديين.
الفكر السياسي الرشدي
يبدأ ابن رشد شرحه لـ"جمهورية" أفلاطون بالإقرار بأن الإنسان حيوان مجتمعي وأن النظام والتربية ضروريان لضمان السير السليم للمجتمع([3]). لهذا فنحن بحاجة إلى وضع قوانين لتنظيم المدينة ـ الدولة. وهذا بالضبط ما فعله أرسطو قبله عندما اعتبر العلم قسمين: نظري وعملي. فالنظري هو الفيزياء والميتافيزيقا، والعملي هو الأخلاق والسياسة. وعن السؤال: من يستحق الحكم والسهر على السير المنظم للمدينة؟ يجيب ابن رشد بكل بساطة: هم الفلاسفة أو الأئمة، على أساس أن تتوافر فيهم مجموعة من الشروط([4]) نوجز أهمها في ما يلي:
ـ أن يكون لدى الفيلسوف، أو الإمام، استعداد طبيعي لدراسة العلوم النظرية؛
ـ أن يحب الصواب ويكره الخطأ؛
ـ أن يكون شجاعاً؛
ـ أن يكون خطيباً بارعاً؛
ـ ألاَّ يحب المال،...
يأخذ ابن رشد بنظام الشورى على طريقة الخلفاء الراشدين، ولكنه يحذّر من تحول حكم شوري ديموقراطي إلى نظام طغياني كما حصل مع معاوية في الحضارة الإسلامية.
لننبه هنا إلى أن ابن رشد لم يُلَخِّص كل "جمهورية" أفلاطون. فلقد أسقط الكتاب العاشر لكونه، في اعتقاده، غير مفيد لعلم السياسة. وهو كتاب خصصه أفلاطون للشعر. كما أسقط أيضاً الكتاب الأول، لأنه ـ في اعتقاده ـ لا يحتوي إلا على تَعَقُّلاَت جدلية. وابن رشد يكره الجدل، لأنه لا يرقى إلى مستوى البرهان. وهذا ما يجعله يختلف كذلك عن أرسطو. فالجدل عند هذا الأخير هو منطق السياسة، وهو وسيلة للتربية المدنية. أما ابن رشد، فيلح عن إبعاد الجمهور (أو عامة الناس) عن السياسة وعن كل علم متصل بها. ويعتبر أن المناسب لهم هو العلوم الدينية البسيطة. وبما أنه ينبغي إبعاد الجمهور عن السياسة، فإن التربية السياسية مسألة لا تعني ابن رشد. ويعترف أبو الوليد، تماماً كأفلاطون وأرسطو، بأن نظام الديموقراطية (أو الشورى) ليس أمثل الأنظمة السياسية، ولكنه أقل الأنظمة الفاسدة فساداً. وهو نظام يضعه أرسطو بين الملكية والطغيانية: فالملكية عنده هي أحسن أنظمة الحكم([5])، ولكن كثيراً ما يحصل فيها أن يحكّم الملك عواطفه بدل القوانين. أما الطغيانية، فيرفضونها جميعاً. ويميل ابن رشد، تماماً كأفلاطون، إلى حكم النخبة، أي الفلاسفة. ولكنه يختلف عنه في ما يتعلق بتربية الناس. فابن رشد يدعو إلى التعامل مع عامة الناس بالأساليب الدينية دون محاولة ردهم إلى فلاسفة؛ أما أفلاطون، فيدعو الفلاسفة إلى تربية المواطنين، لأن الفلاسفة أدْرَى بما هو خير من عامة الناس([6]). ولكن ابن رشد يتفق مع أرسطو في إبعاد عامة الناس (أو ما يسميه أرسطو بالغوغاء) عن السياسة. ويتفق مع أفلاطون في إبعاد الفلاسفـة المُفسديـن، أي السفسطائيـة. والفلاسفة المفسدون ـ في نظر ابن رشد ـ هم المتكلمون. فهؤلاء يُضَلِّلُون عامة الناس، باعتبارهم يعتمدون منهج الجدل الذي لا يرقى إلى الحقائق البرهانية. فابن رشد يعتبر المتكلمين خطراً حقيقياً على صفاء الإسلام وعلى أمن الدولة. ويطلب من السلطات الحاكمة أن تمنع هؤلاء المتكلمين من توصيل معارفهم إلى عامة الناس.
يتضح مما تقدم أن ابن رشد لا يكتفي بشرح الفلاسفة اليونان، بل يتخذ من حين لآخر مبادرات تميزه عنهم. والواقع أن الإشكالية السياسية التي يَسْتَحْضرها ابن رشد في ذهنه والتي يعيشها في الواقع تختلف عن التي انطلق منها أرسطو وأفلاطون. فبالرغم من كون ابن رشد يأخذ برأي أفلاطون في اعتبار المدينة محكومة من طرف الفلاسفة([7])، فإن هؤلاء الفلاسفة عند ابن رشد غير ملحدين. فهم جميعاً يؤمنون بالله وبنبوة محمد وبإعجازية القرآن. أضف إلى ذلك أن ابن رشد يفترض أن الشريعة الإسلامية تتضمن تعاليم تتجاوز نواميس أفلاطون، لأن هذه الأخيرة مجرد تعاليم وضعية.
من كل هذا يمكن أن نستنتج أن ابن رشد لم يقلد لا أفلاطون ولا أرسطو في مجال السياسة، بل وظّف أقوالهما في هذا الميدان لتتناسب مع الشريعة الإسلامية وصاغ من كل ذلك موقفاً شخصياً يختلف عن موقفي أستاذيه اليونانيين. ولكنه، بالرغم من ذلك، لم يتمكن من بناء نظرية في السياسة متميزة.
الأسس الفسلفية للرشدانية اللاتينية
الرشدانية اللاتينية هي نزعة فلسفية انتشرت بالغرب اللاتيني في الفترة المحصورة بين ق 13 و 17م، وانطلقت من الاعتبار القائل بأن فلسفة ابن رشد تُمثل أحسن الشروح الفلسفية لأرسطو ويمثلان مجتمعين الحقيقة بعينها. لقد انتشر بين الرشدانيين اللاتين قولهم: Aristotelis doctrina est summa veritas. نُنَبِّه هنا إلى أننا نتبنّى مصطلح »الرشدانية« للإحالة على نزعة فلسفية، وذلك لتمييزها عن »الرشدية« باعتبار هذه الأخيرة مجرد صفة أو نعت وليس اسماً لمذهب أو نزعة. ظهرت هذه النزعة عند اليهود وعند المسيحيين، ولم تظهر عند المسلمين. مَثَّلها عند اليهود إسحاق البلاق (Isaac Albalaq: ق 13 م) وليفي بن غرسون (Levi Ben Garson: ق 13 ـ 14 م) وموسى النربوني (Moïse de Narbone: ق 13 ـ 14 م) وغيرهم. أما عند المسيحيين، فللرشدانية تاريخ طويل بدأ مع نشأة الجامعة الفرنسية بباريز خلال القرن 13 م ومع ترجمات أعمال ابن رشد التي قام بها ميكائيل سكوت بين 1225 م و 1235 م. وقد وصلت هذه الترجمات إلى باريز بُعَيْد 1230 م. وهناك تشكلت النواة الأولى للرشدانية بين 1250 و 1270 م. وفي هذه الفترة بَدَأ أساتذة الجامعة الفرنسية يُحيلون على الترجمات اللاتينية لأعمال ابن رشد التي كانت عبارة عن شروح وتلاخيص لأعمال أرسطو. لكن سُرْعَان ما تنبه علماء اللاهوت (مثل ألْبِرْت الأكبر وطوما الأكويني وبونا فتتورا وغيرهم) إلى الخطورة التي تشكلها هذه الفلسفة على العقيدة المسيحية. ولهذا عمد البابا وممثلوه إلى منع مجموعة من الأطروحات نُسبت عن حق أو عن باطل إلى ابن رشد وأرسطو. ومن أهم هذه الأطروحات ما يلي:
ـ وحدة العقل الهيولاني بالنسبة للكائنات البشرية؛
ـ نفي خلود الروح واليوم الآخر؛
ـ قِدَمُ العالم المادي؛
ـ نفي العناية الإلهية.
هذه هي أهم الأسس الفلسفية للرشدانية اللا تينية، أُضِيفَ إليها فيما بعد مُكَوِّن آخر أساسي يتمثل في ازدواجية الحقيقة التي نسبت إليه، بالرغم من كون ابن رشد لم يَقُل بها. وبما أن انعكاسات هذه الأطروحة على المجال السياسي القروسطوي أساسية، فلابد من أن نتوقف عندها قليلاً.
يمكن صياغة أطروحة ازدواجية الحقيقة كما يلي: »من الممكن أن نحصل على نتيجتين متناقضتين وصادقتين في الوقت نفسه: الأولى عقلية، والثانية دينية«.
أيهما أسمى عند ابن رشد؟ هذه مسألة لا تزال قيد المناقشة ولا يمكن البتُّ فيها بشكل نهائي. صحيح أن ابن رشد يعترف بالحقيقة العقلية ويمجدها، ولكنه صحيح أيضاً أن فيلسوفنا يعترف بالحقيقة الدينية.
من المحتمل جداَ أن يكون ابن رشد قد وضع الحقيقة الفلسفية في قمة المعرفة البشرية. وهذا ما فعله القديس طوما الأكويني أيضاً. غير أن هذا الأخير يعترف صراحة أن الإيمان أكثر يقيناً من العقل. أما ابن رشد، فيترك الحكم معلقاً.
من الناحية الجغرافية، انتشرت الرشدانية أولاً في باريس خلال ق 13 م. ومن أبرز ممثليها آنئذ سيجي البرابنتي (Siger de Brabant) وبوويتيوس الداسي (Boèce de Dacie). ألف هذا الأخير كتاباً تحت عنوان "الخير الأسمى" (De Summa bona) فيه يمكن التعرف إلى رشدانيته: فالعقل عنده هو الذي يضمن السعادة، لأن معرفة الحقيقة العقلية هي مصدر السعادة. والكتاب كله عبارة عن إشادة بالممارسة العقلية المحض([8]).
انتقلت الرشدانية إلى جامعة بادوفا بإيطاليا، وهناك مثلها الكاتب والشاعر المعروف دانتي (Dante) ومارسيليو البادوني (Marsile de Padoue) ويوحنا اليندوني (Jean de Jandun) وتَاديو البارمي (Toddeo da Parma) وغيرهم. ثم في القرن 15 م بإيطاليا نفسها ظهر رُشدانيون آخرون مثل: Nichola Vimias وبولس البندقي (Paul de Venise) وأغوتينو نيفو (Agotino Nifo) ثم بعدهم، في ق 16 م، ظهر Lacopo Zabarella، وهو فيزيائي و Marcontoni Zimara وغيرهم.
يتبين من كل هذا أن الرشدانية غزت المراكز الثقافية القروسطوية بأوروبا وساهمت في فشل الثقافة السكولائية التي دشنها القديس أوغسطينوس ودافع عنها القديس طوما الأكويني والقديس ألبرت الأكبر وغيرهما. ويتبين من هذا أيضاً أن الرشدانية أثرت في كل الأذواق. لهذا لا ينبغي أن ننتظر نشأة رشدانية واحدة مضبوطة المعالم وملتزمة بكل أفكار ابن رشد. بل إن الرشدانية اللاتينية هي تاريخ أفكار ليست لابن رشد وحده. وقد يكون هذا هو السبب الذي جعل بعض الباحثين الغربيين (مثل Steenberghen و Jeaneau و Renan) يرفضون تسمية »الرشدانية اللا تينية«. بل من بين هؤلاء (رينان مثلاً) من يرفض حتى التسمية »فلسفة إسلامية«([9]). يؤكد Steenberghen أنه لم توجد قط مدرسة رشدانية لاتينية خلال القرن 13 م. وليس هناك تلامذة لابن رشد في الغرب المسيحي تَبَنَّوا كل مذهبه. بل إن سيجي البرابنتي (Siger de Brabant)، الذي يُعتبر من كبار رواد الرشدانية المسيحية، لم يُحل على ابن رشد إلا مرتين، وذلك في كتابه De anima intellectiva([10]). ولم يقدم سيجي البرابنتي نفسه على أنه رُشْدَانِيّ قط، ولم يُفهم قط من معاصريه أنه رشداني. وهكذا يستنتج Steenberghen في مقال له تحت عنوان »الرشدانية اللاتينية في ق 13 م« (بالفرنسية) أنه لا توجد مدرسة رشدانية ولا يوجد رشدانيون تَبَنَّوا فلسفة ابن رشد في مجموعها. لهذا، في اعتقاد Steenberghen، لا يمكن الحديث عن رشدانية لاتينية ولا عن أثر ابن رشد في اللاتين!
يبدو أن في موقف هذا الباحث شيئاً من التعسف. فكيف يفسر قولَ يوحنا اليندوني مثلاً بأن هذا الأخير يرغب لا في أن يكون تلميذاً لابن رشد وأرسطو فقط، بل أن يكون قرداً (Singe) لهما. فابن رشد بالنسبة ليوحنا، وعلى حد قوله: Perfectissimus et gloriosissimus Philosophicae veritatis amicus et defensor. ولقد تبنى الموقف نفسه كثير من الرشدانيين الإيطاليين حتى القرن 17 م. والواقع أن الذي أُخِذَ عن ابن رشد ليس هو كل فلسفته، وإنما فقط روحها التي تتمثل في صبغتها العقلانية. وهذا وحده يكفي للحديث عن رشدانية فلسفية وعن انعكاساتها في الميدان السياسي.
الانعكاسات السياسية للرشدانية اللاتينية
بعد نُضْج النظريات الفلسفية التي تبناها الرشدانيون الفلاسفة، وخاصة حول العقل والمادة والخلق، أدت تلك النظريات إلى ظهور تطبيقات لها في ميدان السياسة. ومع الأسف الشديد، لم يتم الاهتمام حتى الآن بالجانب السياسي للرشدانية اللاتينية، باستثناء بعض الإشارات العابرة من حين لآخر في الكتب التي تؤرخ للفلسفة القروسطوية. ومن الموسف كذلك أن كبار بعض المتخصصين في الرشدانية، مثل رينان، أهملوا تمام الإهمال الجانب السياسي لهذه النزعة. وبالرغم من ذلك، فقد كان للرشدانية اللاتينية، أثناء القرنين 14 و 15 الميلاديين، صبغة ثورية لأنها قَلَبَتْ كل مفاهيم الكنيسة.
تَمَيَّز الوضع السياسي القروسطوي بأوروبا بميزة خاصة تمثلت في الصراع القائم بين البابا بما هو سلطة دينية والإمبراطور أو الملك بما هو سلطة دنيوية. وقبل ظهور الرشدانية السياسية كانت التيوقراطية تشغل كل الساحة السياسية.
يمكن إرجاع الأسس الفلسفية للتيوقراطية المسيحية إلى ما سُمِّي بالأُوغوسطينانية (Augustinisme) نسبة إلى القديس المغاربي أوغسطينوس (ق 14 م). ألف هذا الأخير كتاباً تحت عنوان "المدينة الإلهية" (De civitate Dei)، يدافع فيه عن تيبوقراطية بابوية تتمثل في سمو سلطة البابا على المستويين الديني والدنيوي على سلطة الملك أو الإمبراطور([11]). ويُعتر البعد الروحي في هذه المدينة أساسَ كل شيء. أما البعد الدنيوي فيها، فليس له إلا دور ثانوي. ومن الممكن أن توجد الدولة إلى جانب الكنيسة، ولكن لابد للأولى من أن تبقى في خدمة الثانية وأن تكون السلطة التي يتمتع بها الإمبراطور مِنْحَةً من الكنيسة وأن مصدر كل سلطة على الإطلاق هو الله.
بالإضافة إلى المدينة الإلهية الأوغسطينية، كانت هناك مدينة المؤمنين التي تصورها روجر بيكون في كتابه Opus Tertium، حيث النص الديني هو القانون الأسمى([12]). والعلوم بهذه المدينة متراتبة تتلقى الدنيا منها مبادئها من العليا، وأعلاها هو الوحي؛ أما الفلسفة، فلا تصلح إلا لاستخلاص الحكمة من النصوص المقدسة. ويكون سكان هذه المدينة مُتَّحدين تحت سلطة البابا. ويتصور بيكون العالم كله بأنه ممثِّلٌ لهذه المدينة ومحتَضِنٌ لمجتمع وحيد تَتَّحِدُ فيه كل الأمم تحت ظل البابا. ففي هذه المدينة ـ يقول بيكون ـ »سوف يدخل اليونان تحت طاعة الكنيسة وسوف يعتنق أغلب الرومان المسيحية. أما العرب والمسلمون، فسوف يُدَمَّرون« (Op. Tert. XXXIV). في هذه المدينة تَتَرَكَّز السلطة بيد رجال الدين المثقفين، أي علماء اللاهوت. وهذا نموذج من نماذج الحكم التيوقراطي الذي تخضع فيه كل مكونات المجتمع لسلطة البابا ويكون فيه النص المقدس هو الدستور. وهذا مناف تماماً لما تصوره ابن رشد، باعتبار أن هذا الأخير يرفض تدخل المتكلمين ورجال الدين في السياسة. وقد استغل أعداء التيوقراطية المسيحيون هذا الفصل بين الفكر الفلسفي والفكر الديني ليترجموه إلى فصل بين الكنيسة والدولة أو بين الفكر العقلاني واللاهوت.
كانت هناك محاولات لتكييف الرشدانية مع العقيدة المسيحية ومع النزعة الأوغسطِينَانية ومع النزعة الأوكمانية، وكان من المفروض أن تتحول الرشدانية إلى أوكمانية، ولكن هذا لم يحصل. وبالرغم من مضايقة الرشدانية للأوغسطينانية، فإن هذه الأخيرة واصلت تطورها على يد طوما الأكويني ويوحنا سكوت (Jean Scot) الذي مزج أرسطو بأوغسطينوس لخدمة المسيحية. وازدهرت الأوغسطينانية على الخصوص بفرنسا خلال القرن 17 م، حيث أدّت دوراً أساسياً في تطوير النزعة الديكارتية في صيغتها المالبرانشية. واستمر انتعاش هذا المذهب حتى خلال ق 18 م.
المشكل الأساسي الذي طُرح بأوروبا خلال القرون الوسطى يتمثل في معرفة موطن الحقيقة: هل هو النص المقدس أو العقل أو هما معاً. وهنا أدّت أطروحة ازدواجية الحقيقة المنسوبة لابن رشد دورها السياسي. فأعداء الكنيسة لا يعترفون إلا بالحقيقة العقلية، أو يعترفون بهما معاً ولكن يُرَجّحون الحقيقة العقلية. وهذا هو موقف يُوحَنَّا اليندولي الذي اكتسبت الرشدانية معه صبغة سياسية محضاً. فهو يعترف بخلود الحركة والعالم وينكر الحياة الأُخروية ويعادل بين نتائج العقل والتجربة والنتائج الفلسفية التي توصل إليها ابن رشد ولا يُخفي دفاعه عن هذا الأخير وعداءه للقديس طوما الأكويني. يبدو، من خلال انطباعات يوحنا اليندولي حول ابن رشد، أن الذي أعجب الأوروبيين في أبي الوليد هو عقلانيته ومنهجه في البحث والتفكير الذي يعتمد على التناول العقلي والبرهان.
وفي زمن يوحنا نفسه (أي في ق 14 م) ظهر مارسيليو البادوفي المعروف بميوله للرشدانية وباستغلاله لأفكار ابن رشد في المجال السياسي، وخاصة أطروحة الفصل بين العقل والإيمان الذي أصبح فصلاً بين الروحي والدنيوي، بين الكنيسة والدولة. وهكذا يمكن اعتبار كتاب Defensor Pacis (1324 ) لمارسيليو مثالاً حياً لتطبيق الرشدانية في ميدان السياسة. في هذا الكتاب يميز المؤلف بين شكلين من الحياة: الحياة الدنيوية التي يتولى أمْرَهَا الملوك حسب التعاليم الفلسفية، والحياة الأُخروية التي يتولّى أمرها رجال الدين وعلى رأسهم البابا، بناء على التعاليم الواردة في النصوص المقدسة. وهنا يتبين أن مارسيليو لا ينكر دور الدين في المجتمع تماماً كما هو حال ابن رشد. لكنه بالرغم من قوله بالحياة الأخروية، فهو يعترف أنها غير قابلة للبرهنة. فهو يقبلها فقط، نظراً للدور الاجتماعي الذي يؤديه الإيمان بها في صفوف عامة الناس: فهي تدفع المواطنين إلى التزام الهدوء واحترام الأخلاق. ومن هنا يتضح أن اعتراف مارسيليو برجال الدين لا يعني أن لديهم الحق في التدخل في السلطة. بل إن دورهم هو مجرد دور استشاري. لقد دافع مارسيليو عن فصل الدين عن الدولة وناضل من أجل عَزْل الكنيسة عن الشؤون العامة للناس؛ لأن المدينة قادرة على إدارة نفسها بنفسها بناء على المجهودات العقلية التي يبذلها الفلاسفة. وانطلاقاً من هذه الفترة، أصبح الفصل بين الكنيسة والدولة أمراً واقعاً.
قام أليغييري دانتي (Alighieri Dante) هو أيضاً بالتحويل نفسه: تحويل الأفكار الرشدية من الفلسفة إلى السياسة. ففي كتاب له تحت عنوان De Monarchia وَظَّف الكاتب أفكار ابن رشد لتحقيق مَلَكِيَّة كَوْنية. وفي كتابه Divina comedia يتبين أن دانتي تأثر كثيراً بأرسطو وبشارِحه ابن رشد. وفيه أيضاً يدعو إلى فصل الدين عن الدولة. وفي الكتابين معاً يحلل دانتي مشكلتين أساسيتين: ضرورة وجود إمبراطور واحد لتحقيق السعادة الدنيوية، ثم ضرورة استقلال السلطة الدينية عن السلطة الدنيوية. ويصرح دانتي أن احترام حقوق الإنسان هو نفسه احترام للإرادة الإلهية. ولا ينبغي للإمبراطور أن يستمد سلطته من البابا. وينتهي دانتي إلى القول بأن الفلسفة هي الوسيلة الوحيدة إلى تحقيق السعادة الدنيوية. أما اللاهوت، فهو وسيلة لتحقيق السعادة الأخروية. وهنا يختلف دانتي عن باقي الرشدانيين في كونه يعترف باليوم الآخِر. غير أنه، في كتابه De Monarchia، يُدخل البابا إلى جهنم ويدخل الرشداني سيجي البرابنتي إلى الجنة.
لا داعي للاستمرار في إحصاء الرشدانيين واحداً واحداً. يكفي القول بأن الموقف نفسه تبناه كثير من الفلاسفة المسيحيين ذكرنا أهمهم. ويمكن أن نضيف إلى هؤلاء أسماء أخرى مثل الفيلسوف والطبيب البادوفي Pietro d'Abano والفيلسوف الفلكي البارمي Taddeo de Parme صاحب كتاب Questiones de anima والمنطقي Angelo d'Arezzo وغيرهم.
بالإضافة إلى هؤلاء الرشدانيين الإيطاليين الذين تَبَنَّوا موقفاً جُحُودِيّاً متطرفاً للنيل من الكنيسة، ظهرت بابريطانيا »الأُوكمانية السياسية« التي سعت بدورها إلى فصل السلطة الدينية عن الفلسفة على الطريقة الرشدانية. وهذا لا يعني أن كَيوم الأوكامي (ق 14 م) لا يعترف بسلطة دينية، بل على العكس من ذلك. فالله عنده هو الذي خلق الطبيعة وقوانينها، ولكنه لا يتدخل في سيرها كما لا ينبغي أن يتدخل في سير المجتمعات المدنية. وانطلاقاً من الافتراض الفلسفي الذي ورثه كَيوم الأوكامي عن ابن رشد والذي لا يعترف بوجود الكليات، يؤكد كَيوم أن الموجود الحق، على المستوى السياسي، هو الأشخاص. وليس هناك جسم اجتماعي، بل هناك تجمع (Congrecatio) لوحدات متمايزة. وبناء على هذا المنظور، فإن السلطة السياسية مرتبطة باتفاق الناس. وكل المؤسسات السياسية قائمة على القابلية للتغيّر. يقوم كَيوم الأوكامي ضد الكنيسة ويعتبر الإمبراطور هو السلطة الوحيدة المعقولة. فالله لم يكلف السلطة الدينية بتطبيق القوانين الوضعية. ويُعْتَبَرُ كَيوم هذا من كبار الذين دافعوا عن الفِكْر العلماني في القرون الوسطى، لأنه كان ضد التيوقراطية البابوية.
الامتدادات الحديثة للرشدانية السياسية
منذ ظهور الرشدانية في الغرب المسيحي، أخذ الموقف المؤيد للسلطة المدنيّة يزداد انتصاراً على الموقف المؤيد للدين. ولقد تحقق هذا بشكل أوضح مع ظهور مدونة حقوق الإنسان، خاصة في بندها الثالث الذي يقول: »مبدأ كل سيادة (أو سلطة) يكمن فقط في الأمـة (أو الوطن). ولا يمكن لأي إنسان أن يمارس سلطة تخرج عن اختصاصه«. أضف إلى ذلك أن مدونة حقوق الإنسان سعت إلى إبدال إشكالية العلاقة بين الديني والدنيوي بإشكالية الدين المدني. وفي هذا الإطار كان روسو يحاول الدفاع بحماس عن فكرة التسامح الديني وحرية التدين. ولقد نجحت الولايات المتحدة في فصل الدين عن الدولة وفي حرية التدين منذ 1791 م، بينما لم تستطع فرنسا أن تخلُق جواً ملائماً لحرية التدين، لهذا اخترعت فكرة اللائكية.
يمكن إذن اعتبار حركة حقوق الإنسان والنزعة اللائكية في العصر الحديث وكذلك حركة الأنوار امتداداً للرشدانية السياسية القروسطوية.
من الملاحظ أيضاً أن العالم الإسلامي لم يستفد لا من العقلانية الرشدية ولا من امتداداتها السياسية، سواء في القرون الوسطى أو في العصر الحديث. لقد توافرت في العالم الإسلامي القروسطوي كثير من العوامل الثقافية التي كان بإمكانها أن تغير من توجه الصراع على السلطة ليميل نحو استقلال الدنيوي عن الديني: لقد كان هناك فلاسفة مسلمون ابتداعيون، بل وأحياناً مُلحدون. لقد عبر إخوان الصفا عن ميلهم الواضح إلى أرسطو وأفلاطون أكثر من ميلهم إلى التقليد النبوي، واعتقدوا أنه ليس هناك ديانة وحيدة تملك الحقيقة. أما الفارابي، فقد مجد العقل واعتبره كافياً لضمان سعادة الإنسان. وصارع ابن رشد المتكلمين والفقهاء طيلة حياته. بل حتى الشعراء، مثل المتنبي وأبي العلاء المعري، دافعوا عن العقلانية بوسائلهم الخاصة. ولكن بالرغم من ذلك، كانت الغَلبة لسلطة الفقهاء. وهذا عكس ما حصل في العالم المسيحي القروسطوي.


المصادر المراجع

بالعربية
أرسطو، في السياسة، نقله من الأصل اليوناني إلى العربية وقدّم له وعلق عليه: الآب أوغسطينس برباره البولسي، الطبعة الثانية، اللجنة اللبنانية لترجمة الروائع، 1980.
ابن رشد، الضروري في السياسة، مختصر كتاب السياسة لأفلاطون، نقله عن العِبْرية أحمد شحلان، وقدّم له محمد عابد الجابري، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1998. انظر هذا المقال، هامش 1.
أمليل، علي، السلطة الثقافية والسلطة السياسية، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، لبنان.
الخضيري، زينب، أثر فلسفة ابن رشد في العصور الوسطى، بيروت، لبنان.
بالأجنبية





    رد مع اقتباس