عرض مشاركة واحدة
قديم 2014-01-16, 11:16 رقم المشاركة : 15
روبن هود
بروفســــــــور
إحصائية العضو







روبن هود غير متواجد حالياً


وسام1 السيرة 1438ه

وسام المشاركة في مسابقة السيرة النبوية العطرة

افتراضي رد: وقفات مع الشعر والتاريخ


لا يمكن أن يمر الفرد على الشعر الأندلسي دون إلقاء نظرة على أروع ما كتب في رثاء حضارة دامت ثمانية قرون، وحملت كل معاني الإنسانية والرقي والجمال. وأعني بذلك قصيدة أبي البقاء الرندي، الذي أقامت له سلطات مدينة رندة، مسقط رأسه، تذكارا يشاهده زوار المدينة، اعترافا بهذا الرجل كأحد الشخصيات الهامة في تاريخ المدينة، واعترافا بالإرث الذي تركه. ولو كان ما تركه هو قصيدته الشهيرة فقط لكن كافيا. فهي قصيدة شعر، إضافة إلى لمسة الصدق التي تلفها، ونبرة الحنان التي تطبعها، تحمل بين أبياتها كل ما يود الإنسان قوله. فقد اختزلت كل المشاعر والأحداث.

يستهل أبو البقاء الرندي القصيدة بتأكيد سنة الخالق في عباده، إذ كل ما يرتبط بالدنيا يعتوره النقص، وهذه الدنيا نفسها مآلها الزوال، ثم يدعو إلى الإعتبار من الذين سبقوا. وبعد ذلك يعرج على ذكر المدن المتساقطة، مبلغا نداءه إلى من وراء البحر في باقي بلاد المسلمين أن يقوموا بواجب النصرة. وحتى يستثير نخوتهم يصف لهم ما تتعرض له بيوت الله من عدوان، وأعراض نساء المسلمين من انتهاك، وفي الأخير يستثير العاطفة الدينية عساها تكون كافية لحثهم على إنقاذ ما يمكن إنقاذه.

يقول رحمه الله:

لكل شيء إذا ما تم نقصان *** فلا يغر بطيب العيش إنسان
هي الأمور كما شاهدتها دول *** من سرَّهُ زمنٌ ساءته أزمانُ
وهذه الدار لا تبقي على أحد *** ولا يدوم على حال لها شانُ
يمزق الدهر حتمًا كل سابغةٍ *** إذا نبت مشرفيات وخرصان
وينتضي كل سيف للفناء ولو *** كان ابن ذي يزن والغمد غمدان
أين الملوك ذوو التيجان من يمنٍ *** وأين منهم أكاليلٌ وتيجانُ
وأين ما شاده شداد في إرمٍ *** وأين ما ساسه في الفرس ساسانُ
وأين ما حازه قارون من ذهب *** وأين عادٌ وشدادٌ وقحطانُ
أتى على الكل أمر لا مرد له *** حتى قضوا فكأن القوم ما كانوا
وصار ما كان من مُلك ومن مَلك *** كما حكى عن خيال الطيف وسنان
دار الزمان على دارا وقاتله *** وأمَّ كسرى فما آواه إيوانُ
كأنما الصعب لم يسهل له سببُ *** يومًا ولا مَلك الدنيا سليمان
فجائع الدهر أنواع منوعة *** وللزمان مسرات وأحزانُ
وللحوادث سلوان يسهلها *** وما لما حل بالإسلام سلوانُ
دهى الجزيرة أمرٌ لا عزاء له *** هوى له أحدٌ وانهد ثهلانُ
أصابها العينُ في الإسلام فارتزأتْ *** حتى خلت منه أقطارٌ وبلدانُ
فاسأل بلنسيةَ ما شأنُ مرسيةٍ *** وأين شاطبةٌ أمْ أين جيَّانُ
وأين قرطبة دارُ العلوم فكم *** من عالمٍ قد سما فيها له شانُ
وأين حمصُ وما تحويه من نزهٍ *** ونهرها العذب فياض وملآنُ
قواعدٌ كنَّ أركانَ البلاد فما *** عسى البقاء إذا لم تبقى أركان
تبكي الحنيفيةَ البيضاءَ من أسفٍ *** كما بكى لفراق الإلف هيمانُ
حيث المساجدُ قد أضحتْ كنائسَ ما *** فيهنَّ إلا نواقيس وصلبان
حتى المحاريبُ تبكي وهي جامدةٌ *** حتى المنابرُ ترثي وهي عيدانُ
يا غافلاً وله في الدهرِ موعظةٌ *** إن كنت في سِنَةٍ فالدهر يقظانُ
وماشيًا مرحًا يلهيه موطنهُ *** أبعد حمصٍ تَغرُّ المرءَ أوطانُ
تلك المصيبة أنْسَتْ ما تقدَّمها *** وما لها مع طولَ الدهرِ نسيانُ
يا راكبين عتاقَ الخيلِ ضامرةً *** كأنها في مجال السبقِ عقبان
وحاملين سيوفَ الهندِ مرهقةُ *** كأنها في ظلام النقع نيرانُ
وراتعين وراء البحر في دعةٍ *** لهم بأوطانهم عزٌّ وسلطان
أعندكم نبأ من أهل أندلسٍ *** فقد سرى بحديثِ القوم ِركبانُ
كم يستغيث بنا المستضعفون وهم *** قتلى وأسرى فما يهتز إنسان
لم التقاطع في الإسلام بينكمُ *** وأنتمْ يا عباد الله إخوانُ
ألا نفوس أبيَّاتٌ لها هممٌ *** أما على الخيرِ أنصارٌ وأعوانُ
يا من لذلةِ قوم بعد عزِّهُمُ *** أحال حالهمْ جورُ وطغيانُ
بالأمس كانوا ملوكًا في منازلهم *** واليومَ هم في بلاد الكفْرِ عبدانُ
فلو تراهم حيارى لا دليل لهمْ *** عليهم من ثيابِ الذلِ ألوانُ
ولو رأيتَ بكاهُم عندَ بيعهمُ *** لهالكَ الأمر ُواستهوتكَ أحزانُ
يا ربَّ أمٍّ وطفلٍ حيلَ بينهما *** كما تفرقَ أرواح وأبدان
وطفلةٍ مثل حسنِ الشمسِ *** إذ طلعت كأنما هي ياقوتٌ ومرجانُ
يقودُها العلجُ للمكروه مكرهةً *** والعينُ باكيةُ والقلبُ حيرانُ
لمثل هذا يذوبُ القلبُ من كمدٍ *** إن كان في القلب إسلامٌ وإيمانُ

لكن لم يكن ذلك ليمنع النهاية الحزينة. ففي أواخر القرن التاسع الهجري ـ الخامس عشر الميلادي، حاصر النصارى مدينة غرناطة، التي كانت تحت حكم آخر ملوك بني الأحمر، أبي عبد الله الصغير. وقد دام الحصار طويلا، حتى أجهد الناس وعانوا من الجوع، فاضطر في الأخير أبو عبد الله أن يسلم المدينة إلى ملك أرغون فيرديناند، وملكة قشتالة إيزابيلا. وهذان كانا يعرفان بالملكين الكاثوليكيين. وكان التسليم في شهر يناير 1492.

كان يوم التسليم يوما حزينا، لأنه كان بمثابة التوقيع النهائي لحيازة المسيحيين للأندلس، وبمثابة نقطة النهاية لتجربة حضارية لا يكاد يوجد مثيل لها.

في الثاني من يناير 1492 ذاك، خرج أبو عبد الله الصغير من قصر الحمراء رفقة أسرته وحاشيته، ثم استدار ليشاهد للمرة الأخيرة مدينة غرناطة بقصرها ومساجدها وقلاعها وبساتينها، ولم يتمالك نفسه، فبكى. ولما رأت أمه ابنها الملك يبكي، تمثلت بيتا من الشعر قائلة:

ابك مثل النساء ملكا مضاعا *** لم تحافظ عليه مثل الرجال





    رد مع اقتباس