الموضوع: التقوقع الفكري
عرض مشاركة واحدة
قديم 2013-08-31, 06:42 رقم المشاركة : 22
بالتوفيق
مشرف منتدى التعليم الثانوي التأهيلي
 
الصورة الرمزية بالتوفيق

 

إحصائية العضو







بالتوفيق غير متواجد حالياً


وسام الرتبة الثانية  في مسابقة القرآن الكريم

المرتبة الأولى في مسابقة صور وألغاز

وسام المرتبة الأولى للمسابقة الرمضانية الكبرى 2015

بالتوفيق

افتراضي رد: التقوقع الفكري


الثبات والتطور في الفكر الإسلامي

أقام الله سبحانه وتعالى نظام الكون والحياة على نظام "الزوجية" المعروف لتبقى الحياة مستمرة متجددة. ولا يخرج أمر الدين أيضًا عن هذه الثنائية في البناء الكوني والإنساني لتأمين بقائه واستمراره؛ إذ نلاحظ فيه تلازم ثنائيةِ "الثبات والتجديد فيه". فالثبات في الدين يرجع إلى مصدره الإلهي الأزلي، ويلازم هذا الثبات، التطورُ والتجديدُ المرتبط بالماديات الكسبية المتفاعلة مع الواقع المتغير. وهذه هي التي يطرأ عليها التطور والتجديد، أو تبقى في جمود وخمود بخلاف الدين الذي يتضمن معنى الثبات والاستقرار. ويغفل الكثيرون عن معنى الثبات في طبيعة الدين، وقد يوصف بالجمود، بينما ظواهر الجمود لا تنطبق على الدين، وإنما على صور التدين ومواقف الناس من الدين.
وقد شاءت إرادة الله سبحانه وتعالى أن تكون ثنائية بناء الكون والحياة على نظام الزوجية، أداةً من أدوات التغيير والتجديد في الكون والحياة، لاستمرارهما وبقائهما. وثنائية الثبات والتطور في الدين أيضًا من أجل الغاية نفسها، في بقائه حيًّا متجددًا يلبّّي حاجات الإنسان في كل العصور وفق المتغيرات السياسية والاجتماعية والحضارية.
وصورة التدين تعني التفاعل مع الواقع المتجدد، لإثبات المعنى الديني الأزلي فيه وتحقيق العبودية لله في حركة الإنسان وتوجهاته، فتغدو حركته المتفاعلة مع مجتمعه وعصره على صراط الله المستقيم، أما إذا ظل تديّنه على صورة واحدة لا يرتقي ويتجدد بارتقاء الحياة وتجددها، فإنه سيرى نفسه في النهاية معزولا عن واقعه وعصره، أسيرًا لصورة التدين المخالفة لعصره وواقعه.
فصورة التدين متغيرة، لأنها تتعامل مع متغيرات الحياة ضمن مفهوم الثبات في طبيعة الدين؛ إذ إن الله سبحانه وتعالى قد ابتلى الإنسان بالتفاعل مع ظروف الحياة المتغيرة، ليمتحن ثباته في توجهه واتجاهه نحو ربه، كما ابتلاه بالتفاعل مع الكون ليستخلص قوانينه ويفهم أسراره، ولولا هذا التفاعل معه، ما كانت هذه العلوم المتطورة وهذا التسخير الكوني للإنسان. كما امتحن الإنسان بالرخاء والشدة على الصعيد الاجتماعي والاقتصادي والحضاري، ليرى حركته وسلوكه وتصرّفه مع هذه المتغيرات عليه، ومقدار ثباته على طريقه المستقيم.
والفكر الإسلامي فكر متجدد فيه ثوابت الدين، ومتغيرات "التدين"، فتدور صورة التدين حول محور الدين الثابت في شتى ميادين الحياة.
من هنا، نلاحظ أن تجدد الحياة وتطورها يكمن في هذه الثنائية الأساسية في الكون والحياة والإنسان. والفكر الإسلامي يخضع أيضًا لهذه الثنائية في الدين الثابت والتدين المتغير، وفق الظروف والأوضاع الكسبية المتغيرة.
لذا نلاحظ أن "الإيمان" يزيد وينقص، وأن المؤمن مطالب أن يحقق الإيمان حينًا بعد حين، فيظل في نماء وتطور وازدياد في حركة تفاعل مع الظروف والأوضاع. حتى التقوى التي هي ذروة الإيمان، تمر بمراحل متجددة ضمن حركة التفاعل الاجتماعي والشعوري، إذ نلاحظ هذا في قوله تعالى:﴿لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾(المائدة:93).
وقد يقال إن هذه مراتب التقوى ومقاماتها وهذا صحيح، ولكن أليست هذه المراتب تمثل حركة تفاعل الفرد مع محيطه الاجتماعي حتى يبلغ هذا المقام في حسه وشعوره وفكره.
وإذا تأملنا حركة "الدين" في قصص الأنبياء، نلاحظ أن الله سبحانه وتعالى يختار رسوله من بيئته ليحقق هذا المعنى في تفاعل الدين مع المجتمع.
وهذا يعني أن المبادئ الثابتة -في دعوة الأنبياء- واحدة وإن تغيرت الشرائع أو تجددت وفق الأوضاع المتجددة. وكأن الشرائع تمثل صور الاستجابة للأوضاع المتجددة المعتمدة على دين التوحيد الثابت.
وإذا رجعنا إلى بعض النصوص النبوية، فإنها تؤكد حقيقة الابتلاء في الحياة من خلال إدراك الناس للعبادة في حالة الرخاء، وإدراكهم لها في حالة الشدة، فتتجدد صورة التدين من "شكر" في حالة الرخاء إلى "صبر" في حالة الشدة.
والرسول صلى الله عليه وسلم يخبر في حديث له؛ أن خيرَ الإسلام سيعمّ، ثم يوضح أنه لا يدوم إذ يعقبه شر، ثم يؤول إلى خير آخر أدنى من الخير الأول إذ فيه دخن. فهو يؤكد على أطوار الحياة وتقلّباتها وما تستلزمه من موقف في كل طور؛ موقف تجاه الخير، وموقف تجاه الشر. وهو الامتحان الإلهي لعباده في تجدد صورة التدين الملازمة لتقلّبات الحياة.
بل إن الرسول صلى الله عليه وسلم يخبر مبشرًا أن الله سبحانه وتعالى يقيض للأمة مجددًا لأمر دينها، كلما رآها قد استكانت إلى صورة جامدة من صور التدين في الوجدان والسلوك، كلما داهمتها تحديات جديدة وظلت على سكونها وجمودها، فيهيئ لها المجددَ لأمر دينها، فيحيي وجدانها وينشط فكرها وعقلها في الاجتهاد المتجدد، ويثير فيها روح النهوض بحركة متجددة من صور التدين المواجهة للتحديات.
وتاريخ الإسلام حافل بحركة دائبة من التدين تحقق دينها من مادة الحياة. فإذا توقفت حركة المسلمين المتجددة واستكانت إلى صورة ثابتة، تشكل تاريخهم بعيدًا عن دينهم. وهذا يعني أن التجديد صفة ملازمة للحركة، والحركة أساس الإسلام وجوهره، وهي حركة التوجه نحو الله سبحانه وتعالى في شتى صور الحياة.

يتبع





    رد مع اقتباس