الموضوع: التقوقع الفكري
عرض مشاركة واحدة
قديم 2013-08-31, 06:41 رقم المشاركة : 21
بالتوفيق
مشرف منتدى التعليم الثانوي التأهيلي
 
الصورة الرمزية بالتوفيق

 

إحصائية العضو







بالتوفيق غير متواجد حالياً


وسام الرتبة الثانية  في مسابقة القرآن الكريم

المرتبة الأولى في مسابقة صور وألغاز

وسام المرتبة الأولى للمسابقة الرمضانية الكبرى 2015

بالتوفيق

افتراضي رد: التقوقع الفكري





الجمود الفكري وأثره في المشروع النهضوي الإسلامي
د. عبد السلام الراغب | جامعة حلب، كلية الآداب والشريعة / سوريا.
الثبات والتطور في الفكر الإسلامي
طريق النهضة

تاريخ الإسلام حافل بحركة دائبة من التدين تحقق دينها من مادة الحياة. فإذا توقفت حركة المسلمين المتجددة واستكانت إلى صورة ثابتة، تشكل تاريخهم بعيدًا عن دينهم. وهذا يعني أن التجديد صفة ملازمة للحركة، والحركة أساس الإسلام وجوهره، وهي حركة التوجه نحو الله في شتى صور الحياة.
يختلف الناس في النشاط العقلي أو الفكري قوةً وضعفًا وفهمًا ووعيًا وقدرةً واستيعابًا، ويتجلى هذا التفاوت بين الناس في طريقة تعاملهم مع الثقافة أو الواقع، وهي لا تخرج عن ثلاثة مستويات تحدد آلية النشاط الفكري ومساره وثماره.
المستوى الأول: وأعني به "التلقي المباشر" عن الآخر واستعارة "قالبه" الحضاري في الفكر والسلوك والحضارة، سواء أكان هذا الآخر ماضيًا موروثًا أو حاضرًا مستوردًا أو واقعًا ملموسًا أو نصًّا مقروءًا أو مسموعًا أو مرئيًّا... وينحصر دور العقل في هذا المستوى الشائع والعام، في "التلقي" من الآخر والتقيد بما يقوله من ثقافة ومعرفة أو عادات وتقاليد. ويحرص العقل أو الفكر هنا، في التقليد والخضوع لهذا الآخر، وتبنّي ثقافته ومشروعه الحضاري مبرزًا إيجابياته وصوره المشرقة، وتقديم نفسه على أنه صورة طبق الأصل تمامًا عما يطرحه هذا الآخر في ثقافته وفكره وحضارته، والحرص على محاكاته في أقواله وأفعاله ومشاريعه النهضوية. وتتعدى المحاكاة والاستنساخ حدود المعقول في الثقافة والأدب والفن، وطرائق الحياة في المسكن والملبس والمطعم والمشرب.
فالعقل هنا، يتحرك ضمن إطار الثقافة المقروءة والمرئية والمسموعة لتبنيها والتقيد بما فيها، ليكون "العقل المتلقي" أو الفكر المتلقي، صورة منسوخة عن العقل المنتج لهذه الثقافة بنوعيها العالمة وغير العالمة، الرسمية والاجتماعية على حد سواء، وسواء أكانت هذه الثقافة قديمة أو جديدة، موروثة أو مستوردة. ويلتقي في ذلك دعاة "التغريب" في استنساخ ثقافة الآخر المستوردة، ودعاة المشروع الإسلامي في مستوى التلقي من الثقافة الإسلامية واستنساخ ما فيها، دون وعي للثوابت والمتغيرات فيها. هذا التعامل العقلي في التلقي والنسخ، يفضي إلى التكرار الممجوج والتقليد الأعمى، وتبني الأفكار والآراء دون وعي أو فهم لها، أو دون إدراك للظروف التي أنتجت هذه الأفكار والآراء والمشاريع النهضوية. وبالتالي يغيب العقل وراء الموروث أو المستورد ويحل "الانفعال" محل "العقل"، فتأخذ العاطفة مكان العقل في الترويج لهذا الموروث أو هذا المستورد، ويتم الانفعال والتفاعل مع هذا وذاك في لحظة غياب العقل البصير، فلا ينظر هذا الإنسان المقلّد إلى الثقافة بإطارها الزمني، وأطرها الثابتة والمتحولة، وقربها أو بعدها عن المقاصد الحضارية للأمة، وإنما ينظر إليها من خلال عاطفته المشبوبة ورغبته في محاكاة نموذجه الموروث أو المستورد، فيندفع للدفاع عن أخطائه وسلبياته وكأنه في دفاعه عن تراثه يخوض معركة ****ية بأمل ثوابها عند الله، وغاب عن باله أن هذا التراث الإسلامي هو إنتاج بشري، وأنه ليس نصًّا شرعيًّا لا يجوز أن تخالفه، وكذلك غاب عنه أن الفقه نتاج بشري في قراءة النصوص الشرعية لاستخراج الأحكام منها. فالشريعة ثابتة ربانية، أما الفقه فهو نتاج بشري متغير بتغير الظروف والأزمان والحالات.
المستوى الثاني: هو أعلى من الأول وأرقى، لأن العقل فيه يتجاوز مرحلة التلقي المباشر والفهم التداولي العادي للأمور الثقافية والحضارية، إلى الفهم التأويلي المفسر للدلالات والرموز في الحضارة والثقافة والواقع. وهذا يعني أن العقل يقوم بدورٍ فعالٍ في إنتاج الثقافة أو فهم الواقع من خلال إبداء الرأي، وتقديم رأي مفسر أو داعم لدلالات الثقافة أو رموز الواقع. فهو يعمل بنشاط للاستنطاق والاستكشاف في الثقافة والواقع وليس للتقليد والاستنساخ.
وتتجه حركة العقل هنا إلى مبدع الثقافة، للتعرف على ظروفه الخاصة والعامة المحيطة في إبداعه وإنتاجه الثقافي والحضاري، والطواف في أجوائها ومناخها ومؤثراتها لاستيعابها وفهمها ومعرفتها، من غير رغبة منه في كشف عيوبها وتناقضاتها. وإذا لاح له شيء من العيوب أو القصور حاول ستره وإذابة تناقضاته بالاعتماد على "التأويل" و"التبرير".
وعانى العقل المعاصر من مشكلات التأويل والتبرير، ومحاولات التوفيق والتلفيق في مشاريعه النهضوية المطروحة والمستوردة، التي أحدثت فجوة كبيرة بين الثقافة الرسمية المستوردة، والثقافة المختزنة في عقول الشعوب المسلمة ووجدانها. وارتاح العقل المعاصر أو أراح نفسه من مشاقّ البحث والتفكير، فاسترخى واستقال مكتفيًا بالقالب المستعار في مشروعاته النهضوية، إما قالب مستورد بعيد عن ثقافته ودينه وحضارته، أو قالب موروث بعيد عن واقعه وظروفه وحاجاته ورغباته. وهذه هي الطامة الكبرى التي أصابت العقل أو الفكر المعاصر.
المستوى الثالث: هو الفكر التقويمي، وفيه يرتقي العقل من مرحلة التلقي المباشر ومرحلة التأويل الدلالي إلى مرحلة أعلى هي "التقويم". وبذلك يكون العقل قد أكمل دورته في التلقي والتأويل والتقويم إن كانت حركته متدرجة متسلسلة لا تتوقف عند مرحلة وتجمد عليها.
فهذه المراحل أو المستويات الثلاثة متداخلة ومتكاملة، حتى تتكون الرؤية الصائبة للثقافة المقروءة أو النص المدروس أو الواقع المرصود، فلابد للعقل أو الفكر أن يكمل عمله السابق في المستوى الثالث في تقويمه وتشخيصه وكشف عيوبه وتناقضاته، بعد عملية تفسيره ومعرفة ما فيه من أفكار وظروف.
هذه المستويات الثلاثة لآلية النشاط الفكري أو العقلي، تصلح معيارًا نقديًّا نحتكم إليه في فهم العقل المعاصر أو الفكر الإسلامي المعاصر، لمعرفة حدود نشاطه، والمستوى الذي يتحرك فيه، وكيفية عمله في كل مستوى من هذه المستويات الثلاثة. وهذا بداية الطريق في تشكيل العقل المسلم على أسس معرفية صحيحة وواضحة، وتخليص الفكر الإسلامي من جموده وتحجره.
ولا شك في أن "أدلجة المعرفة" أو أُحادية "الفكر"، دفعت بالعقل المعاصر إلى أن يحصر نشاطه في مستوى التلقي المباشر من الآخر، رغبة في إخفاء العيوب وتبرير التناقضات، فأدى ذلك إلى ضياعه وتمزقه وفشل المشاريع النهضوية الحديثة. ولو أن النشاط الفكري أو العقلي كان يتحرك بآلياته وأدواته في مناخ سياسي متعدد، لكان عمله لا ينحصر في المستوى الأول في التلقي المباشر، وإنما تجاوز ذلك إلى شمولية التقويم وجديته في وضع مشروع نهضوي إسلامي.


يتبع





    رد مع اقتباس