الموضوع: أدعية الحج
عرض مشاركة واحدة
قديم 2013-08-18, 07:47 رقم المشاركة : 126
بالتوفيق
مشرف منتدى التعليم الثانوي التأهيلي
 
الصورة الرمزية بالتوفيق

 

إحصائية العضو







بالتوفيق غير متواجد حالياً


وسام الرتبة الثانية  في مسابقة القرآن الكريم

المرتبة الأولى في مسابقة صور وألغاز

وسام المرتبة الأولى للمسابقة الرمضانية الكبرى 2015

بالتوفيق

افتراضي رد: أدعية الحج


مقال 3 حول الشفاعة:



* ما يدل على جواز طلب الشفاعة
يمكن الاستدلال على جواز هذا الطلب بوجوه كثيرة نشير إلى بعضها:
الاَوّل: انّ حقيقة الشفاعة ليست إلاّ دعاء النبي والولي في حق المذنب، وإذا كانت هذه حقيقته في جميع المواقف أو في بعضها فلا مانع من طلبها من الصالحين، لاَنّ غاية هذا الطلب هو طلب الدعاء، فلو قال القائل: «يا وجيهاً عند اللّه اشفع لنا عند اللّه» يكون معناه: ادع لنا عند ربك، فهل يرتاب في جواز ذلك مسلم؟
ولست أراك تشك في أنّ طلب الدعاء هو نفس الاستشفاع، وانّ حقيقة الشفاعة هي الدعاء، ولاَجل ذلك نرى انّ العلاّمة نظام الدين النيسابوري، صاحب التفسير الكبير ينقل في تفسير قوله سبحانه : (مَنْ يَشْفَعُ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها)
()عن مقاتل قوله: الشفاعة إلى اللّه انّما هي دعوة المسلم.()
وقال الاِمام الرازي في تفسير قوله سبحانه : (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرشَ وَمَنْ حَولَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُوَْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذينَ آمَنُوا ربَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَالْجَحيمِ)() انّ هذه الآية تدل على حصول الشفاعة للمذنبين، والاستغفار طلب المغفرة، والمغفرة لا تذكر إلاّ في إسقاط العقاب، أمّا طلب النفع الزائد فانّه لا يسمّى استغفاراً، وقال: قوله تعالى: (ويستغفرون للذين آمنوا) يدل على أنّهم يستغفرون لكل أهل الاِيمان، فإذا دللنا على أنّ صاحب الكبيرة موَمن وجب دخوله تحت هذه الشفاعة .()
وهذه الجمل تفيد أنّ الاِمام الرازي جعل قول الملائكة في حق الموَمنين والتائبين من أقسام الشفاعة، وفسر قوله: (فاغفر للذين تابوا) بالشفاعة وهذا دليل واضح على أنّ الدعاء في حق الموَمن، شفاعة في حقه، وطلبه منه طلب الشفاعة منه، ويوضح ذلك ويوَيده ما رواه مسلم في صحيحه عن النبي: «ما من ميت يصلّي عليه أُمّة من المسلمين يبلغون مائة كلّهم يشفعون له إلاّ شفّعوا فيه».(5)
وفسّـر الشارح قوله - صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم - : «يشفعون له» بقوله: أي يدعون له، كما فسر قوله - صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم - : «إلاّ شفّعوا فيه» بقوله: أي قبلت شفاعتهم.

وروي أيضاً عن عبد اللّه بن عباس أنّه قال: سمعت رسول اللّه صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم يقول: «ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون باللّه شيئاً إلاّ شفّعهم اللّه فيه»()أي قبلت شفاعتهم في حق ذلك الميت فيغفر له.
وعلى ذلك فلا وجه لمنع الاستشفاع من الصالحين إذا كان مآله إلى طلب الدعاء، ولو كان للشفاعة معنى آخر من التصرف التكويني في قلوب المذنبين، وتصفيتهم في البرزخ، ومواقف القيامة فهو أمر عقلي لا يتوجه إليه إلاّ الاَوحدي من الناس، فكل من يطلب من النبي الشفاعة لا يقصد منه إلاّ المعنى الرائج.
الثاني: انّ الاَحاديث الاِسلامية وسيرة المسلمين تكشفان عن جواز هذا الطلب، ووجوده في زمن النبي - صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم - ، فقد روى الترمذي في صحيحه عن أنس قوله: سألت النبي أن يشفع لي يوم القيامة، فقال: «أنا فاعل»، قال: قلت: يا رسول اللّه فأين أطلبك؟ فقال: «اطلبني أوّل ما تطلبني على الصراط» .()
فإنّ السائل يطلب بصفاء ذهنه، وسلامة فطرته من النبي الاَعظم، الشفاعة من دون أن يخطر بباله أنّ في هذا الطلب نوع عبادة للنبي صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم كما زعمه الوهابيون.
وهذا سواد بن قارب، أحد أصحاب النبي - صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم - يقول مخاطباً إياه:
فكن لي شفيعاً يوم لا ذو شفاعةبمغن فتيلا عن سواد بن قارب(3) وروى أصحاب السير والتاريخ، انّ رجلاً من قبيلة حمير عرف أنه سيولد في أرض مكة نبي الاِسلام الاَعظم - صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم - ، ولمّا خاف أن لا يدركه، كتب رسالة وسلّمها لاَحد أقاربه حتى يسلّمها إلى النبي صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم حينما يبعث، وممّا جاء في تلك الرسالة قوله: «وإن لم أدركك فاشفع لي يوم القيامة ولا تنسني» .()ولما وصلت الرسالة إلى يد النبي - صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم - قال: «مرحباً بتبّع الاَخ الصالح» فإنّ توصيف طالب الشفاعة من النبي - صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم - بالاَخ الصالح، أوضح دليل على أنّه أمر لا يصادم أُصول التوحيد.
وروي أنّ أعرابياً قال للنبي - صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم - : جهدت الاَنفس، وجاع العيال، وهلك المال، فادع اللّه لنا، فإنّا نستشفع باللّه عليك، وبك على اللّه، فسبح رسول اللّه - صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم - حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه وقال: «ويحك أنّ اللّه لا يستشفع به على أحد من خلقه، شأن اللّه أعظم من ذلك» .(2) وأنت إذا تدبرت في الرواية ترى أنّ النبي صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم أقرّه على شيء وأنكر عليه شيئاً آخر، أقرّه على قوله: إنّا نستشفع بك على اللّه، وأنكر عليه: نستشفع باللّه عليك، لاَنّ الشافع يسأل المشفوع إليه، والعبد يسأل ربه، ويستشفع إليه، والرب تعالى لا يسأل العبد، ولا يستشفع به.
وروى المفيد عن ابن عباس أنّ أمير الموَمنين - عليه السلام - لما غسّل النبي - صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم - وكفّنه، كشف عن وجهه وقال: «بأبي أنت وأُمي طبت حياً وطبت ميتاً ... اذكرنا عند ربك» .(3)
وروي أنّه لما توفي النبي - صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم - أقبل أبو بكر فكشف عن وجهه، ثم أكبّ عليه فقبّله، وقال: بأبي أنت وأُمي طبت حياً وميتاً، اذكرنا يا محمد عند ربك ولنكن من بالك .(4)
وهذا استشفاع من النبي - صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم - في دار الدنيا بعد موته.


ونقل عن شرح المواهب للزرقاني انّ الداعي إذا قال: اللّهم إنّي استشفع إليك بنبيك يا نبي الرحمة اشفع لي عند ربك، استجيب له .(1)
وقد روى الجمهور في أدب الزائر إنّه إذا جاء لزيارة النبي صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم يقول: جئناك لقضاء حقّك، والاستشفاع بك، فليس لنا يا رسول اللّه شفيع غيرك، فاستغفر لنا واشفع لنا .( الغدير: 5|124 ـ 127، وقد نقله عن جمع لا يستهان بعدتهم.)
كل هذه النصوص تدل على أنّ طلب الشفاعة من النبي صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم كان أمراً جائزاً ورائجاً، وذلك لاَنّهم يرونه مثل طلب الدعاء منه، ولا فرق بينها وبينه إلاّ في اللفظ، وقد عرفت صحة إطلاق لفظ الشفاعة على الدعاء والاستشفاع على طلب الدعاء حتى أنّ صحيح البخاري عقد بابين بهذين العنوانين:
إذا استشفعوا ليستسقى لهم لم يردهم.
إذا استشفع المشركون بالمسلمين عند القحط.
فنرى أنّ البخاري يطلق لفظ الشفاعة والاستشفاع على الدعاء وطلبه من الاِمام في العام المجدب من دون أن يخطر بباله أنّ هذا التعبير غير صحيح.
وعلى الجملة انّ طلب الشفاعة من النبي - صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم - داخل فيما ورد من الآيات التالية:
(وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللّهَ تَوّاباً رَحِيماً) .(3)
(قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِر لَنا ذُنُوبَنا إِنّا كُنّا خاطِئينَ*قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبّي) .(4)
وقوله سبحانه: (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُم وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ) .(1)
فكلّما يدل على جواز طلب الدعاء من الموَمن الصالح يمكن الاستدلال به على صحة ذلك.
وقد عقد الكاتب محمد نسيب الرفاعي موَسس الدعوة السلفية والمدافع القوي عن الوهابية باباً تحت عنوان: «توسل الموَمن إلى اللّه تعالى بدعاء أخيه الموَمن له». واستدل بالقرآن والسنّة الصحيحة، فإذا كان ذلك جائزاً فلم لا يجوز طلب الشفاعة من النبي وآله بعد كون الجميع مصداقاً لطلب الدعاء.
وليعلم أنّ البحث هنا مركّز على طلب الشفاعة من الاَخيار، وأمّا التوسل بذواتهم أو بمقامهم أو غير ذلك فخارج عن موضوع بحثنا، وقد أفردنا لجواز تلك التوسلات رسالة مفردة أشبعنا الكلام فيها قرآناً وحديثاً، وقد طبعت وانتشرت.
وإذا وقفت على ذلك فهلمّ معي إلى ما لفّقه القوم وزعموه دلائل قاطعة على حرمة طلب الشفاعة من الاَولياء، ونحن ننقلها واحداً بعد واحد على سبيل الاِجمال، وقد أتينا ببعض الكلام في الجزء الاَوّل من هذه الموسوعة .(2)
* ما استدل به على حرمة طلب الشفاعة
استدل القائلون بحرمة طلب الشفاعة بوجوه:
1. انّ طلب الشفاعة من الشفعاء عبادة لهم وهي موجبة للشرك، أي الشرك في العبادة، فإنّك إذا قلت يا محمد اشفع لنا عند اللّه، فقد عبدته بدعائك، والدعاء مخ العبادة، فيجب عليك أن تقول: اللّهم اجعلنا ممن تناله شفاعة محمد - صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم - .
والجواب عن هذا الاستدلال واضح كل الوضوح بعد الوقوف على ما أوردناه من قبل، حيث قلنا: إنّ حقيقة العبادة ليست مطلق الدعاء، ولا مطلق الخضوع، ولا مطلق طلب الحاجة، بل هو عبارة عن الدعاء أو الخضوع أمام من يعتقد بإلوهيته وربوبيته وانّه الفاعل المختار والمتصرف بلا منازع في الاَُمور التي ترجع إلى اللّه سبحانه.
وإن شئت قلت: العبادة هي الخضوع عن اعتقاد بإلوهية المسوَول وربوبيته واستقلاله في ذاته أو في فعله.
وبعبارة ثالثة: العبادة هي الخضوع اللفظي أو العملي أمام من يعتقد بأنّه يملك شأناً من شوَون وجوده وحياته وعاجله وآجله.
إلى غير ذلك من التعابير التي توضح لنا مفهوم العبادة وحقيقتها.
فمن الغريب أن نفسر العبادة بمطلق الخضوع أو الخضوع النهائي وإن كان غير صادر عن الاعتقاد بإلوهية المدعو وربوبيته وإلاّ يلزم أن يكون خضوع الملائكة أمام آدم، وخضوع الاِنسان أمام والديه من الشرك الواضح.
وما ورد في الحديث من أنّ الدعاء مخ العبادة، فليس المراد منه مطلق الدعاء، بل المراد دعاء اللّه مخ العبادة، وما ورد في الروايات من أنّه: من أصغى إلى ناطق فقد عبده، فإن كان ينطق عن اللّه فقد عبد اللّه، وان كان ينطق عن غير اللّه فقد عبد غير اللّه.()فليس المراد من العبادة هنا: العبادة المصطلحة، بل استعيرت في المقام لمن يجعل نفسه تحت اختيار الناطق.

وعلى ذلك فطلب الشفاعة إنّما يعد عبادة للشفيع إذا كان مقروناً بالاعتقاد بإلوهيته وربوبيته وانّه مالك لمقام الشفاعة. أو مفوض إليه، يتصرف فيها كيف يشاء، وأما إذا كان الطلب مقروناً باعتقاد أنّه عبد من عباد اللّه الصالحين يتصرف بإذنه سبحانه للشفاعة، وارتضائه للمشفوع له، فلا يعد عبادة للمدعو، بل يكون وزانه وزان سائر الطلبات من المخلوقين، فلا تعد عبادة بل طلباً محضاً غاية الاَمر لو كان المدعو قادراً على المطلوب يكون الدعاء أمراً صحيحاً عقلاً، وإلاّ فيكون أمراً لغواً فلو تردّى الاِنسان وسقط في قعر البئر وطلب العون من الواقف عند البئر القادر على نجدته وإنقاذه، يعد الطلب أمراً صحيحاً ولو طلبه من الاَحجار المنضودة حول البئر يكون الدعاء والطلب منها لغواً مع كون الدعاء والطلب هذا غير مقترن بشيء من الاِلوهية والربوبية في حق الواقف عند البئر، ولا الاَحجار المنضودة حوله.
هذا من جانب، ومن جانب آخر نرى أنّه سبحانه حثّ على ابتغاء الوسيلة وقال: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ)(1)ومن المعلوم انّ المراد من الوسيلة ليست الاَسباب الدنيوية الموصلة للاِنسان إلى غاياته المادية، إذ ليس هذا أمراً خفياً على الاِنسان حتى يحثّه عليه القرآن كما أنّه ليس من الاَُمور التي يكسل عنها الاِنسان حتى يحض عليه ،بل المراد: التوسل بالاَسباب الموصلة إلى الاَُمور المعنوية ومن المعلوم إنّ أحد الاَسباب هو التوسل بدعاء الاَخ الموَمن، والولي الصالح، وعلى ذلك فيرجع طلب الشفاعة إلى طلب الدعاء، الذي اتفق المسلمون قاطبة على جوازه.
وإن شئت قلت إنّه سبحانه يقول: (وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلاّمَنْ شَهِدَ بِالحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) .(2)
ومن الواضح إنّ جملة (إلاّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ) تدل على أنّ الطائفة الموحدة للّه تملك الشفاعة بإذنه سبحانه، وعندئذ فلماذا لا يصح طلبها ممن يملك الشفاعة بإذنه؟ غاية الاَمر إنّ الطالب لو كان في عداد من ارتضاه سبحانه نفعه الاستشفاع وإلاّ فلا، ومن العجب قول محمد بن عبد الوهاب: «إنّ اللّه أعطى النبي الشفاعة ونهاك عن هذا وقال: (فلا تدعوا مع اللّه أحداً) وأيضاً الشفاعة أُعطيها غير النبي فصح أنّ الملائكة والاَولياء يشفعون فإن قلت: اللّه أعطاهم الشفاعة، وأطلبها منهم، رجعت [عندئذ] إلى عبادة الصالحين، التي ذكرها اللّه تعالى في كتابه »(1) إذ هذه الكلمة من العجائب فإنّه إذا أعطاه اللّه سبحانه الشفاعة فكيف يمنع طلبها منه؟! وهذا بمنزلة من ملّك أحداً شيئاً ليستفيد منه الآخرون ولكن منع الآخرين عن طلبه منه، فهذا لو كان صحيحاً عقلاً فهو غير متعارف عرفاً.
أضف إليه انّه في أي آية وأي حديث منع طلب الشفاعة عنهم. وتصور انّ طلبها عبادة قد عرفت الاِجابة عنها، وانّ العبادة عبارة عن الطلب اللفظي أو الخضوع العملي عمن يعتقد بنحو من الاَنحاء بإلوهيته وربوبيته، وذلك الاعتقاد لا ينفك عن الاعتقاد في استقلال المطلوب منه ذاتاً وفعلاً، وكونه متصرفاً في الاَُمور الاِلهية تصرفاً بلا منازع، وليس هذا الاعتقاد موجوداً في الاستشفاعات المتعارفة بين المسلمين.
2. انّ طلب الشفاعة يشبه عمل عبدة الاَصنام في طلبهم الشفاعة من آلهتهم الكاذبة الباطلة وقد حكى القرآن ذلك العمل منهم، قال سبحانه: (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هوَلاءِ شُفَعاوَنا عِنْدَ اللّهِ)(2) وعلى ذلك فالاستشفاع من غيره سبحانه عبادة لهذا الغير.
والجواب عن هذا بيّن أيضاً، فانّك إذا أمعنت النظر في مفاد الآية لا تجد فيها أيّة دلالة على أنّ شركهم كان لاَجل الاستشفاع بالاَصنام وكان هذا هو المحقق لشركهم وجعلهم في عداد المشركين، وإليك توضيح ذلك فنقول:
إنّ المشركين كانوا يقومون بعملين: (العبادة) ويدل عليه (ويعبدون ...) و (طلب الشفاعة) ويدل عليه: (ويقولون ...) وكان علة اتصافهم بالشرك هو الاَوّل لا الثاني، ولو كان الاستشفاع بالاَصنام عبادة لها بالحقيقة، لما كان هناك مبرر للاِتيان بجملة أُخرى، أعني قوله: (ويقولون هوَلاء شفعاوَنا) بعد قوله: (ويعبدون ...) إذ لا فائدة لهذا التكرار، وتوهم انّ الجملة الثانية توضيح للاَُولى خلاف الظاهر، فإنّ عطف الجملة الثانية على الاَولى يدل على المغايرة بينهما إذ لا دلالة للآية على أنّ الاستشفاع بالاَصنام كان عبادة فضلاً عن كون الاستشفاع بالاَولياء المقربين عبادة لهم.
نعم ثبت بأدلّة أُخرى (لا من الآية) بأنّ طلب الاستشفاع بالاَصنام يعد عبادة لهم وذلك لما قلنا من أنّ المشركين كانوا يعتقدون بإلوهيتها وربوبيتها واستقلالها في الاَفعال .()
3. طلب الحاجة من غيره سبحانه حرام، فإنّ ذلك دعاء لغير اللّه وهو حرام قال سبحانه: (فَلا تَدْعُوا مَعَ اللّهِ أَحَداً)()وإذا كانت الشفاعة ثابتة لاَوليائه وكان طلب الحاجة من غيره حراماً فالجمع بين الاَمرين يتحقق بانحصار جواز طلبها عن اللّه سبحانه خاصة، ويوضح ذلك قوله سبحانه: (ادعُونِي أستجِب لَكُم إنّ الّذِينَ يَستَكْبِرُونَ عَن عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنّمَ دَاخِرِين)()، فقد عبر عن العبادة في الآية بلفظ الدعوة في صدرها وبلفظ العبادة في ذيلها، وهذا يكشف عن وحدة التعبيرين في المعنى، وقد مر قوله - صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم - : «الدعاء مخ العبادة».
والجواب بوجوه: أوّلاً: أنّ المراد من الدعاء في قوله تعالى: (فلا تدعوا مع اللّه أحداً) ليس مطلق دعوة الغير بل الدعوة الخاصة المحدودة المرادفة للعبادة، ويدل عليه قوله سبحانه في نفس هذه الآية (وانّ المساجد للّه) .
وعلى ذلك فيكون المراد من النهي عن دعوة الغير هو الدعوة الخاصة المقترنة بالاعتقاد بكون المدعو ذا اختيار تام في التصرف في الكون وفي شأن من شوَونه سبحانه.
فإذا كان طلب الشفاعة مقترناً بهذه العقيدة يعد عبادة للمشفوع إليه. وإلاّ فيكون طلب الحاجة كسائر الطلبات من غيره سبحانه الذي لا يشك ذو مسكة في عدم كونها عبادة.
وثانياً: أنّ المنهي عنه هو دعوة الغير بجعله في رتبته سبحانه كما يفصح عنه قوله: (مع اللّه) وعلى ذلك فالمنهي هو دعوة الغير، وجعله مع اللّه، لا ما إذا دعا الغير معتقداً بأنّه عبد من عباده لا يملك لنفسه ولا لغيره ضراً ولا نفعاً ولا حياة ولا بعثاً ولا نشوراً إلاّ بما يملكه من اللّه سبحانه ويتفضّل عليه بإذنه ويقدر عليه بمشيئته، فعند ذاك فالطلب منه بهذا الوصف يرجع إلى اللّه سبحانه، وبذلك يظهر أنّ ما تدل عليه الآيات القرآنية من أنّ طلب الحاجة من الاَصنام كان شركاً في العبادة، فلاَجل انّ المدعو عند الداعي كان إلهاً أو رباً مستقلاً في شأن من شوَون وجوده أو فعله قال سبحانه: ( وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ)() وقال سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ تدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ)(). ترى أنّه سبحانه يستنكر دعاءهم بقوله: (لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون) وقوله: (عباد أمثالكم) مذكّر بأنّ عقيدتهم في حق هوَلاء عقيدة كاذبة وباطلة، فإنّ الاَصنام لا تستطيع نصر أحد، وهذا يكشف عن أنّ الداعين كانوا من جانب النقيض من تلك العقيدة، وكانوا يعتقدون بتملّك الاَصنام لنصرهم وقضاء حوائجهم من عند أنفسهم.
وثالثاً: أنّ الدعاء ليس مرادفاً للعبادة وما ورد في الآية والحديث من تفسير الدعاء بالعبادة في ذيلهما لا يدل على ما يرتئيه المستدل، فإنّ المراد من الدعاء فيهما قسم خاص منه، وهو الدعاء المقترن باعتقاد الاِلوهية في المدعو والربوبية في المطلوب منه كما عرفت.
4. الشفاعة حق مختص باللّه سبحانه لا يملكه غيره وعلى ذلك فطلبها من غير مالكها أمر غير صحيح، قال سبحانه: (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللّهِ شُفَعاءَ قُلْ أَوَ لَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ قُلْ للّهِ الشَّفاعَةُ جَميعاً) .()
والجواب: انّ المراد من قوله سبحانه: (قل للّه الشفاعة جميعاً) ليس انّه سبحانه هو الشفيع دون غيره، إذ من الواضح انّه سبحانه لا يشفع عند غيره، بل المراد انّ المالك لمقام الشفاعة هو سبحانه وانّه لا يشفع أحد في حق أحد إلاّ بإذنه للشفيع وارتضائه للمشفوع له، ولكن هذا المقام ثابت للّه سبحانه بالاَصالة والاستقلال ولغيره بالاكتساب والاِجازة، قال سبحانه: (وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلاّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)() فالآية صريحة في أنّ من شهد بالحق يملك الشفاعة ولكن تمليكاً منه سبحانه وفي طول ملكه. وعلى ذلك فالآية أجنبية عن طلب الشفاعة من الاَولياء الصالحين الذين شهدوا بالحق وملكوا الشفاعة، وأُجيزوا في أمرها في حق من ارتضاهم لها.
هذا وكما أنّ الشفاعة التشريعية مختصة باللّه سبحانه وانّه المالك لها بالاَصالة وانّما يملكها الغير بإذن منه، هكذا الشفاعة في عالم التكوين وعالم العلل والمعاليل والاَسباب والمسببات، قال سبحانه: (اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمواتِ وَالاََرضَ وَما بَيْنَهما في سِتَّةِ أَيّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِىٍّ وَلا شَفيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ)() والمراد من الشفيع في الآية هو الشفيع في عالم التكوين بقرينة انّ البحث يدور حول خلق السماوات والاَرض ثم الاستواء على العرش ويعود معنى الآية إلى أنّ الاَسباب والمسببات الخارجية إذا كان بعضها شفيعاً لبعض في تتميم الاَثر (كالسحاب والمطر والشمس والقمر وغيرها شفعاء للنبات) فموجد الاَسباب وأجزائها هو الشفيع بالحقيقة التي يتم نقصها ويقيم صلبها فانّه سبحانه هو الشفيع بالحقيقة لا شفيع غيره .()
وإن شئت قلت: إنّ الآية بصدد نقد عقيدة المشركين حيث كانوا يعتقدون بأنّ الاَصنام والاَوثان تملك الشفاعة، فأراد سبحانه أن يوقظ شعورهم بأنّ مالكية الاَصنام لها فرع كونها ذا عقل وشعور حتى يمكن أن تستفيد من هذا الحق في شأن الشفعاء، وتلك الآلهة لا تعقل ولا تشعر شيئاً، كما يدل عليه قوله سبحانه: (قل أوَلَوْ كانوا لا يملكون شيئاً ولا يعقلون قل للّه الشفاعة جميعاً) .
5. طلب الشفاعة من الميت أمر باطل، ولعل هذا آخر سهم في كنانتهم فجعلوا طلب الشفاعة من أوليائه الصالحين أمراً لغواً، لاَنّهم أموات غير أحياء لا يسمعون ولا يعقلون.

والاستدلال باطل من وجوه:
أمّا أوّلاً: فلاَنّ البراهين الفلسفية قد أثبتت تجرد النفس الاِنسانية وبقاءها بعد مفارقة الروح البدن، وقد أثبت الفلاسفة ذلك بأدلة كثيرة لا مجال لذكرها في هذه الصفحات، وقد جئنا ببعضها في ما حرّرناه حول الروح في رسالة خاصة، ولعلّنا نقوم ببيانها عند البحث عن المعاد في القرآن الكريم.
وثانياً: أنّ الآيات صريحة في أنّ المقتولين في سبيل اللّه أحياء يرزقون قال سبحانه: (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا في سَبِيلِ اللّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ* فَرِحينَ بِما آتاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاّ خَوْفٌ عَليْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ )(1) وهل يجد الوهابي مبرراً لتأويل الآية مع هذه الصراحة التي لا تتصور فوقها صراحة حيث أخبرت الآية عن حياتهم ورزقهم عند ربّهم وما يحل بهم من الاَفراح وما يقدمون عليه من الاستبشار بالذين لم يلحقوا بهم، وما يتفوّهون به في حقهم بقولهم كما يحكيه سبحانه: (ألاّ خوف عليهم ولا هم يحزنون) .
وعلى ذلك فلو كان الشفيع أحد الشهداء في سبيل اللّه تعالى، فهل يكون هذا الطلب لغواً؟!
وثالثاً: أنّ القرآن يعد النبي شهيداً على الاَُمم جمعاء، ويقول سبحانه: (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هوَلاءِ شَهِيداً)(2) فالآية تصرّح بأنّ النبي - صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم - شاهد على الشهود الذين يشهدون على أُممهم، فإذا كان النبي - صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم - شاهداً على الاَمم جمعاء أو على شهودهم فهل تعقل الشهادة بدون الحياة، أو بدون الاطّلاع على ما تجري بينهم من الاَُمور من الكفر والاِيمان والطاعة والعصيان؟!
ولا يصح لك أن تفسر شهادة النبي بشهادته على معاصريه ومن زامنوه، وذلك لاَنّه سبحانه عدّ النبي شاهداً في عداد كونه مبشراً ونذيراً، وهل يتصوّر أحد أن يختص الوصفان الاَخيران بمن كان يعاصره النبي؟! كلا لا، فإذن لا وجه لتخصيص كونه شاهداً بالاَُمّة المعاصرة للنبي.
فعند ذلك يكون طلب الشفاعة من النبي الاَكرم الذي هو حي بنص القرآن أمراً صحيحاً معقولاً، وأنت إذا لاحظت الآيات القرآنية تقف على أنّها تصرح بامتداد حياة الاِنسان إلى ما بعد موته، يقول سبحانه في حق الكافرين: (حَتّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلاّ إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) .()فهذه الآية تصرح بامتداد الحياة الاِنسانية إلى عالم البرزخ، وانّ هذا وعاء للاِنسان يعذّب فيها من يعذّب وينعّم فيها من ينعّم، أما التنعّم فقد عرفت التصريح به في الآية الواردة في حق الشهداء، وأمّا العقوبة فيقول سبحانه: (النّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَونَ أَشَدَّ الْعَذابِ) .()
وهناك آيات أُخر تدل على امتداد الحياة إلى ما بعد الموت نرجىَ نقلها إلى مكانها الخاص بل هناك آيات تدل بصراحة على ارتباطهم بنا، وارتباط بعضنا من ذوي النفوس القوية بهم.
وأمّا الاَحاديث الواردة في هذا المورد فحدث عنها ولا حرج، وقد روى المحدّثون قول النبي - صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم - : «ما من أحد يسلّم عليّ إلاّ رد اللّه روحي حتى أرد عليه السلام» .() كما نقلوا قوله: «إنّ للّه ملائكة سياحين في الاَرض يبلّغوني من أُمّتي السلام» .(2)
وفي الختام نرى أنّه سبحانه يسلم على أنبيائه في آيات كثيرة، ويقول: (سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمينَ) (سَلامٌ عَلى إِبْراهيمَ) (سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ) (سَلامٌ عَلى آلِ ياسِينَ) و(سَلامٌ عَلى الْمُرْسَلينَ) .()
كما يأمرنا بالتسليم على نبيه والصلوات عليه ويقول بصريح القول: (إِنَّ اللّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيّ يا أَيُّها الَّذينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِِوَسَلِّمُوا تَسْلِيماً)()، فلو كان الاَنبياء والاَولياء أمواتاً غير شاعرين بهذه التسليمات والصلوات، فأي فائدة في التسليم عليهم، وفي أمر الموَمنين بالصلوات والسلام على النبي - صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم - ؟ والمسلمون أجمع يسلمون على النبي في صلواتهم بلفظ الخطاب، ويقولون: السلام عليك أيها النبي ورحمة اللّه وبركاته، وحمل ذلك على الشعار الاَجوف والتحية الجوفاء، أمر لا يجترىَ عليه من له إلمام بالقرآن والحديث.
6. انّ القرآن يصرح بوضوح انّ الموتى لا يسمعون ولا يبصرون قال سبحانه: (إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمُوتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوا مُدْبِرينَ)(5) فالآية تعرّف المشركين بأنّهم أموات ويشبههم بها، ومن المعلوم أنّ صحة التشبيه تتوقف على وجود وجه الشبه في المشبه به بوجه أقوى وليس وجه الشبه إلاّ أنّهم لا يسمعون، فعند ذلك تصبح النتيجة: انّ الاَموات مطلقاً غير قابلين للاِفهام ويدل على ذلك أيضاً قوله سبحانه: (إِنَّ اللّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ)(1)، والاستدلال بالآيتين على نسق واحد.
والجواب أوّلاً: أنّ الآية تنفي السماع والاِفهام عن الاَموات المدفونين في القبور، فإنّهم أصبحوا بعد الموت كالجماد لا يفهمون ولا يسمعون، وهذا غير القول بأنّ الاَرواح المفارقة عن هذه الاَبدان غير قابلة للاِفهام ولا للاِسماع والآيتان دالتان على عدم إمكان إسماع الاَموات والمدفونين في القبور، ولا تدلان على عدم إمكان تفهيم الاَرواح المفارقة عن الاَبدان، العائشة في البرزخ عند ربهم كما دلت عليه الآيات السابقة.
ومن المعلوم أنّ خطاب الزائر النبي بقوله: يا محمد اشفع لنا عند اللّه، لا يشير إلى جسده المطهر، بل إلى روحه الزكية الحية العائشة عند ربّها، إلى غير ذلك من الصفات التي يضفيها عليه القرآن الكريم وعلى سائر الشهداء.
والشاهد على ذلك انّا نرى: انّ المسلمين مع وقوفهم على هذه الآيات وتلاوتهم لها كانوا يتوجهون إلى النبي - صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم - بعد وفاته حيث روى الطبراني في الكبير عن عثمان بن حنيف انّ رجلاً كان يختلف إلى عثمان بن عفان، في حاجة له، وكان لا يلتفت إليه ولا ينظر في حاجته، فلقى ابن حنيف فشكا إليه ذلك، فقال له ابن حنيف: ائت الميضاة، فتوضأ، ثم ائت المسجد فصل ركعتين، ثم قل: اللّهم إنّي أسألك وأتوجه إليك بنبينا محمد نبي الرحمة، يا محمد إنـّي أتوجه بك إلى ربك أن تقضي حاجتي، وتذكر حاجتك، فانطلق الرجل فصنع ما قال، ثم أتى باب عثمان فجاءه البواب حتى أخذ بيده، فأُدخل على عثمان فأجلسه معه على الطنفسة فقال: حاجتك؟ فذكر حاجته وقضى له، ثم قال له: ما ذكرت حاجتك حتى كانت الساعة، وقال:ما كانت لك من حاجة فاذكرها، ثم إنّ الرجل خرج من عنده، فلقي ابن حنيف، فقال له: جزاك اللّه خيراً، ما كان ينظر في حاجتي ولا يلتفت إلي حتى كلّمته فيّ، فقال ابن حنيف: واللّه ما كلّمته، ولكن شهدت رسول اللّه، وأتاه ضرير فشكا إليه ذهاب بصره، فقال له النبي صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم:« إن شئت دعوت أو تصبر»، فقال: يا رسول اللّه، انّه ليس لي قائد وقد شق علي، فقال له النبي: «ائت الميضاة، فتوضأ، ثم صل ركعتين، ثم ادع بهذه الدعوات»، قال ابن حنيف: فواللّه ما تفرّقنا وطال بنا الحديث حتى دخل علينا الرجل، كأنّه لم يكن به ضر .()
وثانياً: أنّ الاستدلال بالآيتين على ما يرتئيه المستدل غفلة عمّـا تهدف إليه الآيتان، فإنّ الآيتين في مقام بيان أمر آخر، وهو انّ المراد من الاِسماع هنا هو الهداية، وهي تتصور على قسمين: هداية مستقلة، وهداية معتمدة على إذنه سبحانه، والآيتان بصدد بيان انّ النبي غير قادر على القسم الاَوّل من الهدايتين، بل هي من خصائصه سبحانه وإنّما المقدور له هو الهداية المعتمدة على إذنه تعالى، ويدل على ذلك نفس الآية الواردة في سورة فاطر حيث يقول: (وَما يَسْتَوِي الاََعْمى وَالْبَصيرُ وَلاَ الظُّلُماتُ وَلاَ النُّورُ* وَلاَ الظِّلُّ وَلاَ الْحَرُورُ* وَما يَسْتَوِي الاََحْياءُوَلاَالاََمْواتُ إِنَّ اللّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ* إِنْ أَنْتَ إِلاّ نَذِيرٌ) .()
والمستدل أخذ بالجملة الوسطى، أعني قوله: (وما أنت بمسمع من في القبور) وغفل أو تغافل عن الجملتين الحافّتين بها، فإنّك إذا لاحظت قوله: (انّ اللّه يسمع من يشاء) تقف على أنّ المراد من قوله: (وما أنت بمسمع من في القبور) هو نفي الاِسماع أو الهداية المستقلة من دون مشيئته سبحانه، فكأنّه يقول: لست أيّها النبي بقادر على الهداية بل الهادي هو اللّه سبحانه، ولاَجل ذلك يعود فيصف النبي في الجملة الاَخيرة بأنّه «ليس إلاّ نذير» لا المتصرف في عالم الوجود مستقلاً ومعتمداً على إرادته.
والحاصل: انّ كون الآية بصدد بيان أنّ النبي ليس بقادر على إسماع الموتى وهدايتهم، شيء، وكونها بصدد أنّ النبي لا يقدر على الهداية والاِسماع مستقلاً ومعتمداً على إرادة نفسه، شيء آخر، والآية بصدد الاَمر الثاني لا الاَوّل، والذي يفيد المستدل هو الاَوّل، ويدل على ذلك قوله سبحانه: (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ)() وقال سبحانه: (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ)() وقال سبحانه: (وَاللّهُ يَقُولُ الْحَقّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبيلَ)() فهذه الآيات قرينة على أنّ الغاية التي تهدف إليها تلك الآية هو سلب استقلال النبي بأمر الهداية وإسماعهم وان كان يقدر على ذلك بإذنه، بقرينة قوله سبحانه: (إِنْ تُسْمِعُ إِلاّ مَنْ يُوَْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ)()، وقال سبحانه: (وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا)() بل يصفه سبحانه بقوله: (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ)() وبذلك تحصل انّ استدلال المستدل غفلة عن هدف الآية.
وإن شئت قلت: إنّ الظاهر من الآيات انّ النبي الاَعظم صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم كان حريصاً على هداية الناس وكان راغباً في إسعادهم كما يحكي عنه قوله تعالى: (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ)()، وقال تعالى: (وَما أَكْثَرُ النّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُوَمِنينَ)(1) وقال سبحانه: (ليسَ لكَ مِنَ الاََمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ)() وقال سبحانه: (لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلاّ يَكُونُو مُوَْمِنينَ)(3) ،كل هذه الآيات تشهد على إصرار النبي وعلاقته بهداية أُمّته، وعلى ذلك فيكون المراد من الآيات الناظرة إلى ما يطلبه النبي في أمر الاَُمّة، هو نفي كون النبي قائماً بذلك الاَمر على وجه الاستقلال، وعلى نحو الاِطلاق، سواء أشاء اللّه أم لم يشأ، بل انّما تنفذ إرادته وعلاقته بهدايتهم إذا وقعت في إطار إرادته سبحانه ومشيئته من غير فرق في ذلك بين الموتى والاَحياء، بإسماع الموتى وهداية الاَحياء.
وبذلك يظهر ما تهدف إليه آية سورة النمل، فإنّ المقصود من قوله: (إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوا مُدْبِرينَ)(4)هو انّك لا تقوم بإسماع الميت الواقعي، أو ميت الاَحياء كالمشركين والمنافقين مستقلاً، وإنّما المقدور لك هو ما تعلّقت مشيئته سبحانه بهدايتهم، ولاَجل ذلك يقول: (وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاّ مَنْ يُوَْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ).()





    رد مع اقتباس