عرض مشاركة واحدة
قديم 2013-06-23, 21:49 رقم المشاركة : 14
بالتوفيق
مشرف منتدى التعليم الثانوي التأهيلي
 
الصورة الرمزية بالتوفيق

 

إحصائية العضو







بالتوفيق غير متواجد حالياً


وسام الرتبة الثانية  في مسابقة القرآن الكريم

المرتبة الأولى في مسابقة صور وألغاز

وسام المرتبة الأولى للمسابقة الرمضانية الكبرى 2015

بالتوفيق

افتراضي رد: تأملات في عمق الذات


المحور الأول

لم يحتمل الإمام الغزالي ـ رحمه الله ـ وطأة القلق النفسي الذي عانى منه نتيجة لشعوره بعبثية الحياة التي يحياها في ذلك العصر المائج بالاضطرابات السياسية والاجتماعية والدينية ، وشعر أن الغاية التي كان ينشدها من وراء الاشتغال بالعلم والتعليم ، شابها الكثير من حب الذات ، وطلب الشهرة واكتساب الدنيا ، وتقلد المناصب ، واللهث وراء الألقاب ، ولم تعد الأعذار التي كان يتخذها لنفسه مقنعة له بعد أن أحس أن نية الدفاع عن الدين ، والذود عن حياض العقيدة ، والعمل على طلب العلم وتحصيله ، قد هزها الشعور بالزهو ، وحب الغلبة ، وتسلط الغرور، والراحة إلى قول الناس : جاء الإمام أو غادر الإمام ؛ مما جعل الغزالي يتوقف كثيراً أمام مسيرة حياته الماضية ؛ ليعيد التفكير في خطرات نفسه ، وتطلعات فؤاده ، ومرادات عقله .
وكان لا بد من الابتعاد عن مواطن الشبهات ، ومواقع الهوى ومساقط الفتنة ، فضرب في أرض الله ناشدا راحة النفس وصفاء القلب ، وهدوء العقل ، وآثر العزلة والخلوة ، مبتعدا عن العلائق التي تشده إلى الأهل والوطن ، متخذا السفر والرحلة سبيلا للمراجعة والمحاسبة .
دفن الغزالي نفسه في أرض الخمول فترة من الزمن ، وبدأ يفتش في ذاته عن ذاته ، مفكرا في النفس الإنسانية : ماهيتها وكنهها ، دوافعها وميولها، فجراتها وغدراتها ، جمرها وثلجها ، نورها ودجاها ، ، كيف تحسد من تحب ، وكيف تبتعد عمن تتمنى قربه ، كيف تحزن ولماذا ، وكيف تفرح ولماذا ، كيف رُكِّبت ، ومن أي شئ رُكِّبت ، كيف تنقلب فيها النوايا بين عشية وضحاها ، وكيف يشوب الخير فيها الشر ، وأين هو ذلك الركن المظلم الذي تتصارع فيه أحابيل الشياطين وأنوار الملائكة .
وبين (كيف ومتى ولماذا) قضى الغزالي خلوته في منارة (الأموي بدمشق) أو في حجرة (قبة الصخرة بالقدس) ليخرج للعالم بعد ذلك سفرا ضخما متفرقا ـ ينتظر من يجمعه ـ عن النفس الإنسانية ، واضعا بذلك اللبنات الأولى لعلم النفس الإسلامي الذي ارتبط ارتباطا وثيقا ـ رغم رفض الكثيرين ـ بالتصوف الإسلامي الحق ، الذي ترتبط فيه معرفة النفس بمعرفة خالقها :
(اعلم أن مفتاح معرفة الله تعالى هو معرفة النفس ..... وليس شئ أقرب إليك من نفسك ، فإذا لم تعرف نفسك فكيف تعرف ربك )
بهذه الكلمات الرائعة هدم حجة الإسلام الغزالي المناهج المادية لعلم النفس الغربي التي جاءت بعده بألف عام ؛ إذ جعل الغاية من معرفة النفس معرفة الله ، وجعل الوسيلة إلى معرفة الله معرفة النفس ، مؤكدا على أن أي نظرية تقف عند النفس الإنسانية فقط دون أن تصلها بصانعها ، هي نظرية لا ترى أبعد من أنفها ، وأنها لا بد أن تصطدم في مسيرتها بسد (الغاية) التي لم تعترف به ، ولم تلتفت إليه .
و يقرر الغزالي أن النفس المسلمة هي التي تتصرف بقوتها ضد رغباتها ونداءات جسدها وغرائزها التي لا تنتهي لو ترك لها الحبل على الغارب ؛ فالنفس طُلعَة .... كلما انتهت من أمر تطلعت إلى ما وراءه ، ولأن يكبح الإنسان جماحها خير له من أن تورده موارد الهلكة ، فتأسره بالغرائز ، وتستعبده بالشهوات .... يقول : (وتعلم أن هذه الصفات لأي شيء ركبت فيك، فما خلقك الله تعالى لتكون أسيرها، ولكن خلقها حتى تكون أسراك وتسخرها للسفر الذي قدّامك، وتجعل إحداها مركبك والأخرى سلاحك حتى تصيد بها سعادتك .)
إن النقاء والطهر مع عدم إغفال النزوات والشهوات والرغبات هو الأساس الذي بنى عليه الغزالي فلسفته النفسية ، فأثبت بذلك الأصل ولم يهمل الفروع ، بل أخذ بيد من وقع في حمأة الرذيلة ، وأوحال الرغبة ليهديهم إلى الأسباب المنقذة لهم ، ويبحث في أعماق نفوسهم عن مواصفات تزكيتها ، وطرائق تنقيتها .
فالأعضاء الظاهرة والجوارح المباشرة والهيكل الجسدي ليس هو الحقيقة الفعلية بل هو جثة هامدة لولا وجود الروح فيه .... إذن فلابد أن تكون الحقيقة نابعة من هذه الروح التي لا يعرف كنهها غير خالقها .... ومن هنا جاء الارتباط الوثيق عند الغزالي بين معرفة النفس ومعرفة الخالق ، فكل الطرق تؤدي إلى الله ، وسيضل من يبحث عن نفسه بعيدا عن طريق خالقها .
وهذه الروح الحبيسة في الجسد الأرضي لا بد لها من علامات على الطريق تهديها وترشدها وتنبهها ؛ ولذلك خلق الله لها العقل ليكون رائدها في مسالك الطريق إلى الله ، فإن اختل العقل وسقط في هوة العلائق والرغبات ضلت الروح الطريق إلى خالقها ، وقيدت إلى الجسد الأرضي بقيود النزوات والشهوات والدوافع الخسيسة .
ولو تأملنا في الكيفية التي ربَّى بها النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه لأدركنا أن المنهج الأسمى الذي يمكن أن يصفي النفس ويؤلف القلوب هو المنهج المرتبط بخالق هذه النفس ؛لأنه أدرى بها وأعلم : (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير) . ولن أبتعد كثيرا إذا قلت أننا نستطيع أن نستخرج من آيات القرآن الكريم منهجا نفسيا ربانيا لعلاج اضطرابات النفس الحديثة التي تخبط الكثيرون في تحديد كنهها فضلا عن وصف الدواء لها ، ولا أريد أوسع الموضوع لأقول : إن أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم ، وأعماله تعد مرجعا مهما يجب الرجوع إليه لاستخراج الأمصال المضادة لاضطرابات النفس العصرية الفتاكة





بتصرف من مقال بعنوان

علم النفس عند الإمام الغزالي
نشره: أ علي فريد
موقع النشر
http://www.alnafsy.com/article/566





آخر تعديل بالتوفيق يوم 2013-06-23 في 22:14.
    رد مع اقتباس