عرض مشاركة واحدة
قديم 2010-01-09, 11:44 رقم المشاركة : 1
محمد محضار
أستـــــاذ(ة) مــــاسي
 
الصورة الرمزية محمد محضار

 

إحصائية العضو







محمد محضار غير متواجد حالياً


افتراضي الزبون الاخير...قصة قصيرة لمحمد محضار


جلست بمواجهة منضدة التزيين، وقد تبعثرت أمامها أدوات زينتها ومضت تعبث بخصلات شعرها المتهدل على كتفيها العاريتين، وهي غارقة في تأمل خيالها المنعكس على المرآة.. ما أقصى الأيام فقد سرقت من عينيها الخضراوين بريقهما، وسلطت على مقلتيها الناضرتين شواظ الذبول، وأصابت جسدها الوردي بالخبو والضمور، وهي لم تتجاوز بعد الخامسة والعشرين.
قامت من مكانها وهي تترنح، واتجهت صوب السرير ثم ارتمت عليه، ودفنت وجهها في قلب الوسادة واسترسلت في البكاء. لكنها ما لبثت أن ثابت إلى نفسها، وألقت بنظرة على الساعة المنبهة الرابضة فوق الطاولة الصغيرة المجاورة للسرير، اكتشفت أنه لم تعد تفصلها عن موعدها مع زبون اليوم إلا ساعة ونصف.عادت إلى الجلوس أمام المرآة، ثم انصرفت إلى تلطيخ وجهها بالأصباغ والدهون، حتى تبدو مليحة الشكل في عين الزبون.. وعلى غير رغبة منها سرقها تفكيرها، وكر راجعا بها إلى الخلف، ونكأ جراحها المتجددة، فقفز إلى ذهنها الماضي بكل برهاته، وحلقت بها بنات أفكارها في دنياه ومضت بها الذكريات.
كم كانت طفولتها جميلة ومعبرة، وإن تنسى، فلن تنسى على كل حال تلك الأيام الحلوة الموسومة بالبراءة، التي كانت تصرفها بين عراسي وحقول قريتها الغناء، تطارد الفراشات والعصافير تارة، وتمرح في رفقة صويحباتها تارة أخرى. وكم كانت ممتعة فترة مراهقتها بمفاجأتها، إنها ما تزال تذكر ذالك اليوم الذي داهمها فيه الطمث لأول مرة، وهي لا تعلم من أمره شيئا فقض مضجعها، وكحل عينيها بالسهاد ولولا أن أمها فطنت لأمرها، وطمأنت قلبها لقضي عليها من الخوف وتذكر لا محالة كيف أنها اكتشفت التغييرات التي طرأت على جسدها، فهي لم تعد تلك الطفلة الصغيرة اللعوب ذات البنية النحيفة، فقد صار لها قوام أهيف وصدر عامر، وخصر لدن، وجيد مثير، وساقان مرميان، وردفان بارزان، وأضحت وردة ندية يأسر سحرها القلوب، وتفتن نضارتها العيون. ودب بها قطار الحياة على سكته، وقدمت لها الأيام كؤوسا مترعة بالسعادة، فأقبلت عليها تعب منها بقلب مبهج وصدر منتعش، وأوقد حنان والديها وعطفهما عليها شموع الفرحة حولها، فبدت جذلة سعيدة باستمرار لا يكاد يطرق دنياها كرب أو حزن.
إنها تذكر ذلك اليوم الدافئ من أيام الربيع الذي تعرفت فيه على سليم، أحد شبان القرية الذين يعملون بالمدينة، فقد استأثر يومه بانتباهها، وسحرتها لطافة حديثه، ودغدغت أحاسيسها عذوبة همساته، فارتعش قلبها بين أضلعها، وألفت نفسها ترتاح له، وكان هذا كافيا لزرع البذور الأولى لقصة حب سرعان ما تأججت نارها في أعماقها، فاستسلمت صاغرة لنداء قلبها، واستجابت لعواطف سليم، وأصبحا حبيبين يتبادلان مشاعر المودة، وكثرت زيارتها للمدينة صحبته متدرعة بمختلف الأعذار، فهي تارة تزور إحدى صديقاتها هناك وتارة أخرى تحضر عرضا سينمائيا، واستمر الحال على هذا الشأن حتى وقعت الواقعة.. وانقشعت عن عينيها غشاوة الوهم، وظهر سليم على حقيقته، فهو لم يكن إلا واحدا من أولئك الذين داسوا على كرامتهم ومشوا في الطريق المشين، فقد كان وسيطا، يعمل في قطاع تجارة الأعراض. وحاولت أن تغير من أمره، متبعة معه منهج الوعظ والإرشاد، عله يتخلى عن سلوكه الشاذ،ثم ينقذها من الورطة التي وضعها فيها، لكنه كان أقوى من وعظها وإرشادها، واستطاع أن يلعب على عقلها كما فعل في بداية علاقتها به، وأقنعها بأسلوب مغري بأن ترمي بنفسها في حمأة الرذيلة. وهكذا انهزمت أمامه للمرة الثانية، وقبلت أن تبيع جسدها تحت إمرته وبمعرفته، واختلقت كذبة أمام والديها عندما ادعت أنها وجدت وظيفة بإحدى الشركات، ثم استقرت بالمدينة، وسرعان ما انقطعت عن الذهاب إلى قريتها. أغرتها في بداية الأمر الحياة الجديدة التي بدأتها، وخلبت لبها الأماكن المخملية التي أصبحت ترتادها، وبهرتها نوعية وطبقة الأشخاص الذين صارت تتعامل معهم، وذهب بريق المال بعقلها، فانغمست في جدول المجون السن، وفوضت لسليم أمرها. لكنها اليوم بعد أربع سنوات إكتشفت الحقيقة.. واستفاقت داخل كيانها روح التمرد والثورة على واقعها الذي ارتضته لنفسها، إنها ترفض الاستمرار في الحياة، كبضاعة رخيصة تتداولها الأيدي، ويتسلى بها العابثون، ترفض أن تظل مطية للذل والهوان، وترغب في استعادة فرديتها الضائعة. كانت قد انتهت من التزيين، حين استفاقت من شرودها، وقد قر قرارها أن يكون زبون اليوم، هو آخر زبون في حياتها. قامت من مكانها تم سحبت معطفها من
المشجب، رمته على كتفيها، وغادرت الشقة.
عشرون دقيقة فقط هي المدة الزمنية التي تفصلها عن موعدها مع زبون اليوم ,الذي اختاره لها سليم كالعادة. سارت بضع خطوات على الرصيف قبل أن تستقل سيارة تاكسي، حملتها إلى مكان اللقاء، ووجدت سليم ينتظرها أمام باب عمارة حديثة البناء تؤجر بها شقق مفروشة، وما أن رآها حتى ابتدرها ضاحكا:
- عمت مساءا يا شريفة .. إن مواعيدك دائما مضبوطة.
وردت بلهجة جافة:
- ترى من اخترت لي اليوم
رفت على شفتيه ابتسامة خبيثة وقال:
- شاب وسيم.. تبدو عليه ملامح النباهة، سيعجبك.. إنه يعمل مهندسا بفرنسا، وهو في إجازة، سيكون سخيا معك، فكوني لطيفة معه.
عضت على شفتها السفلى .. وأجابت بصوت ساخر:
- على كل حال سيكون آخر زبون.
وضحك وهو يضع يده على كتفيها :
- هيا بنا نصعد فالزبون ينتظر.
وجدت نفسها صحبته أمام باب شقة، تقع في الطبق الثالث، طرق الباب بأدب، وعندما فتح(بضم الفاء )، لاح شاب طويل القامة، مفتول العضلات، تعلو محياه ابتسامة عريضة.. والتقت العيون .. وتكلم سليم مقدما إياهاللشاب:
- شريفة.. عبد الرحمان.
لكن شيئا ما كان قد حدث في تلك اللحظة.. فقد طفق عبد الرحمان وشريفة ينظران إلى بعضهما بذهول، وقد تسمرت الكلمات على شفتيهما، وغار الدم من وجهيهما. ما أصعب الموقف وأقساه عليهما، من كان يظن أنها ستجد نفسها وجها لوجه مع عمها الأصغر، وأي صدفة غريبة هذه التي اختارته أن يكون الزبون الأخير.

نشرت هذة القصة بجريدة العلم المغربية بالصفحة الثقافية...سنة 1985






    رد مع اقتباس