عرض مشاركة واحدة
قديم 2012-12-10, 21:29 رقم المشاركة : 1
ماماهناء
أستـــــاذ(ة) مشارك
إحصائية العضو







ماماهناء غير متواجد حالياً


افتراضي مذكرات تلميذة من القرن الماضي(الفصل الأخير): الشهادة الابتدائية


1973/1974
الشهادة الاِبتدائية، هذا هو الاسم الذي كان شائعا في ذلك الوقت قبل إضافة مستوى جديد للتعليم الابتدائي : المستوى السادس،والذي سيصبح المستوى الإشهادي.
لقد ولجت هنية هذا المستوى متوجسة خائفة، نظرا للهالة العظمى التي كانت تعطى له، سواء من طرف التلاميذ أو الآباء ، في هذه المدينة الصغيرة الطموحة- مدينة زرهون،خاصة- وفي المغرب عامة.
الكل يتحدث عن الشهاداتالتعليمية وأهميتها في الارتقاء الاجتماعي، خصوصا الطبقة الفقيرة، وغالبيها منحدرة من القرى المجاورة ...والنماذج كثيرة، كانت جدة هنية نفسها لا تمل من تعدادها أمام أحفادها كي يعتبروا:
"ألم تعلموا أن عبد القادر ابن محمد الأصلع قد أصبح أستاذا، تبارك الله عليه ، كان المسكين يذهب حافيا إلى المدرسة قاطعا مسافات طويلة، وأبوه لا يملك شبر أرض ...وابن الخراز جارنا القديم ، ماشاء الله أصبح معلما ..."، وتستطرد في ذكر الأمثلة بدون توقف :
"وابن عم فلان يدرس الطب وسيصبح إن شاء الله طبيبا...المسكين يشتغل طول عطلة الصيف في الحصاد كي يوفر مستلزمات الدراسة ووو...."
حتى أم هنية كانت تعطي العبرة لأبنائها دائما بنموذج أسرة من أقربائهم كثيرة العدد: " أنا أتذكرهم جيدا حين كانوا صغارا، كانوا يعيشون متكومين في غرفة واحدة كالقطط، طرقت بابهم مرة فخرج الصغاردفعة واحدة، بشعر أشعث، وملابس رثة...وهاهم الآن قد توظفوا جميعا بمساعدة بعضهم البعض ، فالكبيركان يحتضن الصغير، حتى أتم الجميع دراسته، واشتغلوا في مجالات مختلفة ..."
كان التنافس على أشده على التعليم ،علما أن المدينة لم تكن تتوفرلا على ثانوية ولا على جامعة ،وحتى الثانويةالإعدادية لم تكن موجودة غالبا قبل هذا التاريخ ، فكل من كان يرغب في إتمام دراسته عليه التوجه إلى مكناس أو فاس أو الرباط ...
لكن، كانت الشهادة الابتدائية أول عقبة تقف في وجه التلاميذ، فكم عدد القصص التي تروى عن تلاميذ كرروا مرارا وتكرارا دون جدوى ، رغم مستواهم الدراسي الحسن أو الجيد ، لا لسبب إلا لأنهم أرعبوا يوم الامتحان فنسوا ما حفظوه ، أو تسرعوا فأخطأوا في الحساب...
فقد كان الامتحان الموحد الأخير والأوحد الحاسم في النجاح والرسوب.فمهما جد التلميذ خلال السنة الدراسية فلا يحتسب من نقاطه أي شيء...
عندما دخلت هنية المدرسة في بداية السنة الدراسية تفاجأت لتحلق التلميذات أمام الفصل، في الحقيقة كان هناك فصلان لنفس المستوى ، الكل يترقب، في أي فوج سيكون ياترى ؟
لفت انتباه هنية زميلتها السمراء تبكي فبادرتها بالسؤال:
ـــ لم تبكين؟
أجابت الفتاة والدموع تغمر عينيها الواسعتين :
ـــ لقد وضعوا اسمي في قائمة الأستاذ(الخط....) وأنا أفضل الأستاذ (الع...) الذي درسنا في المستوى الثالث، أتذكرينه؟ إنه هو الذي سيدرس الفوج الآخر هذه السنة...
كانت مفاجأة هنية لا توصف بسماع الخبر، وتلتها مفاجأة أخرى حين علمت أنها ستكون في فوج أستاذها المفضل. كادت ترقص من شدة الفرح ...
كان الأستاذ الآخر معروفا بصرامته وعنفه مع تلميذاته ، لهذا كان يهابه الجميع ، رغم جديته في عمله وإخلاصه. ويفضلون الأستاذ الثاني لأنه كان لطيفا ومتسامحا...
خلال هذه السنة الدراسية أحست هنية أنها في بيتها ، فحبها للغة العربية لا يوصف، ومع أسلوب أستاذها المفضل لم تكن تمل من الدراسة، فالصرف والنحو أنشودة، والاجتماعيات قصص مسلية، أما القرآن فترنيمة عذبة: " الرحمان ، علم القرآن ، خلق الإنسان ، علمه البيان..."
لكن الحظ عاكسها في مادة الفرنسية، فالأستاذ الجديد لا يشرح ولا يستعمل الصور التوضيحية، ولا يحث تلميذاته على الحوار كي يثبثوا ما تعلموه. يقرأون بالتناوب النص القرائي ثم ينقلون ما كتب في الصباح على السبورة مع الفوج الأول دون توضيح ولا تفسير...
في الامتحان الأول، كان الفرق شاسعا بين رتبتيها في اللغة العربية والفرنسية. صدمت هنية ... مع من تستشير؟ ومن سيوضح لها ما التبس عليها؟ كيف ستحسن مستواها وهي لا تفقه شيئا مما تكتب؟وأحيانا حتى ما تقرأ؟ لم ترض هنية أبدا عن نفسها ، رغم أن والديها لم ينتبها لهذا التقهقر...
مرة، وهي عائدة من المدرسة لفت انتباهها كتاب عبر زجاج المكتبة الجديدة، الأولى والوحيدة في هذه المدينة الصغيرة، قرأت عنوانه العريض: "أهيئ امتحاني". لم تسمع به قط ولكن عرفت أنه هو مخلصها ومساعدها في هذه الفترة الحاسمة من مسارها الدراسي.
أسرعت إلى منزلها ورجت أمها أن تشتري لها هذا الكتاب لأن المعلم طلب من جميع تلميذاته ذلك .اضطرت للكذب لتسرع الأم باقتنائه لها. كانت كذبة بيضاء أعطت أكلها سريعا ...
لم يكن لديها مكتبا ، كانت تجلس على الأرض وتضع كتبها ودفاترها على "الطبلة "الصغيرة(المائدة)، ذات الثلاث قوائم، بعد تنظيفها جيدا لأن الأسرة كانت تتناول طعامها عليها، بحيث كان يجلس الجميع القرفصاء حولها على أفرشة صغيرة مختلفة الأحجام خاطتها أمها بنفسها كالوسائد.
وضعت كتابها الجديد على المائدة الصغيرة، وهي مغتبطة، تصفحته بتأن، فرحت كثيرا عندما وجدت كل المواد فيه حتى العربية والرياضيات : تمارين مختلفة ، ونصوصا بالفرنسية مذيلة بأسئلة... كان حدسها في !محله..
شمرت عن ساعديها، وبدأت في إنجاز التمارين وقراءة النصوص ومحاولة فهمها والإجابة عنها.
دأبت على ذلك مدة طويلة ،وإذا مازارهم أحد أفراد أسرتها المتعلمين كانت تسألهم عن معنى بعض الكلمات المستعصية...
لم يعرف أحد بخطتها ولا انتبه لشطارتها ، ولا عرف مشكلتها ...لا أحد كان سيفهمها ، لم يكن أحد يسألها عما تفعل، فالأمية ضاربة أطنابها داخل أسرتها . المهم أن الكل مرتاح لاعتكافها على الدراسة، فقط الأم تبدي أحيانا بعض الغبطة فتحفزها على المثابرة، حتى والدها الحاضر الغائب لا يعبر عن افتخاره بها أوبفرحه بنتائجها، يقول لها:" مبروك "إذا نجحت ولأختها الصغرى:" مبروك "أيضا إذا رسبت..فقط يغضب عند رسوب الابن الأكبرالمتكرر، فقد لحقت به هنية الآن في المستوى الخامس ، ولازال لا يتحمس لمنافستها أو تقليدها...
لم تذهب مجهودات هنية هباء، فقد تقدمت كثيرا في رتبة الامتحان الثاني، وبدا على معلم الفرنسية التعجب ، ولسان حاله يقول: "من أين لك هذا؟" ، لكنه اعترف بتقدمها المفاجئ أمام جميع التلميذات وهو يوزع النتائج:
" ! لقد تخطت درجات بقفزة واحدة..!!"أتعلمن من حصلت على الرتبة الثالثة؟...إنها هنية..
أما هنية فلم تستغرب، فقد حصدت ثمار مجهوداتها الجبارة، ومع ذلك لم تكن أبدا مقتنعة بمستواها في الفرنسية، فرغم صغر سنها كانت تعلم أن الطريقة الوحيدة لإتقان اللغة هي القراءة والمحادثة، ولكن هيهات أين قصص الأطفال بالفرنسية؟ لا أحد يتكلم عنها ، ولا مكتبة تجلبها. ومع من تتحدث الفرنسية؟ فحتى الأستاذ أعفاهن من حصتهاأي حصة المحادثة ... ولا تلفاز في البيت كي تستأنس بسماع اللغة الفرنسية من خلال الرسوم المتحركة ...الكل كان مهووسا بحفظ المواد الأساسية فقط للاجتياز الاختبار الموحد...
فقط أستاذ اللغة العربية كان يعير التلميذات قصصا بالعربية، والتي كانت لاتزال مدمنة عليها. وفي الشهر الأخير قبل الامتحان الموحد ، و بعد حصص المراجعة المكثفة والتمارين الكثيرة في الشكل والإعراب والصرف ...كان يخصص فترات خارج أوقات الدراسة، للأنشطة المسرحية والأناشيد ،استعدادا للحفل السنوي.
كانت هنية تلاحظ استخفاف تلميذات الفوج الآخرالمتأثرات طبعا بأستاذهن الصارم ، ولم تنس قط همسة إحدى الزميلات :" إن أستاذكم هذا يضيع وقتكم بهذه الخزعبلات ،اذهبي لمنزلكم، وراجعي دروسك عوض البقاء في المدرسة بعد الخامسة... "
لم تعمل طبعا بنصيحتها فقد ملت كثرة الدروس والتمارين ، وهذه الانشطة هي الوحيدة التي تخفف عنها عبء الدراسة ، وتروح فيها عن نفسها، في وسط أسري لا يعترف بحق الصغيرة في الترفيه واللعب...
كان يوم الامتحان الموحد يوما مشهودا، استيقظت مرعوبة في الصباح الباكر، وهي التي قضت الليل ساهرة تراجع التاريخ والجغرافيا خوفا من نسيان تاريخ محدد ، فالأرقام خصوصاهي نقطة ضعفها ،ذاكرتها لا تخزنها بسهولة...
أفطرت بسرعة ، ناولتها أمها بعض حبات التمر داعية لها بالتوفيق والنجاح، ثم خرجت مسرعة...
وجدت باب الإعدادية التي سيمتحنون فيها مكتظا بالتلاميذ والتلميذات ، بعضهم ذو سحنات غريبة وملابس رثة ، عرفت من بعد أنهم أتوا من القرى المجاورة...
كانت بعض زميلاتها يرافقهن أمهاتهن أو آباؤهن أو إخوتهن، فأحست بالغبن والغربة، لأن لا أحد جاء يساندها في هذا اليوم الذي يشبه يوم القيامة ، كما تخيلته خلال التفاسير المكثفة لأساتذتها السابقين لآيات القرآن التي تتحدث عن هذا اليوم الموعود ...يوم يكون الناس كالفراش المبثوث ...)، وتقمص خيالها حالة الناس في يوم الآخرة ، ينتظرون المحاسبة عن أعمالهم، وتأكد لها التشابه عندما دق الجرس وولج التلاميذ الإعدادية ،عزل، بدون صاحبة ولا أب ولا أم ، فتذكرت الآية : ( لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه...)
عندما تسلمت ورقة الامتحان، أحست هنية بثقة كبيرة في نفسها ، خصوصا لما وجدت الأسئلة في المتناول، فانكبت تجيب بدون توقف أوتردد، وانقشعت تلك الغيمة المهولة التي كانت تضفي على امتحان الشهادة ضبابا وغيوما بل فزاعة تخيف الكبار أكثر من الصغار...لكن ، لم يكن لجميع الممتحنين نفس الثقة بالنفس، فهناك من بقي واجما، وهناك من خرج يبكي قبل معرفة النتائج...
لم تذهب هنية إلى مدرستها يوم توزيع النتائج فلا أحد في منزلها كان يعرف تاريخ ذلك ، لكنها ذهبت في اليوم الموالي بعد أن أخبرتها جدتها التي كانت غائبة ، حيث سمعت خبر صدور نتائج امتحان الشهادة الابتدائية ، والتي كانت جد متحمسة لمعرفة نتائج جميع أفراد العائلة والجيران.
ذهبت لوحدها إلى المدرسة كعادتها، فأبوها غائب، وحتى وإن كان حاضرا فلن يذهب معها، فرجلاه لم تطآ أية مدرسة من مدارس أبنائه طيلة حياته. وأمها لم يكن يخطر ببالها قط مرافقتها، فمهمتها انتهت عندما سجلتها لأول مرة، وهي دائما منهمكة في أشغال المنزل والاعتناء بالصغار ، وهنية تعودت على ذلك، ولم تطالبها بشيء...ربما كان هذا التعامل من طرف والديها هو الذي جعلها مستقلة، تعتمد دائما على نفسها...
دخلت مدرستها فبدت لها فارغة، يخيم عليها السكون، تقدمت إلى الإدارة فوجدت سيدة غريبة، عرفت أنها المديرة الجديدة ، سلمتها نتيجتها وشهادتها الابتدائية المكتوبة باللون الأحمر العريض مهنئة إياها ...
خرجت تكاد تطير من شدة الفرح ، لكن رؤيتها للساحة الفارغة، أشعرها بالحزن، وتأسفت كثيرا لأنها لن ترها بعد اليوم ، ولن تر أستاذها المفضل، وزاد حزنها عندما علمت أنها لم تعش فرحة النجاح مع زميلاتها في اليوم السابق، ولم تسمع تهنئة أستاذها ولاتشجيعاته .
لما عادت إلى المنزل استقبلتها أمها بفرحة كبيرة، وكان أخوها واقفا لايبدي أي انطباع ، فنظرت إليه الأم موبخة: "هاهي أختك الصغرى نجحت وأنت لا تزال تكرر السنة تلو الأخرى.."
ضحكت هنية مزهوة، ملوحة بشهادتها مفتخرة، ناظرة إليه بشماتة، فاقترب منها ووجه لها صفعة قوية لم تتلق
!مثلها أبدا طوال حياتها...كانت تلك الصفعة هي الجائزة الوحيدة التي تلقتها ذلك اليوم بمناسبة نجاحها ...
( تمت)





    رد مع اقتباس