عرض مشاركة واحدة
قديم 2012-05-24, 18:29 رقم المشاركة : 9
عمر أبو صهيب
بروفســــــــور
 
الصورة الرمزية عمر أبو صهيب

 

إحصائية العضو








عمر أبو صهيب غير متواجد حالياً


وسام المشارك

وسام منضم مسابقة المقدم

الوسام الذهبي

وسام المشاركة

وسام المشاركة في دورة HTML

وسام المشاركة

وسام حفظ سورة الكهف

وسام المركز الاول في مسابقة التصوير الفوتوغرافي

وسام المركز الثاني في مسابقة استوقفتني آية

وسام مشارك في دورة حفظ سورة البقرة

افتراضي رد: القول بفناء النار كفر



ثانيا: أدلتهم من الأخبار:

استدل القائلون بفناء النار ببعض أحاديث مرفوعة وآثار موقوفة، وعزوا إلى من رويت عنهم القول بفناء النار، مع كون هذه الآثار ليست بصريحة فيما نسبوه إليهم من القول بفنائها بل لا دلالة فى بعضها على فناء النار الذي هو محل النزاع بوجه من الوجوه كما يقول الصنعانى(34)، ومن هنا تعلم ما فى قول ابن القيم ((قال شيخ الإسلام يريد به شيخه أبا العباس ابن تيمية وقد نقل هذا القول عن عمر وابن مسعود وأبي هريرة وأبي سعيد وغيرهم)) (35) من مجانبة للصواب على ما سيأتى تفصيله.
فمن الآثار التى استدلوا بها:
1- روي جعفر بن الزبير عن القاسم عن أبي أمامة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَيَأتِيَنَّ عَلَى جَهَنَّمَ يَوْمٌ كَأنَّها زَرْعٌ هَاجَ وَاحْمَرَّ، تَخْفِقُ أبْوَابُهَا"(36).
- ويجاب عليهم بأن الحديث موضوع فلا يصح الاستدلال به، قال ابن الجوزي في كتابه "الموضوعات": "هذا حديث موضوع محال، و"جعفر" هو "ابن الزبير"، قال شعبة: كان يكذب، وقال يحيى: ليس بثقة، وقال السعدي: نبذوا حديثه، وقال البخاري والنسائي والدارقطني: متروك"(37).
وقال الإمام الذهبي في ترجمة "جعفر بن الزبير: "و يُرْوى بإسناد مظلم عنه حديث متنه: (يأتي على جهنم يوم ما فيها أحد من بني آدم تخفق أبوابها)"(38).

2- روى عبد بن حميد في تفسيره عن الحسن قال: قال عمر: "لَو لَبِثَ أَهْلُ النَّارِ فِي النَّارِ كَقَدْرِ رَمْلِ عَالِجٍ لَكَانَ لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ يَوْمٌ يَخْرُجُونَ فِيهِ"(39).
- والمراد بأهل النار الكفار؛ لأن عصاة المؤمنين الذين أصيبوا بذنوبهم معلوم للسامعين أنهم يخرجون منها ولا يلبثون قدر رمل عالج ولا قريبا منه، وعلى إرادة عصاة المؤمنين في حديث عمر لا يكون في الكلام زيادة علم للسامع ولا فائدة تُرْجى.
ويجاب عليهم: بأن كون السامعين قد علموا ما قاله عمر لا يستلزم عدم الفائدة في الكلام، فإنه قد عُلِم في فن البيان أن الإخبار يكون بفائدة الخبر، أو لازم الفائدة، فَعِلْمُ السامعين بالحكم لا يمنع من التكلُّم به وإلقائه إليهم، فقد يكون مراد عمر أن يؤدوه لـمَن لا يعلمه ويُخْبِرُوا أنه اعتقادهم(40).
وأما الأثر من حيث الرواية فإنه منقطع؛ لأنه لم يسمعه الحسن من عمر، والمنقطع عند أهل الحديث من قبيل الحديث الضعيف، والضعيف لا يحتج به في هذه المسائل، وكذلك فإن الحسن البصري لا يؤخذ بمراسيله، يقول السيوطي:"ليس في المرسلات أضعفُ من مرسلات الحسن وعطاء بن أبي رباح فإنهما كانا يأخذان عن كل واحد"(41)، وهذا الأثر المنقطع أرسله الحسن عن عمر، فحكمه حكم مراسيل الحسن عامة.
وأما قول ابن القيم بأنه "لو لم يصح للحسن عن عمر لَـمَا جَزَمَ به"- يلزم أن يجري في كل مقطوع يَجْزِم به راويه، ولا يقول هذا أئمَّة الحديث كما عُرِف في قواعد أصول الحديث، بل الانقطاع عندهم علة، والجزم معه تدليس، وهو علة أخرى، ولا يقوم بمثل ذلك الاستدلال في مسألة فرعية فكيف في مسألة قال عنها ابن القيم: إنها أكبر من الدنيا بأضعاف مضاعفة(42).
وأما قول ابن القيم بتداول الأئمَّة له غير مقابلين له بالإنكار والرد، مع إنكارهم الدائم على كل مخالف لكتاب الله وسنة رسوله وإجماع المسلمين.
فجوابه: بأنه لا حاجة للإنكار والرد؛ لأن كلام عمر كغيره من الأقوال الدالة على خروج الموحدين من النار، وهو قول عليه جماهير الأئمة(43).
- ولو ثبت صحة الأثر عن عمر فإنه لم يدل على المدعى فإن أصل المدعى هو "فناء النار وأن لها مدة تنتهي إليها"، وليس في أثر عمر هذا إلا أنه يخرج أهل النار من النار، والخروج لا يكون إلا وهي باقية فإنك لو قلت: "لو لبث زيد في الدار كذا وكذا، ثم خرج منها" لم يدل هذا على فناء الدار لا مطابقةً ولا تضمنًا ولا التزامًا. 3- ذكر ابن جرير والبغوي في تفسيرهما عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: "لَيَأتِينَ عَلَى جَهَنَّمَ زَمَانٌ لَيْسَ فِيهَا أَحَدٌ، وَذَلِكَ بَعْدَمَا يَلْبَثُونَ فِيهَا أَحْقَابًا"(44)، وقد روى البزار هذا الحديث عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما(45).
- ويجاب عنه بأن هذا الأثر لا يخلو سنده في كل طرقه من مقال وضعف، ولا دلالة فيها على فناء النار الذي هو محل النزاع بوجه من الوجوه فإن قوله " لَيسَ فيها أحدٌ" دال على بقائها، فإنك إذا قلت "لَيسَ في الدار أحدٌ" فإنه دال على بقاء الدار لا على فنائها(46).
وكذلك فإن أهل السنة قد حملوا هذه الآثار على خروج الموحدين من النار، قال البغوي: "معناه عند أهل السنة - إن ثبت - ألا يبقى فيها أحدٌ من أهل الإيمان، وأما مواضع الكفار فممتلئة أبدًا"(47).
وقال الشيخ الشنقيطى: ((الذي يظهر لي والله تعالى أعلم أن هذه النار التي لا يبقى فيها أحد يتعين حملها على الطبقة التي كان فيها عصاة المسلمين كما جزم به البغوي في تفسيره؛ لأنه يحصل به الجمع بين الأدلة، وإعمال الدليلين أولى من إلغاء أحدهما، وقد أطبق العلماء على وجوب الجمع إذا أمكن، أما ما ينقل عن كثير من العلماء من الصحابة ومن بعدهم من أن النار تفنى وينقطع العذاب عن أهلها، فالآيات القرآنية تقتضي عدم صحته))(48). 4- وذكر ابن القيم في "حادي الأرواح" عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: "مَا أَنَا بِالَّذِي لا أَقُولُ أنَّهُ سَيأتِي عَلَى جَهَنَّمَ يَوْمٌ لا يَبْقَى فِيهَا أَحَدٌ"، وقرأ قوله: { فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ} [هود: 106]، قال عبيد الله: كان أصحابنا يقولون يعني به الموحدين(49).
ويجاب عليه: بأن الحديث ليس فيه دلالة على فناء النار، بل هو محمول على الموحدين للجمع بينه وبين الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم على عدم فناء النار؛ ولذلك قال عبيد الله: كان أصحابنا يقولون يعني به الموحدين، فحمل هذا الأثر على الطبقة التي فيها عصاة المسلمين متعيِّن؛ لأنه به يحصل الجمع بين الأدلة. 5- عن أبي نضرة عن جابر بن عبد الله وأبي سعيد أو رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم {إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد} قال: ((هذه الآية قاضية على القرآن كله يقول حيث كان في القرآن خالدين فيها تأتي عليه)) (50).
ولا يخفى – كما يقول الشيخ الصنعانى - أولا أنه شك أبو نضرة في قائل هذا القول وردده بين ثلاثة معلومين ومجهول وهذا الشك وإن كان انتقالا من ثقة إلى ثقة على رأي من يقول كل الصحابة عدول غير ضائر في الرواية، إلا أنه لا يصح معه الجزم بنسبة القول بفناء النار إلى أبي سعيد حيث إن مستند القول به هو هذا الأثر لأن هذا أثر لم يتم الجزم به في رواية أنه لأبي سعيد فكيف يجزم بنسبة هذا المدلول أعني القول بفناء النار وذهابها إلى أبي سعيد كما فعله شيخ الإسلام، ولم يثبت عنه الدليل، وثانيا وهو على تقدير ثبوته عنه فإنه لا دلالة فيه على مدعاه وهو فناء النار ولا رائحة دلالة، بل غاية ما فيه أن كل وعيد في القرآن ذكر فيه الخلود لأهل النار فإن آية الاستثناء حاكمة عليه وهي عبارة مجملة لا تدل على المدَّعَى بنوع من الدلالات الثلاث بل يحتمل أنه أراد أنها فسرت بآيات الخلود التي وردت في القرآن في خلود أهل النار، قال الصنعانى: ((وإذا عرفت هذا فيا لله العجب كيف ينسب شيخ الإسلام إلى أبي سعيد القول بفناء النار بلفظ لم يتحقق صدوره عنه، ولو تحقق صدوره عنه لم يدل على مدعاه فما هذا إلا مجازفة، ولا يليق ممن دون ابن تيمية تحقيقا وورعا في نسبة الأقوال وتحرير الاستدلال هذا))(51). - وخلاصة القول في الإجابة عن الآثار التي وردت عن الصحابة هو ما قاله الشيخ الصنعانى بعد أن أوردها جميعا وناقش وجه الدلالة فيها، وبين المراد الصحيح منها، ثم قال: ((وبهذا تعرف أنه لا يصح نسبة القول بفناء النار وذهابها إلى ابن مسعود وأبي هريرة كما نسب هذا القول الذي نقل عنهما إلى عمر، بل هو الدليل على بقاء النار بعد خروج من يخرج منها من أهل التوحيد، فكيف يقول شيخ الإسلام في صدر المسألة إن القول بفناء النار نقل عن ابن مسعود وأبي هريرة وإنما مستنده في نسبة ذلك إليهما هذان الأثران اللذان هما بمراحل عن الدلالة على فناء النار وذهابها بعد صحتهما، فعرفت بطلان نسبة هذا القول إلى ابن مسعود وأبي هريرة كما عرفت بطلان نسبته إلى عمر... وبعد تحقيقك لما أسلفناه وإحاطتك علما بما سقناه تعلم أن هؤلاء الأربعة من الصحابة الذين هم عمر وابن مسعود وأبو هريرة وأبو سعيد الذين عين شيخ الإسلام أسماءهم من الصحابة في صدر المسألة وذكر أنه نقل عنهم القول بفناء النار وذهابها وتلاشيها هم برئيون من هذا القول ومن نسبته فناء النار إليهم براءة الذئب من دم ابن يعقوب، واستدل لهم بما ادعاه منسوبا إليهم بما لا مساس له بالدعوى كما عرفت وحينئذ يعلم أنه ليس معه في دعواه فناء النار أحد من الصحابة الذين عَيَّنهم))(52).
ويقول العلامة ابن حجر الهيتمي: "والظاهر أن هؤلاء الذين ذَكَرَهم لم يصح عنهم من ذلك شيءٌ، وعلى التنـزُّل فمعنى كلامهم كما قاله العلماء: ليس فيها أحد من عصاة المؤمنين، أما مواضع الكفار فهي ممتلئة بهم لا يخرجون عنها أبدًا كما ذكره الله في آيات كثيرة"(53).
وقد أجاب شيخ الإسلام تقى الدين السبكى عما استدل به القائل بفناء النار من آثار حتى تجرأ بها وعزا القول بذلك للسلف، فتعقبه شيخ الإسلام السبكى محقا بقوله: ((معاذ الله، وأنا أبرئ السلف من ذلك، ولا أعتقد أن أحدا منهم قاله، وإنما روى عن بعضه كلمات تُتَأَوَّلُ كما تُتَأَوَّلُ المشكلات التى ترد، وتحمل على غير ظاهرها، فكما أن الآيات والأحاديث يقع فيها ما يجب تأويله، كذلك كلام العلماء يقع فيه ما يجب تأوله، ومن جاء إلى كلمات ترد عن السلف فى ترغيب أو ترهيب أو غير ذلك، فأخذ بظاهرها وأثبتها أقوالا ضل وأضل، وليس ذلك من دأب العلماء، ودأب العلماء التنقير عن معنى الكلام والمراد به، وما انتهى إلينا عن قائله، فإذا تحققنا أن ذلك مذهبه واعتقاده نسبناه إليه، وأما بدون ذلك فلا، ولا سيما فى مثل هذه العقائد التى المسلمون مطبقون فيها على شىء كيف يعمد إلى خلاف ما هم عليه، ينسبه إلى جلة المسلمين، وقدوة المؤمنين، ويجعلها مسألة خلاف كمسألة فى باب الوضوء، ما أبعد من صنع هذا عن العلم والهدى، وهذه بدعة من أنحس البدع وأقبحها أضل الله من قالها على علم))(54).
وإلى هذا المنحى جرى الشيخ الصنعانى عند كلامه على أثر سيدنا عمر الذى استدل به ابن القيم فقال الصنعانى: ((كلام عمر كغيره من الأقوال الدالة على خروج الموحدين من النار وهو قول عليه جماهير الأئمة منهم ابن تيمية، وستعرف أنه لا يصح أثر عمر إلا على تقدير أنه أراد به الموحدين وأنه يتعين حمله على ذلك عند شيخ الإسلام نفسه وعند غيره... ومما سمعت تعين حمل أثر عمر على عصاة الموحدين عند شيخ الإسلام وعند جميع علماء الأنام وإذا عرفت هذا طال تعجبك من نسبة ابن تيمية القول بفناء النار إلى عمر واستدلاله لذلك بهذا الأثر المنقطع رواية))(55)، وقد تابع الشيخ الصنعانى هذا النهج عند مناقشته لاستدلال ابن القيم بالآثار فى الباب، وبين أنه يجب حملها على ما يوافق صرائح الكتاب والسنة وما أجمع المسلمين عليه من الاعتقاد، وإلا لترتب على ذلك مقتضيات لم يقل بها أحد.

ثالثا: استدلوا بسعة الرحمة:

- ثم استدلوا على دعواهم بفناء النار بسعة رحمة الله تعالى، فإنها أدركت أقوامًا ما فعلوا خيرًا.
ومن الأحاديث التي ذكروها قصة الرجل الذي أمر أهله أن يحرقوه ويذروه في الرياح في البر والبحر خشيةَ أن يعذبه الله (56).
وأيضا بما أخرجه أحمد من حديث الأسود بن سريع مرفوعا: "يَأتِي أرْبَعةٌ يَوْمَ القِيَامَةِ: رَجُلٌ أَصَمُّ لا يَسْمَعُ شَيْئًا، وَرَجُلٌ أَحْمَقٌ، ورَجُلٌ هَرِمٌ، وَرَجُلٌ مَاتَ فِي فَتْرَةٍ.
أمَّا الأَصَمُّ فَيَقُولُ: "رَبِّ لَقَدْ جَاءَ الإِسْلامُ وَمَا أسْمَعُ شَيْئًا"، وأمَّا الأحْمَقُ فَيَقُولُ: "رَبِّ جَاءَ الإِسْلامُ وَالصِّبْيَانُ يَحْذِفُونِي بِالبَعْر"، وأمَّا الهَرِمُ فَيَقُولُ: "رَبِّي لَقَدَ جَاءَ الإِسْلامُ وَمَا أعْقِلُ شَيْئًا"، وأمَّا الَّذِي مَاتَ فِي الفَتْرَةِ فَيَقُولُ: "رَبِّ مَا أتَانِي لَكَ رَسُولٌ"، فيَأخُذُ مَوَاثِيقَهُمْ ليُطِيعنَّهُ، فَيُرْسِلُ إِلَيهِمْ أَنِ ادخُلُوا النَّارَ، قَالَ: "فوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ دَخَلُوهَا لَكَانَتَ عَلَيْهِمْ بَرْدًا وسَلامًا"(57).
وكذلك بما رواه أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنَّ رَجُلَينِ دَخَلا النَّارَ واشْتَدَّ صِيَاحُهُمَا فَقَالَ الرَّبُّ عَزَّ وجَلَّ: "أَخْرِجُوهُمَا" فَقَالَ: "لأَيِّ شَيْءٍ اشْتَدَّ صِيَاحُكُمَا" فَقَالا: "فَعَلْنَا ذَلِكَ لِتَرْحَمَنَا" فَقَالَ: "رَحْمَتِي لَكُمَا أَنْ تَنْطَلِقَا فَتُلْقِيَا أنْفُسَكُمَا حَيْثُ كُنْتُمَا مِن النَّارِ فَيَنْطَلِقَانِ فَيُلْقِي أَحَدُهُمَا نَفْسَهُ فَيَجْعَلُهَا عَلَيهِ بَرْدًا وسَلامًا وَيَقُومُ الآخَرُ فَلا يُلْقِي نَفْسَهُ، فَيَقُولُ لَهُ الرَّبُ عَزَّ وَجَلَّ: "مَا مَنَعَكَ أَنْ تُلْقِيَ نَفْسَكَ كَمَا أَلْقَى صَاحِبُكَ فَيَقُولُ: "يَا رَبِّ إِنِّي لأَرْجُو أنْ لا تُعِيدَنِي فِيهَا بَعْدَ مَا أخْرَجْتَنِي فَيَقُولُ لَهُ الرَّبُّ لَكَ رَجَاؤُكَ فَيَدْخُلانِ جَمِيعًا الجَنَّةَ بِرَحْمَةِ اللهِ"(58). قال أبو عيسى الترمذي: إسناد هذا الحديث ضعيف.
فدخول الجنة من موجب رحمته والنار من غضبه وسخطه، ورحمته سبحانه وتعالى تغلب غضبه وتسبقه كما جاء في حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لـمَّا قَضَى اللهُ الخَلْقَ كَتَبَ فِي كِتَابِهِ عَلَى نَفْسِهِ فَهُوَ مَوْضُوعٌ عِنْدَهُ إنَّ رَحْمَتِي تَغْلِبُ غَضَبِي"(59). فإذا قدِّر عذاب لا آخر له لم يكن هناك رحمة البتة.
وكذلك فإن النعيم من موجب أسمائه التي هي من لوازم ذاته، فيجب دوامها بدوام معاني أسمائه وصفاته، والعذاب من مخلوقاته والمخلوق قد يكون له انتهاء، لاسيما مخلوق خُلِق لحكمة تتعلق بغيره.
- والجواب بأن هذا الرجل الذي وصَّى بحرقه مؤمن بالله، عالم بأن الله يُعذِّب مَن عصاه، وقد أمر بتحريقه لِـمَا وَقَعَ له من خوف وخشية، ففي قلبه خير وإن لم يعمل خيرًا قط، ولذلك الخير أدركته رحمة الله.
وأما الأربعة الذين ذكرهم في الحديث الثاني فالثلاثة الأولون ليسوا بمشركين فإنهم كانوا في دار الدنيا غير مكلفين فلم يتحقق منهم أنهم كانوا مشركين، فهم مستحقون للرحمة بخلاف الكفار المعاندين، أم أن الرحمة عندهم لا تتحقق إلا بشمولها للكفار المعاندين الطاغين، وأما الرابع الذي مات في الفترة ولم تبلغه الدعوة، فالتحقيق عند أهل السنة أن مَن لم تبلغه الدعوة لا يُعَذَّب ويدخل الجنة؛ لقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُوَلا} [الإسراء: 15](60)، فهو مستحق للرحمة أيضًا.
والمعنى في الحديث الثالث أنهما لـمَّا فرَّطَا في جنب الله وقصَّرَا في العاجلة في امتثال أمره أُمِرَا هنالك بالامتثال في إلقاء أنفسهما في النار؛ إيذانا بأن الرحمة إنما هي مترتبة على امتثال أمر الله عز وجل، فالحديث في خروج العصاة من الموحدين، ولا يدخل الكفار في المراد من الحديث بدلالة قوله تعالى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام: 28](61)، فإنهم لو ردوا إلى الدنيا بمتعها وشهواتها وأهوائها لعادوا لما نهوا عنه من التكذيب بالآيات، والسخرية من المؤمنين، فهم كاذبون في كل ما يدعون، فالآية الكريمة تصور ما طُبِع عليه هؤلاء الجاحدون من فجور وعناد وافتراء؛ لأنهم حتى لو أجيبوا إلى طلبهم على سبيل الفرض والتقدير لما تخلوا عن كفرهم ومحاربتهم للأنبياء وللمصلحين وفعل القبائح التي رأسها الشرك، فهم كاذبون متصفون بهذه الصفة لا ينفكون عنها بحال من الأحوال، ولهذا لا ينفعهم مشاهدة ما شاهدوه(62)، وكذلك قال الله تعالى: {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلا} [الإسراء: 72] فأخبر الله أن ضلالهم عن الهدى دائم لا يزول مع معاينتهم الحقائق التي أخبرت بها الرسل، وإذا كان العمى والضلال لا يفارقهم فإن موجبه وأثره ومقتضاه لا يفارقهم، وأيضا قال الله تعالى: {لَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال: 23] وهذا يدلك على أنه ليس فيهم خير يقتضي الرحمة، ولو كان فيهم خير لما ضيع عليهم أثره، ويدل على أنه لا خير فيهم هنالك أيضًا قوله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه يوم القيامة: "ارْجِعُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ فَأخْرِجُوهُ، فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا، ثُمَّ يَقُولُونَ: رَبَّنَا لَمْ نَذَرْ فِيهَا خَيْرًا"(63)، فلو كان عند هؤلاء أدنى مثقال ذرة من خير لخرجوا منها مع الخارجين(64).
- ولا ظلم في تعذيب الكافر وبقاءه دائما في النار؛ لأن الكافر كان عازما على الكفر ما دام حيًّا، فعُوقِب دائمًا، فهو لم يعاقب بالدائم إلا على دائم، فلم يكن عذابه إلا جزاء وفاقا(65)، فالأحاديث في إخراج أقوام من النار مع بقاءها وعدم فنائها.
- ودعواهم أن رحمة الله وسعت كل شيء وسبقت غضبه، فإذا قدِّر عذاب لا آخر له لم يكن هناك رحمة البتة.
فجوابه أن الله في الدنيا جعل الرحمة والعذاب مختلطتين في معاملة العباد، أما الآخرة فلها أحكام أخرى، فالآخرة داران: دار لا يشوبها شيء من العذاب، وهي الجنة، ودار عذاب لا يشوبها شيء من الرحمة، وهي النار، فقولهم "فإذا قدِّر عذاب لا آخر له لم يكن هناك رحمة البتة" إن أرادوا به نفي الرحمة مطلقا فليس بصحيح؛ لأن هناك كمال الرحمة في الجنة، وإن أرادوا لم يكن في النار رحمة، فلا اعتراض يصح الرد عليه(66).
- وأما دعواهم بأن النعيم من موجب أسمائه التي هي من لوازم ذاته، فيجب دوامها بدوام معاني أسمائه وصفاته، والعذاب من مخلوقاته والمخلوق قد يكون له انتهاء، لاسيما مخلوق خُلِق لحكمة تتعلق بغيره.
فالجواب هو قاله العلامة السبكي: "قلت: ومن أسمائه تعالى "شديد العقاب" و"الجبار" و"القهار" و"المذل" و"المنتقم" فيجب دوامه بدوام ذاته وأسمائه أيضا.
فنقول لهذا الرجل: إن كانت هذه الأسماء والصفات تقتضي دوام ما يقتضيه من الأفعال فيلزم قِدَم العالم، وإن كانت لا تقتضي فلا يلزم دوام الجنة، فأحد الأمرين لازم لكلام هذا الرجل، وكل من الأمرين باطل، فكلام هذا الرجل باطل"(67).
وبعد أن يفرغ الصنعانى من مناقشة ما استدل به ابن تيمية وابن القيم – على ما أوردنا كثيرا منه فيما سبق – يختم كلامه قائلا: ((وإذا عرفت ما ألقينا عليك عرفت أنه لم يتم ما ادعاه ابن تيمية في الآية – يعنى قوله تعالى {إلا ما شاء ربك} - فإنه قول في الآية بلا دليل، ولا قال به من السلف أحد ولا من الخلف، وأنه ليس في يد شيخ الإسلام شىء لا من كتاب ولا من سنة ولا من صحابي كما قررناه، فليس في يديه إلا دعوى بغير برهان))(68).
ومن جهة أخرى فإن القول بفناء النار يقتضى – كما يقول التقى السبكى ((أن إبليس وفرعون وهامان وسائر الكفار يصيرون إلى النعيم المقيم واللذة الدائمة، وهذا ما قال به مسلم ولا نصرانى ولا يهودى ولا مشرك ولا فليسوف، أما المسلمون فيعتقدون دوام الجنة والنار، وأما المشرك فيعتقد عدم البعث، وأما الفليسوف فيعتقد أن النفوس الشريرة فى ألم)).
ثم يؤكد شيخ الإسلام السبكى على حكم قائل المسألة بأننا لا نكفره بعينه، ولا نطلق القول فيه بألسنتنا فقال: ((فهذا القول الذى قاله ما نعرف أحدا قاله، وهو خروج عن الإسلام بمقتضى العلم إجمالا، ولا أكفر أحدا معينا من أهل القبلة بلسانى، ولا بقلبى، ولا بقلمى، إلا أن يعتقد مشاققة الرسول صلى الله عليه وسلم، فهذا ضابط التكفير عندى))(69).

والله تعالى أعلم.





التوقيع






    رد مع اقتباس