عرض مشاركة واحدة
قديم 2011-10-22, 14:08 رقم المشاركة : 1
رشيد زايزون
مشرف منتدى التعليم العالي ومنتدى التفتيش التربوي
 
الصورة الرمزية رشيد زايزون

 

إحصائية العضو









رشيد زايزون غير متواجد حالياً


وسام المشارك

وسام المشاركة في دورة HTML

وسام المشاركة

وسام الرتبة الأولى في مسابقة طاكسي المنتدى لشهر يو

افتراضي الترجمة ـ سلاح القوة المفقود


الترجمة ـ سلاح القوة المفقود
بقلم :د.لطيفة النجا
ر



تمثل الترجمة نشاطاً علمياً أساسياً في نهضة الأمم، وفتح الأبواب المغلقة أمامها للدخول في عالم الجديد في العلوم والتكنولوجيا والآداب والفنون، وهي الوسيلة الفعالة التي تبقي الدول في الصفوف الأمامية في مجال التقدم والتطور بما تتيحه من تواصل علمي حضاري مع الآخر الذي استطاع أن يحقق نجاحات متميزة، وينجز قفزات كثيرة في مجالات المعرفة المختلفة.


وإذا كانت الترجمة منذ ميلاد الأمم ونشأة الدول نشاطاً مهما يحرص عليه المخلصون من العلماء والأدباء والمثقفين، فإنها في عصرنا الحالي تتعاظم في الأهمية، ويزداد دورها خطورة وحساسية؛ لما نراه من تقدم تكنولوجي، وانفجار معرفي هائل، وتوالد متسارع في العلوم والمعارف لا ينتظر المتقاعسين والمتواكلين. ويبدو واضحا أنّ أهمية الترجمة تزداد أكثر في الدول المستوردة للمعرفة العلمية، لأنها ستبقى تابعة للدول التي تصدر لها تلك المعرفة، ولن تستطيع أن تنجز مشروعها العلمي الخاص إلا إذا نجحت في الاستقلال التدريجي عن مصادر الإنتاج المعرفي في العالم الآخر.


وإذا تأملنا التاريخ فإننا سنرى شواهد كثيرة تدلل على ما نقول؛ ففي العصور الذهبية للحضارة العربية الإسلامية كانت الترجمة من أكثر الأنشطة العلمية وضوحا وتقديراً، فقد استطاع المسلمون - خاصة في العصر العباسي- أن ينقلوا ما لدى الحضارات الأخرى السابقة من علوم ومعارف في مجالات كثيرة متنوعة، وقد شهدت الترجمة في عهد الخليفة المأمون نشاطا مكثفا عزّ له نظير، فقد ترجمت في زمنه أمهات الكتب من مثل كتب أفلاطون وأرسطو وسقراط وجالينوس وإقليدس وبطليموس.


وقد قرأنا كيف أنّ المأمون كان يكافئ المترجم بمنحه وزن كتابه ذهبا. وهذا يشير إلى أنّ حركة الترجمة في ذلك العهد البعيد كانت منظمة مدعومة من قبل السلطة، ولولا هذا الدعم والتقدير لما آتت أكلها، فقد كان العلماء يعيشون آنذاك زمنهم الذهبي حقا.


ومن الطبيعي ألا يقتصر نشاط العلماء على الترجمة وحدها، فالترجمة تمثل حافزا قويا للمترجمين أن يتفاعلوا مع ما يترجمونه، وأن يتشربوه، بحيث يصبح جزءا من تفكيرهم وهمهم وحياتهم، فيدفعهم إلى الإضافة والتطوير والإسهام في دفع عجلة العلم إلى الأمام بجهد خالص ينسب إليهم ويسمى باسمهم، وهذا ما جعل الحضارة العربية الإسلامية مصدر إشعاع علمي حضاري للأمم الأخرى على مدى سنوات طويلة.


وقد عرف العلماء الأوربيون خطر الترجمة ودورها في تمكينهم من منافسة الآخر (العربي) الذي كان آنذاك مصدّرا للمعرفة منتجا لها. فعلى الرغم من أنّ كثيرا من أبناء الأوربيين كانوا يسافرون إلى الأندلس لطلب العلم، ويدرسون العلوم باللغة العربية، فإن ذلك لم يكن كافيا في نظر علمائهم، وقد كتب بعض رهبانهم رسائل عبّر فيها عن استيائه الشديد لرؤية أبناء أوروبا يتلذذون الكلام باللغة الأجنبية (العربية)، ويحفظون العلوم بكلمات ليست من لغتهم الأم.


ولذلك انكب الأوروبيون في القرن الثاني عشر على ترجمة الكتب العربية، فأنشئت مراكز للترجمة في طليطلة وصقلية، وانتشرت المدارس والجامعات التي تعتمد في تدريسها على الكتب العلمية المترجمة من العربية، مثل مدارس مونبلييه ونابولي وبولونيا وبادو وغيرها. وفي تلك الفترة ترجمت كتب الخوارزمي وابن سينا وابن النفيس وابن الهيثم والكندي والبيروني وغيرهم من العلماء العرب.


ومن المضحك حقا أنّ كثيرين من السذّج في هذا الزمان، حين يعللون تمسكهم باللغة الإنجليزية لتكون لغة التعليم، يذهبون إلى أنّ اللغة العربية كانت لغة العلم في زمن مضى، وأن الأوربيين تعلموا العلوم بها، ثم استطاعوا أن يحققوا لأنفسهم نهضة علمية بارزة جعلتهم يتقدمون بعد تخلف، وأن هذا ما يحدث الآن في زمننا، مع اختلاف في الأدوار.


ولكنّ التاريخ والوثائق والرسائل تكذب ما يذهبون إليه، فأوروبا لم تكتف بأن يتعلم أبناؤها العلوم بالعربية، بل كان ذلك مما يقضّ مضجعها، ويثير هلعها، كما صرّح بذلك رهبانهم وعلماؤهم، ولذلك انكبوا على الترجمة رغبة منهم في التخلص من التبعية للآخر والتحرر من الحاجة إليه، وإذكاء التنافس معه، ومحاولة التقدم عليه.


وإذا نحن تأملنا واقع الترجمة في عالمنا العربي في الوقت الراهن فإننا سنجد، دون كبير عناء، أنّ هذه الحركة تعاني من الضعف وتبعثر الجهود وقلة الإمكانيات وتواضع الدعم الرسمي، مع قلة إيمان بدورها في الإسهام بالنهضة، خاصة في مناخ عام يتجه إلى نبذ التعريب في التعليم الجامعي والمدرسي، وهذا يشير إلى كثير من سوء التقدير والتكاسل عن بذل الجهود الحقيقية، واستمراء الاعتماد على الآخر في إنجاز ما يفترض أن ننجزه بأنفسنا لأنفسنا وأبنائنا.


ويكفي هنا أن نشير إلى تقرير التنمية الإنسانية العربي لعام 2000 الذي يقرر أنّ إجمالي ما ترجم من كتب منذ إنشاء دار الحكمة في عهد المأمون حتى الآن يقدر بعشرة آلاف كتاب، وهذا يوازي ما تترجمه إسبانيا وحدها في عام واحد. وإذا أردنا أن نضرب مثلا آخر على دولة استطاعت أن تضع نفسها في الصف الأول في مجال التقدم العلمي والتكنولوجي وفي مجال إنتاج المعرفة وتصدير العلوم، بعد أن كانت مهددة يوما بالفناء الكامل فإن اليابان تقدم مثالا ناصعا على ذلك؛ إذ تترجم اليابان ما يزيد على ثلاثين مليون صفحة سنويا، أي ما يعادل مئة ألف كتاب، وهذا يعادل ترجمة مليون كتاب في كل عقد من السنين.


ولنا أن نتساءل: لماذا تكلف اليابان أو إسبانيا أو فرنسا أو غيرها من الدول المتقدمة نفسها عناء الترجمة عن الآخر إذا كانت تستطيع أن تقرأ ما ينجزه هذا الآخر بلغته من دون أن يشكل ذلك مشكلة كبيرة أو صعوبة تستحق الذكر؟ لماذا تحرص على أن تضع الكتاب بين يدي أبنائها بلغتها رغم ما قد يكلفه ذلك من جهود وأموال؟


والسؤال الأهم: هل كانت اليابان وغيرها ستحقق ما حققته من تقدم في العلوم وصناعة المعرفة لو اكتفت بأن تأخذ إنجاز الآخر بلغته هو من دون أن تنقله إلى لغتها؟ على الرغم من أننا لا نقول إن الترجمة وحدها كفيلة بذلك، فهناك شروط كثيرة متضافرة يحتاجها أي تقدم علمي ومعرفي لكي يبزغ ويرى النور في أي بقعة من بقاع الأرض، إلا أنّ الترجمة مؤشر مهم على أنّ الدول تتحمل مسؤولية نفسها بنفسها، ولا تقبل أن تكون تابعا للآخر، وهي مقياس دقيق لنبذ التقاعس والتكاسل والتواني في بذل الجهود الحقيقية المضنية للإسهام في تحقيق التقدم والاستقلال المعرفي. ويكفي أن نتأمل حركة التاريخ التي ذكرنا طرفا منها في هذا المقال لنتأكد من ذلك.






التوقيع




    رد مع اقتباس