عرض مشاركة واحدة
قديم 2011-09-03, 02:03 رقم المشاركة : 1
نعيم نصر
أستـــــاذ(ة) جديد
إحصائية العضو








نعيم نصر غير متواجد حالياً


افتراضي المسرح الارتجالي


قراءة في المسرح الارتجالي
بقلم / نعيم نصر

ما تيسر عن المسرح الارتجالي :

شق المسرح التجريبي طريقه بجدارة في أوروبا مع بدايات القرن التاسع عشر ، ليطوي بذلك صفحة طويلة استمرت عصور وعصور من المسرح التقليدي الذي كانت للمثل النجم فيه السطوة الكبرى حيث لم يكن هناك احتياج للمخرج المحترف معلم التمثيل بل للمثل المخرج الذي كان يدس انفه في كل شئ ابتداء من النص ومرورا بالديكور والألوان ومخططات الحركة والملابس وغيرها من أدوات المسرج جاعلا إياها على مقاسه هو وذلك كي يجعل من نفسه بؤرة الاهتمام والإعجاب .

إن تطور المسرح وتحديثه كان في اشد الحاجة لتلك العبقريات التي تمتلك ملكة الإبداع الحقيقي الشامل في التفكير المبني على أسس فكرية فلسفية جمالية واضحة ، حيث يكون لهم وجهة نظر عميقة بعمق إبداعهم وليضعوا نصب أعينهم أهدافا ابعد من مجرد عرض مسرحي والسلام ، وهذا الأمر يقود بالضرورة إلى الصيرورة الجديدة وانتشارها وتبنيها من قبل كثير من المسرحيين لتأخذ مكانة لها في مركز البحث العلمي المنهجي والذي أصبح سمة من سمات أوروبا وتحديدا مع بدايات النصف الثاني من القرن التاسع عشر ، حيث أصبح المسرح أشبه بالمعمل الذي يبحث فيه مخرجون عظام امثال (ستانسلافسكي وبريخت) عن حلول نظرية وعلمية وعملية لتلك الإشكاليات الطبيعية التي تبرز حتما مع التناول العلمي والمنهجي كما أسلفنا في شتى العلوم الإنسانية ، وذلك انسجاما مع روح البحث العلمي الآخذة في الازدهار في ذلك الوقت وتحت تأثير الآلة وضجيج أدواتها الصناعية التي كانت إيذانا بتغيير العالم نحو حضارة جديدة وطفرة صناعية قلبت معظم الموازين إن لم نقل جميعها .

ولقد طالت يد التغيير كل مفردات المسرح دون استثناء بما فيها بطبيعة الحال إعداد الممثل والعمل على تهيئته نفسيا وفكريا وحتى جسديا ليكون قادرا على الاستجابة لهذا التيار الجديد وليعد نفسه للعمل مع جماعة هي بمجملها مركز الاهتمام وبؤرة الإبداع وليس كما كان الحال عليه من سطوة للمثل الفرد كما أسلفنا. وهذا بالضرورة يقود الى إجراء مزيد ومزيد من التمارين والاختبارات وتطويرها لتشمل كل أعضاء الفريق المسرحي ومفردات العمل المسرحي ، وبالضرورة أيضا يقودنا هذا إلى اعتماد أسلوب الارتجال في وضع هذه التمارين والتي يكون في الكثير منها مشاهد نصية للعمل على التدريب عليها سواء كانت مكتوبة سلفا او استحدثت في ورشة العمل المسرحي وهذا ما نطلق عليه جزء من أجزاء عديدة لفن الارتجال .

إذا نستطيع القول إن فن الارتجال هو نتيجة مخاض طويل في المختبرات والمعامل المسرحية ليولد وبقوة من رحم المسرح التجريبي.

ولم يقتصر الارتجال على وضع بعض المشاهد النصية للتمرن عليها فقط، بل تعداها إلى كل مقومات وعناصر العمل المسرحي ، ففي الارتجال الباب مفتوح على مصراعيه لإجراء التجارب الواحدة تلو الأخرى، الباب مفتوح على مصراعيه لتجريب كل شئ النص الحركة الموسيقى الملابس الديكور كل شئ ليخرج الفريق بالنهاية بعمل مسرحي من ألفه ليائه في بعض الأحيان ارتجال بارتجال.

وفي تقديري أن الارتجال هو فن غريزي في الإنسان موجود معه منذ الطفولة المبكرة ولا أدل على ذلك من طريقة لعب الأطفال المبنية على قصة ما يضعون خيوطها في الحال ويوزعون الأدوار وتتغير الأدوات بين أيديهم حسب الطلب والحاجة وليبدؤوا بتمثيل قصة عرفوا بعض معالمها ولكنهم لم يخططوا لتفاصيلها سلفا.

** تزداد الحاجة باضطراد إلى المسرح الارتجالي لدى كافة الفرق المسرحية الجادة التي تتبنى الأعمال الملتزمة والتي تطرح من خلالها المشكلات الاجتماعية وتسلط الضوء عليها وذلك لاعتبارين مهمين :

1 - ندرة الكتاب المسرحيين على مستوى العالم وبالتالي النقص الشديد في النصوص المسرحية

2 - إن اختيار المواضيع المجتمعية المختلفة كإشكاليات الصحة والبيئة وحقوق الطفل والمرأة والمواضيع السياسية الشائكة والإشكاليات الطارئة والملحة، يدفع باتجاه اختيار الارتجال لوضع القصة المسرحية حيث يتعذر منطقيا وجودها جاهزة في المكتبات وخاصة الإشكاليات الطارئة والحديثة والتي لم يسبق للكتاب المعروفين طرحها وإذا وجدت في بعض الأحيان فإنها لا تلبي نهم المسرحيين وتطلعاتهم إلى الدراسة الميدانية المستوفاة.

** إن ما يعرف اليوم بالمسرح التربوي يعتمد اعتمادا كبيرا على أسلوب الارتجال نظرا للأسباب آنفة الذكر وتدعيما لمبدأ التمحيص والانتقائية الحذرة والجرأة في طرح الإشكاليات، كما هو الحال وتحديدا في الأعمال المسرحية الموجهة لفئة الطلاب والشباب والأطفال

** وبالتالي فان للمسرح التربوي والذي يتبنى أسلوب الارتجال علاقة عضوية وهامة في الدعم النفسي والاجتماعي للمجتمع المحلي ، حيث لا يقتصر العمل المسرحي على تقديم العرض فحسب، بل يتخطاه إلى مشاركة المتلقين النقاش والاشتراك مع طاقم العمل في استنتاج العبر والأهداف مما يرسخ في الأذهان الأفكار التنويرية التي يطرحها العمل من خلال ورشة عمل بعد العرض باشتراك الجمهور، ولقد تطور هذا النمط إلى ما يعرف الآن بمسرح المضطهدين والذي ابتدعه الفنان البرازيلي( اوغوستو بوال) في منتصف القرن العشرين، والذي يأخذ فيه الجمهور بعد العرض الأول ادوار بعض الممثلين ليطرحوا حلولا للإشكاليات التي طرحا العمل المسرحي (راجع مؤلفات الكاتب).

** وعلى صعيد التأثير النفسي هناك ما يعرف الآن ب (Drama- Therapy) أي العلاج بواسطة الدراما حيث يعبر الاطفال عن معاناتهم النفسية من خلال ارتجالات مدروسة إذ تجد هذه المكنونات النفسية طريقها للتفريغ النفسي ويتم التعامل معها من قبل المدرب ليخرج بالنهاية مع الطفل بتصور من شانه التخفيف من المعاناة وفي أحيان كثيرة إيجاد حلول لها.

** من خلال تجربتي الخاصة وتجربة الزملاء المسرحيون في العمل مع الأطفال والطلاب من خلال مئات العروض المدرسية لمسنا تفاعل منقطع النظير من قبل الاطفال مع هذا النوع من المسرح الارتجالي التربوي حيث الميول الفطرية لدى الاطفال للتقمص والتمثيل وطرح الإشكاليات.

** وبناء عليه فان للمدرسة دور هام في تعزيز هذا النوع من المسرح والفنون المسرحية الاخرى لدى الطلاب والأطفال وعلى الجهات المختصة تقع مسؤولية كبرى في محاولة إدخال المسرح التربوي في كافة مراحل التعليم نظرا للأهمية العظمى للدور الريادي الذي يضطلع فيه المسرح بشكل عام والتربوي الارتجالي على وجه الخصوص.

ان مستلزمات المسرح الارتجالي وكما هو الحال في المسرح الأم ( المسرح التجريبي) لا تعتمد على البهرجة والبذخ وكثرة الديكورات والأدوات الأخرى غالية الإثمان بل على العكس تماما فهو يعتمد على البساطة وعلى مبدأ ما قل ودل في كل شئ، وهذا يعني بأنه غير مكلف وباستطاعة المدارس والجامعات والمجتمع المحلي توفير هذه المستلزمات مما يتوفر لديها من إمكانيات وتوظيفها في خدمة العمل المسرحي، فلا عجب إذا في تسميته المسرح الفقير، فقير بإمكانياته ، لكنه غني جدا بمضمونه وأهدافه.

** من أهم أسباب الصعوبات التي يلقاها المسرح الملتزم الجاد (ومن ضمنه بطبيعة الحال المسرح التجريبي ) الأم الشرعية للارتجال ، (وخاصة في الوطن العربي) :

1- تراجع المسرح بشكل عام أمام التلفزيون والفيديو وأجهزة التسلية الكثيرة بمختلف أنواعها.

2- المسرح الجاد اليوم شأنه شأن الكتاب في عدم اكتراث الجمهور، لأنه وبجدارة يعتبر كالكتاب وسيلة هامة للثقافة والتنوير ، فالشعوب العربية بطبيعتها غير قارئة ولا تهتم بأمور الثقافة بقدر اهتمامها بالبذخ في جزء من الوطن العربي الكبير وبلقمة العيش في أجزاء أخرى.

3- ولأنه مسرح جاد يطرح القضايا السياسية والمجتمعية ويحفز ذهنية المتلقي للتفكير العلمي ، فانه غير مرحب به من قبل الحكومات البوليسية القمعية والتي لا تتوانى حتى في إلحاق الأذى بأعلامه ومشاهيره في بعض الأحيان. (على سبيل المثال لا الحصر ما عاناه مبتكر مسرح المضطهدين - اوغوستو بوال - من جور وملاحقة الى ان وصل به الحال لنفيه من البرازيل لأكثر من عقدين )

4- صعوبة الحصول على تمويل او دعم لوجستي إلا من قبل بعض المؤسسات الإنسانية والفنية.

5- قلة المسارح اللائقة (وقل حتى انعدامها نهائيا كما هو الحال في قطاع غزة) اللهم إلا بعض الصالات الصغيرة هنا أو هناك حيث ربما تناسب أي شئ آخر ما عدا المسرح.

6- عدم القدرة بسبب الشح المالي على الظهور في وسائل الإعلام المختلفة وخاصة التلفزيون، وهذا يعني البقاء في الظل كما يقولون.

7- وما زلنا في قطاع غزة كما كثير من الأمكنة في العالم ، حيث تؤدي هذه العوامل بمجملها إلى تفكك العديد من الفرق المسرحية وذهاب أعضائها كل إلى شانه بسبب عدم القدرة على الاستمرار والإنتاج.

** ليس هناك وصفة سحرية تبعث الروح في المسرح وتنعشه ، فكما أسلفنا فانه أي المسرح بشكل عام والتجريبي الجاد بشكل خاص هو رافد من روافد الثقافة والتنوير والتي تحتاج إلى مجتمع مدني يدفع باتجاه ثورة ثقافية شاملة، ربما يكون على يدها إخراجنا مما نحن فيه من تخلف وهوان.

** أخيرا وجب التنويه هنا أن المسرح الارتجالي ليس من السهولة كما قد يتبادر لأذهان البعض، بل انه يحتاج إلى خبراء في هذا المجال حيث لا تترك الأمور على عشوائيتها ولا تفتح الأبواب على الغارب لكل من هب ودب وبمسمياتهم المختلفة وادعاء البعض منهم بأنه يتبنى المسرح التجريبي والارتجالي على وجه الخصوص ، فعملية الارتجال كما أسلفنا لا تقتصر على النصوص بل تتخطاها إلى كل مفردات المسرح وهي تمر في عمليات مخاض عسيرة وتجريب وتجريب وبناء حسب قوانين وخطوات مدروسة من أهمها:

1- تآلف الفريق العامل ومدى مهنيته وتجاربه

2- اختيار المواضيع بدقة وحذر وتحديد الفئة العمرية المستهدفة

3- الاتفاق على الأهداف من العمل المسرحي والرسالة التي سيوصلها للمتلقي

4- الدراسة الميدانية والنظرية لحيثيات المشكل المراد الشغل عليه

5- الاستعانة بالخبراء الذين يمتون بصلة كبيرة إلى موضوع العمل المسرحي واستشارتهم واخذ النصائح منهم

6- إجراء ورشة عمل متواصلة لفهم ودراسة المواد المتوفرة وترتيبها وتجزئتها لعدة عناصر وحيثيات ووضع جدول مناسب للعمل لكل عنصر على حدة.

7- ترجمة هذه الأفكار والعناصر إلى اقتراحات وعمل الارتجال الأولي لتتضح لاحقا الملامح الأساسية للعمل، وبالتالي صنع بذور قصة وإيجاد ما يناسبها من الشخصيات ولاحقا ما يتناسب مع أجواء العمل من موسيقى وديكور وملابس وخلافه

8- وبطبيعة الحال تخضع كل فكرة للتمحيص والمناقشة ويتم انتقاء ما هو صالح أكثر من غيره حسب مدى خدمته لفكرة العمل الأساسية.



مع ارق تحياتي



نعيم نصر





    رد مع اقتباس