الموضوع: طرب الملحون
عرض مشاركة واحدة
قديم 2011-06-26, 21:10 رقم المشاركة : 2
الشريف السلاوي
مدير الإشراف
 
الصورة الرمزية الشريف السلاوي

 

إحصائية العضو









الشريف السلاوي غير متواجد حالياً


وسام المشاركة السيرة 1438ه

وسام المشاركة في مسابقة القران الكريم

مشارك في مسابقة صور وألغاز

وسام المشاركةفي المسابقة الرمضانية الكبرى 2015

وسام مشارك

مسابقة المبشرون بالجنة مشارك

مشارك(ة)

مشارك(ة)

وسام المشاركة في مسابقة السيرة النبوية العطرة

وسام الشخصية البرونزية

c3 رد: طرب الملحون


- تابع -


نموذج قصيدة "التوبة" لابن سليمان: أول البيت: مافيها مايبقى

لمطيلعات: غير نعم الباقي

ياغفيل مالك شاقي

لاين تاتزيد احماقي

وين من غرتهم بالمال والنصر

ما فازوا غير بلقبر

ما نفعهم فيها تدبير

آسعادت من دار الخير

نال سلوان

وعليه ما صعاب هان

بقية البيت: وانت رميتني لهلاكي في ذا الاسواق

تلحقها مخليا

اولا وحدت اعمار

الحربة: ياراسي لا تشقى

التعب لابد من لفراق

لا تامن فالدنيا

ابناسها اغرارا

ب – مصطلحات الإنشاد

أولا - المقدمات إن الملحون بنية إنشادية بامتياز، ولذلك تعددت الألفاظ والمصطلحات الدالة على هذا الوضع الإنشادي، ومنه المقدمات أو مطالع القصيدة. فالعادة كما يقول الجراري (ص30) أن يبدأ المنشد البارع بإحدى المقدمات التالية:

السرابة: قطعة قصيرة تؤدى على غير ما تؤدى عليه القصيدة، وهي أربعة أنواع:

الكباحي: حيث يصاحب السرابة ضرب قوي متواصل بالكف. وأغلبها اليوم من هذا النوع

المزلوك: وتنشد رقيقة حادة

الحضاري:تنشد في استرسال سريع

السماوي:يستهل إنشادها ببطء كالموال ثم يأخذ صوت المنشد في العلو والارتفاع وكأنه يصعد بها إلى السماء

الموال: والغالب أنه يكون في لغة معربة: ومن عـجـب أني أحن إليهم وأسأل شوقا عنهم وهم معي

وتشتلقهم عيني وهم في سوادها ويطلبهم قلبي وهم بين أضلعي

وقد يكون الموال في لغة ملحونة:

تانـحـبـك ونـهـواك وفي مسبتك يكرهوني

ما راحتي حتى نلقاك وعليك يتحلوا عيوني

التمويلة: لكل قصيدة تمويلة تكون على قالبها وميزانها. ومن نماذجها نقدم مثالا من قصيدة "التوبة" لابن سليمان:

آمالي يامالي آسيدي ياسيدي

للا مولاتي للا

آمالي مصبرني

اغرايبي لاموني

ثانيا – تنوع المصطلحات

ويعود هذا الأمر إلى اختلاف التسميات بحسب المناطق. وكمثال على ذلك:

المطيلعات: وهي الكراسي عند أهل مراكش. ويقصد بها كما يقول أحمد سهوم (ص55)، الأبيات الخفيفة التي تتخلل جل القصائد وتكون عادة في غير وزنها وفي بداية المقطع. ولا يقصد بها البيت الواحد بل تصل إلى ثلاثة أو إلى خمسة. وهي أصغر من أبيات القصيدة وأخف.

لعروبيات: وتحل محل المطيلعات في بعض الأوزان. ولا تستعمل فقط كمطيلعات خفيفة للتنويع وإنما استعملت أيضا كأوزان لمقطوعات قد تطول إلى أن تصل مائة بيت. وبانتهاء لعروبي بالردما أي الشطر المفرد، يعود الشاعر إلى وزن القصيدة الأصلي. وهناك عروبيات تدوولت وحدها وليس داخل قصائد، كمذكرات للتراسل أو تسجيل أحداث ووقائع أو في إطار الغزل مثل رباعيات نساء فاس (العروبيات) التي جمعها محمد الفاسي.

السارحة: وهي الدريدكة في اصطلاح أهل مراكش. ويقصد بها إما الخاتمة التي توضع لقصايد مكسور الجناح والسوسي، ولابد أن تكون من أوزان لمبيت، أو هي صلة من الصلات التي تربط مكسور الجناح والسوسي بالمدرسة العمودية الأم وهي الرواح واللازمة والسارحة. وقد تطورت الأمور فيما بعد فجاء قدور العلمي بمكسور الجناح بدون سارحة وسميت قصيدته مقرزطة، وجاء بعده بنسليمان بمكسور الجناح بلا رواح ولا لازمة ولا سارحة، سهوم (ص59).

الحربة: وهي اللازمة

الردمة: وهي الشطر الذي يختم به ويكون كالفاصل بين السرابة والقصيدة.

الناعورة: وهي السويرحة في اصطلاح أهل مراكش. ويقصد أبيات قصيرة نادرا ما تكون أكثر من ثلاثة أبيات، الجراري (ص148). أو هي قطعة شعرية تجعل في كثير من بحور لمبيت بين الأقسام. وتكون أبياتها مركبة غالبا من شطرين وقد تكون مجنحة.

ج – بناء القصيدة اعتنى عباس الجراري بهذه المسألة في كتابه القصيدة. ويهمنا نحن في هذا السياق أن نستعيد هذا التقسيم من أجل توضيح بعض المصطلحات المعرفة سابقا، وأيضا من أجل تبيان بعض الفروق في تحديد الاصطلاحات بين الباحثين. يضع الجراري للقصيدة بناء واضحا هو التالي: مقدمة القصيدة: السرابة، وهي قطعة قصيرة تكون في نفس البحر يمهد بها لضبط إيقاع الوزن الذي ينظم عليه. أجزاؤها: نموذج سرابة محمد بن علي تمهيدا ل"دامي لجدار":

الدخول:

أقلبي كن عن مصابك صبار الصبر مفتاح الكنوز والذخيرا

محبوبك لا تعاتبو ولو جا وارتجا وصلو بعد السوايع العسيرا

لو طال لهجر لاغنى من لمزار ياللي ما جبت لهل لغرام سيرا

انشد جمالي واقفا انحيرا

الناعورة: أبيات قصيرة نادرا ما تكون أكثر من ثلاثة:

يا عمهوج لجدار ما هم عمهوج الراتع لقفارا

ياثنيار الصغار يابدرا تجلى في كمال دارا

يا كوكب السحار يا من حبو في ساكني توارا

بقية الأبيات:

يا سالب مهجتي ولا جاب خبار لا تشوق بصري في ذاتك لنيرا

لامان طلبت من الخال والشفار جرحوا ذاتي جرح الايلوا جبيرا

ازديت الكي عن اجراحي بالنار آش يطفي ناري واغصايصي كثيرا

واهوايا ما ستار لهوى طالب يفدي الثار

هذا عشقي ولا مجدت ما نختار عشقي فاسميتي تفتار

اللا وقت اتجور على القليب نارو يشتد القلب امن نارو

الردمة:

توجدني كا نقول ياستار

د – أجزاء القصيدة

يسمي الزجال تقسيم قصايده إلى عدة أقسام ب "لفصالا"، وتنقسم القصيدة عموما إلى:

وليس قسما الدخول: وتفصل بين الأقسام الحربة: وهي مقاطع القصيدة توالي الأقسام: ويتضمن الصلاة على النبي، والدعاء للأشياخ والعلماء والمنشدين وهجو الخصوم ويدعى "الزرب"، وقد يشار إلى تاريخ النظم. القسم الأخير: حيث يعمد بعض الشعراء إلى إنهاء قصائدهم بجزء قد يطول وقد يقصر عوض إنهائها بآخر قسم. الدريدكة:

والطريف أن الإشارة إلى تاريخ النظم كان يتم إما بالتصريح، كما يقول عبد العزيز المغراوي في نهاية قصيدة في المدح والتوسل:

الشريف ورخ هذا القصيد السعيد ليلة عشر والحاد

ستة خمسة عشر والف عام سلمك لله الجود

وقد يتم ذلك بالتلميح باعتماد نظام تشفيري يكون فيه كل حرف موافقا لعدد مثل موافقة الألف لرقم واحد أو الطاء لرقم تسعة... ويكون على المستمع أن يعيد ترتيب نظام التوافق هذا ليحصل على تاريخ النظم كما في آخر قصيدة "لخلوق" للنجار:

تاريخ انظامي ما خفى اثلاثين لمن يقراه

القاف ونصف الرا زد الف تكمل حسباتو للهادي نهديه

فإذا أضفنا إلى ثلاثين قيمة القاف وهي مائة ونصف الراء وهي مائة كذلك إذ الراء بمائتين، وزدنا كل ذلك على ألف يكون تاريخ النظم هو 1230.

معجم لغة الملحون: بلاغة النص وبلاغة التقعيد

يميز محمد الفاسي بين معجم لغة الملحون ومعجم مصطلحات الملحون كما بينا بعضا منها فيما سلف ذكره من الحديث عن العروض والبناء. ويهمنا هنا أن نقدم بعض الخلاصات أهمها أن الوعي البلاغي كان حاضرا بقوة سواء في لغة الملحون نفسها أو في منهجية اختراع ونحت المصطلحات الدالة على المفاهيم وأوضاع بناء القصيدة والتسميات المتعلقة بالمشتغلين بالملحون أو من خلال بناء جسور التبادل والتحويل والتحوير والتصرف إزاء اللغة الفصحى. ويشير محمد الفاسي في هذا السياق إلى أن الحاجة إلى التعبير عن بعض الأفكار -حين لم تكن العامية مسعفة- جعلت الشعراء وخصوصا المثقفون منهم مثل المغراوي من القرن العاشر أو سعيد المنداسي من القرن الحادي عشر، يلتجئون أول الأمر إلى الاقتباس من الفصحى "أفعالا وصفات وظروفا وحروفا وإدخالها في شعرهم حتى تكاد أحيانا تظن أن الشعر بالفصحى"(مقدمة الجزء الثاني من القسم الأول)، مثل قول المنداسي في "ليلى":

لو أعارت لي جناحها الاطيار نطير

أو قوله:

حيران ودمعتي هطيلة نشكي حالي لمن عملني في ذا الحال

لم يقف الأمر عند حد الاقتباس بل تجاوزه إلى التصرف في الفصحى نفسها "ومن أساليب التصرف التي استعملوها –كما يقول الفاسي دائما– جمع بعض الكلمات على صيغ لم ترد لها كجمع قْصيدة على قْصدان، وكاس على كيوس وحاجة على حيجان. ومن ذلك أنهم يأخذون من الصفات أسماء فيقولون للقلب: الخبير والساكن، وللبحر: الزخار والمالي، ولشمس العشي: الذهبية، وللغزال: الحذَّار أي الذي يحذر الصياد ويسمونه الجفَّال والشرود. كل ذلك على سبيل الكناية أو المجاز بأنواعه. ويكثر لفظ الغزال في شعرهم لتشبيه المحبوبة في جمالها ورشاقتها (أكثر من عشرين كلمة لتسمية الغزال). وعلى سبيل التمثيل لأنماط التوسع البلاغي للمعجم الشائع عندهم نذكر: أسماء الغزال: الجفال، الحذَّار، الدامي، الدروج، الربراب، الريم، الزهزام، الزهزوم، المها، الصياح، العراض، العمهوج، القرهوب، الشادي، شارد العفا، الشرشة، الشرود، الشريد، الوسنان، اليطلول، اليعفور... أسماء العيون: ابصار، اثماد، احداق، ارماق، الحاظ، اعيان، اغلاس، اغناج، نمود، رموق، روامق، مقلات، نجال، نجلات، نواجل، نيام... ومن ذلك أنهم يشتقون من الأسماء صفات فيقولون رجيل من رَجُل ويعنون به صابر وشجاع. ويقولون رْجول لمن هو كامل الرجولة، ومن البِشْر مبشور أي فرح مبتهج. ويستعملون الجمع بمعنى المفرد، وهذا من طرائق اللغة العامية المغربية مثل جنان وقبور ورياض آفات ل: جنة وقبر وروض وآفة. ويستعملون المفرد بمعنى الجمع في صيغة فَعول التي تلتبس عند التسكين العامي بفُعول بضمها، فيقولون حْسود ويقصدون الحُساد وجْحود بمعنى الجاحدين... وأحيانا يستعملون بعض الصيغ مثل تَفْعال في المصادر فيقولون التحقاق بمعنى التحقق، والتجفال بمعنى التيه و الصيد، والتغراد بمعنى التغريد والتفراد بمعنى الانفراد ويستعملون صيغة التفعيل حتى ما ليس له معنى إلا في هذه الصيغة فيقولون التزهيد بمعنى الزهد. ويكثرون من استعمال فْعيل بمعنى فاعل، فيقولون سكيب بمعنى منسكب وجهيل بمعنى جاهل وحبيك بمعنى متشدد وحْسيد بمعنى حاسد. ومن هذه الأساليب في توسيع اللغة استعمال المركبات الإضافية للتعبير عن عدة معان أو الكناية على بعض الأسماء، فيسمون القلب: امير الكنان، وامير الحشا، وامير الاسيار وهي الدواخل. ويكنون عن الخمر بقولهم: بنت الدوالي، ودم العنقود. ويسمون الحبيبة أم الثيوث (أي الشعور السوداء) وابو دلال أي صاحبة الدلال، وابو دواح أي صاحبة الخرصة، ويسمون شاعر الملحون شيخ الكْلام والملحون هو الكْلام وعلم الموهوب والسجية لأنه إلهام وعطاء وقدرة على الإبداع غير معطاة لأي كان وهي بذلك ألفاظ تعبر عن رقيه ورفعته في استكناه المعاني والتعبير عن المواقف المختلفة. ويستعملون كذلك بعض الألفاظ لم ترد في العربية الفصحى فالأحبار هم الشعراء الكبار والبطارق هم العلماء الراسخون. يقول الجيلالي امتيرد: قال افصيح لشياخ جيم الامين رايس الاحبار، حيث رمز إلى اسمه (الجيلالي) بالجيم والامين.

لم يكتف الشعراء بالاقتباس من الفصحى بل عمدوا إلى العامية واستوعبوا أسماء الأزهار والألوان والأطعمة والطيور والحيوانات كلها والشجار والملابس والأسلحة وآلات الموسيقى وأواني المنزل والأثاث وأدوات الصنائع، فأدخلوا كل ذلك في لغتهم حتى صارت من أوسع اللغات وأغناها، بل حتى صار ذلك من العوائق عن تفهمها وتذوقها لكثير ممن ليس لهم ممارسة ومعرفة خاصة بهذا الإنتاج الأدبي الضخم. لم يتوقف الأمر عند هذا الحد من توسيع بلاغة النص واستثمار حركية اللغة لتوسيع المعجم، بل تجاوزوا ذلك إلى الاصطلاح وهو ما أدعوه ببلاغة التقعيد حيث إن مصطلحات الملحون تبدو مرتبطة ارتباطا وثيقا بالمناخ المجتمعي الذي ترعرع فيه هذا الفن ف: الأبيات المنشوبة، والتعتيبة، والتبحبيح، والتعياع، وثلاثة، وراكب،ة والحل وخيَّط، والدخول، والدقن والشحط، والردمةن والزرب، والكلام، ومكسور الجناح، والمشتب، والمسخ، ولفصالا، والنكاب، ونشف الحرف، الكريحة والسجية والسفاف والرواح، كلها مصطلحات أنتجها قياس منسجم مع المناخ الذي نشأ فيه الملحون وترعرع أي مناخ الحرفة والطبيعة. وحتى نكون أكثر وضوحا نقدم القياسات التالية:

الصدر والعجز -------لفراش ولغطا

الربط العروضي-------خيَّط

اللازمة------------الحربة

الخاتمة------------الردمة (الشطر المفرد في آخر لعروبي)

الخاتمة------------الزرب(هجاء شاعر معاصر ويعني الزرب سياج شوكي يحمي البستان)

التفعيلة------------التمويلة

البناء-------------لمرمة

الشعر المنثور---------مكسور الجناح

تدل دقة الاصطلاح هاته على دقة النظام والمفهوم والدربة وتمثل مفهوم الشعر ضمن العامية واعتماد قياسات واضحة في الاصطلاح، وهو تمثل عميق لبلاغة الاستعمال اللغوي والاصطلاحي وتوسع لهذا الاستعمال ضمن مناخ الممارسة الحرفية عند شعراء الملحون وأشياخه. وعموما، إذا كانت بلاغة النص ارتكزت على الخيال والتجريد فإن بلاغة الاصطلاح قامت أساسا على الحسية والتجسيم انطلاقا من مناخ حرفي اجتماعي، واعتمدت الدلالة في بناء المصطلح عوض الطابع الصوري للبناء.

خلاصات

أما بعد، ماذا نحتاج لكي يندمج التراث الشفاهي المغربي في النسق العام للثقافة شعبيها وعالمها. وكيف يمكن أن نجعله تراثا فاعلا سواء في فهم التاريخ الثقافي للأمة أو في استشراف آفاق المستقبل والمساهمة في بناء غد لا يتنكر لتاريخه وقيمه ويتجاوز ثنائيات واهمة جعلت جزءا منها تراثا للعامة وآخر تراثا للنخبة؟ كيف نوثق هذا التراث ونؤرخ له ونعثر على ما ضاع من نفائسه؟ ليس هذا مقام الإجابة أو الحسم في مثل هذه الأسئلة لأنها تستلزم عملا تتضافر فيه جهود كل أطياف المجتمع ومؤسساته ومثقفيه. لكنني أضع مع ذلك بعض المقترحات: ربما تحتاج بيبليوغرافيا جديدة وشاملة وفعالة للملحون وربما للفنون الأخرى إلى اعتماد قاعدة معطيات محوسبة بعدة دخلات بالأعلام والموضوعات والمعجم أو التركيبات المعتمدة حسب مصطلحات الملحون والتي أفرد لها محمد الفاسي حيزا تعريفيا خاصا ومسهبا.

ستسهم هذه الببليوغرافيا المحوسبة في تفادي مزالق التوثيق التقليدي والذي يكون منتهيا بمجرد الفراغ من إنجازه، بينما يمكن التوثيق المحوسب من تتميم النواقص وملء الفراغات والقيام بعمليات تطوير وتعديل متواصلة لتراث لا يمكن الادعاء بإمكانية الحسم في التأريخ له دفعة واحدة. إن التأريخ يحتاج إلى الوعي ومن ثم إلى التمييز بين الانتماءات الجغرافية وخصوصياتها الثقافية واللهجية والتخييلية (رغم أن النموذج الثقافي واحد) وفروق الأجيال والعقود وأيضا فروق الاهتمامات والمهن الأصلية للشعراء والأشياخ ومحاولة وضع ذلك ضمن بناء نموذج ثقافي تتحدد من خلاله الفروق وأيضا الانتظامات الدالة على وحدة المجال الذهني والإبداع والانتماء إلى فضاء جغرافي حضاري تغتني فيه الوحدة بالتعدد. ينبغي أن يتضمن التأريخ كذلك كل المعطيات النصية والموضوعاتية المكونة لنسيج هذا المتن لأنها أساسية في فهم خلفيات الإنتاج والتلقي وأهمها معالم المحكي، ومستويات الحجاج والمناظرة في المتخيل، وأساليب توظيف تقنيات البلاغة في المصطلح واللغة والإيقاع وتقنيات الحساب والإضمار (مثل إضمار الاسم في ثنايا كلمات القصيدة) وهو ما اصطلح عليه بالتسمية حيث لا يذكر الشاعر اسمه صراحة بل يضمره وعلى المتلقي أن يفك الشفرة. ينبغي أن يكون التأريخ للملحون مرتبطا أساسا بتصور دقيق لمنهجية التأريخ والتوثيق للثقافة الشفاهية (التي انتقلت إلى التدوين)، وتمثل خصوصياتها المعرفية والاجتماعية قبل وبعد التدوين. لا ينبغي أن ننسى هنا أن التأريخ للموضوع الأدبي يرتكز على مبدأ الماضي الذي ينظر إليه من خلال الحاضر وبالتالي فهو نظر مبتور ومحول ومتخيل كما يقول كليمون موازان (ص11) من كتابه ما هو التاريخ الأدبي. وبالتالي فإنه ينبغي الوعي بما يفعله تاريخ الفن والأدب فاعتبار شيء ما وقع في الماضي في وسط معين ثم وقع في النسيان أو الإهمال أو سوء التقدير، يحتم ضرورة استحضاره من جديد في الذاكرة أي إبداعه من جديد (موازان ص12). وهو الأمر الذي يحتاجه تاريخنا الشفهي لأن نقله إلى التدوين والتداول العالِم فضلا عن تداوله الأصلي الغنائي سيجعل منه مجالا جديدا للبحث والفهم والتفسير لكل تاريخنا الثقافي الشعبي والعالم.

إن محاولات البحث والتأريخ لهذا التراث (عباس الجراري، محمد الفاسي، عبد الرحمان الملحوني، أحمد سهوم...) تعد لبنة أساسية للسعي نحو إقامة فريق عمل متكامل لتوسيع العمل وتتميمه. وأعتقد أن هذا العمل ينبغي أن يتجه إلى التأريخ لأعلامه المعاصرين غير المذكورين في التراجم المتوافرة (مثل الحاج امحمد ناظم من سلا، والحاج عبد العالي الفيلالي بلحاج من فاس)، أي إلى القيام بعمليات حفر واستعادة للمنسي من هذا التراث قديمه وحديثه. إن التوثيق لهذه النصوص الحديثة والبحث عن النصوص الضائعة المتفرقة في الخزانات وفي بطون الكتب وربما في الزوايا وعند من بقي من حفاظ وخزنة، توثيق للذاكرة الثقافية للمغرب وحمايتها من النسيان والاحتراق.

عملا بمبدأ تكامل المعرفة فإن جهود البحث في التراث الشفاهي بمجمله ينبغي أن تخضع لقواعد وقيم التواصل والحوار العلميين، وإلا فما فائدة التاريخ للملحون ولتراث الآلة وللأهازيج والعيوط والرقصات الشعبية إن لم ننته إلى إقامة مختبرات بحث تضم كل المعطيات والنتائج وتنتهي إلى تكريس قيم وحدة الأمة وتماسكها من جهة وإلى قيم فهم ومناقشة الاستنتاجات المرتبطة بتاريخ المتخيل الشفاهي في المغرب إجمالا من جهة أخرى، وعلى فهم التوابث والمتغيرات الفنية والاصطلاحية التي أحاطت بكل نوع على حدة.

خلافا للمناخ الفقهي الذي نشأ وترعرع فيه الشعر الفصيح في المغرب والذي لم يكن فيه حضور للمرأة الشاعرة إلا ما ندر، فإن المرأة تبدو حاضرة بما يناسب قيم الثقافة المحافظة التي سمحت بتداول النظم والإنشاد والغناء والرقص ضمن حدود الإكراهات الاجتماعية والدينية والأخلاقية رغم أنها منعت بشكل مضمر تداول الأسماء والتعريف بالشاعرات والمنشدات إلا في بعض السياقات الخاصة. يدل هذا على دور ومساهمة المرأة في جزء من قيم الفن والحضارة في المغرب القديم خصوصا في فاس ومراكش (الرباعيات، التعياع، المطايشة، التبحبيح...). أذكر هنا بعض الأسماء التي وردت في تراجم شعراء الملحون لمحمد الفاسي (588شاعرا) وهي: لالة حبيبتي (مراكش أيام سيدي محمد بن عبد الرحمان)، عائشة الحنفية وهي زوجة مولاي عبد الرحمان مول العودة، منانة الحضرية (سلا أوائل ق14 ولها ضريح في حومة باب سبتة)، لالة خدوج الذكارة، الحاجة العزيزية (فاس)، لالة هشومة بنت الحاج عمر بلقاسم (مراكش)، الحاجة هشومة زوجة الحاج عبد السلام ياجور وأخت لالة حبيبتي...الخ.

إن توثيق التراث الشفهي ضرورة حضارية وعلمية لحفظه من الضياع والنسيان، إلا أن الأمر لا يخلو من خطورة لأن الانتقال إلى التدوين يغامر بتشويه أو ضياع الحمولة العميقة لمحيط الإنتاج الشفوي من الأصوات والإشارات والأزياء والمعاني المرتبطة بتداوله شفويا. ومن ثم ينبغي التفكير عمليا وعلميا في الوسائل الكفيلة بالتوثيق مع حفظ الخصوصيات الشفاهية لهذا التراث والضامنة لهيمنة نفس الروح الأصيلة.

وبعد، يوضح محمد الفاسي في مقدمة معلمة الملحون السياق والظروف التي جعلته ينخرط في البحث في أصول الثقافة الشعبية الشفاهية المغربية والتي حذت به أولا بإيعاز من مثقفين فرنسيين إلى نشر حكايات شفوية فاسية باللغة الفرنسية وكان قد حفظها من المأثور أو سمعها من أفواه النساء، قبل أن يبدأ لاحقا العمل على نصوص شعرية منها رباعيات نساء فاس ونصوص الملحون المتفرقة.

وقد بدت لي هذه التجربة عميقة في تحديد السياقات التي تؤرخ للذاكرة الثقافية للشعوب من خلال التدوين أولا تم من خلال الترجمة ثانيا. ويوجد في كثير من البلدان مثقفون ينخرطون في كتابة سير لغير المشاهير يتم نشرها وتعميمها بين الناس إيمان بأن الذاكرة الثقافية لا تخلد فقط نصوص الكبار، بل وأيضا كل التجارب الإنسانية التي يراها أصحابها جديرة بالنقل والتعميم.

يقول أحد الكتاب الأفارقة: "كل شخص مسن يفارق الحياة هو مكتبة تحترق" « Chaque personne âgée qui meurt est une bibliothèque qui brûle » التراث كنز يوجد في صدر كل إنسان عاش داخل ثقافة ومجتمع، وقد لا يسعفه الزمن لينقله وظروف العيش لينقله إلى الآخرين. ومن ثم فإن التراث الشفهي الذي حدث وراج وسافر بين الأقوام والأمكنة في حاجة إلى حفظه وتنميته وتوثيقه وتبويبه. فمتى وكيف نستطيع بوعي أن نؤرخ ونوثق تراثنا قبل أن تحترق المكتبات المحفوظة في صدور أصحابها وحافظيها وناقليها ومتداوليها؟

المراجع

1. محمد الفاسي، معلمة الملحون، مطبوعات أكاديمية المملكة المغربية

2. عباس الجاري، القْصيدة – الزجل في المغرب

3. أحمد سهوم، الملحون المغربي، منشورات شؤون جماعية، 1993

4. عبد الرحمان الملحوني، الزجل المغربي الملحون بين الإنشاد والتدوين، دار الفرقان للنشر الحديث 1992.

5. والتر ج. أونج، الشفاهية والكتابية، ترحمة د. حسن البنا عزالدين، سلسلة عالم المعرفة، ع. 182 – 1994.

6. Clément Moisan, Qu’est- ce que l’histoire littéraire ? Ed, PUF, 198

سعيد الحنصالي :





التوقيع


" اللّهمّ ردّنا إليك ردّا جميلا "
    رد مع اقتباس