نورالدين لشهب
Monday, August 30, 2010
إلى الأستاذ الفاضل محمد حفيظ
ها ما قالت عيشة في الراديو ؟!!
قيل الكثير عن الشريط الذي تم تداوله في مدينة ميدلت، الشريط كشف بالصوت والصورة ما قيل عنه تورط رئيس المجلس البلدي للمدينة والعضو في حزب العدالة والتنمية في التوسط أو التلبس في عملية الرشوة حسب العناوين التي طالعتنا بها الصحف والمواقع الالكترونية. فالشريط/الموضوع أحدث ضجة كبيرة لدى الرأي العام المحلي والوطني ،والنازلة كما تحدثت عنها بعض المنابر الإعلامية تذهب إلى أن رئيس المجلس البلدي لمدينة ميدلت السيد محمد حنيني تسلم "رشوة" من يد أحد المستثمرين الذي رتب عملية التسجيل في حديقة الألعاب المتنقلة بالمدينة من أجل التمديد لاستغلالها وهي في الأصل عبارة عن قطعة أرضية في ملكية خاصة، ثم تقدم هذا المستثمر بوضع شكاية خاصة في العاصمة الرباط كما تقدم بنسخة أخرى إلى الوكيل العام لدى استئنافية مكناس استعرض فيها ما سماها أساليب استغلال النفوذ والابتزاز من قبل سعادة الرئيس.... فالشريط تم نشره على أوسع نطاق لما تم تنزيله على الشبكة العنكبوتية فاستطاع جمهور واسع أن يطلع عليه، ويساهم في عملية حوار هذا الموضوع عبر القراءة التفاعلية التي تتيحها المواقع الالكترونية لقرائها عبر التعليقات... هذي التعليقات هي مزيج من أحكام قيمة ما بين التشفي والنكاية والسخرية بحق هذا العضو/موضوع الشريط وكذا الحزب وأعضائه، ويكفي فقط مراجعة حجم التعليقات في المواقع الالكترونية والمدونات والفيسبوك وتويتر حتى تقف على حجم هذه الضجة وما أثارته من ردود أفعال أغلبها يقف إلى جانب "صحة" الشريط وتنزيه منتجيه عن الفبركة والتلاعب.. في حين اعتبر جمهور واسع أن الشريط مجرد حملة ترمي إلى استهداف حزب العدالة والتنمية من قبل الخصوم والمتربصين به.
حزب الاتحاد الاشتراكي فرع ميدلت عقد اجتماعا طارئا وأصدر بيانا خاصا إلى الرأي العام المحلي والوطني أعرب فيه عن أسفه الشديد إزاء ما آل إليه تسيير الشأن العام بالمدينة والذي لا يشرف تاريخها وإدانة هذا السلوك اللاأخلاقي واللامسؤول حسب عبارة البيان. أما جريدة العلم لسان حال حزب الاستقلال "الحاكم" فقد استبقت دور القضاء وذهبت بعيدا في تثبيت التهمة على الرئيس واعتبرت النازلة فضيحة تورط فيها عضوان من حزبي العدالة والتنمية والأصالة والمعاصرة، أما حزب العدالة والتنمية فرع ميدلت فقد أصدر بيانا يعتبر أن الشريط مفبركا يدخل في باب الحملة التي تستهدف الحزب من قبل خصومه، في حين اعتبرت الكتابة الإقليمية للحزب بنفس المدينة بفتح تحقيق حول الشريط الذي يروج بين الساكنة.
أما حزب العدالة والتنمية فقد أعطى درسا في الأخلاق السياسية التي يزايد عليها بعض السياسيين كذبا وزورا لما أصدر قرارا جريئا بتعليق المهام الحزبية للسيد محمد حنيني موضوع الشريط على خلفية ما نسب إليه في هذا الشريط المنشور في الانترنيت، واعتبر الحزب أن محمد حنيني قد أخل بمبادئ النزاهة حين وضع نفسه في موقع الشبهة. واستطاع الحزب أن يقطع دابر التأويلات المغرضة بحق مؤسسته الحزبية إلى أن يتم التحقيق ويقول القضاء كلمته.... وهذه خطوة مهمة في الاتجاه الصحيح ولا ريب. وهي لا تنقص من قيمة الحزب سواء تم تورط عضوه في ميدلت أم أن الشريط لا يعدو كونه حديث إفك بطبعة منقحة.. أعتقد أنه في كلتا الحالتين فإن خطوة التعليق أو التجميد ستخدم الحزب ولا ريب... هذا أكيد... وبما أن الحزب مستهدف من قبل السلطة كما يقول أعضاؤه.. لا يمكننا أن نرجع كل نازلة ولو كانت إعلامية إلى حملة الاستهداف من قبل الخصوم، ونقف عند حدود المثل الشعبي الذي يقول : ها ما قالت عيشة في الراديو.
محاولة للفهم
أمام هذه الضجة التي رافقت شريط ميدلت غلبت درجة الإدراك عن الوعي بضرورة فهم الواقع، وتم تغييب مجموعة من الأسئلة التي يمكنها أن تدفع في اتجاه فهم الواقع دون مزايدات فكرانية أو مضاربات أيديولوجية التي حاول أن يتقمصها البعض متكئا على كلام أقرب إلى اللغو عوض فهم الواقع.. واقعنا كما بدأ وتشكل وتكون عبر سيرورته الخاصة وصيرورته المفروضة كما تحدث عنها كبار المفكرين أصحاب المشاريع الفكرية الكبيرة. وأعتقد أن درجة الإدراك لدى المتلقي ناجمة عن كفر السياسي بما هو ثقافي، لأن السياسي بات أشبه باللص، فاللص عادة ما يفضل أن يسرق في جنح الظلام كما أن السياسي أصبح عدوا للثقافي لأنه يفضل الجهل ليسهل عليه التلاعب وسرقة القلوب والعقول في غياب الوعي. وهنا مكمن العطب !!
لندع أصحاب المشاريع الفكرية من مفكرين ومنظرين والذين أفنوا حياتهم في استفهام واقعنا المسنود بأنموذج طبائع "الاستبداد ومصارع الاستعباد" و "المنفتح" على أنحاء شتى من مجالنا التداولي، ونطرح أسئلة بسيطة لعلها تفي بالغرض المطلوب على هامش شريط ميدلت:
هل الرشوة تم اكتشافها، فقط، لما آمن حزب العدالة والتنمية بالمشاركة السياسية وفي شخص عضوه الذي يتبوأ رئيس المجلس البلدي؟ هل الإسلاميون ملائكة لا يمكن لأحدهم أن يتورط في براثن الفساد كالرشوة والزبونية واستغلال النفوذ ..الخ؟ كيف يمكن أن نحمي الوطن من الفساد الذي كان ولا زال يستشري في بنية الدولة.. وهل يمكن أن نتحدث عن مفهوم المواطنة في غياب تخليق الحياة السياسية؟ كيف يمكن أن نساهم في تخليق الحياة السياسية أصلا؟
دعك من الخطابات الخشبية لبعض " المنتمين" لبعض الأحزاب السياسية كونهم يخوضون غمار الانتخابات من أجل خدمة الشعب، فهل يمكن أن نثق فيمن هو مستعد أن يخسر عشرات الملايين نظير حصوله على رئيس الجماعة القروية أو المجلس البلدي بأنه يريد أن يخدم الشعب؟ أعتقد أن هذا الكلام لا يصدقه عاقل، والربح الذي يحصل عليه هذا "المناضل" بعد (5 سنوات) أي بعد خروجه من الجماعة أو البلدية هو من يؤكد لنا "مصداقية" خطابته. لنتصور أن رجلا بسيطا يعمل في التعليم الابتدائي كان أشعث أغبر لا يلوي على شيء، وبعد خمس سنوات أصبح يملك فيلا وشقة بالعاصمة وسيارة جديدة.. أعرف زميلين من حزبي الاتحاد الاشتراكي والاستقلال.. والحزبان نفسهما يزايدان على رئيس المجلس البلدي في ميدلت لأنه إسلامي برأيهم ! فهل الإسلامي ملك معصوم لا يأتيه الخطأ من الجهات الأربع التي تحفه؟ أعتقد أن من يركن إلى هذا الرأي فهو قاصر لا يفهم تاريخ الإسلام بشكل عام أو أنه منافق ينظر نظرة قاصرة لمجريات الأمور التي لا تخرج عن فعل ساس ويسوس...فالدعوة الإسلامية على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم عرفت اختراقا من قبل المنافقين الذين كان يعرفهم الرسول صلى الله عليه وسلم، وصنف من اليهود الذين أعلنوا الإسلام كي يقوضوا الدعوة الإسلامية الناشئة من الداخل فيما سمى بالإسرائيليات التي امتلأت بها كتب التفاسير إلى درجة أن المفكر المصري عبد الصبور شاهين صرح بأنه أشرف على 20 أطروحة جامعية في تنقية التفاسير من الإسرائيليات ومع ذلك لا زال الموضوع يحتاج إلى إعادة البحث والتنقيب. فهل استطاعت الدعوات الهدامة أن تقضي على الإسلام وتحد من انتشاره وتكف الناس على الإيمان به؟ فالجواب بالطبع : لااا.
إن كان هذا كله وقع في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فما بالك بحزب العدالة والتنمية الذي يقوده أناس لم يصرح أحدهم يوما بأنه ملك معصوم أو نبي مرسل...!! أما أن نحاسب الإسلاميين بجريرة شخص كيفما كانت درجته داخل التنظيم أو حزب كيفما كان اجتهاده، فأعتقد أن هذا الحكم ينقصه شيء من التروي والحذر والتبين المعرفي الكافي، فالحزب لم يصرح يوما أنه يمثل الإسلام ولا الإسلاميين ولا الحركة الإسلامية قاطبة، بل أنه محكوم باجتهاد أصحابه من قيادييه وحسب... هذي هي الحقيقة.
أما بخصوص بعض التعليقات التي ذهبت مذهبا غريبا كون العضو في الحزب هو إسلامي، و
أن صفة " الإسلامية" تعصم صاحبها من أن يرتكب مثل هذي الأخطاء (إن حصلت فعلا)، فأعتقد بأن الأمر أكبر مما نتوهم أو نزعم.. ممكن أن نذهب بعيدا في اتهام بعض الإسلاميين انطلاقا من الواقع المنظور والمعيش في الآن ذاته : الإسلاميون يا سادة ليسوا معصومين ولا أنبياء وليس بالضرورة من يختلف معهم من جنس الشيطان الرجيم كما يعلق بعض الجهال نكاية وشماتة وتشفيا .. الإسلاميون يمكن أن يقترفوا أكثر من الارتشاء.. الإسلاميون يمكن أن يقفوا مع العدو ضد الأوطان كما فعل الإسلاميون العراقيون الذين امتطوا دبابة الاحتلال لغزو بلدهم، فسرقوا أموال الوطن بعدما قضوا وقتا طويلا في ما سموه في المعارضة والنضال وكنا نقرأ منشوراتهم ونتضامن معهم وفي الأخير تبين لنا بأن الأيادي المتوضئة تسرق وتعذب وتقتل أبناء الوطن ممن يختلفون معهم، بل قتلوا أناس بسطاء ذنبهم أنهم من مذهب آخر أو أن اسمهم عمر أو أبو بكر أو عائشة... يقتلون الناس البسطاء الذين يبحثون عن خبزهم اليومي ويعتبرون قتلهم هو تقربا لحب آل البيت عليهم السلام، بل أكثر من هذا اقتتلوا فيما بينهم في جنوب العراق حول من يفوز بالمناصب والغنائم على حساب الشعب العراقي الذين جاؤوا ليحرروه، زعموا !
ويمكن للإسلاميين أن يقتلوا الناس على الهوية فقط بواسطة عصابات الميليشيات التابعة لهم، ويعذبونهم ويثقبون أجسادهم بالمناشير الكهربائية كما يفعل حكام الطوائف،فهؤلاء الذين جاؤوا ليحرروا البلد من حكم الطاغية تمردوا على الدولة وأسسوا لهم ميلشيات خاصة، وسجون خاصة، وحسابات بنكية خاصة... ويا للمفارقة أسسوا معابد خاصة، ويحيون حياة خاصة في المحمية الأمريكية المسماة بالمنطقة الخضراء !! فالقيادي السابق في المجلس الأعلى للثورة الإسلامية محسن الحكيم كان له مصفاة خاصة لنقل البترول دون عداد يسرق بها في جنوب العراق، وعادل عبد المهدي الإسلامي الذي كنا نقرأ له في مجلة كانت تصدر من لندن في بداية التسعينات، صرح مؤخرا لصحيفة أمريكية أن حراسه استولوا على بنك بكامله... هناك أمثلة كثيرة حول "النموذج الإسلامي" في العراق الذي يعتاش في الفساد ويمكن الرجوع إلى محرك "كوكل" ليرى القارئ حجم الفساد الذي يتخبط فيه عراق الطائفيين المحسوبين على الإسلام وأهله، وهم بعيدون عن الإسلام بعد السماء عن الأرض....لقد صدق عالم الاجتماع العراقي علي الوردي لما قال : طائفية بلا دين.
فما الحل يا ترى ؟
المطلوب اليوم هو العمل على بناء دولة قوية، قوية بمؤسساتها التي تجعل أي مواطن يحتمي بها من الآفات التي تصيبه من جهل ومرض واعتداء وعدوان، فدولة ما بعد الاحتلال في عالمنا العربي لا زالت هشة غير قادرة على جعل الناس يحسون ويشعرون كونهم مواطنين حقا وصدقا، إن دولة المؤسسات القوية، هي من يجعل الناس يؤمنون بآدميتهم ومن ثمة بما يمكن أن نطلق على العلاقة التي تربط الإنسان بوطنه "المواطنة". المواطن الإنسان هو من يدافع عن هذي المؤسسات بصرف النظر عن كونه إسلاميا أم قوميا أو علمانيا أو لا دينيا... هذا هو الحل الذي اتفقت عليه جمهرة من المفكرين والمثقفين في العالم العربي والإسلامي بصرف النظر عن الاختلاف في هذي النقطة أو تلك... دولة المؤسسات هي المنقذ من المضاربات السياسية الخاوية... وأولى هذه المؤسسات هي المؤسسة الحزبية وبعض مؤسسات المجتمع المدني الغارقة في الرشوة والمحسوبية واستغلال النفوذ !!
والله أعلم


هيسبريس