منتديات الأستاذ التعليمية التربوية المغربية : فريق واحد لتعليم رائد

منتديات الأستاذ التعليمية التربوية المغربية : فريق واحد لتعليم رائد (https://www.profvb.com/vb/)
-   القصة (https://www.profvb.com/vb/f214.html)
-   -   الليلة الكناوية (https://www.profvb.com/vb/t90021.html)

tagnaouite 2012-02-25 18:31

الليلة الكناوية
 
قصة قصيرة


الليلة الكناوية


دخل الزقاق يعانق حضن ليل صيفي رطب ، تلطف جوه بعد نهار أفرطت شمسه بحرها ، سحق سيجارته بقدمه لما توقف عند عتبة " الزاوية " ، ألفى نفسه فجأة منغمسا في طقس روحي ، أرهف سمعه ، فتتابعت الايقاعات نافذة في أذنيه ، متداخلة بالكلام الكناوي ، وبالألوان ، والنغمات الهجهوجية لمقام " الكويو " .

للمرة الأولى بموغادور يصل إلى زاوية " سيدي بلال" ، سمع بغثة
" مقدم الكناويين " ينشد: " الباشا حمو.. سيدي حمو..." . توقفت عيناه كالمجذوب ، فتوقف المقدم عن إنشاده وداهمه مفتطنا لأول زيارته : " هي
الزاوية بعينها ...والليلة ليلة الدردبة." . غالبته الرغبة لمواكبة هذه الليلة ،
فاقترب مجاوزا الباب قليلا .. أصابته قشعريرة ، فبرز صوته الداخلي مخنوقا، استسلم لصمت قصير، ثم مالبث أن نفذ عبر أذنيه صوت امرأة...
كان صوتها تطغى عليه الثقة بالنفس والخبرة المكتسبة ، أراد أن يقول للمقدم شيئا ، فانطبقت شفتاه بعنف وعناد ، راقب خلال صمته ما يجري عن كثب بالداخل . قال له المقدم راصدا تردده وصمته : " ادخل ، لا تردد
أو تخجل..." .

اندفع بدون ارتباك إلى الداخل ، دبت في أعصابه روائح البخور ، فترنح
كالمخمور مشبعة خلايا دماغه باحتراق الجاوي المتراكم على المحرقة الفضية البارعة النقوش . لم تتضايق المرأة بخيوط البخور المتصاعدة في
اتصال ، تخترقها وتحفها من كل جانب . سمع بعضهم يناديها باسم مثير ،
فعلم بأنها تحضر في شخصية هذا الاسم .
" مولاتي دادا " . هكذا ناداها أحد رجال الفرقة الكناوية بهالة من الهيبة
والتأدب.
تجلت الزاوية بعتمة غير داكنة ... الهواء مشبع بروائح البخور وأنفاس
رجال الفرقة ، تتراقص أجسامهم ببشرتها السوداء ، وترشح ملتمعة بالعرق، تشتربه ألبستهم الخضراء والحمراء والزرقاء المنمقة بالأصداف
المتناسقة . أيقن بحلوله في طقس كناوي خالص ، وعندها داهمه مرأى فتاة
مثل وردة طرية يختنق صفاؤها بمسحة باهتة من الشحوب ، تختفي تلك المسحة وتظهر في تيار جاذب من الاكتآب والتوتر العصبي . نظر إليها بإمعان ، فغار في بريق عينيها ، صادفت عيناه عينيها ، فتراقصت أمامه أطياف من البسمة كالماء الزلال ، وبدت أسنانها ناصعة تحاكي صفاء ثلج مطهر. مرق بسرعة عنه البريق ، فاتضح أن دعابتها مجهضة بعارض من
الشحوب يصارعه حسنها القاهر ، لم ينل بقوة سوى من أعصابها وأصواتها الداخلية المحترقة .
تصلبت بعد صراع مرير من تأثير " الجذبة " ، فاقتيدت الفتاة إلى "دادا"، كانت في زهرة عمرها ، ترددت وهي مقتادة إلى المرأة ، رقصت الفتاة طويلا على إيقاعات " الكانكا " و " القريقبات " ، وشطحت روحها مسحورة بنغمات آلة " الهجهوج " .
حدق في يديها الناعمتين والمزينتين بخضاب الحناء في أشكال من التفنن.
فتنه عنفوان شبابها وقوامها الممشوق بجمال وجه متمرد على الشحوب ، ظل العزف على الهجهوج متواصلا ، اشتدت نغماته على أعصابها ، تحاوركل نغمة تصلبها ، تجلى ارتعادها في تصعيد النغمات ، فغرقت روحها في شعور بعيد المهوى ينز بدموع قبل أوانها .
مازال وجهها يفيض بملاحته ، يتناغم مع شعرها الأشقرالملتمع . قال عنها منتشيا بنشوة الهجهوج : " حسن يرقص لسكرة النغمة ! " ، ثم تساءل:" ما الذي جاء بهذه الجميلة إلى هنا ؟ ." .
انتابه حزن غريب ، شرد ذهنه لحظة ، فاستفاق قائلا: " موغادور جميلة
وساحرة في كل شيئ!..." .
تعبت الفتاة من رقصها ، فتهاوت كفراشة صريعة إلى الأرض، وقعت بين أحضان " دادا " ، شرع جسمها البض يتقافز كله مثل يمامة مذبوحة .
ازداد حزنه عليها وهو يرى " دادا " تحكم ذراعيها بقبضة يديها . قال لنفسه باشفاق شديد : " لن تحتمل هذه الوديعة المسكينة " .
اشتد حزنه عندما استعانت المرأة برجلين من الفرقة ليتسنى لها أن تطلي الحناء على قدميها اللينتين . كان ايقاع القريقبات يتواصل ، ونبرات الهجهوج ترسم بوتيرة صعودها وهبوطها مقاومة الفتاة لمن يمسكها بعنف ، والكلمات الصوفية تنبع بشجن آسر ، مرددة أسماء كريمات من النساء:" للا عيشة الكناوية السودانية .. للا مليكة صاحبة الحناء .. للا ميرة ... للا رقية..." . هدأت الفتاة شيئا فشيئا ، فاختلت ب" دادا" لتكاشفها وترشدها . استأنف رجال الفرقة طقوسهم ، كانت ضربة واحدة من " الكانكا " ترج أعماقه ... ألسنة لهب أصوات مختلفة تزلزله .. سكنت الأصوات وخفت درجة تزلزله . نظر الى سقف الزاوية وإلى كل جدرانها ، كل شيئ حوله يسري به الى عالم من الألوان ، أبصر مقدم الكناويين اصطراعه في عالم الألوان ، فسأله : " ما اللون الذي يأسرك الآن ؟ " .
أجابه مستريحا: " أجدني مجذوبا باللون الأزرق " .
انشرح المقدم قائلا : " أنت اذن مملوك سيدي موسى البحري .. ".
امتلأت روحه بجاذبية الشموع البيضاء والحمراء والخضراء والزرقاء ، وقال مبتهجا : " أنا كذلك بحري ، أحب الاختلاء بنفسي متأملا زرقة الأمواج ، ونسيم البحر المنعش ... " .

خرجت الفتاة من عند دادا مرحة مسترجعة لبريق حسنها ، كاشفت دادا فوجهتها وزودتها .. اتضح بأن الكل يطمئن ويحتاج لإرشادات دادا . نال الألم من ركبتيه بعد جلوسه مدة غير قصيرة على السجاد ، ظهر له وجه الفتاة ساعتها كقظعة نقدية سكت لتوها . ودعت أسرة الفتاة الزاوية بسعادة تتساقظ عليها كثمرات جنية يانعة ، شكروا دادا وكل عناصر الفرقة ، اتجهوا إلى خارج الزاوية يغمرهم تفاؤل غد مشرق لفتاتهم . ترك هو كذلك
الزاوية شاكرا أفضال المقدم في مواكبة التجربة الكناوية .
انعطف جانبا باتجاههم ، وجدهم جاوزوا الزقاق واستقلوا سيارتهم الزرقاء ، لم يستطع اللحاق بهم . كان الليل ما يزال مختالا في استطالته .. جاب المدينة مستمتعا بليلها الرطب .. أصوات الألوان والمقامات والمملوكين تقرع أذنه ...أراد أن يتخلص منها ومن صورة الفتاة والمرأة دادا ، فلم يستطع .

سلك إحدى شوارع المدينة متغنيا بغير الألحان الكناوية لعله ينسى ، فعادت الألوان تداعب رأسه .. فاستسلم لها ، وتغنى بالمحفوظ من الكناوي
الذي تلقاه بالزاوية ، ولما اقترب الى آخر الشارع أدرك بأنه ابتعد عن الزاوية وعن عالمها ، فاستعدت نفسه لتنعتق بعد لحظة من أغلال "الجذبة".
تبخرت بعد هذا الاستعداد النفسي كل الألوان والأصوات والصور عبرنسيان خامد إلى أجل قريب ، فقد يعود لاحقا ليعيش تجربة ليلة أخرى .


إبداع : محمد الزاكي tagnaouite) ( - سلا –




مصطفى 1952 2012-02-25 18:41

رد: الليلة الكناوية
 
ما أروع ما كتبت يا أخي
الله يحفظك

بلابل السلام 2012-02-25 18:46

رد: الليلة الكناوية
 
أجدت السرد والوصف أستاذي الكريم
وجدتني وكأنني أرى هذه " الجذبة " وما يحدث للفتاة ، وكيف هي " دادا "..
راقني الأسلوب كثيرا
دمتم بالق أخي المبدع القدير تكناويت

طيف المغرب 2012-02-25 19:07

رد: الليلة الكناوية
 
فتحت جهاز الكمبيوتر لأحيي الإخوة و الأخوات ..وبالمقابل فتحت جهاز التلفاز .. القناة الثانية تقدم سهرة كناوية ..و قد وقعت في هوى الكلمات و اللحن بقدر من الجنون توقفت عن الرقن ..و ما استفقت من نشوة تملكتني للحظات إلا على نغمات إشهارية ..
عدت إلى ها هنا .. و يا للصدفة الجميلة ..!!
الزجال الكبير و القاص القديرمحمد الزاكي يعزف في الوقت نفسه على أوتار الحرف أعذب الأنغام
الكناوية بحنكة المحترف ...
تقبل أخي تاكناويت هذا الرد المستوحى من سحر اللحظة
مع تحياتي و تقديري
طيف المغرب


tagnaouite 2012-02-25 20:03

رد: الليلة الكناوية
 
اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة مصطفى 1952 (المشاركة 520035)
ما أروع ما كتبت يا أخي
الله يحفظك

شكرا أخي مصطفى على متابعتك القيمة

tagnaouite 2012-02-25 20:06

رد: الليلة الكناوية
 
شكرا أختي الكريمة بلابل السلام على ذوقك الراقي في القراءة والمتابعة ...لك مني خالص التقدير .

tagnaouite 2012-02-25 20:15

رد: الليلة الكناوية
 
اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة طيف المغرب (المشاركة 520078)
فتحت جهاز الكمبيوتر لأحيي الإخوة و الأخوات ..وبالمقابل فتحت جهاز التلفاز .. القناة الثانية تقدم سهرة كناوية ..و قد وقعت في هوى الكلمات و اللحن بقدر من الجنون توقفت عن الرقن ..و ما استفقت من نشوة تملكتني للحظات إلا على نغمات إشهارية ..

عدت إلى ها هنا .. و يا للصدفة الجميلة ..!!
الزجال الكبير و القاص القديرمحمد الزاكي يعزف في الوقت نفسه على أوتار الحرف أعذب الأنغام
الكناوية بحنكة المحترف ...
تقبل أخي تاكناويت هذا الرد المستوحى من سحر اللحظة
مع تحياتي و تقديري
طيف المغرب

ولك كل التقدير أختي الكريمة على هذه الظلال الوارفة التي نتستظل بها بنقدك البديع ، وخواطرك المنسابة عبيرا يخترق أفئدتنا نشوة كانتشاء أصحاب تكناويت بزكي الرائحة الروحانية من جاوي ، وعود قماري خالص ... شكرا لأختي طيف على هذا الإثراء النفيس الذي زاد هذه الليلة الكناوية نكهة ساحرة كسحر زرقة بحر موغادور ، وجمال الجذبة الكناوية .

rougegorge 2012-02-26 18:18

رد: الليلة الكناوية
 
غاب عن أنظاري عازف آلة الهجهوج فإذا بي أجده قابعا بين رياض هذا المنتدى يعزفا لحنا متناغما يجعله يكلم كل رواد هذا الركن الإبداعي.

دمت متألقا أخي محمد الزاكي


tagnaouite 2012-02-27 13:46

رد: الليلة الكناوية
 
اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة rougegorge (المشاركة 520625)
غاب عن أنظاري عازف آلة الهجهوج فإذا بي أجده قابعا بين رياض هذا المنتدى يعزفا لحنا متناغما يجعله يكلم كل رواد هذا الركن الإبداعي.


دمت متألقا أخي محمد الزاكي

أشكرك أخي عبد القدوس ( rougegorge) على هذه المتابعة الجميلة .. تحيتي وتقديري .


الساعة الآن 01:03

جميع المواد المنشورة بالموقع تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر بأي شكل من الأشكال عن رأي الموقع ولا يتحمل أي مسؤولية عنها

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd