بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه
أمابعد
روى ابن أبي حاتم في تقدمة الجرح والتعديل (1/307) قال: "رأيت في كتاب كتبه عبد الرحمن بن عمر الأصبهاني - المعروف برستة - من أصبهان إلى أبي زرعة بخطه: وإني كنت رويت عندكم عن ابن مهدي عن سفيان عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" أبردوا بالظهر، فان شدة الحر من فيح جهنم". فقلتَ: هذا غلط! الناس يروون عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم. فوقع ذلك من قولك في نفسي، فلم أكن أنساه، حتى قدمت ونظرت في الأُصُر، فإذا هو عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإن خفَّ عليك فأعلم أبا حاتم عافاه الله، ومن سألك من أصحابنا، فإنك في ذلك مأجور إن شاءالله، والعار خير من النار"
إن هذا الأثر يستحق أن يقف طالب العلم أمامه وقفة تأمل وتدبر، إن عبد الرحمن بن عمر رستة الإمام المحدث المتقن لم يجد في نفسه غضاضة أن يكتب بخطئه إلى أبي زرعة، الذي ردَّه أمام الناس في مجلس تحديث، وأي موقف هذا! يردُّه في مجلس هو شيخُه، وأمام طلابه، ويسكت!! بل ويحفظها ليراجعها بعد أن يرجع إلى بلده، مسيرة أيام بل وقد تكون مسيرة شهور، ولكنهالم تنس ذلك القلب الوجل من الله أن يتقوَّل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يقله،فرجع وراجع، فلما تبين له خطؤه، لم يكتف بتصحيح أبي زرعة على الملأ،بل كتب إليه يعلمه بصحة قوله، بل ويطلب منه أن يبلغ الناس، لله دره!!
ثم ختم بعبارة من كنوز الحكمة: العار خير من النار !! لا إله إلا الله! من يستحضر هذا الأمر عند تقريره لشيء يتبين له خطؤه فيه! من يهون عنده شأن الناس حتى لا ينظر إلا إلى الله ربه، ولا يخاف إلا عذابه.
العار خير من النار!! إي والله! لله أبوك!
ولكن هذا ليس موقفًا وحيدًا تفرد به أبو الفرج، لكنه ديدن القوم وعادتهم:
قال ابن أبي حاتم أيضا (1/307): حضر عند أبي زرعة محمد بن مسلم والفضل بن العباس المعروف بالصائغ، فجرى بينهم مذاكرة ، فذكر محمد بن مسلم حديثًا، فأنكر فضل الصائغ، فقال: يا أبا عبد الله! ليس هكذا هو. فقال: كيف هو؟ فذكر رواية أخرى، فقال محمد بن مسلم: بل الصحيح ما قلتُ، والخطأ ما قلتَ. قال فضل: فأبو زرعة الحاكم بيننا. فقال محمد بن مسلم لأبي زرعة: إيش تقول أينا المخطئ ؟ فسكت أبو زرعة ولم يجب، فقال محمدبن مسلم : مالك سكت! تكلم! فجعل أبو زرعة يتغافل، فألحَّ عليه محمد بن مسلم وقال: لا أعرف لسكوتك معنى، إن كنت أنا المخطئ فأخْبِر، وإن كان هو المخطئ فأخْبِر. فقال: هاتوا أبا القاسم ابن أخي. فدُعي به، فقال: اذهب وادخل بيت الكتب، دع القمطرالأول، والقمطر الثاني، والقطمر الثالث- وعد ستة عشر جزءا - وائتني بالجزء السابع عشر. فذهب فجاء بالدفتر، فدفعه إليه، فأخذ أبو زرعة فتصفح الأوراق وأخرج الحديث ودفعه إلى محمد بن مسلم، فقرأه محمد بن مسلم : فقال: نعم! غلطنا فكان ماذا؟!!"
سبحان ربي! غلطنا فكان ماذا!!
هان في عينه الاعترافُ بخطئه فأعلى الله شأنَه، وعظم قدرَه. والجزاء من جنس العمل.
وانظر - رعاك الله - كيف سكت أبو زرعة عن تخطئة محمد بن مسلم أمامه إجلالاً له، كيف تغافل توقيرا لمكانته، وانظر إلى من يبحثون عن أخطاء أهل العلم من أهل السنة لا للنصح وبيان الحق للخلق- فإن ذلك واجب شرعًا-، بل للفضيحة والفرح بالزلات، وفرق بين الأمرين عظيم.
غلطنا فكان ماذا!!!
ولم ينقص هذا من قدر محمد بن مسلم، فهو في سند جوهرة في عقد، ولم يبال أن يُظهر خطأه أمام أقرانه، ولا احتاط أن يحفظوا عليه خطأه، وهو الإمام الحافظ.
روى مسلم في صحيحه (1/65) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قالرسول الله صلى الله عليه وسلم:" الكبر بطر الحق، وغمط الناس".
قال ابن رجب في شرح حديث اختصام الملأ الأعلى(ص:19): "يعني: التكبر عن قبول الحقوالانقياد له".
الانصياع للحق حيث كان علامة المؤمن،الذي يقدم شرع الله على العادة والإلف،والإخوان والنفس. ولكن أين هؤلاء؟!
فكما قال الذهبي في الميزان: كدت ألا أراهم إلافي كتاب! أو تحت تراب!
اللهم ارحمنا برحمتك

جزاكن الله خيرا على ردودكن الطيبة