ميلود الشلح
ثرثرة الحـلاق

كثيرا ما يُتهم الحلاق بالثرثرة، فمن الناس من يرى أن مهنة الحلاق لا تكتمل إلا بالحديث لتمضية الوقت ولاسيما عندما يكون هناك ازدحام للزبائن، فالكلام قد يُسلّيهم أثناء الانتظار. ولكن، ليس الحلاق دائما هو الثرثار، بل هناك زبائن يتكلمون أضعاف ما يتكلم الحلاق، ثم إن من يبدأ الحديث في الغالب هو الزبون، حينما يسأل عن آخر أخبار السياسة أو الرياضة أو الاقتصاد أو الفن أو عن أسعار الخضر والفواكه واللحوم أو عن أي شيء آخر…

وفي الحقيقة، فإن هناك مهن أخرى تستدعي الثرثرة أكثر من مهنة الحلاقة، مثل الحلايقي مثلا، أو السمسار، أو المحامي…

عملتُ في العام الماضي مساعدا لجبّاص لا يكف عن الكلام. رجل في الأربعينات من عمره، مثقف وكثير التجارب.. عنده ما يقول. عيبه الوحيد أنه ثقيل لا في عمله ولا في حديثه، فقد كان يسترسل في الحديث من الصباح إلى المساء دون أن يُكمل حديثه. وفي صباح اليوم التالي يقول لي:
- "فين خليناها البارح أوليدي؟".

كنت أصغي إلى أحاديثه باهتمام.. لكننا كنا ثقيلين جدا في العمل، كنا نعمل بتريّث وعلى مهل، وعندما يأتي الباطرون ويجدنا لم نكمل عملنا الذي طلبه منا.. ينهرني أنا ويُرجع إليّ اللوم وكأنني أنا من شغل "المعلم" بالحديث وألهيتُه عن القيام بعمله.. لكني ثُرث في وجهه يوما وقلت له: "طاحت الصومعة، علقوا الحجام".. فكان ذلك آخر عهد بيننا وبين ذلك الباطرون، فقد جمع لكل منا حسابه وطلب منا أن نعطيه التيساع…

في الطريق إلى "شانطي" آخر، والشانطي في قاموس الحرفيين معناه "ورشة عمل"، أذكر أنه حكى لي قصة ذلك المثل الذي طُردنا بسببه: "طاحت الصومعة، علقوا الحجّام".

قال: "كان لأحد الملوك حلاق خاص به. مرض ذات يوم فأرسلوا في طلب حلاق آخر-من الدرب- ليكرّط للملك لحيته، وعندما اختلى الحجّام بالملك، استغل غياب الحُراس فأخذ يتشكّى على الملك من ظلم حاشيته وزبانيته للشعب بغير وجه حق.. الملك كان يجيبه بلطف ويُطمإنه على أنه سيُعيد جميع الحقوق إلى أصحابها.. وبينما هما كذلك إذ دخل أحد الحُراس مُهرولا وهو يلهث من التعب، ثم قال:
- نعاماس نعاماس.. راه طاحت الصومعة ديال الجامع…

جلالة الملك لم يكن يهمه أن تطيح الصومعة بقدر ما يهمه أن يُطرّق مسمار الحجّام، فأصدر أمره قبل أن يكمل الحارس كلامه، فقال:
- عـــلــقــوا الــحـــجـــام !

يعني على خشبة المِقصلة، لإيهام الناس أنه المسؤول عن سقوط المئذنة. والواقع هو أن السلطان كان يفكر فعلا في مبرر للتخلص من الحلاق، فانتهز هذه الفرصة ليتهنّى منه".

ما فاجأني هو كون ذلك "المعلم الجباص" حديث العهد بهذه الحرفة، أما حرفته الأصلية فلم تكن سوى "تحجّامت"، لكنه تركها لغاية في نفسه أبى أن يُفصح عنها…

وما دمنا قد جبدنا الكلام عن الحلاق، فلابد من الإشارة إلى أنه يتميز دائماً بالأناقة.. بدءاً بحلاقة رأسه وانتهاء بحذائه الانيق.. وهذه الصفة تميزه عن أصحاب باقي المهن. وفي التراث العربي، قال ابن حلاق يصف أباه:
أنا ابن من دانت الرقاب له
مابين مخزومها و هاشمها
تأتي إلـيـه الـرقاب صاغرة
يأخـذ من مالها ومن دمهـا

كما سمعتُ بأن دعاء الحلاق مستجاب، أنا شخصيا تأكدت من ذلك، ففي كل مرة أزور فيها الحلاق ليحلق لي رأسي أو يكرّط لي ذقني، أعطيه أجرته فيكمّدها في جيبه دون أن ينظر إليها ثم يقول: "الله يخلف"… فيستجيب الله لدعائه فأعود عنده بعد ثلاثة أيام وقد غَـوْفـَــلتُ…