ما هو النوع؟(*)
حتى هذا اليوم، ما زال العلماء يجهدون مع هذا السؤال.
إن تعريفا أفضل للنوع يمكن أن يكون له أثر في تحديد الأسماء التي تشكل قائمة الحيوانات المهددة بالانقراض.
<C. زيمر>
مفاهيم مفتاحية
بداية عَرَّفت أنظمة التصنيف الرسمية الأنواع على أساس سِمَات مرئية، مثل الزعانف والفراء. فيما بعد، تغير مفهوم النوع، بحيث حدَّد أنه من أجل أن ينتمي كائنان إلى النوع نفسه يجب أن تتوفر لديهما القدرة على التزاوج.
اليوم يمكن التحقق من التنوع البيولوجي عن طريق اعتيان sampling الدنا DNA، وتَتَبُّع الكيفية التي ينحدر descended فيها النوع من سلف مشترك common ancestor.
إن الجدل حول تعريف النوع لم ينتهِ بعد، فهو أكثر من مجرد جدل أكاديمي. إن التصنيف الصحيح ضروري من أجل تعيين قائمة المتعضيات (الكائنات) المهددة بالانقراض.
محررو ساينتفيك أمريكان
إذا ما تسنَّى لك زيارة ميدان ألگونكوين پروفينشال پارك في أونتاريو، فإنه يمكن أن يتناهى إلى سمعك عواء الذئاب الموحش. بل إنه قد يسعدك الحظ، فتلمح جماعة منها وهي تتسابق عبر الغابة. ولكن بعد عودتك إلى الوطن وفي أثناء استعراضك متباهيا للصور غير الواضحة التي التقطتها، تتساءل ما هي الأنواع التي سأتفاخر بأني قد رأيتها؟ سوف تختلف الإجابة عن هذا السؤال باختلاف العالِم الذي يوجَّه إليه، بل إن بعض هؤلاء العلماء قد يقدم إليك عدة إجابات مختلفة للسؤال نفسه في الوقت عينه.
في القرن الثامن عشر أطلق علماء الطبيعة الأوروبيون اسم النوع Canis lycaon على الذئاب الموجودة في كندا وشرقيّ الولايات المتحدة الأمريكية، وذلك لأنها بدت متميزة عن الذئب الرمادي Canis lupus الموجود في أوروبا وآسيا. ومع بدايات القرن العشرين قرر علماء الطبيعة في أمريكا الشمالية أن هذه الذئاب هي في الحقيقة ذئاب رمادية أيضا. ولكن العلماء الكنديين الذين كانوا خلال السنوات القليلة الماضية قد حلَّلوا دنا DNA الذئاب، عادوا من حيث أتوا. لقد برهنوا أن الذئاب الرمادية الموجودة في القارة الأمريكية تعيش فقط في الجزء الشمالي الغربي منها، أمّا الذئاب الموجودة في ميدان ألگونكوين پروفينشال پارك فتنتمي إلى نوع منفصل يريدون أن يطلقوا عليه اسم C. lycaon مرة أخرى.
ولا يعتقد خبراء آخرون في الذئاب أن هناك دليلا كافيا يدعو إلى فصل الذئاب الرمادية C. lupus إلى نوعين منفصلين. ويتفق الطرفان على أن هوية ذئاب الألگونكوين قد أصبحت أقل وضوحا، ويُردّ ذلك إلى التهاجن (التزاوج المختلط) interbreeding. فقد انتشر القَيُّوط coyotes (وهو نوع آخر تابع للجنس Canis) باتجاه الشرق وبدأ بالتهاجن مع النوع C. lycaon. والآن يحمل جزء لا بأس به من حيوانات القَيُّوط الشرقية دنا الذئب، والعكس بالعكس. وفي هذه الأثناء كانت أفراد النوع C. lycaon تتهاجن مع الذئاب الرمادية على الحدود الشرقية لميدان انتشارها. وهكذا لم تكتفِ حيوانات الألگونكوين بمزج دنا النوع C. lycaon بدنا النوع C. lupus ـ وإنما تقوم بتمرير دنا نوع القَيُّوط كذلك.
حتى لو أن حيوان C. lycaon كان ذات مرة نوعا، فهل مازال كذلك؟ يجد العديد من الباحثين أن أفضل طريقة للنظر إلى النوع هو أنه عشيرة population تتزاوج أفرادها في الغالب فيما بينها، مما يجعل هذه المجموعة متميزة وراثيا من الأنواع الأخرى. وعندما يتعلق الأمر بالذئاب والقَيُّوط، فمن الصعب تحديد أين ينتهي أحد هذين النوعين وأين يبدأ الآخر. يقول <B. وايت> [من جامعة ترينت في أونتاريو]: «نحن نحب أن ندعوه حَساء Canis.»
إن النقاش الدائر لا يتعلق فقط بحقوق إطلاق أسماء صحيحة، بل يتعدى ذلك بكثير. فالذئاب الموجودة في الجزء الجنوبي الشرقي من الولايات المتحدة الأمريكية تُعَدُّ نوعا منفصلا، هو الذئب الأحمر Canis rufus. وقد كان هذا الذئب موضوعا لمشروعٍٍ ضخمٍ من أجل حمايته من الانقراض، تضمَّن جهودا لتربيته في الأسر، ثم برنامجا لإعادة إدخاله إلى الطبيعة البرية. ولكن العلماء الكنديين يجادلون بأن الذئب الأحمر هو في الحقيقة مجرد عشيرة جنوبية معزولة من النوع C. lycaon. فإذا ما كان هذا صحيحا، فإن الحكومة لم تكن في الحقيقة تحافظ على «نوع» من الانقراض، إذ إن آلافا من الحيوانات المنتمية إلى النوع نفسه مازالت تزدهر في كندا.
وكما تثبت حالة ذئاب ألگونكوين، فإن تعريف النوع يمكن أن يكون له أثر كبير في حصول مجموعة مهددة بالانقراض على الحماية، أو حصول موطن بيئي habitat ما على الحماية من الضياع. يقول <A. تيمپلتون> [من جامعة واشنطن في سانت لويس] «على نحو ما، إنه موضوع يخص فئة قليلةesoteric ، ولكنه من ناحية أخرى هو موضوع عملي جدا، بل حتى إنه قضية ذات أبعادٍ قانونية.»
توضح حالة الذئاب سبب كون تصنيف الأنواع مربكا. كان الحيوان Canis lycaon نوعا من الذئاب جال في غابات أونتاريو في القرن الثامن عشر. لكن علماء الأحياء أعادوا تصنيف هذه الحيوانات في بداية القرن العشرين لتصبح نوعا آخر هو C. lupus وذلك قبل أن تعاد تسميتها C. lycaon خلال السنوات القليلة الماضية. والآن يعد بعض خبراء الذئاب هذه الحيوانات خليطا من بضعة أنواع، بما فيها ذئب القيُّوط (C. latrans) coyotes والذئب الرمادي.
ارتباك في التعاريف(**)
قد يكون مفاجئا لنا رؤية العلماء يجهدون للاتفاق على شيء أساسي جدا مثل كيف نقرر أن مجموعة من المتعضِّيات organisms (الكائنات الحية) تشكل نوعا مستقلا. ربما تكون اللغة اللاتينية هي المسؤولة عن إضفاء تلك النفحة من اليقين المطلق على أسماء الأنواع، وأن هذا هو الذي ضلل العامة إلى الاعتقاد أن قواعد تسمية الأحياء سهلة؛ أو ربما هي ال1.8 مليون نوع التي قام العلماء بتسميتها خلال القرون القليلة الماضية؛ أو ربما إنها القوانين التي من قبيل قانون الأنواع المهددة بالانقراض Endangered Species Act، هي التي تسلِّم بأننا نعرف ما هي الأنواع. ولكن في الحقيقة، إن مفهوم النوع بحد ذاته قد أثار نقاشا لعقود من الزمن. يقول <J. مارشال> [عالم البيولوجيا من جامعة يوتاه الجنوبية] «ليس هناك أي اتفاق عام بين علماء البيولوجيا حول ماهية النوع.» وفي آخر إحصاء، كان هناك على الأقل 26 مفهوما منشورا ومتداولا لتعريف النوع.
وما يجعل هذا الاختلاف لافتا بشكل أكبر هو أن ما يعرفه العلماء الآن عن الآلية التي تطورت بها الحياة إلى أشكال جديدة أكثر بشكل كبير مما كانوا يعرفون عنها عندما بدأ النقاش عن الأنواع لأول مرة . فحتى قبل فترة قريبة لم يكن ممكنا لعلماء التصنيف تحديد الأنواع الجديدة إلا من خلال ما كان يمكن لهم مشاهدته ـ أشياء مثل الزعانف والفراء والريش. واليوم صار بإمكانهم قراءة تسلسلات جزيء الدنا، وهم الآن يكتشفون احتواءها على ثروة مخبأة من التنوع البيولوجي.
يتوقع <تيمپلتون>، مع خبراء آخرين، أن النقاش ربما يكون قد وصل أخيرا إلى نقطة انعطاف. إنهم يعتقدون أنه من الممكن الآن جمع كثير من المفاهيم المتنافسة لتعريف النوع في مفهوم واحد يضمها جميعا. وسيطبَّق هذا المفهوم الموحَّد للنوع على أي صنف من المتعضيات، من الطيور المقلدة (المحاكية) mockingbirds إلى الميكروبات (الكائنات الدقيقة) microbes. ويأمل هؤلاء الباحثون أنّ هذا المفهوم الجديد للنوع سوف يؤدي إلى تطوير أدوات فعالة من أجل تعرف أنواع جديدة.
الحكمة الشعبية(***)
أنظمة التصنيف الشعبية القديمة المستخدمة من قِبل قبائل السّان وغيرهم من السكان الأصليين مازالت تسمي النباتات والحيوانات على أساس صفات يمكن ملاحظتها. غالبا ما لجأت الطرق التي أتت لاحقا، مثل «تصنيف لينيوس»، إلى هذا الأسلوب من التصنيف والترتيب.
قبل بزوغ فجر العلم بوقت طويل، شرع الإنسان في تسمية الأنواع. فلكي يتمكن البشر من صيد الحيوانات وجمع النباتات كان يتعين عليهم معرفة ما الذي يتحدثون عنه. وظهر علم التصنيف Taxonomy، وهو العلم الحديث الذي يعنى بتسمية الأنواع، في القرن السابع عشر وصار علما قائما بحد ذاته في القرن التالي، ويعود معظم الفضل في ذلك إلى أعمال عالم الطبيعة السويدي <C. لينيوس> الذي ابتكر نظاما من أجل وضع الأشياء الحية ضمن مجموعات ومجموعات جزئية. ويتشارك كل فرد من أفراد مجموعة في سمات أساسية محددة. فانتمى الإنسان إلى طائفة الثدييات mammals، وهذه الطائفة تضمّ رتبة الرئيسات primates، وانتمى ضمن هذه الرتبة جنس Homo، الذي يقع فيه نوع الإنسان Homo sapiens. وأعلن <لينيوس> أن كل نوع من الأنواع المعروفة وجد منذ بداية الخلق، حيث قال: «يعادل عدد الأنواع الموجودة عدد الأشكال المتنوعة التي أنتجها الكائن اللانهائي(1) منذ بداية الخلق.»
لقد جعل نظام <لينيوس> الجديد عمل علماء التصنيف أكثر سهولة، ولكن تبين أن محاولة رسم الحدود بين الأنواع كثيرا ما كان أمرا مُحْبِطا. فقد يتزاوج نوعان من الفئران في المواقع التي تتداخل فيها أماكن تواجدهما، وهذا يثير سؤالا حول الاسم الذي يجب أن يعطى للنسل الهجين الناتج من تزاوجهما. كما كان هناك تخبط داخل النوع أيضا. فعلى سبيل المثال، يمتلك طائر طيهوج (تَرَّمجان)(2) الصفصاف willow ptarmigan الموجود في إيرلندا ريشا يختلف قليلا عن الريش الموجود على طائر الطيهوج الموجود في أسكوتلندا، والذي يختلف بدوره عن الطائر نفسه الموجود في فنلندا. لم يستطع علماء الطبيعة الاتفاق فيما إذا كانت هذه المجموعات الثلاث من الطيور تنتمي إلى ثلاثة أنواع مختلفة من الطيهوج أو أنها مجرد ضروب varieties ـ أو بكلمات أخرى مجموعات جزئية من نوع واحد.
هناك على الأقل26 مفهوما منشورا تحاول تقديم تعريف لما هو النوع.
كان <تشارلز داروِن>، على سبيل المثال، تسرّه متابعة هذه الصراعات. فقد كتب عام 1856 «من المضحك حقيقةً متابعة ما هي الأفكار المختلفة التي تأخذ مكانا بارزا في أذهان علماء طبيعة متباينين، عندما يتحدثون عن «الأنواع». أنا أعتقد أن كل هذا يأتي من محاولة تعريف ما هو غير قابل للتعريف.» وقد ناقش <دارون> أن الأنواع لم تكن ثابتة منذ نشأتها، وإنما تطورت. إن كل مجموعة من المتعضيات التي ندعوها نوعا تنشأ كضرب من نوع أقدم منها؛ إذ يقوم الاصطفاء (الانتخاب) الطبيعي natural selection بتحويلها في أثناء تكيُّفها مع بيئتها. وفي الوقت نفسه تنقرض ضروب أخرى. وهكذا يصبح ضربٌ قديم مختلفا بشكل ملحوظ عن جميع المتعضيات الأخرى ـ وهذا هو ما ننظر إليه كنوع قائم بذاته. وقد أعلن <دارون> «أنا أنظر إلى مصطلح «النوع» على أنه مصطلح أُعطي اعتباطيا، ابتغاء تيسير الأمور، لمجموعة من الأفراد يشبه بعضها بعضا إلى حدٍ كبير.»
وكعلماء التصنيف الذين سبقوه، لم يكن باستطاعة <دارون> دراسة الأنواع إلا بالعين المجردة: بملاحظة لون ريش الطيور، أو عَدِّ الصفائح الموجودة على هيكل البَرَنْقيل(3) barnacle، مثلا. وكان على العلماء أن ينتظروا حتى بداية القرن العشرين ليتمكنوا من الشروع في اختبار الفروق الوراثية بين الأنواع. وقد أدَّت أبحاثهم إلى طريقة جديدة في التفكير. فقد كان ما جعل النوعَ نوعا هو الحواجز التي تمنع النوع من التزاوج بأنواعٍ أخرى. يمكن للجينات genes أن تنتقل بين الأفراد أثناء تزاوجهم، ولكن هذه الأفراد تبقى عادة محصورة ضمن النوع، ويعود الفضل في ذلك إلى الحواجز التناسلية بين الأنواع. فقد تكون الأنواع المختلفة مستعدة للتكاثر في أوقات مختلفة من العام، أو أنها يمكن أن تجد تغريد التزاوج عند الأنواع الأخرى غير جذاب لها، أو ببساطة، لمجرد أن يكون دنا هذه الأنواع غير متوافق.
إن أفضل طريقة مفهومة لتطور هذه الحواجز هي من خلال الانعزال isolation، إذ يتعين على بعض الأفراد التابعة لنوع موجود ـ عشيرة من الأفراد ـ أن تصبح غير قادرة على التزاوج ببقية أفراد النوع التابعة له، كأن تمتد مَجْلَدة(4) glacier لتفصل بين أماكن انتشارها، مثلا. وعندئذ تطور العشيرة المعزولة جينات جديدة، وبعض هذه الجينات الجديدة قد يجعل التزاوج بأفراد النوع الأصلي صعبا أو مستحيلا. وعلى مدى مئات آلاف السنين ينشأ العديد من العوائق والحواجز، بحيث تصبح العشيرة المعزولة نوعا مستقلا.
وأدَّى هذا المفهوم لآلية نشوء الأنواع إلى مفهوم جديد لما يعنيه النوع. فقد أعلن <E. ماير> [عالم الطيور الألماني] بجرأة أن الأنواع ليست مجرد أسماء ملائمة ولكنها كينونات entities حقيقية، كما هي الجبال والبشر. ففي عام 1942 عرَّف <ماير> النوع بأنه مجمَّع جيني gene pool، واصفا إياه بأنه مجموعة من العشائر التي لها القدرة على التكاثر فيما بينها وغير القادرة على التزاوج بنجاح بعشائر أخرى. وقد أصبح «مفهوم النوع البيولوجي» biological species concept، كما يطلق عليه الآن، المفهوم المعتمد في أمهات الكتب التعليمية.
[تصنيف قياسي]
عالَم لينيوس(****)
وضع <لينيوس> الأساس لعلم التصنيف الحديث خلال القرن الثامن عشر، حيث فرز جميع الأشياء الحية في مجموعات ذات ترتيب هرمي تتراوح بين مستوى العالَم (المملكة) (كالحيوانات والنباتات والفطور) هابطة إلى مستوى أنواع فردية، يمتلك كل منها مجموعة فريدة من السمات المشاهَدة.
ولكن ...
غالبا ما يواجه علماء الطبيعة صعوبات في تمييز نوع من آخر. فطيهوج (ترمجان) الصفصاف في اسكوتلندا له كساء من الريش مميز يختلف عن مثيله في فنلندا (في اليسار) ـ ومن غير الواضح ما إذا كان هذا الفرق كافيا لتبرير تقسيم هذين المخلوقين إلى نوعين منفصلين وفقا لنظام لينيوس التصنيفي.
بيد أنه بمرور الوقت أصبح العديد من العلماء غير راضين عن هذا المفهوم للنوع، حيث كانوا يجدونه أضعف من أن يساعدهم على فهم عالَم الطبيعة. وأحد الأمثلة على ذلك، أن مفهوم <ماير> للنوع لم يقدم أي دلالة على درجة العزلة التكاثرية reproductively isolated التي يجب على النوع أن يتمتع بها من أجل أن يستحق إطلاق صفة النوع عليه. وقد وجد البيولوجيون أنفسهم مرتبكين حيال أنواع كانت تبدو متميزة نسبيا من بعضها، ولكنها تتزاوج فيما بينها بانتظام. ففي المكسيك، مثلا، اكتشف العلماء مؤخرا أن نوعين من القردة كانا قد تشعبا من سلف مشترك قبل ثلاثة ملايين عام يتزاوجان فيما بينهما بانتظام. فهل تزاوجهما بتكرارية كبيرة يحول دون اعتبارهما نوعين منفصلين؟
ومع أن بعض الأنواع تبدو كأنها تتزاوج فيما بينها بتكرارية تفوق ما يناسب مفهوم النوع البيولوجي، فإن أنواعا أخرى يبدو أنها لا تتزاوج بما يكفي لاعتبارها أنواعا. فمثلا، يعيش نبات عباد الشمس في عشائر شديدة العزلة على امتداد أمريكا الشمالية. ونادرا ما تنساب الجينات من عشيرة إلى أخرى. ويمكن للمرء استخدام مفهوم <ماير> للنوع باعتبار كل من هذه العشائر نوعا منفصلا.
والأكثر صعوبة من بين جميع الأنواع هي تلك الأنواع التي ليس لديها أي صورة من صور التكاثر الجنسي. لنأخذ مثلا خطا نَسَبِيا lineage من الحيوانات المائية المجهرية التي تعرف باسم الدوَّارات(5) (الروتيفيرات) العَلَقيَّة bdelloid rotifers. تتكاثر معظم حيوانات شعبة الدوَّارات rotifers جنسيا، ولكن أنواع طائفة الدوارات العلقية قاطعت التكاثر الجنسي منذ حوالي 100 مليون عام، إذ إن جميع هذه الحيوانات إناث، وهي تكوِّن الأجنة من دون الحاجة إلى حيوانات منوية. فوفق مقاييس مفهوم النوع البيولوجي، انتقلت الحيوانات الدَّوَّارة العلقية من كونها نوعا لتصبح لانوعا، بغض النظر عما يعنيه ذلك.
[مفهوم النوع البيولوجي]
البيولوجيا مصير(*****)
غالبا ما تعرف كتب التعليم النوع ـ أدنى مرتبة في ترتيب لينيوس الهرمي ـ بأنه يتألف من متعضيات حية تتشارك في مجمع جيني gene pool متماسك. ووفقا لمفهوم النوع البيولوجي، يمكن لأفراد عشيرة ما أن تتزاوج بنجاح ببعضها وبعشائر أخرى ضمن النوع نفسه، ولكن لا يمكنها التزاوج بأفراد تابعة لنوع آخر.
ولكن ...
بعض المتعضيات ـ كالدوارات العلقية bdelloid rotifers مثلا ـ لا يتكاثر جنسيا. كذلك فإن نوعين من القردة المكسيكية العاوية (الصورتان في الأسفل)، تفرَّعا عن سلف مشترك عاش قبل ثلاثة ملايين عام ومازالا قادرين على التزاوج أحدهما بالآخر حتى الآن.
معادلة عديمة الجنس(******)
أدى هذا النوع من عدم الرضا ببعض العلماء إلى ابتكار مفاهيم جديدة للنوع. وقد صِيغَ كل مفهوم ليجسد جوهر مفهوم النوع. وواحد من أشد منافسي مفهوم النوع البيولوجي، ويُدْعَى مفهوم النوع المعتمد على أصول الأنساب phylogenetic species concept، يأخذ الجنسَ من معادلة تعريف النوع ويضع مكانه التحدُّر من سلف مشترك.
فالمتعضيات المتقاربة(6) تتشارك في سماتها لكونها تتشارك في سلفية ancestry واحدة. فالإنسان والزرافات والوطاويط تنحدر جميعها من ثدييات قديمة، ومن ثم لديها شعرٌ وأثداء. وضمن الثدييات، يتشارك الإنسان مع الرئيسات الأخرى في سلف أكثر قربا. فقد ورثت الرئيسات من سلفها المشترك سمات أخرى، مثل العينين المتجهتين إلى الأمام. ويمكنك الولوج أكثر بالطريقة نفسها في اتجاه مجموعات أصغر فأصغر من المتعضيات. ولكن، في نهاية الأمر، تتوقف إمكانية الولوج في مجموعات أقل صغرا. فهناك متعضيات تشكل مجموعات لا يمكن فصلها إلى مجموعات أصغر. وهذه المجموعات هي، وفقا لمفهوم النوع المعتمد على أصول الأنساب، هي الأنواع. وعلى نحو ما، يأخذ هذا المفهوم للنوع نظام <لينيوس> الأساسي لمفهوم النوع ويقوم بتحديثه في ضوء مفهوم التطور.
تم احتضان مفهوم النوع المعتمد على أصول الأنساب من قِبل الباحثين الذين يحتاجون إلى تعرُّف الأنواع أكثر من مجرد التأمل فيها. إن تمييز نوع ما، وفق هذا المفهوم، هو مسألة إيجاد مجموعة من المتعضيات تشترك في سمات محددة واضحة المعالم، ولم يعد يتعين على العلماء الاعتماد في ذلك على مواصفات غير واضحة المعالم كالانعزال التكاثري. فعلى سبيل المثال، أُعلن حديثا أن النمور الغائمة (المرقّطة) التي تقطن جزيرة بورنيو الإندونيسية(7) نوع مستقل بذاته، متميز من النمور الغائمة الموجودة في جنوب آسيا(8)(9). بيد أن جميع النمور الغائمة تتشارك في سِمَات لا توجد عند السنانير الموجودة في قلب القارة، بما فيها الفروة القاتمة المميزة.
ويعتقد بعض منتقدي هذا المفهوم للنوع أنه يحدث في هذه الأيام ما يتجاوز المعقول من تقسيم الأنواع القائمة. وتقول <G. مايس> [من إمپيريال كوليدج في لندن]: «إن المشكلة في هذا الأمر هي أن هذا الأسلوب لا يقدم لك مستوى طبيعيا ينبغي التوقف عنده.» ويمكن لطفرة واحدة، نظريا على الأقل، أن تكون كافية لتُكْسِبَ مجموعة صغيرة من الحيوانات اسم نوع مستقل. وتعلق <مايس> قائلة «إنه لمن الحماقة أن نمضي في تفريع الأنواع إلى هذا الحد.» كذلك تجادل <مايس> بأنه يجب أيضا النظر إلى عشيرة ما من المتعضيات مميزة إكولوجيًا ecologically ـ من الناحية الجغرافية والمناخية، ومن ناحية علاقات المفترس والفريسة ـ قبل أن يقرر أحد ما أن يفصلها كنوع جديد.
ولكن يعتقد باحثون آخرون أنهم يجب أن يتوجهوا إلى حيث تقودهم البيانات بدلا من الانشغال بمسألة المبالغة في التقسيم إلى أنواع جديدة. ويقول <J. وينز> [عالم البيولوجيا من جامعة ستوني برووك]. «إن الأمر كما لو أن الذنب هو الذي يهز الكلب.» ويضيف «إن الجدل بأن هناك سقفا ما لعدد الأنواع التي يتعين وجودها لا يبدو علميا بما فيه الكفاية.»
[مفهوم النوع باعتماد خطوط الأنساب]
لينيوس محدّث(********)
ظهر مفهوم النوع باعتماد تاريخ النشوء والتطور من توجُّه جديد لتصنيف الحياة، يعرف باسم علم تصنيف خطوط الأنساب phylogenetic systematics. وبخلاف نظام لينيوس، يأخذ هذا العلم التاريخ التطوري في الحسبان متجاهلا موضوع إمكانية تزاوج عشيرتين فيما بينهما، فيصنف هذا النظام النوع المنفرد على أنه متعضية تتشارك مع أنواع أخرى في سلف يجمعها ولكنه انفصل عنها باكتسابه سمات مميزة أحدث. وتُظهر شجرة النشوء والتطور، التي تعرف أيضا باسم شجرة الحياة، كيف تتفرع الأنواع الجديدة من سلف مشترك بالتزامن مع اكتسابها سمات لم يمتلكها السلف الذي نشأت عنه. تُدْرِج الشجرة في الأسفل بعض السمات التي راكمتها حيوانات أرضية والأسماك مع تقدم تطورها.
ولكن ...
يؤكد بعض المنتقدين أن توجُّه النشوء التطوري للنوع يبالغ في التصنيف. فمثلا النمر الغائم (المرقط) الموجود في جزيرة بورنيو صُنِّف مؤخرا نوعا بسبب فروته القاتمة المميزة التي تغطيه، إضافة إلى سمات أخرى. ولكن البعض يجادل بأن هذه الصفات قد لا تكون في حد ذاتها كافية لجمع هذه الحيوانات في نوع منفصل عن النمور الغائمة الأخرى الموجودة في جنوب آسيا.
ارتباك وفوضى حول الجوهر(*******)
منذ سنوات خلت أقنع هذا الضرب الذي لا ينتهي من الجدل عالِم البيولوجيا <K. دي كويروز> [من معهد سيمثسونيان] بأن الجدل الدائر حول الأنواع قد تجاوز الحدود، قائلا: «لقد بدأ هذا الجدل يخرج عن السيطرة، وأظن أن الكثير من الناس قد بدؤوا يمجُّونه getting sick.»
ثم تدخل <دي كويروز> معلنا أن الكثير من الجدل الدائر لم يتعامل مع جوهر المشكلة وإنما حول تشويش وتخليط محيطين بها، ولكنه يقول «إن التشويش الحاصل هو في الحقيقة بسيط.» وذلك لأن معظم مفاهيم النوع المتنافسة تتفق فعليا حول أشياء أساسية. فجميعها مثلا، مبني على أساس أن النوع هو خط أنساب متميز دائم التطور، فبالنسبة إلى <دي كويروز> هذا هو التعريف الأساسي للنوع. إن معظم الخلافات حول النوع لا تتعلق فعليا بمفهومه وإنما تتعلق بكيفية تمييز النوع. ويعتقد <دي كويروز> أن الطرق المختلفة لتمييز النوع يكون كل منها أفضل من غيره في حالات بعينها. إن انعزالا تكاثريا قويا هو دليل جيد على أن عشيرة من الطيور تمثل نوعا، مثلا؛ ولكنه ليس المقياس الوحيد الذي يمكن استخدامه. فمن أجل حيوانات الدوارات العلقية التي ليس لديها تكاثر جنسي، يتعين على العلماء أن يستخدموا معايير من طراز آخر.
يشارك العديد من الخبراء الآخرين (ولكن ليس جميعهم) <دي كويروز> في تفاؤله. فبدلا من محاولتهم استخدام قاعدة ذهبية واحدة يقومون باختبار الأنواع الجديدة اعتمادا على بضعة خطوط مختلفة من الأدلة. فعالم البيولوجيا <J. بوند> [من جامعة كارولينا الشرقية] وطالبته <A. ستوكمان> تبنيا هذا التوجه في مسح جنس غامض من العناكب Promyrmekiaphila، موجود في كاليفورنيا. لقد جهد علماء التصنيف طويلا في محاولة معرفة عدد الأنواع الموجودة من هذا الجنس. والعناكب عصية على التصنيف السهل؛ لأنها تبدو متطابقة تقريبا في الشكل. ولكن العلماء كانوا يعرفون أيضا أن العناكب ربما تشكل عشائر معزولة جدا عن بعضها، وهذا يعود بشكل كبير إلى حقيقة أن كل عنكبوت لا يتحرك بعيدا جدا عن مسكنه.
يمكن لنوعين متقاربين من البكتيرات أن يكون أحدهما أكثر اختلافا عن الآخر من اختلاف الإنسان عن جميع الرئيسات الأخرى.
ويقول <بوند>: «إنه بمجرد أن تحفر الأنثى لها جحرا جيدا مجهزا بباب مخفي (مصيدة) وبطانة من الحرير، يصبح من غير المحتمل أن تتحرك بعيدا عن هذا الجحر بعد ذلك.» وقد حفر <بوند> كاشفا عن جحور صنعتها عناكب Promyrmekiaphila ووجدها تحوي ثلاثة أجيال من إناث العنكبوت كانت تعيش في هذه الجحور منذ سنين. أما الذكور فهي لن يتسنى لها الذهاب بعيدا عن جحورها التي ولدت فيها قبل أن تتزاوج بأنثى من جحر مجاور.
من أجل تعريف أنواع هذه العناكب تبنى <بوند> و<ستوكمان> طرقا ابتكرها <تيمپلتون>، فقاما بدراسة التاريخ التطوري للجنس Promyrmekiaphila، حيث قاسا الانسياب الجيني gene flow بين العشائر، وحدَّدا الدور البيئي الذي تؤديه هذه العناكب. ومن أجل دراسة التاريخ التطوري، قام <بوند> و<ستوكمان> بسَلْسَلة أجزاء من جينتين مختلفتين عند 222 عنكبوتا موجودة في 78 موقعا بكاليفورنيا، ثم قاما بمسح الدنا بحثا عن واسِمات جينية genetic markers أظهرت علاقة بعض العناكب ببعض. وقد تبين أن الشجرة التطورية لهذه العناكب مؤلفة من عدد من خطوط الأنساب المتميزة.
ثم بحث <بوند> و <ستوكمان> بعد ذلك عن صور متحورة من الجينات في عشائر مختلفة لهذا العنكبوت، وذلك بغية إيجاد دليل على الانسياب الجيني. وأخيرا قاما بتسجيل الظروف المناخية التي عاشت فيها كل مجموعة من هذه العناكب. وقد تمكَّنا في النهاية من تعرف ستة أنواع من هذا الجنس حققت المعايير الثلاثة السابقة. وإذا ما تم قبول هذه النتائج، فإنه يتضاعف عدد الأنواع التابعة للجنس Promyrmekiaphila.
[توجه موحَّد]
أفضل جميع العوالم(*********)
بسبب اللغط الحاصل، شرع بعض الباحثين في إيجاد تصنيفات باعتماد خطوط الأنساب عن طريق البحث فيما وراء التاريخ التطوري رابطين بينه وبين بيانات جزيئية وسلوكية وبيولوجية. وكمثال على ذلك، درس <J. بوند> بالتعاون مع أحد طلبته جنسا من العناكب Promyrmekiaphila (في الأعلى) يوجد في كاليفورنيا. فدرسوا التاريخ التطوري لهذا العنكبوت ودوره البيئي، كما قاموا بسَلْسلة الجينات عند 222 فردا من هذه العناكب أخذت من 78 موقعا. وباستخدام المجموعة الكاملة من المعلومات التي تجمعت لديهم قاموا بوضع هذه الحيوانات ضمن ستة أنواع مختلفة.
إن هذا النوع من التوجه يمكِّن العلماء من دراسة المتعضيات التي بَدَت في مرحلة ما غير قابلة لتطبيق مفاهيم النوع عليها. فبسبب كون حيوانات الدَّوَّارات العلقية تفتقد التكاثر الجنسي، فإنها لا تتفق جيدا مع مفهوم النوع البيولوجي. وقد استخدم <T. باراكلوه> وزملاؤه [من إمپيريال كوليدج في لندن] طرقا أخرى لتحديد فيما إذا كانت تلك الحيوانات تنتمي إلى مجموعات تشبه النوع. فقاموا بسَلْسَلة الدنا، وشكلوا شجرة تطورية لهذه المجموعة من الحيوانات، ضمت عددا قليلا فقط من الأفرع الطويلة، وكان يعلو كل فرع من هذه الفروع حزمة من الغُصَينات القِصار؛ ثم قاموا بعد ذلك بفحص أجسام الحيوانات الدوّارة الموجودة في كل حزمة فوجدوها متشابهة. هذا يعني، بتعبير آخر، أن التنوع الموجود عند الحيوانات الدوّارة لم يكن مجرد تنوع غير واضح المعالم، وإنما تشكِّل هذه الحيوانات جماعات متميزة، ناجمة على الأرجح عن خطوط نسب منفصلة تتلاءم مع خانات بيئية niches مختلفة. فإذا لم تكن هذه الحزم أنواعا فهي قريبة جدا من كونها كذلك(10).
يتبع