بعد فوات الأوان

21/10/2009




في سابقة لم يجرؤ على الإجهار بها أي وزير تعليم سابق،خرج في الأيام القليلة الماضية السيد وزير التربية الوطنية الحالي بتصريح طالما تردد في الكواليس التعليمية،ومضمونه أنه كان من الأجدى ومن الأفيد تنقيل التلاميذ إلى المدرسة بدل نقل المدرسة إلى التلاميذ . وهذا الخيار الذي تجسده المدرسة الجماعاتية يقضي بأن تتكفل الدولة أوالجمعيات،كل من جهته بتدبير النقل واللوجيستيك لضمان التحاق التلاميذ بمدارس متمركزة في أوساط حضرية أوشبه حضرية.
انتهت فكرة السيد الوزير. نعود الآن إلى واقع الحال وراهن المآل ،لنؤكد بالحجج الراسخة أن سياسة تقريب الإدارة من المواطنين كانت وبالا على المرفق العمومي والتمثلات المرتبطة به،على الأقل في المجال التعليمي. فتقريب المستوصفات والمراكز الصحية من السكان وبثها في المناطق النائية، لم يكتب له أن يؤمن الشروط الصحية لهؤلاء السكان،الذين بات أغلبهم محروما من الخدما ت الأساسية والتي لا يمكن تصور أي قطاع صحي بدونها.وهاهي النتيجة :خيبة أمل يحصدها المواطن جراء إفراطه في التفاؤل من تواجد المرفق العمومي على مرمى حجر من مسكنه. وتقريب الإدارة الترابية من المواطن لم تمله حاجة مجتمعية على درجة كبيرة من الضغط والملحاحية،اللهم ما تعلق بالهاجس الأمني الذي يصر على إبقاء الإدارة عينها في تواجد ميداني لتأمين مطلبي السكبنة والطمأنينة، والتي قد تكون هبة الدولة وحدها ، والمستمدة من احترامها لبنود الدستور،كافية للوفاء بهما.
لكن ما يتعلق بالتدبير اليومي وما يرتبط به من إنجاز للوثائق وتعديل للعقود(العمل الإداري المحض) فإن ضعف الفعالية وبطء التنفيذ هما السمتان الغالبتان في كل أطواره، فضلا عن حالات التسيب والإستخفاف بالواجب عند بعض الموظفين.وهنا لن نجانب الصواب إن قلنا أن مناط حدوث هذه الحالات هو بالتأكيد هذا" التقريب" المشؤوم الذي يحد من فاعلية الرقابة المركزية ، ويطلق يد البعض في الإبتزاز والمناورة على مصائر من لا حول لهم ولا قوة. أما وزارة التربية الوطنية فلها قصة أخرى مع هذا الإنتشار الموسع للتعليم،ومارافقه من تناسل الوحدات المدرسية مع بداية الثمانينيات من القرن الماضي.فلم يعد أي مدشر مهما نأته ظروفه الجغرافية يفتقر إلى مدرسة تفي بغرض تحقيق مبدأ تكافؤ الفرص الذي يروج له المسؤولون،،فأصبحت هذه المدارس، بفعل هذا الإنتشاروالإنشطار،في صميم حياة الوحدات السكنية،ليس من باب التفاعل الإيجابي والإحتضان الطوعي ذي الشحنة النفعية والعطاء المتبادل،بل من باب الإبتذال والنفور من مؤسسات تفرخ العطالة وتزكي المألوف من التمثلات السلبية التي تؤججها جهات لها مصلحة في ضرب التعليم العمومي.
وليعذرني القارئ الكريم إذ أنا لم أتحر التعميم حتى تكتمل الصورة، فقد كان استهداف العالم القروي ضروريا ومعياريا بفعل توسع قاعدته التعليمية بالشكل الذي جعل رجال التعليم فيه يعانون الأمرين من أجل الإلتحاق بمقرات عملهم أولا، ويكابدون من أجل الظفر بسكن ثانيا،وإن تيسر لهم الظفربه فهم في الأخير مجبرون على حرق قسط من مرحلة شبابهم في لجة الحرمان والخصاص في كل شيء.وأما إن كان هذا المدشر أو ذاك محضوضا بفعل قربه من مركز حضري،فإن الخيار المتداول هو الرحلات المكوكية وما يصاحبها من تكاليف وأرق و"فوبيا" عدم الوصول في الوقت المحدد. تلك هي أبرز سمات العمل بالوسط القروي،هذا الوسط الذي لم تفلح السياسات التعليمية المتعاقبة في تعزيز شروط نجاعة الفعل التعليمي فيه، رغم الإنفاق المتزايد عليه،ورغم تصريف الجهود المضنية من أجل انتشاله من واقع التخبط الذي يلازمه. لذلك فأن يستشعر وزير تربية مضى على تعيينه ما يكفي من الوقت للحكم على الأمور،بعد رصد مشهد بانورامي للوضع التعليمي ببلادنا، أقول أن يستشعر ضرورة تقريب التلاميذ من المدرسة ،يعد فيما لو قدر له التحقق العياني، إنجازا ومكسبا غير مسبوقين:
إنجازا يحسب له لما في هذا الخيارالذي تجسده المدرسة الجماعاتية من تجميع للجهد والإمكانيات،ومن القدرة على الوفاء بالتزامات التجهيزوالتحديث ومجاراة نمط حياة سمته التغير والتجاوز.
ومكسبا أولا لسكان المناطق المعزولة الذين عجزوا عن احتضان هذا الكائن المدرسي وتقاعسوا في حمايته من التلف والإهمال، بعد أن أثار نقمة الناقمين وأجج عبث العابثين. وثانيا لهيأة التدريس التي ستجدها فرصة العمر لاسترداد ما تبقى من كرامة مهدورة حينما تحشر نفسها مجبرة في وسائل نقل سري مخصصة للبهائم وأشياء أخرى . الكل يعلم إذن أن مسافة الألف ميل تبدأ بخطوة،ومشروع بالحجم الذي سقناه آنفا على هامش تصريح السيد الوزير يبدأ بفكرة ،وهي فكرة أوحت له بها،فيما يبدو، أحوال التعليم الآخذة في الإنحدار والتردي على أكثر من مستوى.لكن أمام استعصاء "التغيير الثوري" والساحة التعليمية أبعد ما تكون مهيأة له،يبقى تصريح السيد الوزير أقرب إلى الأماني منه إلى مشروع عملي قابل للتنزيل،وهو ما يصح أن يعد من قبيل كلام النهار الذي يمحوه الليل. لقد فات الأوان وكان الخطأ مع موعد التأسيس حينما غاب ذلك التصور الملائم في المراحل المتباينة لتطور المسألة التعليمية ببلادنا ، ولم يتجشم الأوصياء المتعاقبون على الشأن التعليمي عناء وضع المدرسة العمومية على سكة الثبات إلا في المحطات الأخيرة، بعد أن عانى ما عاناه الراكبون طوال الرحلة جراء سوء حالة السكة الغير الثابتة، فكان الهدر وضعف الجودة مقرونين بما تيسر من سوء التدبير كافيين لدق ناقوس الخطر الذي ما زال رنينه يتردد في أسماعنا.

محمد اقباش