2011-07-12, 14:51
|
رقم المشاركة : 10 |
إحصائية
العضو | | | رد: أصول الحكم على المبتدعة عند شيخ الإسلام ابن تيمية | الأصل السابع :
الحرص على تأليف القلوب واجتماع الكلمة، وإصلاح ذات البين، والحذر من أن يكون الخلاف في المسائل الفرعية العقدية والعملية، سببًا في نقض عُرى الأخوة والولاء والبراء بين المسلمين
يقول رحمه الله في هذا : (تعلمون أن من القواعد العظيمة، التي هي من جِماع الدين، تأليف القلوب، واجتماع الكلمة، وصلاح ذات البين، فإن الله تعالى يقول : (فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم) (الأنفال : 1)، ويقول : (واعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا) (آل عمران : 103)، ويقول : (ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم) (آل عمران : 105). وأمثال ذلك من النصوص التي تأمر بالجماعة والائتلاف، وتنهى عن الفرقة والاختلاف.. وأهل هذا الأصل، هم أهل الجماعة، كما أن الخارجين عنه هم أهل الفُرقة) (213).
وبيّن الشيخ أن الخلاف في المسائل الفرعية العقدية والعملية، جرى بين الصحابة والتابعين من سلف الأمة، مع محافظتهم على هذه القاعدة، وأن العاصم من ذلك كان في رد النزاع إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه و سلم، وابتغاء الحق وحده، فيقول مقررًا مسلكهم رضي الله عنهم : (وقد كان العلماء من الصحابة والتابعين ومَن بعدهم، إذا تنازعوا في الأمر اتبعـــوا أمـــر الله تعالـى في قولــه : (فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاً) (النساء : 59). وكانوا يتناظرون في المسألة مناظرة مشاورة ومناصحة، وربما اختلف قولهم في المسألة العلمية والعملية، مع بقاء الألفة والعصمة وأخوة الدين.. نعم من خالف الكتاب المستبين والسنة المستفيضة، أو ما أجمع عليه سلف الأمة، خلافًا لا يُعذر فيه، فهـــذا يعامــل بما يُعامـــل به أهــل البــدع، فعائشــة أُم المؤمنين رضي الله عنها، قد خالفت ابن عباس وغيره من الصحابة، في أن محمدًا صلى الله عليه و سلم رأى ربه، وقالت : (مَن زعم أن محمدًا رأى ربه فقد أعظم على الله تعالى الفـرية) (214)، وجمهـــور الأمــــة علــى قــول ابن عباس رضي الله عنهما، مع أنهم لا يُبدّعون المانعين الذين وافقـــوا أم المؤمنين رضي الله عنها، وكذلك أنكرت أن يكون الأموات يسمعون دعاء الحي، لـمّا قيل لها : إن النبي صلى الله عليه و سلم قال : (ما أنتــم بأسمع لمـا أقــول منهم) (215)، فقالت : إنما قال : (إنهم ليعلمون الآن أن ما قلتُ لهم حق) (216).. ومع هذا فلا ريب أن الموتى يسمعون خفق النعال، كما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : (ما من رجل يمر بقبر الرجل كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه، إلا ردّ الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام) (217)، وصح ذلك عن النبي صلى الله عليه و سلم، إلى غير ذلك من الأحاديث.. وأم المؤمنين تأولت، والله يرضى عنها، وكذلك معاوية(218) رضي الله عنه، نقل عنه في أمر المعراج أنه قال : (إنما كان بروحه) (219)، والناس على خلاف معاوية رضي الله عنه، ومثل هذا كثير).
وأما الاختلاف في الأحكام فأكثر من أن ينضبط، ولو كان كــل ما اختلف مسلمــان فــي شيء تهاجــرا، لـم يبق بين المسلمين عصمـــة ولا أخوة، ولقد كان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، سيدا المسلمين، يتنازعان في أشياء لا يقصدان إلا الخير.. وقد قال النبي صلى الله عليه و سلم لأصحابه يوم بني قريظة(220) : (لا يُصلين أحد العصرَ إلا في بني قُريظة)، فأدركتهم العصرُ في الطريق، فقال قوم : لا نصلي إلا في بني قريظة، وفاتتهم العصر. وقال قوم : لم يُرد منا تأخير الصلاة، فصلوا في الطريق، فلم يعب واحدًا من الطائفتين، أخرجاه في الصحيحين(221)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وهذا وإن كــان في الأحكــام، فما لم يكن من الأصول المهمة فهو ملحق بالأحكام (222).
وأكد الشيخ على مراعاة الأخــوة والمــوالاة بين المسلمين، بحيــث لا يؤثر عليها ما يقع من خلاف بسبب دواع اجتهادية، مبينًا أن العاصم من ذلك تقديم حق الله على حق النفس، وفي هذا يقول : (جعل الله... عباده المؤمنين بعضهم أولياء بعض، وجعلهم إخوة، وجعلهم متناصرين متراحمين متعاطفين، وأمرهم سبحانه بالائتلاف، ونهاهم عن الافتراق والاختلاف، فقال تعالى : (واعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا) (آل عمــران : 103) ، وقـــــال تعــــالـــــى : (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله) (الأنعام : 159) الآية، فكيف يجوز مع هذا لأمة محمد صلى الله عليه و سلم أن تفترق وتختلف حتى يوالي الرجل طائفة، ويعادي طائفة أخرى بالظن والهوى بلا برهان من الله تعالى، وقد برَّأ الله نبيه صلى الله عليه و سلم ممن كان هكذا. فهذا فِعْل أهل البدع كالخوارج الذين فارقوا جماعة المسلمين، واستحلوا دماء مَن خالفهم.. وأما أهل السنة والجماعة فهم معتصمون بحبل الله، وأقل ما في ذلك أن يفضل الرجل من يوافقه على هواه، وإن كان غيره أتقى لله منه، وإنما الواجب أن يقدم من قدمه الله ورسوله، ويؤخر من أخّره الله ورسوله، ويحـب مــا أحبــه الله ورســوله، ويبغـض ما أبغضه الله ورسوله، وينهى عما نهى الله عنه ورســوله، وأن يرضــى بما رضي الله به ورسوله، وأن يكون المسلمون يدًا واحدة، فكيف إذا بلغ الأمر ببعض الناس إلى أن يُضلل غيره ويكفّره، وقد يكون الصواب معه وهو الموافق للكتاب والسنة، ولو كان أخوه المسلم قد أخطأ في شيء من أمور الدين، فليس كل مَن أخطأ يكون كافرًا أو فاسقًا، بل قد عفى الله لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان، وقد قال الله تعالى في كتابه، في دعاء الرسول صلى الله عليه و سلم والمؤمنين : (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا) (البقرة : 286). وثبت في الصحيح أن الله قال : (قد فعلت) (223)، لاسيما وقد يكون من يوافقكم في أخص من الإسلام، مثل أن يكون مثلكم على مذهب الشافعي، أو منتسبًا إلى الشيخ عدي(224)، ثم بعد هذا قد يخالف في شيء، وربما كان الصواب معه، فكيف يستحل عِرضه ودمه وماله؟ مع ما قد ذكر الله تعالى من حقوق المسلم والمؤمن) (225).
ولعل أظهر ما يقوّي وشيجة الأخوة بين المسلمين، ويحفظ تماسك جماعتهم، العمل بأحكام الولاء والبراء التي شرعها الله في كتابه، دون التفات إلى مناهج أخرى أو تعصّب لطوائف، ذلك أن (الولاية ضد العداوة، وأصل الولاية المحبة والقُرب، وأصل العداوة البغض والبُعد) (226)، وهما أوثق عُرى الإيمان كما أخبر الرسول صلى الله عليه و سلم : (أوثق عُرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله) (227).. وقد بيّن الشيخ أحكام الولاء والبراء، ولمن يكونان ويعطيان، فقال : (فأما الحمد والذم والحب والبغض والموالاة والمعاداة، فإنما تكون بالأشياء التي أنزل الله بها سلطانه، وسلطانه كتابه، فمن كان مؤمنًا وجبت موالاته من أي صنف كان، ومن كان كافرًا وجبت معادته من أي صنف كان، قال الله تعالى : (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون ) (المائدة : 55-56)...
ومن كان فيه إيمان وفيه فجور، أعطي من الموالاة بحسب إيمانه، ومن البغض بحسب فجوره، ولا يخرج من الإيمان بالكلية بمجرد الذنوب والمعاصي، كما يقوله الخوارج والمعتزلة، ولا يُجعل الأنبياء والصديقون والشهداء والصالحون بمنزلة الفسّاق في الإيمان والدين والحب والبغض والموالاة والمعاداة، قال الله تعالى : (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين) إلى قولـه : (إنما المؤمنون إخوة) (الحجرات : 9-10)، فجعلهم إخوة مع وجود الاقتتال والبغي) (228).
كما لا يتنافى وجود الشر والمعصية والبدعة في شخص، مع استحقاقه للموالاة والإكرام بقدر ما فيه من خير وطاعة وسنة، وفي هذا يقول الشيخ : (وإذا اجتمع في الرجل الواحد خير وشر وفجور، وطاعة ومعصية، وسنة وبدعة، استحق من الموالاة والثواب بقدر ما فيه من الخير، واستحق من المعاداة والعقاب بحسب ما فيه من الشر، فيجتمع في الشخص الواحد موجبات الإكرام والإهانة، فيجتمع له هذا وهذا) (229).
وعملاً بمبدأ الولاء والبراء، فإن الشيخ يقرر : (أن الواجب على المسلم إذا صار في مدينة من مدائن المسلمين أن يصلي معهم الجمعة والجماعة، ويوالي المؤمنين، ولا يعاديهم، وإن رأى بعضهم ضالاً أو غاويًا وأمكن أن يهديه ويرشده فعل ذلك، وإلا فلا يكلّف الله نفسًا إلا وسعها، وإذا كان قادرًا على أن يُولّي في إمامة المسلمين الأفضل ولاّه، وإن قدر أن يمنع من يُظهر البدع والفجور منعه) (230).. وهكذا على مقتضى اتباع الحق وإظهاره، خلا المبتدعة الملاحدة، فهؤلاء يجب البراء منهم، فإن الشيخ أنكر على من يعاون أو ينصر أهل الحلول والاتحاد، فقال : (ومن هؤلاء من يعاونهم وينصرهم على أهل الإيمان المنكرين للحلول والاتحاد، وهو شر ممن ينصر النصارى على المسلمين، فإن قول هؤلاء شر من قول النصارى، بل هو شر ممن ينصر المشركين على المسلمين، فإن قول المشركين الذين يقولون : إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى(231)، خير من قول هؤلاء، فإن هؤلاء أثبتوا خالقًا ومخلوقًا غيره، يتقربون به إليه، وهؤلاء يجعلون وجود الخالق وجود المخلوق) (232)، بخلاف أهل الصلاح والتقوى إذا وقعوا في بدعة متأولة وليست غليظة(233)، فهؤلاء تجب موالاتهم ومحبتهم، لأن ما وقع منهم من قبيل الهفوة والزلة، التي لا تنسخ ما لهم من صلاح وتقوى، وقد وقع ذلك (من أكابر السلف المقتتلين في الفتنة، والسلف المستحلين لطائفة من الأشربة المسكرة، والمستحلين لربا الفَضْل والمتعة، والمستحلين للحشوش، كما قال عبد الله بن المبارك : رُبَّ رجل في الإسلام، له قدم حسن وآثار صالحة، كانت منه الهفوة والزلة، لا يُقتدى به في هفوته وزلته) (234).. فهؤلاء وأمثالهم معذورون، لأنهم مجتهدون، لم يقصدوا فعل الحرام، ولا مخالفة السنة، فهم حين استحلوا ذلك لا يعتقدون (أنه من المحرمات، ولا أنه داخل فيما ذمه الله ورسوله، فالمقاتل في الفتنة متأولاً لا يعتقد أنه قتل مؤمنًا بغير حق، والمبيح للمتعة والحشوش ونكاح المحلل لا يعتقد أنا أباح زنا وسفاحًا، والمبيح للنبيذ المتأول فيه، ولبعض أنواع المعاملات الربوية وعقود المخاطرات، لا يعتقد أنه أباح الخمر والميسر والربا.. ولكن وقوع مثل هذا التأويل من الأئمة المتبوعين، أهل العلم والإيمان، صار من أسباب المحن والفتنة، فإن الذين يعظمونهم قد يقتدون بهم في ذلك، وقد لا يقفون عند الحد الذي انتهى إليه أولئك، بل يتعدون ذلك ويزيدون زيادات لم تصدر من أولئك الأئمة السادة، والذين يعلمون تحريم جنس ذلك الفعل، قد يعتدون على المتأولين بنوع من الذم فيما هو مغفور لهم، ويتبعهم آخرون فيزيدون في الذم ما يستحلون به من أعراض إخوانهم وغير أعراضهم ما حرّمه الله ورسوله) (235).
وبهذا يتقرر أن الشيخ لا يرى الوقوع في البدعة عن شبهة أو تأول مبطلاً لحقوق المسلم، ومنها الموالاة، التي من معانيها المحبة والنصرة والحماية، بل هي ثابتة للمسلم المبتدع بقدر ما عنده من إيمان، فيحب بقــدر ما فيه من صلاح، وينصر على من ظلمه، وإن كان فيه سوء، وفي هذا يقول رحمه الله : (ومعلوم أن شر الكفار والمرتدين والخوارج، أعظم من شر الظالم، وأما إذا لم يكونوا يظلمون المسلمين، والمقاتل لهم يريد أن يظلمهم، فهذا عدوان منه فلا يعاون على عدوان) (236)، مصداق قول الرسول صلى الله عليه و سلم : (المسلم أخو المسلم لا يَظلمه ولا يُسْلمه) (237)، فما دام المبتدع مسلمًا، فإنه يثبت له هذا الحق. | |
| |