2011-03-01, 13:39
|
رقم المشاركة : 4 |
إحصائية
العضو | | | رد: فن الكتابة:تعلم أم تعليم؟؟؟ | ويحذر الجاحظ من الانسياق وراء تداعي المعاني في التأليف، فيقول: «وليعلم أنَّ صاحبَ القلم يعتريه ما يعتري المؤدِّبَ عند ضربه وعقابه، فما أكثر من يَعزمِ على خمسةِ أسواط فيضرب مائة؟ لأنَّه ابتدأ الضربَ وهو ساكنُ الطباع، فأراه السكونُ أنَّ الصواب في الإقلال، فلما ضرب تحرَّك دمُه، فأشاع فيه الحرارةَ فزادَ في غضبه، فأراه الغضبُ أنّ الرأي في الإكثار، وكذلك صاحب القلم؛ فما أكثرَ من يبتدئ الكتابَ وهو يُريد مقدارَ سطرين، فيكتب عشرة، والحفظُ مع الإقلال أمكَن، وهو مع الإكثار أبعَد». ولذلك قيل: «إن استطعتم أن تكون كتبكم كالتوقيعات فافعلوا».
ثم يعقد الجاحظ مقايسة بين الولد والكتاب: «واعلم أَنَّ العاقلَ إنْ لم يكن بالمتتبِّع، فكثيرًا ما يعتريه من ولده، أَنْ يحسُنَ في عينه منه المقبَّحُ في عين غيره، فليعلمْ أنَّ لفظه أقربُ نسبًا منه من ابنه، وحركَتَه أمسُّ به رِحْمًا من ولده، لأَنَّ حركتَه شيءٌ أحدثَه من نفسه وبذاتِهِ، ومن عين جوهرِه فَصَلت، ومن نفسِه كانت.. ولذلك تجِدُ فتنةَ الرجُل بشِعرِه، وفتنتَه بكلامِه وكتبِه، فوقَ فتنتِه بجميعِ نعمته».
منطلقات تعلم فن الكتابة
تعد المحاكاة والاحتذاء من الأساليب التربوية التي تتبع في تعلم الكتابة وترقية الأداء اللغوي عامة. وقد تنبه لذلك أدباء وتربويون قديمًا وحديثًا، فقيل: «يحتاج النشء في مرحلة التكوين الأدبي إلى نماذج يقتدي بها، وينسج على منوالها، ويخطو في مدارج الارتقاء على ضوئها.. فالموهبة الأدبية تتفتح وتنمو إذا وجدت من يتعهدها، ويحسن توجيهها. ويصقل جوهرها. والأديب يمر بمراحل متعددة: فيبدأ بالتقليد والمحاكاة، ثم يجمع بين التقليد والابتكار، ثم يستقل بنفسه، ويخط بقلمه لأسلوبه مجرى متميزا يُعرف به، ويُنسب إليه» (رشيد العكام، ص8).
وقد عاب الشيخ محمود شاكر (ت1997) على مناهج تعليم العربية أنها تتجاهل الآثار الأدبية، ولا تحفل بالمحفوظ الذي يسعف الذاكرة. وقال: «إن الحفظ الأول للآثار الأدبية الرائعة قديمها وحديثها هو الذي يخرج الأديب والكاتب والشاعر. انظر إلى المنفلوطي والرافعي وشوقي وحافظ والبارودي والزيات وطه حسين، كل هؤلاء لم يكونوا كذلك إلا لأنهم نشأوا وقد حفظوا القرآن أطفالاً، فحملهم ذلك على متابعة حفظ الآثار الأدبية الجليلة، ثم حفز هذا المحفوظ ما انطووا عليه من الطبيعة الأدبية التي استقرت في أنفسهم وأعصابهم، فلما استحكموا استحكمت لهم طريقتهم في الأدب والشعر والإنشاء، ولولا ذلك لما استطاعوا أن يكونوا إلا كما نرى من سائر من تخرجهم دور التعليم بالآلاف في كل عام ينقضي من أعوام الدراسة».
ومصداقُ ما سلف قولُ ضياء الدين ابن الأثير: «لقد مارستُ الكتابة ممارسةً كشفتْ لي عن أسرارها، وأظفرتني بكنوز جواهرها، إذ لم يظفر غيري بأحجارها، فما وجدتُ أعون الأشياء عليها إلا حل آيات القرآن الكريم والأخبار النبوية، وحل الأبيات الشعرية».
وتوسع الرافعي (ت 1937) فنصح من أراد معرفة الأدب والإنشاء العربي: «إنّكَ تريدُ امتلاكَ ناصيةِ الأدبِ – كما تقولُ -، فينبغي أن تكونَ لكَ مواهبُ وراثية ٌ تؤديكَ إلى هذه الغايةِ، وهي ما لا يُعرفُ إلا بعدَ أن تشتغلَ بالتحصيل ِ زمنًا، فإن ظهرَ عليكَ أثرها وإلا كنتَ أديبًا كسائرِ الأدباءِ، الذينَ يستعيضونَ من الموهبةِ بقوّةِ الكسبِ والاجتهادِ. فإذا رغبتَ في أقربِ الطرق ِ إلى ذلكَ فاجتهدْ أن تكونَ مفكّرًا منتقدًا، وعليكَ بقراءةِ كتبِ المعاني قبلَ كتبِ الألفاظِ، وادرسْ ما تصلُ إليهِ يدكَ من كتبِ الاجتماعِ والفلسفةِ الأدبيةِ في لغة أوروبية أو فيما عرّبَ منها.» (رسائل الرافعي، ص26).
ويؤمن الرافعي بجدوى «المنتخبات الأدبية» و«الأعمال الأساسية»، فينصح قائلاً: «واصرف همّكَ من كتبِ الأدبِ العربي - بادئ ذي بدء - إلى كتابِ كليلةَ ودمنة والأغاني ورسائلَ الجاحظِ وكتابَ الحيوان ِ والبيانِ والتبيين لهُ، وتفقّه في البلاغةِ بكتابِ «المثل ِ السائرِ»، وهذا الكتابُ وحدهُ يكفلَ لكَ ملكةً حسنة ً في الانتقادِ الأدبي، وقد كنتُ شديدَ الولوع بهِ. ثمّ عليكَ بحفظِ الكثيرِ من ألفاظِ كتابِ «نُجعةِ الرائدِ» لليازجي، والألفاظِ الكتابيّةِ للهمذانيّ، وبالمطالعةِ في كتابِ «يتيمةِ الدهرِ» للثعالبيّ و«العقدِ الفريدِ» لابن عبدربه، وكتابِ «زهرِ الآدابِ» الذي بهامشهِ» (السابق).
ولا يُكتفى في تعلم الكتابة وترقية الأداء اللغوي بما هو قديم، وإنما المعاصرة والأصالة جناحان، لا انطلاق إلا بهما جميعا. من أجل ذلك زاد الرافعي: «أشيرُ عليكَ بمجلّتينِ تُعنى بقراءتهما كل العنايةِ «المقتطف» و«البيان». وحسبكَ «الجريدةُ» من الصحفِ اليومية، و«الصاعقة» من الأسبوعية. ثم حسبكَ ما أشرتُ عليكَ بهِ فإنّ فيهِ البلاغ كلّهُ، ولا تنسَ «شرحَ ديوان ِ الحماسةِ» وكتابَ «نهجِ البلاغةِ» فاحفظْ منهما كثيرًا». (السابق نفسه) ولو عاش الرافعي في أيامنا لذكر الكثير الكثير من الصحف والمجلات والمؤلفات والموسوعات والمكتبات الرقمية.
ولم يفت الرافعي التفكير في الوقت المتاح للتعلم والاكتساب اللغوي، فقال: «ورأسُ هذا الأمر ِ بل سرّ النجاح ِ فيهِ أن تكونَ صبورًا، وأن تعرفَ أن ما يستطيعهُ الرجلُ لا يستطيعهُ الطفلُ إلا متى صارَ رجلًا، وبعبارة صريحة إلا من انتظرَ سنوات كثيرة. فإن دأبتَ في القراءةِ والبحثِ، وأهملتَ أمرَ الزمن ِ - طالَ أو قصرَ - انتهى بكَ الزمنُ إلى يوم يكونُ تاريخًا لمجدكَ، وثوابًا لجدّكَ» (السابق نفسه).
وكأنما كان الرافعي شاهدًا على أمنيات المتعجلين من المعلمين وطلابهم، من الذين يبحثون عن (وصفة) ناجعة لكل أدواء العجز اللغوي والحَصَر البياني. وفي الحق أن مثل تلك الوصفات لا وجود له. وقد كتب الرافعي إلى مراسله: « ما أشبهك برجل لا يصلي ولا يصوم ولا يؤتي الزكاة ولا يحج، ثم يريد أن يخرج كفارة تسقط عنه كل ذلك، ويبقى وادعا مستريحا وله ثواب الصائم بدريهمات معدودة...» (السابق، ص52).
وتعليل ما ذكر أن «الإنشاء لا تكون القوة فيه إلا عن تعب طويل في الدرس، وممارسة الكتابة، والتقلب في مناحيها، والبصر بأوضاع اللغة. وهذا عملٌ كان المرحوم الشيخ «محمد عبده» يقدر أنه لا يتم للإنسان في أقل من عشرين سنة. فالكاتب لا يبلغ أن يكون كاتبًا حتى يبقى هذا العمر في الدرس وطلب الكتابة.
فإذا أوصيتك فإني أوصيك أن تكثر من قراءة القرآن ومراجعة « الكشاف» ( تفسير الزمخشري). ثم إدمان النظر في كتاب من كتب الحديث «كالبخاري» أو غيره، ثم قطع النفس في قراءة آثار «ابن المقفع» «كليلة ودمنة» و«اليتيمة» و«الأدب الصغير»، ثم رسائل الجاحظ، وكتاب «البخلاء» ثم «نهج البلاغة» ثم إطالة النظر في كتاب «الصناعتين» و«المثل السائر» لابن الأثير، ثم الإكثار من مراجعة «أساس البلاغة» للزمخشري. فإن نالت يدك مع ذلك كتاب «الأغاني» أو أجزاء منه و«العقد الفريد»، و«تاريخ الطبري» فقد تمت لك كتب الأسلوب البليغ. (السابق، 52)
وبشكل إجرائي أوضحَ الرافعي خطوات عمليةً محددةً، فقال: «اقرأ القطعة من الكلام مرارًا كثيرة، ثم تدبرها، وقلب تراكيبها، ثم احذف منها عبارة أو كلمة، وضع ما يسد سدها ولا يقصر عنها، واجتهد في ذلك، فإن استقام لك الأمر فترق إلى درجة أخرى. وهي أن تعارض القطعة نفسها بقطعة تكتبها في معناها، وبمثل أسلوبها، فإن جاءت قطعتك ضعيفة فخذ في غيرها، ثم غيرها، حتى تأتي قريبًا من الأصل أو مثله.
اجعل لك كل يوم درسًا أو درسين على هذا النحو، فتقرأ أولاً في كتاب بليغ نحو نصف ساعة، ثم تختار قطعة منه فتقرأها حتى تقتلها قراءة، ثم تأخذ في معارضتها على الوجه الذي تقدم – تغيير العبارة أولاً ثم معارضة القطعة كلها ثانيًا – واقطع سائر اليوم في القراءة والمراجعة. (السابق، 53)
ومتى شعرت بالتعب فدع القراءة أو العمل، حتى تستجم، ثم ارجع إلى عملك ولا تهمل جانب الفكر والتصوير وحسن التخييل. هذه هي الطريقة ولا أرى لك خيرًا منها».
وكلام الرافعي أحسن تفصيلا من قول ابن الأثير: «مَنْ أحبّ أن يكون كاتبًا أو كان عنده طبع مجيب فعليه بحفظ الدواوين ذوات العدد، ولا يقنع بالقليل من ذلك. ثم يأخذ في نثر الشعر من محفوظاته. وطريقه أن يبتدئ فيأخذ قصيدًا من القصائد فينثره بيتًا بيتًا على التوالي، ولا يستنكف في الابتداء أن ينثر الشعر بألفاظه أو بأكثرها؛ فإنه لا يستطيع إلا ذلك. وإذا مرنتْ نفسه وتدرب خاطره ارتفع عن هذه الدرجة، وصار يأخذ المعنى ويكسوه عبارة من عنده، ثم يرتفع عن ذلك حتى يكسوه ضروبًا من العبارات المختلفة. وحينئذ يحصل لخاطره بمباشرة المعاني لقاحٌ، فيستنتج منها معاني غير تلك المعاني. وسبيله أن يكثر الإدمان ليلًا ونهارًا. ولا يزال على ذلك مدة طويلة حتى يصير له مَلَكة».
والقول الجامع في فن الكتابة ما جاء في الرسالة العذراء: «اعلمْ أن الاكتساب بالتعلم والتكلف، وطول الاختلاف إلى العلماء، ومدارسة كتب الحكماء».
استدراكٌ واجبٌ
ولئلا يساء تأويل ما قدمنا، فإننا نرفض - مثلما رفض نزار قباني- أن « تغدو الكتابة تأليفًا لما سبق تأليفه، وشرحًا لما انتهى شرحه، ومعرفة بما سبق معرفته». ونعيد معه القول إن «الكتابة الحقيقية، هي نقيض النسخ، ونقيض النقل، ونقيض المحاكاة الزنكوغرافية أو الطباعية».
وإن من جليل الوصف أن توصف الكتابة بأنها (اجتهاد) الذي يعني لدى أجدادنا ذروة الجهد الذهني وثمرته. وشتان بين الكتابة/الاجتهاد، والكتابة الملوثة للعقل.
وإن الحفظ الذي نعنيه هنا هو الحفظ الذي يعصم الكاتب من أن يكون ضمن القطيع الذين وصفهم نزار بأنهم «جاؤوا من العدم.. العدم الثقافي، والعدم الجمالي، والعدم القومي، والعدم التاريخي..إن اللغة العربية تضايقهم لأنهم لا يستطيعون قراءتها... والعبارة العربية تزعجهم لأنهم لا يستطيعون تركيبها»
أولئك - ومازال الكلام لنزار- هم المعوقون الذين «تسأل الواحد منهم عن المتنبي، فينظر إليك باشمئزاز كأنك تحدثه عن الزائدة الدودية، وحين تسأله عن «الأغاني» و«العقد الفريد» و«البيان والتبيين» و«نهج البلاغة» و«طوق الحمامة» يرد عليك بأنه لا يشتري أسطوانات عربية.. ولا يحضر أفلامًا عربية..إنهم يريدون أن يفتحوا العالم وهم عاجزون عن فتح كتاب.. ويريدون أن يخوضوا البحر وهم يتزحلقون بقطرة ماء.. ويبشرون بثورة ثقافية تحرق الأخضر واليابس.. وثقافتهم لا تتجاوز باب المقهى الذي يجلسون فيه، وعناوين الكتب المترجمة التي سمعوا عنها».
وصنف آخر من المعوقين لا يرى للكاتب من وظيفة سوى وظيفة المهرج أو البهلوان الذي -كما وصفه جوركي- يمشي على رأسه لتسلية الجماهير الضجرة. فهذا الصنف حين يفتقر إلى موهبة حقيقية يعمد إلى مصادمة مشاعر المجتمع، وإلى التجرؤ على النظام العام، وإلى قذف ذوي المكانة وذوي المروءات. وما ذاك إلا محاولة صبيانية لجذب الانتباه من خلال الشذوذ والإغراب. وأسمج الشذوذ شذوذ المبتدئين في كل فن. أولئك الذين يريدون أن يكونوا علماء بغير علم، فقهاء بغير فقه، مثقفين دون ثقافة، أدباء دونما أدب.
أجل! إن المتطلع إلى صناعة الكتابة ليس مضطرًا إلى أن يكون (صدى) للذخيرة الأدبية والمعرفية التي استوعبها، بل يمكنه إذا استطاع أن يكون «إماما في الكتابة، كما يعد الشافعي وأبو حنيفة ومالك وغيرهم من المجتهدين في علم الفقه». بشرط أن يضع نصب عينيه قول القائل: «وأول أمرك أن تستفيد، وآخر أمرك أن تجتهد».
فإذا كان الأمر كذلك فما قيمة الحفظ إذن؟ استمع لابن الأثير يجبك: «لا أريد بهذا الطريق أن يكون الكاتب مرتبطًا في كتابته بما يستخرجه من القرآن الكريم والأخبار النبوية والأشعار، بحيث أنه لا ينشئ كتابًا إلا من ذلك، بل أريد أنه إذا حفظ القرآن الكريم، وأكثر من الأخبار النبوية والأشعار، ثم نقّب عن ذلك تنقيب مطلع على معانيه، مفتش على دفائنه، وقلّبه ظهرًا لبطن، عرف حينئذ من أين تؤكل الكتف فيما ينشئه من ذات نفسه، واستعان بالمحفوظ على الغريزة الطبيعية».
ويردف ابن الأثير: «لابد للكاتب المرتقي إلى درجة الاجتهاد في الكتابة - مع حفظ القرآن الكريم، والاستكثار من حفظ الأخبار النبوية، والأشعار المختارة - من العلم بأدوات الكتابة وآلات البيان: من علم اللغة والتصريف والنحو والمعاني والبيان والبديع؛ ليتمكن من التصرف في اقتباس المعاني واستخراجها، فيرقى إلى درجة الاجتهاد في الكتابة». | |
| |