الثورة العربية تَجُبُّ ما قبلها من ثورات لو لم تُجهَض من الأعداء! مواطن العالم د. محمد كشكار
لا تحتاج الثورة العربية إلى منظّرين فهي تنظّر بنفسها لنفسها و أنقل باختزال شديد ما انبثق عنها من مبادئ عامة بعد ما ظننت أنني فهمت سيرورتها و أتمنى أن أكون مُخطئا في الخلاصة في الفقرة 12 من هذا التحليل السياسي غير المختص و كما جني الفرنسيون ثمار ثورتهم في أوائل القرن 19، نجني نحن التونسيون و المصريون البسطاء ثمار ثورتينا من حرية تعبير و حرية نشر و قضاء مستقل و تشغيل شباب عاطل و تحرير فلسطين و العراق و بحث علمي حر و تعليم محترم و صحافة حرة و نظام برلماني- رئاسي و توزيع عادل للثروات الطبيعية و الاقتصادية و غيرها من الامتيازات المرجوة بعد كل هذه التضحيات الجسام و مئات الشهداء الأبرار
1
قاوم الثوار العرب الأنظمة العربية العميلة للغرب مقاومة سلمية و أبلوا البلاء الحسن. أثبتت المقاومة السلمية أنها أقوى من أسلحة الدمار الشامل و لم تصمد الرشاشات و لا الدبابات أمام إصرار و شجاعة المتظاهرين العُزّل من السلاح و المسلّحين بالعزة و المناعة و الكرامة. يدّعي بعض المنظّرين الثوريين اليساريين و الدينيين أن العنف الثوري ضروري لقيام و نجاح الثورة، من حسن حظنا، لقد كذّبتهم الثورة العربية في أوائل 2011 .قال غاندي، النيئ الأرضي: "لن يجد العدو لديَّ مقاومة مادية قد يتكئ عليها لكن سيجد مقاومة روحية تعمي بصره
L’ennemi ne trouvera pas chez moi une résistance physique contre laquelle il peut s’appuyer mais une résistance de l’âme qui l’aveuglera. Ghandi

2
لا يتمتع جل الثوار في الثورة العربية بماض سياسي نضالي، نزل المهندس الشاب مدير وكالة محرك البحث "قوقل" بالقاهرة المدعو "غنيم"، أحد قيادات الثورة المصرية في مظاهرة لأول مرة في حياته. شاركت أنا المواطن العادي لأول مرة في حياتي في مظاهرة فيها إطلاق رصاص حي و قنابل مسيلة للدموع، كنت قديما أنسحب من المظاهرة حين أحس أن حياتي مهددة بالخطر أما هذه المرة فقد تخلصت من الخوف و تنشقت الغازات السامة الواعدة بالحرية و ذقت عصا البوليس و عرّضت نفسي قصدا لخطر الموت شهيدا، فقدت وقاري كأستاذ ابن الستين شتاء و أصبحت أكرّ و أفرّ مثل ابن العشرين لا بل أسابقه عدوا في الهجوم و في الانسحاب طبعا وسط دخان خانق كثيف

3
قال "غنيم" أن جل الثورات السابقة لم تستطع أن تُعبئ و تُخرج إلى الشارع سوى 1 بالمائة من الشعب. أخرجت الثورة التونسية مليون متظاهر إلى الشارع و أخرجت الثورة المصرية 8 ملايين، ما يساوي 10 بالمائة من الشعب لذلك هي لا تحتاج إلى سلاح فصوت الجماهير المدوّي في تونس و مصر أرعب الإدارة الأمريكية في واشنطن و الحزب الشيوعي الحاكم في بيكين
4
أثبتت الثورة العربية تخلّف الأحزاب السياسية المعارضة و الموالية، العلنية منها و السرية، التقدمية و الرجعية، الشيوعية و اليمينية، الدينية و اللائكية، الوطنية و العميلة. لم تتنبأ كل هذه الأحزاب بقدوم الثورة و لم تعدَّ لها تكتيكا و لا إستراتيجية. تَنعت بعض الأحزاب اليسارية نفسها بالطلائعية فوجدت نفسها الآن تلهث لتلحق بقطار الثورة العربية الذي انطلق فجأة دون أمر و دون سائق و دون عنف ثوري مسلح و دون إيديولوجية و دون برمجة مسبقة و دون تنظيم حزبي و دون تنظير ثوري و دون تكتيك و دون استراتيجية
5
أثبتت الثورة العربية عقم الإيديولوجيات و أثبتت نبوءة الفيلسوف الفرنسي "سارتر" عندما قال سنة 1948: "الإيديولوجية حرية عند تشكّلها و تعسّف عند اكتمالها". لم نر في الفضائيات ثوري واحد يستشهد بمنظّر أو بإيديولوجيا
Les idéologies sont liberté quand elles se font, oppression quand elles sont faites. Sartre Jean Paul, 1948
6
أثبتت الثورة العربية وَهْمَ ضرورة التنظيم المسبق للثورة. يصنع النحل دون وعي خلية قمة في الروعة دون أن يكون لأي نحلة تخطيطا مسبقا. كذلك فعل الثوريون العرب لكن بوعي، خرجوا بالملايين و لم يكن أي واحد منهم يحمل في جيبة خطة مبرمجة لإسقاط "بن علي" أو "مبارك" أو "القذافي" و رغم ذلك أسقطوا الطغاة الثلاثة
7
عندما تنقد وضعا بائسا، يطالبك المحترفون سياسة بتقديم البديل. بديل الثورة لم يكن جاهزا مسبقا بل انبثق من تفاعل الأفعال البسيطة للملايين من الثوريين الصادقين غير المحترفين سياسة فكان "رحيل الرئيس" كالحلم غير مُبرمج من أحد
8
يشتغل النحل بالغريزة في تنظيم مُحكم و توزيع أدوار غاية في التعقيد دون قيادة فملكة النحل هي الملكة الوحيدة التي لا تحكم في أحد من رعاياها، يقتصر دورها على البيض فقط. نسمي في البيولوجيا هذا النوع من التنظيم دون تنظيم مبرمج "التنظيم الذاتي". خرج الملايين من المتظاهرين دون تخطيط مسبق و دون دعوة من حزب و لا من قائد مُلهم
9
فضحت الثورة العربية بما لا يدع مجالا للشك زيف ديمقراطية الغرب و عرّت كلمة الحق التي أرادوا بها باطلا "حقوق الإنسان". كانوا يعرفون خبايا الأنظمة الديكتاتورية العربية و يعلمون علم اليقين ممارساتها المنافية تماما لحقوق الإنسان و رغم ذلك يمدّونها بالسلاح و يدرّبون عناصرها الأمنية و العسكرية على قهر شعوبها، لا هم لهم سوى الربح المادي و لو على حساب حياة الملايين من البشر العرب المسلمين و غير المسلمين
10
افتكّت الثورة العربية حرية التعبير و فرضتها في الساحة العربية غصبا عن إرادة الأنظمة العربية بمساعدة التكنولوجيا الحديثة من أنترنات و فيسبوك و تويتر و يوتوب و غيرها من وسائل الاتصال الرقمية. ابتدع مستعملو هذه الوسائل الرقمية الحرة الديمقراطية جنسا من النضال لم نعهده في القرن العشرين و هو "النضال الافتراضي" الذي تحول بنقرة على الفأرة إلى نضال حقيقي و مظاهرات سلمية مليونية في الشوارع العربية، شارك فيها الكبير و الصغير، المرأة و الرجل، المتدين و العَلماني دون تمييز بين مواطن و مواطن إلا بمدى مشاركته في النضال الافتراضي الفيسبوكي و النضال الفعلي في الشارع
11
كشفت الثورة العربية عن القصور البنيوي في التحاليل السوسيولوجية التي لم تستطع التنبؤ بهذه الثورة العربية العارمة و السريعة و السلمية القوية. يشترك في هذا القصور البنيوي كل منتجي العلوم الإنسانية بجميع جنسياتهم. انحازت هذه العلوم إلى السلطة القائمة بطبيعته الانتماء الطبقي للعلماء و بطبيعة مصدر تمويل بحوثهم و بطبيعة انعدام حرية البحث العلمي في بلداننا. ابتدعت السلطة القائمة هذه العلوم لتدجين الطبقات المسحوقة و المستغَلّة في المجتمع و لخدمة مصالحها المادية البحتة
12 الخلاصة
كل نقاط قوة الثورة العربية التي ذكرناها قد تُستعمل من قِبل المخابرات الأمريكية و عملائها في الداخل و ينقلب السحر على الساحر و تُشهرُ قوة ثورة الشعب سلاحا ضد الشعب و تصبح نقاط القوة في الثورة نقاط ضعف، نقاط هشة هشاشة حالة الثورة التونسية و الثورة المصرية بعد "نجاحهما الظاهر" و "فشلهما المَخْفِي". الثورتان اللتان غُدِر بهما و سُرِقتا بسهولة و برودة دم من منفذيهم و أصحابهم الأصليين، المواطنون الثوريون الصادقون. قلنا أن الثورة العربية الحالية لا تملك بديلا و لا تحتكر العنف و لا تنتمي إلى حزب و ليست لها إيديولوجية و لا قيادة مركزية و لا قائدا ينطق و يفاوض باسمها و قلنا أيضا أن الثورة يحلم بها المجانين و ينفذها العقلاء الشجعان و يستثمرها الانتهازيون متعددي الجنسيات من أمريكان و فرنسيين و "طرابلسية" تونسيين عملاء جدد. قام الشعبان بالثورة لكنهما لم يستلما السلطة، استلم السلطة مكانهما الجيش التونسي و الجيش المصري حلفاء الإدارة الأمريكية و أقاموا حكومات مؤقتة موالية مائة في المائة للغرب و للبورجوازية الوطنية المتواطئة و الوسيطة و "خرج الشعبان من المُولَدْ بلا حُمُّصْ" و أصبح الشعبان يتسوّلان الإصلاحات و الإفراج عن سجناء الرأي و يطالبون فاقد الديمقراطية بإرساء الديمقراطية
في النهاية أنا لا أقصد فرض رأيي عليكم بالأمثلة و البراهين بل أدعوكم بكل تواضع إلى تجريب وجهة نظر أخرى و على كل مقال سيء نرد بمقال جيد، لا بالعنف اللفظي أو المادي