بسم الله الرحمن الرحيم التجارة في الإسلام
الحمد لله وحده, و الصلاة و السلام على من لا نبي بعده,
أما بعد,
تشتكي الأمة الإسلامية من زمن قد انتشر فيه الضعف و الوهن لدى المسلمين, فلم يتأخر المسلمون في أمور دينهم فحسب, بل إنهم قد تأخروا أيضا في أمور دنياهم, فبقي المسلمون بلا دين و لا دنيا, و مما يجب التنبيه و الإشارة إليه أنه لن تقوم للمسلمين قائمة حتى يتزنوا و يجدوا المعادلة الصائبة للجمع بين الدين و الدنيا مصداقا لقوله تعالى: ((و ابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة و لا تنس نصيبك من الدنيا)) {سورة القصص آية 77}.
و من هذا المنطلق, أحببت أن أبدأ في كتابة سلسة من المقالات الموسومة بـ((دين و دنيا)), على أمل أن تتجدد أطروحاتي, علَّ أن ينفع الله بها و تكون سببا في تهيج الحنين نحو النهوض بهذه الأمة, بعد أن أضنانا التذيل في القاع, فنحن أمة أوجدنا الله جل و على من أجل أن نقود لا من أجل أن ننقاد, و الحمد لله على ما نرى في الآونة الأخيرة من البشائر التي لا يراها إلا المتفائل.
جلست مع أحد الأخوة الأفاضل في يوم من الأيام في المدينة النبوية و أخبرني بأنه لا يثق بالشيخ الفلاني من أجل أنه تاجر موفق و ثري, فهالني ما سمعت و أزعجني, و أسرعت في الدفاع عن هذا الشيخ الفاضل الذي أعرفه معرفة جيدة, و أحسبه و الله حسيبه أنه من أهل العلم و التقوى و لا أزكي على الله أحدا, فأخبرني صديقي بأنه كيف يكون هذا الرجل شيخا و تاجرا, أي أن التجارة من أمور الدنيا التي لا ينبغي للمشايخ و الفضلاء أن يقحموا أنفسهم فيها. و هذا المثل للأسف يوضح و يجسد النظرة الآحادية لدى مجتمعاتنا الإسلامية, و هي أنه لا يُجمع بين الدين و الدنيا, و هذا يصادم ما جاء به الإسلام من النظرة المزدوجة للدين و الدنيا, فمبدأيا و أساسا لا يستطيع المرء الوصول إلى الآخرة إلا بعبور الدنيا, و هذا العبور يستلزم الحياة فيها, و هذه الحياة لا بد فيها من العبادة بلا شك, و لكن لا بد فيها أيضا من أكل و شرب و سكن إلى آخره مما يندرج تحت العبادة إن أحسن المسلم النية. إذن فلا بد أن نعيد إحياء فكرة أن الإسلام دين و دنيا, فأكثر أحكام الإسلام الفقهية تتعلق بالأعمال و المعاملات الدنيوية, بل إن العبادة نفسها فعل يقع في الدنيا.
و من هذا المنطلق أحببت أن أتحدث عن التجارة في الإسلام, و بعض ما سأنقله قد يثير العجب لدى الكثير من القراء الذين يحيدون عن التوسط و الإعتدال في تطبيق الإسلام العملي. يكفيك أن تعلم بأن خير من وطىء الثرى نبينا و حبيبنا محمد صلى الله عليه و سلم كان تاجرا و قد قال الله سبحانه و تعالى: ((و ما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام و يمشون في الأسواق)) {سورة الفرقان آية 20}. فأخبر سبحانه أن الأنبياء كانت لهم تجارات و صناعات, و قال ابن القيم - رحمه الله - في زاد المعاد: ((إن النبي صلى الله عليه و سلم باع و اشترى و شراؤه أكثر, و آجر و استأجر و إيجاره أكثر, و ضارب و شارك و ووكّل و توكل و توكيله أكثر)). بل يكفيك أيها القارىء الكريم أن تعلم بأن النصف من العشرة المبشرين بالجنة كانوا تجارا, و هم: ((أبو بكر الصديق, و عمر الفاروق, و عثمان بن عفان, و الزبير بن العوام, و عبد الرحمن بن عوف رضي الله عن الجميع)) كما ذكر ذلك الخزاعي في تخريج الدلالات السمعية, و هم من هم في الجلالة و القدر. و مع ذلك فقد كانوا من أمهر و أغنى التجار, فقد ذكر ابن عبد البر في الاستيعاب بأنه كان للزبير رضي الله عنه ألف مملوك يؤدون إليه الخراج. و عثمان رضي الله عنه جهز جيش العسرة بأكمله, و اشترى بئر رومة للمسلمين. و الأمثلة على ذلك كثيرة, بل كثيرة جدا ليس هنا مقام بسطها.
طلب الرزق و التكسب واجب و فريضة, و هو الكسب بقدر الكفاية للنفس و العيال و قضاء الدين, و يستحب الزيادة على أدنى الكفاية ليواسي به فقيرا أو يجازي به قريبا. و قد وردت في التجارة و التجار عدة أحاديث, منها:
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: ((التاجر الأمين الصدوق المسلم مع الشهداء يوم القيامة)) رواه ابن ماجه و الحاكم و قال: صحيح.
و روي عنه صلى الله عليه و سلم أنه قال: ((تسعة أعشار الرزق في التجارة)) أخرجه سعيد بن منصور و قال المناوي: و رجاله ثقات.
و قال ابن عباس رضي الله عنهما: ((أوصيكم بالتجار خيرا فإنهم بُرُدُ الآفاق و أمناء الله في الأرض)) أخرجه الديلمي.
و الإسلام كما هو معلوم لم يبح التجارة مطلقا, بل جعل لها ضوابطا و حدها بحدود حتى يحمي المجتمع من الانحراف, و ليس هذا فحسب, بل فرض على الأغنياء زكاة تؤدى إلى الفقراء حتى تطيب نفوس الفقراء, و لا ينتشر الحسد و البغض في المجتمع.
و من التجارة ما هو مذموم, و هي التجارة التي تشغل عن أمور الدين و تحمل الإنسان على الإقبال و الإنهماك في الدنيا, و على هذا يُحمل قوله صلى الله عليه و سلم فيما رواه البخاري: ((التجار هم الفجار)), أي التجار الذين ينشغلون عن أمور دينهم بالتجارة. قال الله تعالى ذاما لهؤلاء: ((و إذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها و تركوك قائما قل ما عند الله خير من اللهو و من التجارة و الله خير الرازقين)) {سورة الجمعة آية 11}.
و مما يجب التنبيه إليه أنه لا يجوز للتاجر أن يتاجر حتى يتعلم أحكام الله في التجارة, و هذا بإجماع الفقهاء كما نقل ذلك الشافعي في رسالته و الغزالي في الإحياء. و كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يطوف بالأسواق و يضرب بعض التجار بالدرة و يقول: ((لا يبع في سوقنا إلا من تفقه, و إلا أكل الربا شاء أم أبى)). فإذن لا بد للتاجر أن يتعلم فقه التجارة و أحكامها الإسلامية قبل أن يعمل حتى لا يقع في الحرام من حيث لا يعلم, و العلم في هذا الزمان قريب و ميسر و لله الحمد, و العلماء جمعوا هذه الأحكام و لخصوها في كتب صغيرة لا تتعدى المجلد ككتاب (ما لا يسع التاجر جهله) للشيخ عبد الله المصلح و الشيخ الصاوي على سبيل المثال لا الحصر. و حبذا كذلك لو أضافت كليات التجارة في العالم الإسلامي إلى منهجها أحكام التجارة فقهيا حتى لا يتخرج الطالب إلا و هو ملم بهذه الأحكام حفظا لماله و للمجتمع.
و في الختام لا شك بأن التجارة من مصادر القوة لدى المسلمين, فنعم المال الصالح بيد الرجل الصالح. فالتجارة تتسبب بالربح الذي به نستطيع بناء المساجد و المرافق و المدارس, و التجارة تمكن المسلم من الاحتكاك بسائر المجتمعات, مما يؤدي إلى انتشار الإسلام بين الناس إذا تحققت أخلاق الإسلام السامية لدى التجار. و من هنا يجدر التنبيه بأنه يجب على التاجر أن يتحلى بأسمى الأخلاق كي يؤثر ذلك في غير المسلمين تأثيرا إيجابيا, و هل فتحت بلاد جنوب شرق آسيا و دخل فيها الإسلام إلا بحسن أخلاق تجار المسلمين بعد توفيق الله ؟ و ليتذكر التاجر قول النبي صلى الله عليه و سلم: ((إن التجار يبعثون يوم القيامة فجارا إلا من اتقى و بر و صدق)) رواه ابن ماجه. و لا يعاب أبدا الرجل الصالح بأن يتاجر و إلا للزم من ذلك تعييب الأنبياء عليهم السلام و حاشهم, بل إن المال في يد الرجل الصالح غنيمة و مصلحة للإسلام و المسلمين إذ أن له سلطة و نفوذ, و من المتقرر أن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن. |